أخيرا يمكن القول إنه أصبح لدينا مخرج من قطاع غزة يصنع
سينما روائية حقيقية تتميز بالسحر والخيال دون أن تفارق الواقع. وفي
الحقيقة أن المخرج مخرجان هما الشقيقان طرزان وعرب ناصر، وأنهما يقدمان
للمرة الأولى في السينما على هذا النحو الأخاذ، من خلال فيلمهما الجديد
“غزة حبي” الذي عرض في مسابقة “آفاق” بمهرجان فينيسيا السينمائي، واقع غزة
المخيمات، بل وواقع القطاع في علاقته بمحة الإنسان، وتطلعه للتحقق ولو من
خلال الحلم.
هنا نحن أمام عمل منسوج ببراعة شديدة، يلخص كل شيء ويقول كل
شيء، من دون صراخ أو شعارات أو مباشرة فجة، بل من خلال عين تنقد وترصد،
تكشف وتعبر، فتصبح الكاميرا عين الحقيقة ولكنها الحقيقة مغلفة بالشعر.
يمكننا اعتبار الفيلم الأول للأخوين ناصر، “ديغراديه” (نوع
قصة الشعر المعروفة) الذي عرض ضمن “أسبوع النقاد” بمهرجان كان قبل 5 سنوات،
تدريبا أوليا على الإخراج، فعلى الرغم من طرافة الفكرة، كان الفيلم محكوما
بالإمكانيات القليلة التي توفرت له. كان عملا محاولة كوميديا اجتماعيا
ساخرا، يتعامل مع الموضوع السياسي بشكل غير مباشر، يلمس من خلال مجموعة من
النساء الفلسطينيات في غزة، عمق الإحساس بانعدام الأمان، والشعور بالقهر
تارة بسبب العلاقة مع الرجل، وتارة أخرى بسبب القيود التي أصبحت مفروضة على
حركة المرأة في غزة بعد شيوع أعمال العنف والعنف المتبادل بين العصابات
المسلحة التي تسيطر على الشارع.،
مع عدم اغفال الهجمات والاجتياحات الإسرائيلية التي لا تتوقف.
أما “غزة حبي” فهو أكثر نضجا وفيه يعثر المخرجان على
أسلوبهما الذي يستمد من مفارقات الواقع والمكان، الكثير من المواقف المضحكة
لكنه الضحك الذي يكشف ولا يلهو، يجعلنا نواجه الإنسان البسيط في حياته
اليومية التي أصبحت عبثية تماما. هنا النظرات والابتسامات والصمت والانصات
والصراخ أيضا أحيانا، هي التي تفصح وتقول وتعلق وتسخر من دون حاجة إلى
الخطاب المباشر.
في السيناريو الذي كتبه الشقيقان هناك كل شيء: السياسة
والتعليق السياسي، الإنسان في بحثه عن السعادة، المرأة وما يُفرض عليها من
قيود في مجتمع بطريركي قمعي، فساد المؤسسة كما يتبدى في الانقطاع المستمر
اليومي للتيار الكهربائي وع ذلك فالمحصل يصر على أن كل شيء على ما يرام،
وأنك يجب أن تدفع وإلا، والتجارة تعاني من الكساد، والأسعار ترتفع، وسيطرة
حماس بسلطتها المتعجرفة، وما تفرضه من قيود وما تمارسه من تدخل في حياة
الأفراد، كسلطة قهر باسم الدين، لا تحترم الفن ولا تقيم وزنا للفنان، لا
تمانع من التفريط في الآثار القديمة مقابل المال.
لدينا شخصيات رئيسية محدودة العدد، وهو أول شروط ضمان توفر
سيناريو متماسك: 4 شخصيات: رجل وامرأة، شقيقة الرجل، وابنة المرأة. وهناك
شخصيات فرعية مثل صديق الرجل الذي يبيع كل ما يملك مقابل الحصول على فرصة
لمغادرة غزة الى أوروبا، وضابط شرطة حماس الفظ الذي يمارس سلطته بكل فظاظة
وقسوة لا يقيم وزنا لأي اعتبار، والخبير الفني وبعض النسوة.
