نساء في دراما وحيد حامد.. لعبة المرايا وقلب الأدوار |
فيروز كراوية
فيروز كراوية
عندما تستعرض فيلموجرافيا وحيد حامد ستلاحظ فورًا العدد
الكبير لأفلام البطولة النسائية. فترة الثمانينيات والتسعينيات قدمت فيها
نجمات السينما المصرية إنتاجًا من بطولتهن يفوق في قيمة موضوعاته أي فترة
تاريخية أخرى، بمساعدة دراما كتاب سيناريو ومخرجين أمثال وحيد حامد وبشير
الديك وسمير سيف وأشرف فهمي وعاطف الطيب وغيرهم.
جيل من الممثلات قاومن موجة عاتية من تحجيب الفنانات. لم
يكتفين بأدوار مساندة للرجال أو أدوار بطولة نمطية. غامرن بأدوار جريئة على
المستوى الاجتماعي والسياسي، ونجحت بعضهن في الوصول لمراكز متقدمة في شباك
التذاكر.
والأهم أنهن صرن جزءًا عضويًا من الصناعة بالمشاركة في
الإنتاج بأموالهن الشخصية، وتشجيع وجوه جديدة على مستوى التمثيل والسيناريو
والإخراج.
نذكر في المقدمة نبيلة عبيد ونادية الجندي وليلى علوي
وإلهام شاهين ويسرا. لكن المكان الرمزي الذي اختاره وحيد حامد تحديدًا
للأدوار النسائية متميز لعدة اعتبارات.
شخصيات لا رموز.. حكايات لا مواعظ
كلما تملكت إيديولوجيا بعينها أفكار كاتب الدراما، ظل
مدفوعًا للوصول إلى النتائج أكثر من إثارة الأسئلة. الدراما المصرية حفلت
بالرمزيات الإيديولوجية بحيث تمثل الشخصيات الدرامية قوالب وكنايات عن
المجموع أكثر مما تمثّل فردًا وتحكي حكايته التي لا تشبه حكاية أخرى.
محمود المليجي في فيلم الأرض رمز لقطاع ومجموع يخلع عليه
السيناريو صفة المقاومة أو البطولة.
شادية في فيلم شيء من الخوف رمز لقطاع ومجموع وأحيانًا
للبلد.
الشخصيات النسائية في دراما أسامة أنور عكاشة في أغلبيتها
مثلت رمزيات من نفس النوع. أنيسة في ليالي الحلمية تأكيد على الطابع
الشمولي للإيديولوجيا الناصرية التي تحتكر لنفسها أخلاقا مثالية متعالية
ثابتة ومتجمدة في وجه التقلبات الزمنية.
بينما زُهرة هي رمزية أخرى لتقلبات عصر آخر يركّز المؤلف
على مثالبه.
في دراما وحيد حامد خطوة للأمام بخصوص مسألة التعبير
الرمزي. مقارنة بمجايليه، حقق قفزات في تمثيل الشخصية لنفسها، وتبنيها
لروايتها، وفق ظروفها وتاريخها. تتحدث بلسانها. ولا تتشابه جميع الشخصيات
في لغتها كأنها تردد ما يدور في ذهن كاتب واحد صانع للعمل.
اختياراته للنماذج النسائية جاءت تلبية لدافع التساؤل،
وتتبع المجتمع في وضع الحركة لا الثبات.
الثبات يشجع الكاتب على لي عنق الدراما، ودفع الشخصية لمصير
محدد مسبقًا، ومواعظ دافعها إيديولوجي. لكن الحركة تدفع الشخصية أحيانًا
لمصير غير متوقع. خلال تفاوضها مع الشروط الاجتماعية حولها قد تخرج بطلة أو
ضحية، فاسدة أو مبدئية، أو تتقلب بين أحوال مختلفة، مزيج من هذا وذاك.
دولة القانون ودولة الوصاية على الأخلاق
في بداياته عام 1984 و1986 يقدم وحيد حامد مع عاطف الطيب
فيلمي “التخشيبة” و”ملف في الآداب” بأدوار بطولة لـ نبيلة عبيد ثم مديحة
كامل.
يقدم فيهما رؤيته لتأثيرات الأزمة الاقتصادية على الأخلاق
الاجتماعية. يتتبع أيضا سلوك عناصر السلطة بالتوافق مع بنية اجتماعية
اخترقها التشدد الديني وتزاوجت فيها أفكار الإسلام السياسي مع أداء أجهزة
الدولة البيروقراطية والتشريعية.
بالتزامن مع إطلاق السادات ليد الجماعات الإسلامية تعزز دور
بوليس الآداب المصري وتوسعت صلاحياته بقرارين وزاريين عامي 1972 و1979. ثم
أجري عدد من التعديلات الجذرية على قانون العقوبات المصري بحيث يتوافق مع
الشريعة الإسلامية.
