لا جديد في القول بأن وحيد حامد هو أشهر من كتب السيناريو
في مصر وأكثرهم شعبية بين السينمائيين والمثقفين والناس العاديين، وقد أكد
تكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير هذه الحقيقة، فقد كان هناك شبه
إجماع على أحقيته بالتكريم، وفي حفل الافتتاح نال القدر الأكبر من التصفيق
وقوفًا، ولم تخل وسيلة إعلامية كتابية أو إذاعية أو مصورة من إشادة بهذا
التكريم. أما وفاته فقد أثبتت أن هذه العبارات أقل من مكانة وحيد حامد
الحقيقية في قلوب الناس، وحتى الهجوم الذي شنته عليه أصوات كثيرة تنتمي إلى
التيار الديني الرجعي لم يكن سوى برهان آخر على قوة تأثير الرجل على
أعدائه.
مع ذلك يبقى ما سبق تعميمًا أو “كلامًا عامًا” لم يُختبر
باستطلاع شعبي أو دراسة في أعمال وحيد حامد أو في آراء المشاهدين لأفلامه
أو الكتابات عنه وعن أفلامه.
مبدئيًّا أعتقد أن شعبية الرجل الأساسية هي بين صفوف
المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى خاصة ذوي الميول الليبرالية واليسارية
والمتفتحة عمومًا، بينما تتقلص هذه الشعبية كلما ابتعدنا عن المركز؛ تجاه
الإسلاميين وأصحاب الثروة والسلطة الذين طالما انتقدهم في أعماله.
وأهمية هذه المساحة من شعبية وحيد حامد أنها تضم الشرائح
القادرة على التعبير عن نفسها والدفاع عن انحيازاتها وذوقها من إعلاميين
ومثقفين وفنانين ومدرسين وموظفين إلى باقي فئات الطبقة الوسطى التي طالما
دافع عنهم وتبنى قضاياهم وهمومهم.
على أية حال يحتاج هذا الرأي –كما ذكرت- إلى مسح أو استطلاع
يدعمه، ولكن بغض النظر عن مدى صحته فالمقال الآتي محاولة لفهم طبيعة وأسباب
شعبية وحيد حامد غير المسبوقة بالنسبة لكاتب سيناريو عربي.
٠٠“فلاش باك“- 1986: انتصار الواقعية الجديدة
كان عام 1986 محوريًّا في تاريخ مصر وتاريخ السينما المصرية
وتاريخي الشخصي، فقد اجتمعت فيه عدة أحداث مهمة مثل أحداث تمرد جنود الأمن
المركزي، كما وصلت فيه الديموقراطية التي بدأت مع حكم مبارك إلى نقطة
الذروة، قبل أن ينحني القوس تدريجيًّا عقب أحداث الأمن المركزي، وهذه
الديموقراطية ظهرت أعراضها في السينما، وقد شهد 1986 عرض أفلام جريئة وصل
بها مخرجو الثمانينيات إلى ذروة إبداعهم. من هذه الأفلام “للحب قصة أخيرة”
لرأفت الميهي و”الحب فوق هضبة الهرم” و”البريء” و”ملف في الآداب” لعاطف
الطيب و”الطوق والأسورة” لخيري بشارة و”البداية” لصلاح أبو سيف و”الجوع”
لعلي بدرخان و”اليوم السادس” ليوسف شاهين و”عودة مواطن” لمحمد خان وغيرها.
هذا العام كان أيضًا بداية اهتمامي ومتابعتي للسينما المصرية الجديدة
واشتراكي في “نادي سينما القاهرة” حيث بدأت في المشاهدة المنظمة الجادة
لكلاسيكيات وجديد السينما العالمية.
في هذا العام شاهدت كل الأفلام سابقة الذكر في عروضها
الأولى، وهو أكبر عدد من الأفلام المصرية أشاهدها خلال فترة وجيزة، وقبل
ذلك لم أكن أتابع السينما المصرية ولا أشاهدها في دور العرض إلا نادرًا،
لكن مع 1986 بدأت في الاهتمام بها واحترام الكثير من صناعها، كمشاهد عادي
يبدأ طريقه في تذوق الفن السينمائي والاهتمام بقضايا بلده الاجتماعية
والسياسية.