الرجل هو “عيسى” (سليم ضو) الذي بلغ الستين من عمره ولم
يتزوج. صياد سمد، يصطاد ثم يبيع، لكنه أصبح غير قادر على البيع سوى بصعوبة
بالغة. وهو يقضي سهراته مع صديقه الذي لا يرى مخرجا من الوضع الحالي سوى
بالهجرة إلى أوروبا بأي طريقة. عيسى يعثر في البحر على تمثال يوناني لرجل
منتصب العضو الذكري أو لعله للإله الاغريقي أبوللو (عندما سينطق الخبير
الفني لمسؤول حماس بهذا اللفظ سينهره بشدة). عيسى ينقل التمثال الى بيته،
يضعه أمام فراشه مباشرة، يستمد منه العزيمة فالوقت لم يمض بعد. وبعد أن
يغادر صديق وتحت وطأة الشعور بالوحدة يعلن أنه سيتزوج.
شقيقته (منال عرض) تسعى بشتى الطرق للعثور له على عروس من
النسوة اللاتي تعرفهن (مطلقات وأرامل). لكن عيسى لا يفكر سوى في “سهام”
(هيام عباس)، وهي أرملة في الستين مثله، لديها ابنة مطلقة هي “ليلى” (ميساء
عبد الهادي).. متحررة في أفكارها، مختلفة بالتالي عن “نساء غزة” الخاضعات
للتقليد والموروث وما تفرضه حماس، وليلى أيضا لا ترى مخرجا من “الحصار” سوى
بالهجرة. أنا “سهام” فهي تشغل نفسها في محل الملابس النسائية الذي تديره
بصعوبة بسبب الكساد.
يستخدم الشقيقان طرزان وعرب ناصر التمثال اليوناني للتعليق
المجازي، فتارة ينكسر قضيب التمثال أثناء محاولة عيسى نقله من أمام فراشه.
فهو يوحي له بأحلام جنسية. وتارة أخرى تداهم شرطة حماس بيته بحثا عن
التمثال يصدرونه ويقبضون على عيسى بدعوى أنه سرق أثرا يعتبر ملكا للسلطة.
ولا يفرجون عنه سوى بعد أن يقبل التنازل عنه فيأتون بخبير لتثمينه ثم
يراسلون متاحف أوروبية يعرضون عليها أن يبيعونه لها. لكن هناك مشكلة: أين
يوجد قضيب التمثال؟ مداهمة أخرى لمنزل عيسى.. لكنه يخرج القضيب المكسور من
جيبه ويقول للضابط الملتحي” لم أكن أعرف أنه يلزمك!
صياغة الفيلم في هذه الأجواء العبثية، تحافظ على قصة الحب
أو تلك العلاقة الرومانسية التي تنشأ بين عيسى وسهام من دون كلام. على محطة
الباص. في السوق حينما يصر على توصيلها الى هناك، بينما هي مترددة خجلة.
وهي المرة الأولى التي تخرج فيها الكاميرا لتجعلنا نشاهد شوارع غزة
وأسواقها وبيوت المخيم والبحر الذي أصبح ضيقا لا يتجاوز عرضه أمام الصيادين
والبشر كما يقول عيسى ثلاثة أميال.
عيسى يخجل من أن يعلن حبه لسهام، ويخجل أن يصارحها برغبته
في الزواج منها. يحاول مرة وأخرى ويفشل، فيحمل إليها عددا من سراويله بدعوى
أنه يريد تقصيرها. هي لا تعمل في ملابس الرجال لكنها تقبل. يتم تقصير
السراويل 5 سنتميترات. لا بأس. هذا ما يقوله عيسى فهو يتخذها ذريعة للحديث
إليها، لكن عندما يعاين السراويل أمام المرأة في المحل، تبدو وقد أصبحت
قصيرة على نحو مضحك. وسهام تدرك هدفه لكنها أيضا لا تستطيع أن تقول شيئا.
وهي تضحك مع ابنتها ليلى على تصرفه.
