«الشرق
الأوسط» في مهرجان فينيسيا الدولي - 1:
البوسنية زبانيتش تعرض {هولوكوست} آخر ضحاياه مسلمون
مخرجة لا تزال تعيش مأساة الحرب
فينيسيا: محمد رُضا
لكل حرب مآسيها وآثارها، كما أفلامها التي تُنتج إما خلال
فترة الحرب أو بعدها. تلك التي تأتي من بعد تفتح جروحاً أكبر من تلك التي
تصوّر الوقائع الحاصلة في حينها، خصوصاً إذا ما كانت الحرب أهلية بين أبناء
وطن اعتبر واحداً طوال ردح كبير من تاريخه.
هذا حال فيلم «كو فاديس، عايدة؟» للبوسنية ياسمينا زبانيتش،
الذي عُرض كواحد من أفلام مسابقة الدورة 77 من مهرجان فينيسيا السينمائي
المقام حالياً (وحتى الثاني عشر من الشهر الحالي).
سبق للمخرجة زبانيتش أن عالجت موضوع الحرب الذي تعرّض لها
بلدها. حدث ذلك سنة 2013 عندما قدّمت فيلمها «لأولئك الذين لا يستطيعون سرد
الحكايات». ذلك الفيلم الذي قدّمت فيها شخصية امرأة أسترالية في زيارة
للبوسنة بعد الحرب، لتفاجأ بالإرث المأسوي الذي عاشته بلدة بوسنية تقع عند
الحدود الفاصلة مع صربيا.
قبل ذلك أقدمت على تحقيق «على الممر» (2010) الذي تعامل مع
ذلك الإرث ذاته ووقعه على مجتمع ما زال ينأى بتلك الجراح من بعد سنوات من
انتهاء الحرب.
لكن «كو فاديس، عايدة؟» يختلف. لا سائحة أسترالية تكتشف
فاجعة، ولا حديث عن البوسنة اليوم على أرتال الماضي، بل نظرة مباشرة إلى ما
حدث في قرية سربرينتزا عندما احتلتها القوات الصربية (بقيادة الجنرال
الصربي ملاديتش) في صيف سنة 1995 وسارعت إلى احتجاز ثم قتل أكثر من 7000
رجل من أبنائها واغتصاب العديد من نسائها (وقتل بعضهن كذلك). الفيلم
والحادثة يتواجهان بلا مواربة. كاميرا في مقابل حقيقة. نظرة ممعنة لمأساة
تتبدّى أمامنا من الدقائق الأولى، ثم ترتفع بأحداثها ومواقفها عن الأرض،
لتصبح طائراً أسود جاثماً فوق المشاهد مهما حاول أن ينأى بنفسه عن المشاعر
التي يعايشها خلال العرض.
-
موجع وحقيقي
المخرجة زبانيتش لا تحاول النأي بنفسها على الإطلاق. هي
بوسنية وأدرى بما حدث فيها، وعلى اطلاع جيد على ما وقع في تلك البلدة التي
أبيد معظم أهلها المسلمين. تتولّى تقديم بطلتها أولاً. إنها عايدة (ياسنا
ديوريشيش) تعمل مترجمة في موقع أنشأته الأمم المتحدة للاجئين البوسنيين.
حال دخول القوات الصربية البلدة هرع أبناء القرية إلى ذلك الموقع، وتم
إدخال نحو 5000 لاجئ، بينما بقي أكثر منهم خارج المكان لعدم قدرة الموقع
على الاستيعاب.
الموقع المذكور تحت قياد الكولونيل كارامانز (يوهان
هلدنبيرغ). في مطلع الفيلم تشارك عايدة لقاءً بين أبناء البلدة الذين
يطالبون الأمم المتحدة بقصف الرتل العسكرية الصربية التي أوضحت مراميها.
يعد الكولونيل، بصوت عال، إن الأمم المتحدة سوف تفعل ذلك بعدما وجّهت
تحذيراً إلى القوات الصربية بعدم التقدم صوب البلدة.