الصدام مع النظام
في النصف الأول من الثمانينيات تراجعت مساحة “الحرية
الجنسية” التي وصلت لذروتها في أفلام السبعينيات، مفسحة المجال أمام
“الحرية السياسية” التي زادت بعد مقتل السادات.
قبل “ملف في الآداب” و”البريء” تردد اسم وحيد حامد للمرة
الأولى على لسان جيلنا عقب عرض فيلم “الغول”، من إخراج سمير سيف وبطولة
عادل إمام وفريد شوقي، 1983، ولم أكن من هواة عادل إمام ولا من الذين
يهتمون بمشاهدة أعماله في دور العرض السينمائي، فقد كان بالنسبة لي
ولأصدقائي مثل محمد رمضان الآن، أو محمد سعد منذ عشرين عامًا، فهو في رأي
المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى: مهرجًا يزغزغ مشاعر الغوغاء. لكن
“الغول” كان محور أحاديثنا بسبب مشهد النهاية الذي يحاكي اغتيال السادات،
ومهما ادعى الراحلان وحيد حامد وسمير سيف أن هذه المحاكاة لم تكن مقصودة
وأن الرقباء هم الذين اخترعوها، فلا أعتقد أن مشاهدًا واحدًا من الذين رأوا
الفيلم أيامها لم تخطر بباله هذه المقارنة!
بغض النظر عن ملائمة مقارنة نهاية الفيلم باغتيال السادات،
فالذين قتلوه لم يفعلوا ذلك دفاعًا عن الحرية والعدل، ولكن لانتمائهم لتيار
فاشي معاد للحريات أكثر من نظام السادات.. بغض النظر عن هذا، فإن فكرة
الفيلم التي تروي حكاية صحفي نبيل يفشل في انصاف الحق بقلمه فيلجأ لقتل
الرجل الظالم، تقول باختصار إن الديكتاتورية والظلم ومصادرة حرية التعبير
تؤدي إلى العنف والإرهاب.. ربما لن تؤدي إلى منع الاغتيالات السياسية، التي
طالت أسماء مثل غاندي ولينكولن وكينيدي، ولكنها قد تمنع تحول الإرهابيين
إلى تيار شعبي كما حدث في مصر منذ منتصف الثمانينيات.
من بين كل الأفلام والأعمال الفنية “السياسية” التي ظهرت في
النصف الثاني من الثمانينيات كان “ملف في الآداب” و”البريء” أكثرهم جرأة،
ولا أذكر أن هناك أفلامًا مصرية سابقة انتقدت ممارسات الداخلية بهذا الشكل،
إذا تحفظنا على أفلام “الكرنك” التي كانت تنتقد نظام عبد الناصر، أو أفلام
الستينيات التي تنتقد عصر الملكية.
لم يدع أي من “ملف في الآداب” أو “البريء” أن هذه الممارسات
تنتمي للعهد البائد، والأحداث في كلا الفيلمين معاصرة بشكل واضح.
استطاع “ملف في الآداب” أن يفلت من الرقابة بإظهاره أن
ممارسات الضابط سعيد، صلاح السعدني، فردية وليست منهجًا منظمًا للداخلية،
وذلك بوضع ضابط آخر، نائب لسعيد، يرفض ما يفعله، وكذلك مشهد يجمع الاثنين
بقائدهما الذي يحذر سعيد مما يفعله. لكن الفيلم يبدأ بمقدمة مخصصة لشرح
الكيفية التي يتحول بها الضابط الصغير سعيد (صلاح السعدني) من المثالية إلى
القسوة والاستعداد لتلفيق التهم للأبرياء، عندما يقوم قادته بإهانته
وإجباره على التنازل عن قضية دعارة قام بالقبض على أعضائها متلبسين، لأن
رئيسة الشبكة امرأة نافذة صاحبة علاقات وثيقة بالسلطة. هذه المقدمة التي
يبدو وكأنها تشرح سبب تحول سعيد إلى ما هو عليه، تشير من ناحية ثانية إلى
أن “النظام” هو المسؤول، وليس سعيد، وأن الحالة الأولى التي شاهدناها لم
تكن فردية ولا استثنائية في مسيرة سعيد، لإنها لو كانت حادثة فردية لما أدت
إلى تحوله بهذا الشكل الحاد. ولو افترضنا أنها حادث فردي فربما يمكن لنا أن
نتصور أيضا أن نائب سعيد يمكن أن يتحول بالطريقة نفسها.
