وحيد حامد.. فيلسوف امتلك ناصية الحكمة الدرامية
محمد حبوشه
الكلام عن الراحل الكبير (وحيد حامد) الكاتب السياسى بسيط
الجملة بالغ التأثير فى الجماهير، والسيناريست المبدع الذى عالج أعقد
مشاكلنا فى مشاهد كاشفة ومبهرة، يحتاج لمجلدات كى توفيه حقه فى تحليل مضمون
رسائله الاجتماعية المغلفة بحس سياسى باعث على الشجن والوجع والرصد الواقعى
الحى لظواهر أثرت وماتزال تؤثر فى حياتنا المصرية، وقد اختار لها شخصيات
أثرت الوجدان المصرى بانحيازه المطلق إلى بسطاء هذا الوطن من الحيارى
والحزانى والمنسيون والمعذبون فى الأرض، شخصيات حقيقية بيننا تعيش وسط فئات
المجتمع المختلفة، حتى أنها لامست قلوب المشاهدين وأصبحت رمزا وعلامة
مميزة فى ذاكرة السينما، منها الموظف والأرزقى والوصولى الانتهازى لكل
الفرص و(المنسي) الذى يعيش الحياة فى أحلامه فقط، والفتاة الهاربة من الفقر
والذل لتبحث عن الأمان بعيدا عن براثن الإرهاب.
لقد استمد (وحيد حامد) شخصياته التمثيلية من قلب الشارع
المصرى الذى انغمس فى أحشائه إيمانا منه وعلى حد قوله: (كلما اقترب الكاتب
من الناس، اقتربوا منه وأنا أحرص على الاقتراب من الناس)، ومن هنا فقد نحت
الكاتب المبدع الراحل شخصيات سينمائية رائعة جاءت من قلب الواقع المر الذى
يعيشه أغلب المصريين، لدرجة أننا كنا نتساءل بعد مشاهدتنا لها على الشاشة
قائلين: من أين جاء بهولاء (وحيد حامد) أين قابلهم بالضبط، وفى هذا المقال
سأتوقف عند 7 شخصيات أراها الأكثر أهمية وإبداعا فى مسيرته ومن ثم أحبها
الشارع المصرى ونالت نجاحا كبيرا على الشاشة.
أحمد سبع الليل
جسده ببراعة وتلقائية النجم الراحل (أحمد زكي) فى فيلم
(البرىء)، إخراج عاطف الطيب عام 1986، هذا الفيلم الجرئ المتميز كان بمثابة
صرخة ضد القمع فى أى عهد وفى أى مكان، (أحمد سبع الليل) الشاب الفقير، الذى
لم يتمكن من تلقى تعليمه بسبب ظروف معيشته القاسية، يتعاطف معه (حسين
وهدان) الشاب الجامعى المثقف، ويعلمه المبادئ الوطنية، ويشجعه على الالتحاق
بالقوات المسلحة، ثم يحول إلى حراسة المعتقلات، وهناك يتم غسل مخه وإيهامه
أن كل من فى المعتقل هم أعداء الوطن الذين يحاربون تقدم البلد، ويتم تعليمه
الطاعة العمياء، ويتم القبض على حسين وهدان مع مجموعة من الطلاب اليساريين
ويحوّلون إلى نفس المعتقل الذى يخدم به (سبع الليل)، يلتقى الصديقان فى
لحظة فارقة تنكشف فيها الحقيقة للمجند المغيب، فيرفض تعذيب صديقه، يتم حبس
الاثنين معا، يكشف حسين وهدان الحقيقة كاملة لسبع الليل الذى يثور بعدها
ندما على ما فعل بالأبرياء، يتم قتل حسين بالأفاعى السامة، فيقرر سبع الليل
الانتقام.
