المهرجان يجد حلاً ناجعاً لوباء «كورونا»
بعد عشر دقائق من عرض أحد الأفلام مد هذا الناقد أصبعه
وحرّك الكمامة نزولاً عن أنفه قليلاً. من وسط الظلام تقدّمت مني إحدى
العاملات في الصالة وقالت لي بالإيطالية همساً: «أرجوك... ارفع الكمامة إلى
أنفك».
لا أفهم الإيطالية، لكن لم يكن هناك خطأ في ترجمة ما قالته،
وفعلتُ ما طلبت على الفور، لكن العجيب هو أنها، وسواها، قادرون على كشف
المتلاعبين بالكمامات، ولو في ظلام الصالة.
هذا هو واحد من الاحتياطات المعمول بها. والمرء يقدّر ذلك
كما يقدّر تكرار عرض الأفلام أكثر من المعتاد، وفي أكثر من صالة، لأن
«الحيطة» تقتضي بألا تشغل الصالة أكثر من نصف كراسيها، وربما أقل من ذلك.
والصفوف الطويلة تحت الشمس الحارقة مراراً وتحت المطر
المفاجئ في بعض الأحيان لم يعد لها وجود كما كان الحال في الأعوام الماضية.
الآن تحجز مقعدك على الكومبيوتر، والكومبيوتر سيسجل على بطاقتك الخاصة كل
شيء؛ من اسمك إلى المقعد الذي حجزته وفي أي صف. شغل لم يكن أكثر من خيال
غير مطروق إلا في أفلام جيمس بوند الأولى.
-
إصرار إيطالي
الصالة ذاتها هامدة خلال العرض. لا سُعال كما كان الحال قبل
«كورونا»، عندما كانت «أوركسترا» من السعال تلف صالات المهرجانات، كما لو
كانت في اتفاق مسبق. لا أعياء ولا حالات مشكوك بأمرها، بل تعاون رائع بين
الموظفين والمشاهدين لا تجد مثيلاً له إلا في فينيسيا أو برلين، وأحياناً
في مهرجانات أخرى.
لكن فوق ذلك، هناك معجزة قام بها ألبرتو باربيرا وفريقه. في
ثلاثة أشهر فقط حشد ونفّذ وقدّم مهرجاناً سينمائياً كاملاً. طلب الأفلام،
وحصل عليها، ونظّم عروضها حسب الظروف الطارئة، وخصص لها قاعات العرض وأدوات
التنظيف، واستعان بخبرات حكومية لتنظيم الحديقة المحيطة بالمركز الرئيسي
الذي يشغله المهرجان. وخبراء السير كان لهم دورهم في تنفيذ مهام إضافية تم
خلالها منع التجمهر أمام صالات السينما لتحية السينمائيين الوافدين.
هذا كله كان صعباً على مهرجان «كان» القيام به لأسباب عدة،
من بينها أن الحكومة الفرنسية طبقّت قانون حظر التجمّعات، ولاحقاً عندما
سمحت، كان من غير المحتمل أن يتخلى المهرجان الفرنسي عن تقاليده الإعلامية
ويرتّب حاجياته العديدة ليظهر في ثوب قشيب. لم يجد أن هناك متسعاً من الوقت
فأحال معظم أفلامه للعرض في مهرجانات أخرى (رفض «فينيسيا» استقبال بعضها
مصحوباً بكلمة «من مختارات مهرجان «كان») أو في الأسواق مباشرة.
إضافة لما سبق، وبسبب إصرار مهرجان «فينيسيا» على إقامة
الدورة الحالية (تحمل الرقم 77)، فإن ما قامت به من شؤون التنظيم يُنظر
إليه من قِبل المهرجانات الأخرى كمنهج لا بد من تقليده، لا خلال جانحة
«كورونا» فقط، بل ربما بعدها. تقول لي لوسيا أولاشرغوي، واحدة من مساعدي
مدير مهرجان سان سابستيان:
«ما
قام به (ألبرتو) باربيرا مثير للإعجاب والتفاؤل. بعض النظم الجديدة جديرة
بالتقليد مثل الحجز المسبق على الإنترنت. هذا كان معمولاً به لمن يشاء، لكن
تعميمه وجعله الوسيلة الوحيدة، بصرف النظر عن الظروف التي نعيشها، أمر مفيد
للجميع».