هذا الالتباس موجود في الكثير من أعمال وحيد حامد، كوسيلة
للتغلب على الرقابة، خاصة عقب ما حدث مع فيلم “الغول”، ولكن بالأخص عقب ما
حدث مع فيلم “البريء”.
لا يكتفي “البريء” بالحديث عن قيام النظام والأجهزة الأمنية
باعتقال المعارضين سياسيًّا واتهامهم بالخيانة ووصمهم بـ”أعداء الوطن”،
ولكن بطليه الرئيسيين ينتميان لوزارة الداخلية: الأول هو المجند الريفي
الساذج، أحمد سبع الليل (أحمد زكي)، الذي نتعرف على مراحل تجنيده وتحويله
إلى أداة للقتل وتنفيذ الأوامر دون تفكير، والثاني هو قائد السجن العقيد
توفيق شركس (محمود عبد العزيز)، وهو أقوى شخصيات الفيلم وأفضلها كتابة،
أكثر حتى من شخصية سبع الليل أو الشاب الوطني المعتقل ظلمًا؛ حسين وهدان،
التي لعبها ممدوح عبد العليم، ولعله واحد من أفضل الشخصيات التي كتبها وحيد
حامد.
المشهد الأول الذي نرى فيه العقيد شركس نراه يستعد لعيد
ميلاد ابنته، ثم نراه في عيد الميلاد أبًا مثاليًّا مرحًا يداعب الأطفال،
ولكن بمجرد وصوله إلى المعتقل يتحول لإنسان على النقيض تمامًا. وعلى الرغم
من الهيئة المخيفة لشركس في المعتقل فإنه يخفي شخصية جبانة للغاية. عندما
يدخل عليه أحمد سبع الليل فجأة داقًا بقدميه على الأرض يجفل العقيد شركس
مفزوعًا.
تعرض “البريء”، كما هو معروف، لمذبحة رقابية قبل عرضه للمرة
الأولى، ثم سُحب من دور العرض عقب أحداث الأمن المركزي التي حدثت بعد عرض
الفيلم بأسابيع، ولم يعرض كاملاً إلا بعد تسعة عشر عامًا؛ ضمن تكريم ذكرى
أحمد زكي في مهرجان القاهرة السينمائي. وقد تركت هذه المعركة آثارها على
أعمال وحيد حامد اللاحقة، فقد أعقبه بعدد من الأعمال التي تخلو من الاشتباك
والشغب، حتى بداية التسعينيات، ثم بعدد من الأعمال الجريئة التي تبدو فيها
المساومات والتحايلات على الرقباء أكثر وضوحًا.
٠٠“فلاش باك“- 1977: السيناريو الأول
قبل “الغول” أذكر أيضًا أنني شاهدت فيلم “طائر الليل
الحزين”، إخراج يحي العلمي، 1977، عندما كنت صبيًّا لا يزال في مرحلة
المراهقة، ولكن لا أذكر هل شاهدته في عرضه الأول، أم بعد ذلك بشهور طويلة
في إحدى دور عرض الدرجة الثانية التي كانت تملأ حي السيدة زينب.
“طائر الليل الحزين” هو أول عمل كتبه وحيد حامد للسينما،
وبما أنني شاهدته في هذا السن فلا بد أنه كان محورًا لحديث المراهقين
الصغار من زملائي، وأذكر بالفعل أنني أعجبت بالممثلة شويكار في هذا الفيلم،
في دور المرأة الناضجة الشبقة، التي تذهب لأحد الملاهي وتلتقط عازفًا شابًا
ليقضي الليل معها في غياب زوجها، رجل الأعمال والسلطة المعروف..
كان الفيلم جريئًا بمقاييس السينما المصرية، وكنا نضحك
تحديدًا على عبارة قالها محمود عبد العزيز عندما قبض عليه بارتكاب جريمة
قتل في الوقت الذي كان فيه مع شويكار: “أنا كنت في عز المعمعة”!