وبحلول عام 1980 عدّل الدستور المصري لتصبح الشريعة
الإسلامية “المصدر الرئيسي للتشريع” في مادته الثانية.
يختار وحيد حامد شخصية طبيبة ميسورة الحال في “التخشيبة”،
وشخصية موظفة آلة كاتبة فقيرة تسكن المقابر في “ملف في الآداب”.
يحكي من طريقهما عن الهوس بالفضيحة الذي رافق انهيارًا
أخلاقيًا يتمدد على خلفية الصراخ بشعارات الفضيلة ومصلحة الوطن وتحقيق
الصالح العام.
يحكي عن المصير الذي تساق إليه نساء عاديات لم ترتكبن أية
جريمة لتجدن أنفسهن أداة لتسديد خانات؛ مرة لصالح مجرم يلصق بالطبيبة جريمة
سيئة السمعة، ومرة عن طريق مقدّم بمباحث الآداب يبحث عن ترقية وقضية مثيرة.
بينما تسير الحكاية ترصد الكاميرا شوارع وسط البلد وظاهرة
التحرش الجنسي، ونرى الفتيات يلقين التلميحات عن العجز الجنسي لدى الرجال،
وطموحاتهن المتوجهة نحو راجل عنده شقة تعويضًا عن باقي الاحتياجات:
حاكم مفيش حاجة تعمل قيمة للراجل في اليومين دول غير شقته…
زمان بقى كانت قيمته في .. (ضحك)”. مديحة – ملف في الآداب – 1986- إخراج
عاطف الطيب.
نرى الضابط يحاجج رجلًا متدينًا قبض عليه ضمن شبكة الآداب
المدعاة في قضية ملفقة. يسأله عن زجاجة خمر وجدها مع أحد الضيوف على عزومة
غداء واعتبرها دليل اثبات:
-“أنا مسلم وبس. لا قلتلك أنا داعية ولا مصلح اجتماعي. ربنا
سبحانه وتعالى هو الهادي. هو المصلح. ودول شباب. ثم إن الخمرة مش محرمة
قانونًا”.
-“لكن محرمة شرعًا يا حاج”
-“انت ظابط ولا واعظ”؟
الكاتب هنا مشغول بهذا الالتباس بين منظومة القانون الحديثة
والقائمين على إنفاذ القانون ومواد القانون التي أطلقت يديهم في إدانة
الأبرياء وفق ثقافتهم المكتسبة وثقافة المجتمع التي تغيّرت.
وهو تساؤل أعمق عن بنية الدولة السلطوية وتوجهاتها ومصيرها
بعد هذا التزاوج المشؤوم.
خيوط سنراها تمتد في أفلام وحيد حامد بامتداد الأزمة
الاجتماعية التي صنعها هذا التناقض الرئيسي؛ تناقض الحداثة المحتجزة في
سجون خطابات ضد حداثية، تحولت بالفعل لتشريعات وقضبان واغتيالات سياسية
وحوادث إرهابية.
على رأس ضحاياها نساء تسددن فواتير ما لم تفعلن، وتستخدم
الفضيحة حصرًا ضدهن، وتتدخل الأجهزة الأمنية في أدق تفاصيل الحياة الشخصية
للنساء والرجال لتحفظ استمرار البنية السلطوية الكلية.
خارج النمط.. أقوى من الفضيحة
في مرحلة تالية انتقل وحيد حامد نحو مزيد من الأسئلة
الجريئة اختار لها نماذج نسائية أكثر جرأة على كسر النمط.
اختار ليلى علوي في دور مدمنة عملت بالدعارة في فيلم
“المساطيل”، من إخراج حسين كمال، والذي واجه ضغوطًا رهيبة حتى منع من
العرض.
واختار نبيلة عبيد في دور الراقصة في فيلم “الراقصة
والسياسي” ودور إحدى المتعاونات مع جهاز المخابرات في الفترة الناصرية في
فيلم “كشف المستور”.
واختار يسرا لدورين من أجمل أدوارها؛ مقبوض عليها في تهمة
آداب في “الإرهاب والكباب”، ومديرة مكتب هاربة من حفل رجل الأعمال الذي
تعمل لديه لأنه يعرضها كغنيمة ضمن صفقة من صفقاته في فيلم “المنسي”.
في فيلم الإرهاب والكباب، يختار وحيد حامد الموظف السلفي
(أحمد عقل) المتهمة في قضية الآداب (يسرا) دون باقي نساء العمل ليدعوها
للهداية. وتكشف هي بإجابتها الساخرة عن غرضه الذي تفهمه:
اختيار النماذج الأبعد عن المينستريم أو التي تحتل هوامشه
هدفه تفجير التناقض بصورة أكبر. هدفه ألا تحتكر الحديث عن المبادئ والشرف
والأخلاق ألسنة شخصيات ملائكية وعظية نمطية.