«على
الأقل منع الصفوف الطويلة والانتظار المسبق، ثم الهرع للجلوس على الكرسي
المفضل»، يقول الناقد المصري أمير العمري الذي كان حجز لهذه الدورة منذ
نهاية الدورة السابقة، رغبة منه في عدم تفويتها.
-
حجم النجاح
بذلك يفتح مهرجان «فينيسيا» الطريق أمام منوال جديد من
النظم والتدابير. يتولى تعريف الآخرين بأن الوباء ليس قدراً لا مناص منه،
وأن هناك حلولاً لإقامة أي مهرجان في أي مكان من دون خوف أو عواقب.
في حديثها الصحافي، قامت رئيسة لجنة التحكيم لهذه الدورة
الممثلة كيت بلانشت بتهنئة المهرجان وحيّته على تصميمه إقامة الدورة رغم كل
شيء. قالت: «أصفّق للمنظمين الذين تعاونوا على نحو نموذجي (لإقامة هذا
المهرجان). علينا أن نفتح دور العرض بأمان لأنها مرحلة عصيبة من الزمن لا
نعرف فيها نهاية بعد لهذا الوباء».
الناحية المقابلة لهذا الجهد كانت على المستوى ذاته.
صانعو السينما تقاطروا للحضور. ليس بالكمّ ذاته طبعاً، لكن
بالحجم والقدر الكافيين لإنجاح المهرجان. في الأساس لا يعمد المهرجان
الإيطالي إلى إقامة سوق سينمائية كحال منافسيه «كان» و«برلين»، لكن العقود
تُبرم بين الحاضرين من بائعي أفلام وموزّعين، وهذا حدث، ولو بنسبة أقل، هذه
السنة. تقول واحدة من منتجي فيلم «مس ماركس» مارتا دونزيللي لهذا الناقد
حين سؤالها عن فائدة الحضور إلى مهرجان «فينيسيا» واحتمالات بيعه للخارج:
«قمنا قبل المهرجان ببيع الفيلم لبعض الأسواق، وهنا نبرم عقودنا للأسواق
الأخرى. أعلم أن عدد الموزّعين والشركات الكبرى أقل من المعتاد في هذه
الدورة، لكن من المهم ذكر حقيقة أن الجميع يراقبنا من بعيد. وأحد معارفي في
هذا المجال كتب لي من لوس أنجيلس أنه يأسف لأنه لم يحضر. كان يعتقد أن
السفر خطر والإقامة غير مضمونة. وربما اعتقد أن المهرجان لن يُقام بنجاح،
لكنه أُقيم بنجاح فعلاً».
في الواقع حجم النجاح لا يمكن أن يُقارن جيداً بدورات
السنوات السابقة، لأن المهرجان أقيم بمعزل عن الطبيعة ورغماً عنها. لذلك هو
أنجح مما سبق من ناحية وأقل (على صعيد المبادلات والصفقات التجارية) من
ناحية أخرى.
-
فيلم مهم ومبهر
أما على صعيد الأفلام فالنجاح مؤكد؛ الأفلام الجيدة تتوالى
كما لو أن صانعيها اخترقوا الزمن الحالي وأدّوا ما يحلمون بصنعه بصرف النظر
عن الوضع الحالي. نعم، عدد كبير من هذه الأفلام تم تصويره في مراحل
«كورونا» الأولى، لكن الكم المتوفر والجودة التي تغمر غالبيتها (إلى الآن)
دلالة أخرى على أن السينما تقاوم الوباء، والفن يقف بالمرصاد لما تخططه
سياسات خارجية فشلت في احتوائه (أو ربما تركته يستفحل جهلاً أو عمداً، كما
يتكاثر حديث المواقع).
أحد الأفلام المفاجئة في مستواها هو «الرجل الذي باع ظهره»
(للفيلم
عنوان مختلف: «الرجل الذي باع بشرته»:
The Man Who Sold His Skin)
للتونسية كوثر بن هنية. ليس لأنه خالٍ من الأخطاء، لكنها من ذلك النوع الذي
يمكن التغاضي عنه حيال الصورة الكبيرة التي يرسمها على الشاشة وبنجاح.
هذا هو أفضل أفلام المخرجة التونسية التي سبق أن شاهدنا لها
«زينب تكره الثلج» (2016) و«على كف عفريت» (2017).
الأول كان تسجيلياً صغيراً (بحكاية مركّبة) ينأى تحت وطأة موضوع شخصي لم
يخرج عن المستوى المبدئي للوضع الوارد..
