عصام زكريا يكتب:
ملف فى الآداب.. الواقعية فى أبهى صورها
(ملف فى الآداب) واحد من أفلام «وحيد حامد» المبكرة، عرض فى
بداية 1986، من إنتاجه وتأليفه وإخراج «عاطف الطيب» فى ثانى تعاون بينهما
بعد (التخشيبة) الذى عرض فى العام السابق، وقبل (البرىء) الذى عرض بعد (ملف
فى الآداب) بأسابيع قليلة. والأفلام الثلاثة تتناول سلبيات القوانين
والممارسات الأمنية ضد المواطنين الأبرياء، وهو ما يبين أن موضوع علاقة
السلطة بالمواطن كان همًا قديمًا دائمًا يشغل بال «وحيد حامد»، ومن الطريف
أن «وحيد حامد» اتهم، من بين الاتهامات العديدة التى تعرض لها، بأنه يصنع
أعمالاً تجمل صورة الداخلية والأجهزة الأمنية، وهذه الاتهامات ترددت بأشكال
مختلفة عقب عرض أفلام (اللعب مع الكبار، الإرهاب والكباب، وطيور الظلام).
ومع أننا نستطيع أن نقول إن «وحيد حامد» استطاع أن يراوغ
الرقابة والسلطة بدهاء نادر، متجنبًا الصدام الذى يمكن أن يدمر المبدع،
وقادرًا على تمرير رأيه ونقده بحيل درامية فنية، إلا أن هذا لا يعنى أنه
كان يكتب لصالح السلطة أو لأى جهة أخرى.
على النقيض من فيلم (البرىء)، أو أفلامه اللاحقة التى
تتناول قهر السلطة والفساد السياسى والفوارق الطبقية بشكل مباشر، فإن (ملف
فى الآداب) فيلم هادئ النبرة، يهتم برصد الوقائع ورسم الشخصيات وتصوير عالم
وسط البلد والطبقة الوسطى، وهو فيلم يحمل بعضًا من آثار الواقعية الجديدة
فى إيطاليا الخمسينيات التى تعتمد على التصوير فى الشوارع والبيوت العادية
والاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية وقلة استخدام الموسيقى التصويرية
والمواقف الدرامية الصاخبة، كذلك يحمل آثار الواقعية الأوروبية فى
السبعينيات، التى تستخدم البناء البوليسى التشويقى، والتصعيد المتدرج
وصولاً إلى المأساة، كما نرى فى الفيلم الألمانى الشهير (شرف كاترينا بلوم
الضائع) للمخرج «فولكر شلوندورف»، 1975.
فقط فى بداية الفيلم نرى الضابط «سعيد، صلاح السعدنى» فى
شبابه يقوم بالقبض على شبكة آداب تتزعمها سيدة «واصلة» تقوم بتهديده والحط
من شأنه، ويقوم رئيسه بالدفاع عنها ويطلب من «سعيد» الاعتذار لها، ثم يقوم
بحفظ القضية، وهو ما يترك فى نفس «سعيد» جرحًا لا يندمل، يفقد معه حس
العدالة ويصبح متسلطًا قاسيًا لا يتورع عن تلفيق القضايا وظلم المواطنين
الأبرياء، كما لو كان يقوم بإزاحة انتقامه من الذين ظلموه على هؤلاء
الضعفاء.
فيما عدا هذا المشهد التمهيدى، الذى يمكن فهمه باعتباره
إدانة لنظام يحمى كبار القوادين والعاهرات، أو باعتباره تبريرًا والتماس
عذر لممارسات الضابط غير القانونية، يركز الفيلم على تفاصيل حياة شخصياته
البسطاء، الموظفات الثلاثة فى المكاتب والشركات الخاصة وعيادات وسط البلد،
«مديحة كامل وسلوى عثمان وألفت إمام»، والموظف كبير السن المتدين الطيب
وأسرته، «فريد شوقى»، والموظف متوسط العمر الذى يبحث عن زوجة، «أحمد بدير»،
وصديقه المرح «شوقى شامخ»، كذلك يرصد الفيلم طبيعة الحياة العامة فى وسط
البلد، المحلات والمطاعم والعلاقات، والشخصيات الفاعلة مثل نادل المطعم
«وحيد سيف»، القواد السابق الذى يواصل أعماله سرًا، بينما يعمل كمرشد
للشرطة، يقوم بالإبلاغ عن بريئات للتمويه على العاهرات الحقيقيات.
فى زمنه كان (ملف فى الآداب) غير مسبوق فى تناوله لهذه
العلاقات الشائكة بين جهاز الشرطة والمواطنين.. قبله كانت أفلام «الكرنك»
تنتقد ممارسات نظام «عبدالناصر» الأمنى لصالح نظام «السادات»، «الديموقراطى».
(ملف فى الآداب) كان يدور عن شىء آخر تمامًا هو وضع المواطن
العادى المعرض للبطش والظلم وتلفيق التهم فى أى لحظة، وبدون أى منطق، وهو
شعور لم يسبق أن عرضته السينما قبل أو بعد ثورة يوليو، ربما لأنه لم يكن
موجودًا بهذا الشكل المخيف الذى نراه فى الفيلم والواقع، أو ربما لأن
السينما لم تكن تدرك بعد أن بإمكانها أن تتحدث عن ذلك.
يدرك «عاطف الطيب» هذا الوضع الكابوسى للمواطن الذى تتآمر
الأقدار ضده، ربما أكثر من أى مخرج مصرى آخر، ولكن شخصيات (ملف فى الآداب)
تكاد تنبض بالحياة من فرط مصداقيتها، بفضل الكتابة الدقيقة للقصة والأحداث
وتفاصيل الحياة والحوار، وبفضل اختيار «عاطف الطيب» الموفق لكل الممثلين
وإدارته لهم لكى يؤدوا بسلاسة وطبيعية، وعينه اليقظة للتفاصيل داخل كل
مشهد.. شخصيات تصدقها وتحبها وتجزع من أجل مأساتها وتعيش معك بعد الفيلم
لسنوات طويلة.
(ملف فى الآداب) واحد من أكمل وأبهى الأفلام «الواقعية» فى
تاريخ السينما المصرية.
|