السيناريو… فكرة وحوار
لم نلتفت وقتها بالطبع لاسم كاتب السيناريو، ولكن مضمون
الفيلم وصل إلينا: الاقتراب من أهل المال والسلطة خطر، وهؤلاء لا يهتمون
سوى بشهواتهم والدفاع عن مكانتهم حتى لو سلموا شخصًا بريئًا إلى حبل
المشنقة.
هذه “التيمة”
theme
هي أحد الأفكار، إن لم تكن الفكرة الرئيسية، التي تتردد عبر أعمال وحيد
حامد كلها، وبشكل خاص مع الصعود المتواصل لطبقة “رجال الأعمال” وتزاوجها
بالسلطة السياسية الحاكمة. أدرك وحيد حامد مبكرًا هذه العلاقة غير المشروعة
بين السلطة والمال، وهي واضحة في أعماله الأولى وتتطور في أعماله مع تطورها
المشئوم في الواقع. في “المنسي” (شريف عرفة، 1993) على سبيل المثال هناك
شخصية رجل الأعمال التي يلعبها كرم مطاوع الذي يكره الفقراء بشدة. أعتقد أن
هذا أول فيلم مصري يرصد هذه الظاهرة العجيبة؛ فالطبيعي أن يحقد الفقير على
الغني وليس العكس، ويقارن الدكتور جلال أمين في أحد مقالات كتابه “ماذا حدث
للمصريين – تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945- 1995” (كتاب الهلال،
1995) بين صورة الباشا سليمان نجيب في فيلم “غزل البنات” وعلاقته بالمدرس
الفقير نجيب الريحاني، وبين صورة رجل الأعمال كرم مطاوع وعلاقته بمحولجي
السكة الحديد في فيلم “المنسي”:
"..إن كرم مطاوع ينظر إلى عادل إمام بكراهية حقيقية، وخوف
مستطير، إذ أن عادل إمام يمثل له ماضيه القريب جداً الذي يحاول نسيانه
وينكره إنكاراً، بينما كان سليمان نجيب ينظر إلى نجيب الريحاني بعطف حقيقي
مقترن بالإهمال والتجاهل".
في “طيور الظلام” (شريف عرفة، 1995) يشرح وحيد حامد العلاقة
بين المال والسلطة من خلال شخصيتي المحامين عادل إمام ورياض الخولي، اللذين
انتقلا معًا من الفقر إلى الثراء عن طريق السياسة وعلاقات البيزنس المشبوهة
ولكن الأول عن طريق الانضمام للدولة والثاني عن طريق الانضمام للإخوان.
تتردد الفكرة بأشكال أخرى في أعمال مثل “معالي الوزير”
(سمير سيف، 2002) و”عمارة يعقوبيان” (مروان حامد، 2006) وفي “احكي يا
شهرزاد” (يسري نصر الله، 2009) يشرح العلاقة بين السلطة والمال والإعلاميين
في الفضائيات والصحافة.
ككاتب سيناريو هناك نقاط قوة ونقاط ضعف في أعمال وحيد
حامد، فالحبكة عنده على سبيل المثال بسيطة إلى درجة السطحية أحيانًا،
والسرد تقليدي دائمًا، لكنه يجيد خلق شخصيات درامية مثيرة، مأخوذة من
الواقع، وقريبة من الناس العاديين، كما أن الحوار الجيد من أبرز أدواته.
وفي معظم أعماله يمكن أن نلاحظ ولعه بجمل الحوار البليغة الذكية التي بدت
واضحة منذ فيلمه الأول. في كثير من المقالات ومنشورات الفيسبوك التي كتبت
عنه يشير أصحابها إلى الجمل “الخالدة” من أفلامه التي حفظها الناس مثل: “كل
واحد فينا بيرقص بطريقته.. أنا بهز وسطى وأنت بتلعب لسانك” من “الراقصة
والسياسي”، و”البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت” من
“طيور الظلام”، و”أنا مش في خدمة الوطن.. أنا في خدمة الباشا سيادة اللواء
وحرم الباشا سيادة اللواء” من “الإرهاب والكباب”، و”حلوان اضربت يا جدعان”
من “النوم في العسل”، و”إحنا صغيرين أوى يا سيد” من “اضحك الصورة تطلع
حلوة”، و”إحنا في زمن المسخ” من “عمارة يعقوبيان” إلخ.. إلخ.