الاجتماع ينفض ونتابع مع عايدة العثرات. فقيادة الأمم
المتحدة لم تقم بقصف تلك الرتل، ولم تف بوعدها حيال المواطنين رغم سعي
الكولونيل للتواصل معها لتنفيذ المقررات التي تنصّلت منها. تبعاً لذلك،
اقتحمت القوّات الصربية تلك البلدة، ثم توجهت صوب موقع الأمم المتحدة
وواجهت قائده الضعيف، ثم أخذت تجمع الرجال والنساء في حافلات مدنية، كل حسب
جنسه. القائد الصربي ملاديتش (بوريس إيزاكوفيتش) أطلق العنان لخطابه
المتكرر أن قواته لن تصيب أحداً بأذى، بل ستنقل المدنيين إلى بلدة آمنة
تطوّعاً وبرهاناً على تفهمه للحال الصعبة لهؤلاء.
رحلة الرجال لم تكن بعيدة. تم قيادتهم إلى قاعدة كبيرة، حيث
تم إعدامهم بالرصاص على عدة أفواج. رحلة النساء تنطلق لكن إلى مقرات الجيش
الصربي.
بطلة الفيلم تجد نفسها معنية، لا كدورها كمترجمة في معسكر
عاجز عن حماية من لجأ إليه، ولا كشاهدة على ما يدور، بل لأن زوجها وولديها
الشابين في عداد من سيتم إلقاء القبض عليهم وسوقهم إلى الإعدام. هذا ليس
موقفاً أنانياً منها أن تحاول استغلال وظيفتها لكي تنقذ أفراد عائلتها، رغم
أن المعاناة تشمل ألوف اللاجئين، لكنه الأمر الذي ستقوم به كل أم وزوجة في
مثل هذا الظرف الخطر.
في مشهد نراها تركع أمام الكولونيل كارامانز، ترجوه أن يضع
ابنيها وزوجها على قائمة العاملين في الموقع للنجاة من الطغمة الصربية، لكن
الكولونيل كان قرر أن زوجها يستطيع البقاء، أما ولداها فعليهما الاستسلام
إلى القوات الصربية. ما حدث بعد ذلك في تلك القاعة يرفع حالة الذهول التي
واكبتنا من مطلع الفيلم إلى حالة الصدمة.
فيلم زبانيتش موجع لأنه حقيقي. المخرجة تصنع فيلمها الروائي
تبعاً للوقائع. لا تعمد إلى معالجة تسجيلية للموضوع، بل تستخدم الإطار
الروائي لرحلة صعبة عليها فيها أن تكون مقنعة وراصدة من دون أن تكون في
الوقت صادقة. الفيلم ينظر إلى الوضع من دون مواربة ولا تمويهات أو محاولات
تخفيف. لا أعذار ولا اعتذارات، والأمم المتحدة في هذا الفيلم شريك غير
مباشر مع تلك الكارثة.
«كو
فاديس، عايدة؟» فيلم جيد الصنعة إلى حد بعيد. الخاص (مشكلة عايدة) والعام
(الحدث الواقع على رحى يومين) يلتقيان في خط واحد لا يمكن فصله. لكن ككل
فيلم يحدّق في مأساة كهذه يُمارس قدراً من فرض المضمون وتحت ثقل المطارق.
هذا حدث مع العديد من أفلام الهولوكوست (بينها في السنوات الأخيرة «ابن
شول»/ لازلو نيميس، 2015) من قبل. ما هو مختلف هنا حقيقة أن المخرجة توفر
«هولوكوست» آخر لم يتمتع بعد بحقه في هذه التسمية. ففي النهاية، وكما يوضح
مشهد توجيه فوهات الرشاشات من نوافذ عليا على المسلمين المحتجزين في تلك
القاعة لا يختلف كثيراً عن الزج باليهود في الأفران، كما حدث أيام النازية.
كلاهما سواء، ولو أن واحداً استخدم الغاز والآخر استخدم الرصاص.
-
جيل ما بعد الحرب
من صربيا ذاتها، وخارج المسابقة الرسمية، «واحة» للمخرج
إيفان إيكيتش الذي سبق وأن قدّم قبل نحو خمسة أعوام فيلمه الأول «برابرة».