حسن بهنسى بهلول
فى فيلم (اللعب مع الكبار) 1991 إخراج شريف عرفه، لم يكن
محض مصادفة أن يختار وحيد حامد لعادل إمام اسم (حسن بهنسى بهلول) والذى
يوحى بأنه يضرب بجذوره فى الشخصية الشعبية للبهلول، ذلك البطل الساخر فى
التراث - كما يقول الناقد أحمد يوسف - والذى قد لا يمتلك القوة الجسدية على
منازلة الشر، لكنه يتمتع ببصيرة حادة، يرى بها الحقيقة التى يعجز الآخرون
عن إدراكها، حتى لو كانت ماثلة أمام أعينهم، لكنه وهذا هو الأهم يستطيع أن
يعبر عن تلك الحقيقة بخفة ظله وعذوبة منطقه ونقاء قلبه، ويكتسى الفيلم بفضل
حوار (وحيد حامد الذكي) بالواقعية الشديدة التى تضفى على شخصية (حسن بهلول)
أبعادا تجعلها تمثل نمطا لشريحة كاملة من المجتمع، وفى هذا الفيلم انحاز
(وحيد) للفقراء والسخرية من الأغنياء فى مغامرة سينمائية تخلط بين
الكوميديا الواقعية والفانتازيا، فضلا عن مضمون يتمتع بجسارة تعرف كيف ومتى
وأين تقتحم وشطارة تدرك معنى وقيمة المراوغة.
أحمد فتح الباب
لاشك أن فيلمه الشهير (الإرهاب والكباب) عام 1992 إخراج
شريف عرفه، من أهم أفلامه على الإطلاق، من خلال شخصية (أحمد فتح الباب)
القادم من زحام الطبقة المتوسطة يبحث لنفسه عن مكان تحت شمس الحياة
والمجتمع، تمتلئ روحه بطريقة ما ليعلن عن رغبته فى استعادة حقه المسلوب،
وأجمل ما فى الفيلم ذلك المنولوج التراجيدى الحزين على لسانه : (طول عمرى
باسمع كلام الحكومة اللى فاتت واللى جاية، باركب الأتوبيس محشور، بابقى
فرحان، الأسعار نار أقول العالم كله مولع نار، باسمع كلام الحكومة عن تنظيم
الأسرة، باتعذب فى رغيف العيش، ماشى جنب الحيط راضى وقانع).
هذا الحوار يحمل فى طياته كثير من المعانى والإسقاطات فى
سياق أحداث درات بمجمع التحرير، وتتطور الأحداث ليجد نفسه فجأة يحمل سلاحا
مشهرا وسط المواطنين، وينظم إلى بعض الرهائن الموجودين وسرعان ما تأتى قوات
الشرطة لتحاصر المكان، وتتم المفاوضات بوجود وزير الداخلية الذى يتابع
الموقف، حيث يفاجأ بأن مطالبهم شخصية بحتة، ينصرف أحمد مع رفاقه فى هدوء
وتدخل الشرطة إلى المبنى فلا يجدون الإرهابين.
يوسف المنسي
أراد (وحيد حامد) أن يتحدث باسم كل المنسيين من أبناء
الطبقة المتوسطة والفقيرة الذين يعيشون دون أمل فى المستقبل ولا يعرفون
الوطن بمعناه المجرد لأنهم لم يروه بالمعنى المجسد، فاكتفوا بتحويله إلى
أحلام يقظة - كما جاء فى فيلم (المنسي) عام 1993 إخراج شريف عرفه، وبطولة
عادل إمام - ولخص بطل الفيلم تلك الأحلام فى صورة (أكل لبس، سكن، شغل،
حاجات، جميلة، باحلم بيها)، ومن بين ملايين المنسيين اختار عامل التحويلة،
وفيه يفاجأ (المنسي) بالفتاة (غادة) التى تدخل كشك التحويلة وتطلب حمايته،
فهى سكرتيرة المليونير (أسعد ياقوت) رجل الأعمال الذى يقيم حفلًا صاخبًا
ليعقد فيه صفقة مع أحد الشخصيات الهامة والذى يعجب بالسكرتيرة ويطلبها كشرط
لإتمام الصفقة، ويرسل رجل الأعمال أعوانه للبحث عنها وإجبارها على العودة.