السؤال الأخلاقي هنا أكثر تعقيدًا. والتعقيد هنا أكثر شبهًا
بالحياة وبتفاعلات السلطة ومعارضيها ومجتمعها على أرض الواقع.
الأفراد في شبكاتهم العائلية والاجتماعية أعضاء في البناء
التحتي للسلطة. مرشد للبوليس يستطيع تلفيق قضية ليرضي من يعمل لديهم
ويستطيع إحكام أدلتها. قيم النفاق الاجتماعي بغطائها الديني تُحكم قهرًا
سلطويًا على الأضعف دون احتياج لقبضة الحكومة.
أصبحت تلك الشخصيات النسائية وحياتها خارج النمط مرآة لسلوك
رجال سلطة، ورجال أعمال، وموظفين فاسدين، وإسلاميين فاشيين، ونساء نمطيات
يتماهين مع أشكال القهر المفروضة عليهن، ويسايرنها، ويتقمصن أدوار
القاهرين.
مرآة تنعكس عليها آليات النفاق وعلاقات القوى والوجه الآخر
للتحكم السلطوي وذلاته وادعاء النقاء الديني وأكاذيبه.
الحيلة الدرامية الرئيسية هي قلب الأدوار.
هؤلاء النساء اللاتي كسرن بالفعل قيود الخوف من الفضيحة صرن
أقوى في مواجهتها وأقل خضوعًا للتهديد.
عكس نساء الأفلام الأولى، وعكس نساء الدراما المصرية،
اللاتي غلبت عليهن رمزية التطهر مقابل الرذيلة، الفضيلة مقابل الشيطنة، بدت
نساء دراما وحيد حامد في مواقع أكثر رمادية.
نفس الشخصية التي استخدمت في عمليات مخابراتية غير نظيفة في
السابق، تقف اليوم موقف الرفض منها في “كشف المستور”.
مصرة على تحدي مقايضة بين اختيارها الحر و”المصلحة
الوطنية”. وتصبح كاشفة لتطورات شخصيات أخرى؛ تفضح تدينها المستجد وما يحمل
وراءه، والتحافها الخسيس بالمواعظ حتى تتنصل من تاريخها.
نفس الشخصية المدفوعة للارتزاق من الدعارة تقود شلة
المساطيل للاعتراف بحكايات وجرائم تهشّم صورتهم عن أنفسهم، في تقنية
استلهمت “تيار الوعي” الأدبي واستخدمها وحيد حامد في عدة أعمال.
الراقصة كانت أقوى في تحديها للسياسي لأنها كانت أكثر حرية
في اختيار الفعل الخيري الذي تقدم عليه (بناء ملجأ للأطفال).
لم تكن تنتظر أن تبدّل صورتها بصورة فنانة معتزلة تائبة حتى
تبدأ تشييد الملجأ.
كانت تريد أن تبقى نفسها ولا تقبل أن يصبح فعل الخير مدخلًا
لاستتابتها أو تخليها عن مهنتها التي تحبها. بينما كان الأسهل على السياسي
مجددًا أن يستخدم مهنتها سلاحًا ضدها، محرضًا يستند لثقافة متخلفة.
المراحل الأخيرة
قرب المراحل الأخيرة من تاريخه الحافل، يجمل وحيد حامد هذه
الخطوط الدرامية والشخصيات والرؤى الاجتماعية في فيلمين غلب عليهما الطابع
الفانتازي الرمزي “سوق المتعة” و”النوم في العسل”.
عرض الفيلمان سؤال الحرية مقابل سؤال العجز على شاشة متسعة
لتساؤلات أكثر تجريدًا ووضوحًا. وكأن السؤال عن مقومات الدولة الحديثة،
دولة المساواة والمواطنة، الذي بدأ به تاريخه، تزداد إجابته غموضًا
وشحوبًا. يزداد العجز استفحالًا ووبائية، وتستطيل القضبان وينسد الأفق.
تحملت نساء دراما وحيد حامد نصيبهن في بحث السؤال المحوري
الذي حاول أن يعقّده فلسفيًا في سلسلة أفلام طويلة؛ أضاء فيها على مراحل
التحلل الاجتماعي وصراعات القوى الاجتماعية وصفقاتها.
ووقفن في حكايات فيلمه النسائي الخاص “احكي يا شهرزاد”
شهودا على هيمنة اكتملت عبر الطبقات الاجتماعية لتيارات دينية تكره التحديث
والحرية، وتفتت منظومة العدالة والقانون، وعصور من التواطؤ السلطوي يقع
فيها الفرد وحريته وأحلامه دائمًا ضحية توحش المجموع ورمزية الحشود. |