ذلك الفيلم كان عن جيل جديد يبحث عن هوية ذاتية. البحث نفسه ما زال يقود
أبطال فيلمه الثاني هذا. أبطاله هنا ليست لديهم دوافع درامية يمكن تناولها،
لكنها محض اجتماعية مواربة وبعيدة عن الطرح كأحداث فعلية. يبدأ بسيرة
تاريخية عن المرحلة الشيوعية، وكيف عاش اليوغوسلافيون (آنذاك) في وضع متأزم
وصعب طوال الوقت. لكن إذا ما كانت هناك علاقة وطيدة بين هذه العودة إلى
التاريخ وبين أحداث ما بعد انفصال يوغوسلافيا وتحوّلها إلى دول متأرججة بين
دول البلقان، فإن هذه العلاقة غير واضحة. كذلك غير واضح لماذا عمد المخرج
إلى بطل قرر ألا يتكلم منذ أن كان ولداً. تبحث أيضاً عن علاقة وطيدة فلا
تجد. مجرد استخدام وسيط بين حالة ماثلة ورغبة في إيصال معانيها من دون أن
يكون الإيصال صحيحاً بالضرورة.
مع كاميرا مهزوزة (تبعاً للموضة)، فإن العديد من المشاهد
تبدو مستحدثة وقت التصوير مع نيّة تغييب ملامح الوجوه، وربما لسبب وجيه:
ليس هناك من الممثلين من تريد أن تتبنى قوله أو ما يقوم به. هذا يسود
الأجزاء الأربعة التي يتولى المخرج تقسيم فيلمه إليها. هناك نية تقديم
شخصيات أكثر مع توالي الفصول، لكن الوقت يتأخر في الفيلم للخروج بكل ما
يحتويه إلى مستوى ترك تأثير ما.
ربط الحال الاجتماعي لهذه القصة الصربية (المُعالجة كما لو
كانت تسجيلية) بوضع صربيا بعد الحرب البلقانية واهٍ. هو عبارة عن معايشة
واقع جديد لكنه منتشر، على أكثر من نحو، في دول لم تدخل حروباً بالضرورة.
-
قصير من ألمودوفار
قبل عرض «كو فاديس، عايدة؟» استقبل الحاضرون فيلماً جديداً
للإسباني بدرو ألمودوفار عنوانه «الصوت الإنساني». فيلم مفاجئ من حيث إنه
أولاً فيلم قصير (30 دقيقة) وثانياً من حيث إن الممثلين الوحيدين فيه هما
امرأة وكلب.
المرأة هي تيلدا سوينتون (لا اسم لشخصيتها في الفيلم).
نراها في مطلع الفيلم تدخل متجراً وتشتري فأساً. تتابعها الكاميرا في
إصرار. تدخل منزلها حيث يسرد المخرج باقي القصّة. هي لا تريد أن تقتل
أحداً، كما تقول، لكنها ستهوي على البذلة الرجالية المطروحة فوق السرير
بضربة الفأس. ما هو غير مقنع هنا هو أن قطع البذلة بالفأس لا يمكن أن يتم
كما لو تم القطع بالمقص. الفأس لا يغوص جيداً في القماش. سيمزقها في مواقع،
لكنها لن تبقى على النحو ذاته قبل قطعها بالفأس. لا بأس. يحق للفنان
أحياناً تجاوز الواقع إلى الرمز، وهذا القطع في بال بطلة الفيلم رمز
لرغبتها في قتل حبيبها الذي هجرها، رغم إنها تخبره، هاتفياً، بأنها لا تقصد
ذلك.
تلك المكالمة تأخذ من الفيلم نصف مدّة عرضه. جيدة التكوين
فنياً، كحال الفيلم بأسره، وسوينتون تمثل نصف الساعة بلا هنات. حضور قوي.
نبرة ترتفع وتهبط بتلقائية جيدة حسب المشاعر التي تبثها أو عند محاولة
استعادة الهدوء كلما اندفعت عاطفتها صوب الذروة. تكشف لمحدثها بأنها أحبّته
وإنها صُدمت لتركه المفاجئ. لا تريد تغيير رأيه ولا تناشده العودة، بل تقول
له إنها تريد الآن إنهاء العلاقة ومحو الماضي.
دور الكلب الذي يستعين به الفيلم للوصول إلى مزيد من
الانعكاسات هو أنه متعلق بصاحبه الذي ترك البيت. يحن إليه. يشم آثاره ويعوي
في وجه المرأة احتجاجاً. مدرّب جيداً لكي يستطيع تجسيد الدلالات المرغوبة.
ستلتهم النار (أشعلتها المرأة) بعض البيت، كذلك سيلتهم
النسيان الفيلم باستثناء قوة وحرفية وجودة أداء سوينتون. |