في حوار أخير لوحيد حامد يقول:
".. ما يميز النص السينمائي جملة الحوار. من الضروري أن
تملك رشاقتها وصدقها، والجملة الحوارية الرشيقة تكتسبها من ثقافتك العامة
وقراءتك للآداب وتذوق الشعر والمسرح. بالإضافة إلى مصداقية معايشتك
للمجتمع، أن تأخذ منه وتعطيه".
(من حوار لصفاء عبد الرازق– نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 2020، العدد الأول).
هذا الولع بالحوار “الإيفيه”، المثير لحماس الجمهور، هو أحد
الملامح “الشعبية” المميزة لأعمال وحيد حامد التي اكتسبها من تجاربه الأولى
في الكتابة للمسرح ثم الإذاعة ثم كتابة المقالات الصحفية لاحقًا بداية من
أوائل التسعينيات.
٠٠“فلاش باك“- 1992: اغتيال فرج فودة
مع حرب الخليج الثانية في نهاية 1990 وبداية 1991 وصلت موجة
التطرف الديني إلى قمتها في مصر، وبدا الأمر كما لو أنها مسألة وقت أو
إجراءات معدودة حتى يتولى أمراء التطرف ولاية مصر، ولكن هؤلاء راحوا
–كالعادة- يتفاخرون بوجههم الدموي ويظهرون كرههم المميت لكل من يختلف عنهم
أو معهم. وقد تعرض المثقفون من أبناء الطبقة الوسطى، بشرائحهم التي تحدثت
عنها في بداية هذا المقال، لأكبر صدمة هزت كيانهم وهددت وجودهم مع اغتيال
المفكر فرج فودة في الثامن من يونيو 1992. قبل ذلك كانت العمليات الإرهابية
تستهدف سياسيين أو أجانب أو أقباط، وكان كثير من أبناء هذه الطبقة يتهربون
من المواجهة وينافقون المتطرفين معتقدين أنهم بمأمن من شرهم أو يقنعون
أنفسهم بأن هؤلاء المتطرفين أهل دين وصلاح وأن هناك حدودًا لا يتجاوزونها،
وحتى الدولة بأجهزتها السياسية والإعلامية كانت تنتهج هذا الموقف المنافق
للتيارات الإسلامية.
كان اغتيال فرج فودة بداية مرحلة جديدة من حياة وحيد حامد،
ومن تاريخ الإنتلجنسيا المصرية عامة التي وجدت نفسها مهددة بالفناء.
في ذلك الوقت كنت لا أزال صحفيًّا تحت التدريب في “روز
اليوسف” مع عدد من الزملاء منهم إبراهيم عيسى، وائل الابراشي، عبد الله
كمال، وائل عبد الفتاح، محمد هاني، تحت قيادة نائب رئيس التحرير عادل
حمودة، نتصدى للمتطرفين ودعاوى الحسبة أسبوعيًّا. وكنت قد أجريت تحقيقًا
شارك فيه فرج فودة في بداية العام، وكانت المرة الأولى التي ألتقيه فيها
مباشرة، بعد أسابيع من مشاهدته خلال المناظرة الشهيرة بمعرض الكتاب التي
أودت بحياته.
عقب اغتيال فودة انضم إلينا وحيد حامد ضمن كتيبة الكتاب
والمفكرين الذين قرروا التصدي للجماعات المتطرفة، وكانت أولى مشاركاته
مقالة غاضبة ساخطة بعنوان “استيقظوا أو موتوا”، وتبعه بعدة مقالات مهمة
أحدثت أثرًا كبيرًا وشجعت المزيد من الكتاب والفنانين المترددين على نزول
ساحة القتال.
كانت هذه بداية مرحلة جديدة في أعمال وحيد حامد سأطلق عليها
هنا وصف “الواقعية الصحفية”، أي معالجة الموضوعات الجارية
actuality
التي تتميز بها الصحافة، فلم يكن هذا وقت الحديث عن أزمنة ماضية أو الهروب
إلى أنواع فنية فانتازية أو تجاهل الخطر اليومي الذي يتهدد البلد كلها،
والذي استمر حتى 1997 تقريبًا.