الثاني كان أفضل كثيراً؛ روائياً مأخوذاً عن واقعة حقيقية
لفتاة تم اغتصابها من قِبل رجلي شرطة ومعاناتها بعد ذلك لإثبات تهمة
الاغتصاب عليهما.
هذا الفيلم الجديد هو أفضل ما حققته إلى اليوم. دراما عن
حياة مهاجر سوري في مواجهة عالم يقع على بُعد أميال كثيرة من واقعه. عليه
أن يقبله لقاء ثمن وإذ يفعل يكشف الفيلم عن تلك الفجوة الكبيرة بين ثقافتين
وعالمين ومبدأين، كل منهما في وجهة مختلفة.
سوريا سنة 2011: سام (يحيى محياني) هو شاب واقع في حب
الفتاة التي نراها معه في حافلة عمومية (ضياء ليان)، يعرض عليها الزواج
فتقبل. يهب واقفاً وخاطباً في الركّاب: «نحن في زمن الثورة والحرية وأريد
أن أزف لكم خبر زواجي» (الحوار ليس حرفياً).
المشهد التالي له وهو في زنزانة البوليس. البعض بلّغ عن
خطبته اللاذعة فاقتيد حيث يُشير له المحقق بسبب احتجازه، ثم يتركه وحيداً
في غرفة التحقيق ذات النافذة العريضة المفتوحة. هل تم ذلك عن قصد دلالة على
موافقة الضابط الضمنية لموقف سام السياسي أو عن غير قصد؟ بصرف النظر عن
الجواب يعتلي سام النافذة ويهرب لمنزل عائلة حبيبته. عند الباب يخرج له
خطيبها (الذي لاحقاً ما سيتزوّجها) وهو موظف في وزارة الخارجية ووالدتها.
كلاهما لا يريد وجوده، على عكس الفتاة التي تبدو مغلوبةً على أمرها. شقيقة
سام هي التي ستسهل له الهروب إلى بيروت بينما تحط حبيبته مع زوجها في مدينة
بروكسل.
في العاصمة اللبنانية يلتقي سام برسام أميركي - بلجيكي (ولو
أن لكنة الممثل كووان دو باوي بريطانية) يعرض عليه مساعدته على السفر إلى
بروكسل شرط أن يبيعه ظهره. كيف ذلك؟ يريد الرسام حرية التصرف بظهر سام.
يَشِمُه ويرسم عليه ويعرضه ويجني منه المال الطائل. سيمكنه من العيش رغيداً
في فندق من خمس نجوم ولا مانع من أن يصبح نجم معارض فنية.
من هنا المنوال يستمر مؤكداً على الصراع داخل سام (يدرك أنه
أداة) وخارجه. حبيبته متزوّجة ورجلها متمكّن في سوريا، وهو لا يملك سوى أن
يطيع أوامر ذلك الفنان. إلى ذلك، تحشد المخرجة للمجابهة بين عالمين
متباعدين ولا تضيع الوقت في مسائل سهلة العرض مثل دهشة سام أمام عالمه
الجديد، ووضع مفارقات مفروغ منها في هذا الشأن. لوحتها الأكبر هي كيف يستغل
العالم المتقدّم مأساة النازح وكيف يرزح الفرد اللاجئ تحت معادلات بعضها من
نتاج الوضع الذي دفعه للهرب، وبعضها الآخر من ذلك المفهوم المختلف حيال
الإنسان إيجاباً وسلباً.
مع تصوير رائع من كريستوفر عون، وتوليف لا يهدر الوقت
(لماري هلين دوزو) و(على الأخص) موسيقى ذات مستوى عالمي من أمين بوحافة تضع
المخرجة ثقلها لضخ حياة جديدة في السينما التي تجمع الشرق والغرب معاً. من
ناحية تريد أن توفر للعين الغربية نظرة جديدة لم يدركها من قبل لحال اللاجئ
السياسي القادم من بلد عربي يعاني من الحرب والوضع، ومن ناحية معايير الغرب
في التعامل مع هذا الوضع وصولاً لمستوى الاستغلال.
في الصورة كذلك الممثلة الإيطالية مونيكا بيلوشي التي تؤدي
دور مساعدة الفنان البلجيكي كوثر، ولو أن السيناريو لا يميل لفتح ثغرة
عاطفية ما كان من الممكن تجاوز الإيحاء بها بين سام وكوثر. النهاية في
خلاصتها المعنوية (ولن أفصح عنها هنا) جيدة. في سياقها درامياً تبدو إضافة
غير ضرورية. |