سلوى شاهين
كتب (وحيد حامد) فيلم كشف المستور إنتاج عام 1995، بطولة
(نبيلة عبيد وفاروق الفيشاوى ويوسف شعبان وشويكار ونجوى فؤاد وحسن كامي،
وإخراج عاطف الطيب)، بجرأة يحسد عليها حيث كشف فيه الدور الكبير واللأخلاقى
الذى كانت تلعبه المخابرات ورجالها فى فترة الستينات، نجد شخصية (سلوى
شاهين) التى جسدتها بمهارة (نبيلة عبيد) كانت تتعامل مع المخابرات فى
فتراتها الذهبية ثم تركت تماما هذا النشاط لتعيش حياة واعدة ساكنة بعيدا عن
تيارات الكراهية والابتزاز، وفى دور مركب أعاد (نبيلة) إلى أوج تألقها بفضل
حوار ساخن ومليئ بالإسقاطات التى ضمنها وحيد حامد، وجعل من قصة هذه السيدة
التائبة التى ترفض العودة إلى دائرة النار مثالا حيا عن نظام قديم يلفظ
أنفاسه ونظام جديد لا يعرف بعد كيف يدافع عن نفسه وكيف يضع أسسه وجذوره.
فتحى نوفل
عن علاقة الفساد بالإرهاب وأنهما ليسا إلا وجهين لعملة
واحدة كانت تلك رسالة وحيد حامد فى فيلم (طيور الظلام) إخراج شريف عرفه
1995، من خلال شخصية (فتحى نوفل) أحد الأصدقاء الثلاثة الذين كانوا زملاء
دراسة فى كلية الحقوق وفرقت بينهم الأيام والسبل فانتهى (نوفل) إلى أن يصبح
محاميا فى مدينة صغيرة يعيش على قضايا قذرة تكاد تنحصر فى الدفاع عن
العاهرات ويأخذ منهن أتعابه على شكل وجبة غذاء من الكباب والكفتة وقيامهن
بغسل ثيابه المتسخة ولا مانع أيضا من إكمال الأتعاب بقضاء سهرة حمراء، على
النقيض يصبح المحامى على الزناتى - رياض الخولى - واحدا من الجامعات
الإسلامية المتغلغلة فى أحشاء المجتمع يستخدم مظهره النقى وعباراته التى
تحتشد بالآيات والأحاديث لإلباس الباطل ثوب الحق.
عادل عيسى
هو صحفى متمرد صعلوك كما جسده (عادل إمام) فى فيلم (الغول)
عام 1983 إخراج (سمير سيف)، كان يكتب فى السياسة ثم تحول إلى الكتابة فى
الفن بعيدا عن (وجع الدماغ)، وهو غير منتم لأحد أو لفكرة، ويحارب الفساد
المتمثل فى رجل الأعمال (فهمى الكاشف) وابنه الشاب المدلل، ويكشف (عيسى)
فساد رجل الأعمال الذى يتاجر فى كل شيئ من الفراخ المستوردة إلى مزارع
الأبقار الضخمة ويمثل فلسفة خاصة موجودة بقوة فهو يؤمن أولا بأن سر قوته
ليس فى الفلوس وإنما فى النفوذ لهذا يندهش جدا عندما تصادر له الحكومة شحنة
لحوم فاسدة بحجة خطرها على صحة الشعب.