مولد الواقعية الصحفية
قبل وحيد حامد لا أعرف سوى أعمال قليلة للغاية تنتمي لهذا
التعريف – الواقعية الصحفية- كتبت بالمصادفة غالبًا، وتحت إلحاح الواقع
الجاري، لعل أشهرها فيلم “العصفور” الذي كتبه لطفي الخولي وأخرجه يوسف
شاهين 1972، ويتناول بعض التحقيقات التي نشرتها الصحف آنذاك مثل مجرم
الصعيد وفساد شركات القطاع العام وهزيمة يونيو وخطاب تنحي عبد الناصر.
اللحظة في 1992 كانت مختلفة، لأن الصحافة والأفلام لم تكن
فقط تغطي وقائع المعركة الدائرة بين الإسلاميين والفساد السياسي من ناحية
وأنصار “التنوير” والديموقراطية من الناحية الثانية، ولكن كانت الصحافة
والسينما نفسهما طرفًا أساسيًّا في هذه المعركة الدائرة، فقد كانت التيارات
الإسلامية تشن حربًا ضروسًا ضد السينما والفنون، كما كان الفساد السياسي
يبذل جهده للسيطرة على الصحافة الحرة بأية وسيلة. وقد اتخذ وحيد حامد من
أعماله سيفًا ودرعًا ضد الإسلاميين ورجال الأعمال “الفاسدة” والممارسات
الديكتاتورية من قبل الدولة. من المعروف أنه مسلسله التليفزيوني “العائلة”
(إسماعيل عبد الحافظ، 1994) الذي كان من أوائل الأعمال التي ناقشت خطر
المتطرفين الدينيين قد تعرض لمحاولات منع وحذف، خشية إغضاب المتطرفين(!) من
حسن حظ وحيد حامد، وحسن حظ الصحافة والسينما وقتها، أن دولة مبارك المهددة
بالفناء قررت أخيرًا أن تدعم حرية الصحافة والفنون وأن تتيح هامشًا أوسع من
الديموقراطية، ليس من باب الإيمان بالحرية والديموقراطية، لا قدر الله،
ولكن حتى يساندها الصحفيون والمثقفون والفنانون وممثلو الأحزاب السياسية
والمجتمع المدني في حربها ضد الإرهاب. وقد استمرت هذه السياسة لعدة سنوات
حتى نهاية 1997، لكن مع انتصار الدولة على الإرهاب بدأت في الرجوع
تدريجيًّا إلى قواعدها القديمة المناوئة للصحافة وحرية التعبير
والديموقراطية.. وصولاً إلى 2005 التي وصلت فيها العلاقة غير المشروعة بين
السلطة ورجال الأعمال إلى ذروتها، تمهيدًا للمجيء بجمال مبارك خلفًا لوالده
العجوز.
خلال الفترة من 1992 إلى 2006 قدم وحيد حامد عددًا كبيرًا
من أعمال “الواقعية الصحفية” بدأت بـ”الإرهاب والكباب”، الذي كان في الأصل
مقالاً صحفيًّا قرر حامد تحويله إلى فيلم بدلاً من إرساله للنشر (القصة
رواها وحيد حامد أكثر من مرة، فقد كان المقال على مائدته في الفندق الشهير
المطل على النيل الذي يكتب فيه يوميا، عندما جاء المنتج عصام إمام، شقيق
عادل إمام، وقرأ المقال، وقال لوحيد هذا يصلح فيلمًا ولا تضيعه كمقال،
واقتنع وحيد برأيه وقام بتحويله لفيلم على الفور)، وحتى “عمارة يعقوبيان”
المأخوذ عن رواية علاء الأسواني التي حققت مبيعات قياسية لسبب رئيسي وهو
انتمائها إلى “الواقعية الصحفية” أو “النميمة السياسية” كما وصفها البعض،
فكل من الفيلم والرواية يشيران إلى شخصيات ووقائع معروفة في الأوساط
السياسية والصحفية آنذاك.
يحيلنا “كشف المستور” (عاطف الطيب، 1994) مباشرة إلى مذكرات
اعتماد خورشيد وسلسلة المقالات التي نشرتها “روز اليوسف” عن نساء
المخابرات، وقد قورن أحد شخصيات الفيلم بصفوت الشريف وزير الإعلام آنذاك.