يجيد الاهوان ناصر تصوير أجواء الليل والوحدة والرغبة
والحنين للحب والشباب، كما يصبح عيسى” برغبته المفاجئة في الزواج في هذا
السن، تجسيدا للرغبة في البقاء في غزة رغم كل الظروف، في الحفاظ على الهوية
ورفض الهجرة على العكس من صديقه الذي لا نعرف بالضبط ما إذا كان قد وقع في
براثن نصاب من أولئك الذين يجمعون الأموال من ضحاياهم ثم يتخلون عنهم.
قصة حب في سياق لا يجعلك للحظة واحدة بعيدا عن المكان بكل
أبعاده ومشاكله وتراكماته.. وحتى عندما يخلو عيسى في النهاية مع زوجته في
قاربه بالبحر، يرتفع صياح ضباط إسرائيلي من زورق حربي ينذره بضرورة
الابتعاد مائتي متر الى الوراء. فالحصار موجود ولكن الحرية الفردية مسألة
إحساس داخلي لا أحد يمكنه انتزاعه. وهنا في هذا الفيلم نشعر ربما لأول مرة
في أي عمل سينمائي عن غزة وأهلها، بهذا الاحتفال بالإنسان الفرد، الذي يعبر
بضميره الشخصي عن الرفض ولكن أيضا عن الولاء والانتماء دون حاجة لخطابات
كبيرة.
هنا نرى اهتماما كبيرا مدهشا بالتفاصيل الصغيرة. ما نشاهده
في الخلفية على شاشة التليفزيون، همسات الأخوات أو النساء الفلسطينيات
عندما تجمعهن شقيقة عيسى ليختار من بينهن، الهواجس الجنسية التي تهاجم
عيسى، الذين يريدون شراء الطعام لكنهم لا يجدون الثمن، يريدونه (على
الحساب)، سيارة الشرطة التي تراقب الواقفين على محطات الحافلات، طائرة
الدرون الإسرائيلية التي لا تغادر السماء فوق المدينة.
يتميز الفيلم بالتوازن الدقيق بين مشاهده وشخصياته. لا توجد
لقطة زائدة أو ناقصة. هناك ربما بعض الإطالة في مشاهد اللقاءات بين عيسى
وصديقه، وبعض المبالغة في تصوير التوتر في علاقة عيسى بشقيقته التي تريد أن
تختار هي له، لكن هذه تفاصيل لا تخل بالطابع العام للفيلم، كنوع من
الكوميديا الرومانسية التي تتشرب بالسياسة، وبما يجري على أرض الواقع، دون
أن تنحصر في الواقعية الخشنة، أو الخطاب السياسي المعتاد.
إن ذلك التآلف الهارموني بين اثنين من عمالقة التمثيل: هيام
عباس وسليم ضو، يضفي على الفيلم كل ذلك السحر والجمال والرونق. هنا التعبير
بالهمس والمناجاة الذاتية ونظرات العينين التي تفصح عن الكثير، حيث يغيب
الحوار ويحضر الخجل والتلعثم والتردد والنكوص وكأننا أمام اثنين من
المراهقين. كذلك تحضر ميساء عبد الهادي بقوة شخصيتها وأدائها الواثق الذي
يعكس تمردها ورفضها الخضوع للواقع، ولو في باروكة كليوباترا!
ويجب ألا ننسى في النهاية أن “أبوللو” كان إله الفن والشعر
والضوء، بالإضافة إلى أياء أخرى كثيرة كلها خير وحب وجمال ودفاع عن الإنسان.
الفيلم الفلسطيني يعرض في مهرجان فينيسيا ضمن مسابقة “آفاق”
للسينمائيين الشباب، وهو من الإنتاج المشترك (فلسطين، فرنسا، ألمانيا،
البرتغال، قطر)، مدير التصوير هو الفرنسي كريستوف غريو، والمونتاج للفرنسية
فيرونيك لانغ، والموسيقى من وضع الألماني أندريه ماتياس، وتصميم الملابس
حمادة عطا الله.
أما المسابقة الرسمية فيمكن القول إن التحفة الوحيدة التي
شاهدناها حتى الآن هو الفيلم الروسي “الرفاق الأعزاء”
Dear Comrades
للمخرج الكبير أندلايه كونتشالوفسكي. وهو ربما سيكون الفيلم الذي يقتنص
“الأسد الذهبي”. ولكن من يعلم! |