ومن هنا تبرز تجربة وحيد حامد من بين تجارب مؤلفين كبار فى
تاريخ الدراما المصرية حيث استطاع أن يجمع بين الرؤية العميقة، وتحقيق
المتعة الفنية، وإرضاء الجمهور فى آن واحد، ومن بين أهم المشاريع الفنية
لابد للمشاهد أن تتوقف عند تجاربه الدرامية الرائدة فى الكتابة عن التيارات
الإسلامية وظاهرة السيطرة الدينية على المجتمع المصرى بشكل سياسي، حيث
استطاع أن يتناول الإسلاميين بمختلف تنويعاتهم فى أعمال درامية سينمائية
وتليفزيونية رسمت خطا عريضا لمدى التشابه والخيط الذى يجمع بينهم ، تماما
كما رصدت تلك التجارب العديد من الظواهر التى طفت على سطح المجتمع المصري،
ما بين دعاة جدد، وفنانات يعتزلن لارتداء الحجاب وممارسة الدعوة، وسلفيين
خرجوا من أعماق الريف ليسيطروا على ثقافة المجتمع، وبين تيارات سياسية تتخذ
من الإسلام مشروعا للسلطة.
وفى القلب من ذلك مسلسل (الجماعة -2010) والذى تناول فيه
تاريخ جماعة الإخوان مؤسسها حسن البنا بالتفصيل، حيث قدم فى جزئه الأول
توثيقا تاريخيا ورصدا لأصل ذلك التيار السياسى الذى هيمن على الشارع المصرى
عبر مراحل طويلة من العمل الدينى بالمدارس والجامعات والمساجد والجمعيات،
ليحقق بعمل فنى واحد ما عجزت مقالات وساسة ودراسات عن الكشف عن خطورته
وأبعاده ، من خلال تناول دقيق لحقيقة تلك الجماعة وتوجهاتها وطرق
سيطرتها على الشارع.
ثم قدم الجزء الثانى من (الجماعة) فى مايو 2017، بعد أن
أدرك أن الجزء الأول لم يكن كافيا للإلمام بكل جوانب وتفاصيل تاريخ
الإخوان والذى ركز فيه على سيد قطب ودعوته للعنف والتكفير، وبذلك يكون قد
تصادم مع أبرز قيادات الاخوان إثارة للجدل كمرجعية للعنف السياسى وتكفير
المجتمع، من خلال تجسيد شخصيته لأول مرة على شاشة التليفزيون، وانتهى قبل
رحيله من كتابة الجزء الثالث الذى يرصد من خلاله التحولات الدراماتيكية فى
فكر تلك الجماعة الشيطانية واندماجها مع جماعات الإرهاب فى تنفيذ عمليات ضد
الأفراد والمجتمعات والشعوب.
كنت قد اعتدت أن ألتقيه على فترات متباعدة لأجد وجهه فى كل
مرة هادئا بشوشا تعلوه مسحة من ذكاء حاد، ولكن رتوشا أخرى جديدة كانت تدخل
كل مرة فى مشهد نهار خارجى تركه على مقربة من نهر النيل، حيث يجلس كعادته
على مائدته المفضلة فى فندقه الذى لايغيره، وهو ينظرنظر بعيدا كما لو كان
يستعد لقول كلمة واحدة تختزل العالم بتفاصيله المرعبة، أو تضيئه ببصيص ضوء
قادم من داخله، وكان من وقت لآخر يشير لى إلى النيل كأنه أيقونة سحرية
وساحرة لنجاح قلمه فى الإشارة إلى بلاد يمر منها هذا النهر المقدس، كان
يصمت أكثر مما يتكلم، وكأنه فيلسوف امتلك ناصية الحكمة فى زمن كثر فيه
السفهاء، رغم أنه ترجمها فى عشرات من الأفلام والمسلسلات التى مازالت وقعها
فى أذهان الجميع، بل لا نبالغ كثيرا إذا قلنا أنها أصبحت أيقونات مختلفة
لمشاهد يرتبها المواطن المصرى وقتما أراد فى عقله حين يحتاج أن يعى ويفهم
مايدور حوله من أحداث عاصفة. |