ويبدو “طيور الظلام” كما لو كان مقالاً صحفيًّا عن الصراع على السلطة بين
الإخوان المسلمين وفسدة الحزب الوطني الحاكم خلال التسعينيات وبعض وقائع
وأحداث وشخصيات الفيلم تشبه الواقع كثيرًا، ويحيلنا “النوم في العسل” (شريف
عرفة، 1996) إلى عدد من التحقيقات الصحفية التي نشرت آنذاك عن صحة المصريين
الجنسية، ويجسد أحمد زكي في “معالي الوزير” شخصية وزير فاسد تذكر المرء
بكثير من الشائعات والحقائق التي كانت تنشرها الصحف في ذلك الوقت عن بعض
الوزراء، أما “احكي يا شهر زاد” فهو مجموعة من القصص التي نشرت بعضها
الصحف. ويمكن تتبع ذلك الجانب الصحفي في أعمال أخرى مثل “محامي خلع” (محمد
ياسين، 2002) و”ديل السمكة” (سمير سيف، 2003) و”دم الغزال” (محمد ياسين،
2005) وغيرها.
يذكر وحيد حامد في أكثر من حوار أنه كان على وشك أن يعمل
صحفيًّا في الثمانينيات في مجلة “صباح الخير”، ولكنه هرب عندما كلفه رئيس
التحرير بالعمل في قسم التحقيقات الصحفية.
ربما كانت مواهب وحيد حامد في مجال آخر غير الصحافة، لكنه
كان يجيد كتابة المقال الصحفي، كما أن الصحافة حاضرة دائمًا في أعماله.
يروي الصحفي وائل لطفي عن اتصال وحيد حامد به وإلحاحه عليه كي يكتب مقدمات
حلقات برنامج “التوك شو” الذي تقدمه منى زكي في فيلم “احكي يا شهرزاد”
(صحيفة “الوطن”، 4 يناير 2021). وشخصيًّا أعرف عددًا آخر من زملائي
الصحفيين، خاصة من أقسام التحقيقات، كان وحيد حامد يستعين بهم في عمل
تحقيقات ميدانية خصيصًا لأفلامه، أو تزويده بمعلومات إضافية ومفصلة عن
تحقيقات سبق وأن نشروها في الصحف.
يمكن إرجاع هذه الطبيعة “الصحفية” لأعمال وحيد حامد إلى
شخصيته أيضًا. فهو، حسب تأكيده في أكثر من حوار، يعشق النزول للشارع
والاختلاط بالناس والحديث معهم، وهو على عكس معظم الكتاب يكتب فقط في
الأماكن العامة المفتوحة لا داخل غرفة مغلقة. والأماكن التي كان يتردد
عليها للكتابة معروفة؛ وأشهرها ذلك الفندق المطل على النيل، الذي كان
يستقبل فيه الأصدقاء والزملاء من فنانين وصحفيين، حيث يتبادلون الأخبار
والنميمة والآراء.
يجب أن أذكر أيضًا أن آخر الاشتباكات التي دخلها وحيد حامد
كانت على صفحات الصحف من خلال مقالاته التي كتبها في أثناء حكم الإخوان
وأشهرها “القرود الخمسة”، أو مقالاته عن أحد المستشفيات التي تجمع التبرعات
أو مقاله عن صناعة الخوف الذي توقف بعد ردود الفعل عليه حتى عن الكتابة
الصحفية (راجع حواره مع نسمة تليمة، صحيفة “الأهالي”- 18 ديسمبر 2019).
من الانتقادات التي توجه لكثير من أعمال وحيد حامد أنها
مباشرة، سطحية، تتخذ مواقف منحازة مع، أو ضد، الشخصيات، وربما يكون ذلك أحد
أعراض “الواقعية الصحفية” التي تتطلب موقفًا محددًا من القضية المعروضة،
وغالبًا ما يكون صناعها مشغولين بموضوعات جارية ساخنة لا مجال فيها للتأمل
أو التعمق.. وذلك غالبًا لأن صنَّاعها يهدفون إلى التوعية والتحريض من أجل
تغيير الواقع بسرعة. وبالفعل أسهم وحيد حامد في توعية جمهوره من أبناء
الطبقة الوسطى، ووضع على ألسنتهم الكثير من الحقائق والأفكار التي لم يكنوا
يستطيعون التعبير عنها.. حتى لو كانت هذه الأفلام تحمل بعض مشكلات
“الصحافة” نفسها. |