سمير غانم.. «إكسير السعادة»..
عندما سألته عن الشاطئ الآخر.. أجاب «الضيف أحمد» يشفع لى فى الجنة!
طارق الشناوي
سألت سمير غانم: كيف تنظر للشاطئ الآخر من الحياة؟
أجابنى: لست متعمقا فى الدين، مسلم وموحد بالله، لا أتفلسف، أما الطقوس
الأخرى ربنا وحده يعلمها، وأضاف: قرأت من كام يوم عن الصاحب اللى فى الجنة
وله صديق بيحبه قوى فى النار، دعا ربنا أن يدخله الجنة، واستجاب الله
لدعائه، أنا مِتكل على الحكاية دى.
من هو صاحبك اللى ح يشفع لك عند العلى القدير؟
(الضيف أحمد)، الضيف غلبان زيى، وبيحبنى، وكنت دائما أقضى أغلب وقت فراغى
فى منزله، وأكيد يعمل كده، أنا لم أتعمد إيذاء أحد، أحببت الناس، وأعطيتهم
كل ما عندى ولا أزال، كمان البابا شنودة كنت أحبه، لأنه دمه خفيف جدا،
وجورج سيدهم كان يحبه ويحبنى، أنا مِتكل على كل اللى قلت لك عليهم فى دخول
الجنة.
جرى هذا الحوار بينى وبين سمير غانم، ولا أدرى كيف تطرقت إلى الحديث عن
الموت، بينما سمير غانم يدفعك دائما للحديث عن بهجة الحياة، دائما ما أرى
أن أعمال الإنسان عند الله لا تحسب فقط بأداء الفروض، ولكن أيضا بالعطاء
بمعناه الشامل، وسمير غانم أسعد الملايين ولا يزال، وستظل أعماله تسعدنا
وكلها حسنات يمحو بها الله الذنوب.
■ ■ ■
هل تخيلت سمير غانم وهو يرتدى زى ضابط الشرطة؟.. تلك هى الصورة التى كان
يحلم بها قبل قرابة 70 عاما والده عميد الشرطة، كان يريد أن يرى ابنه البكر
وهو يكمل طريقه، بينما سمير بطبيعة تكوينه النفسى ضد الالتزام والضبط
والربط، فكان لابد أن يتعثر فى كلية الشرطة.
أحب فى الكلية أستاذه النقيب صلاح ذوالفقار، لوسامته وخفة ظله - لم يكن قد
بدأ مشوار التمثيل بعد - اختاره صلاح فى فريق الملاكمة، ولم يستغرق الأمر
أكثر من جولة واحدة، تورم وجهه وعرفت الدماء طريقها إلى أنفه وفمه، بل
اكتشف أيضا أن أذنه عانت من النزيف، واعتزل من بعدها الملاكمة نهائيا،
وتكرر رسوبه عامين فى السنة الأولى بكلية الشرطة، فتم رفته، وينطلق بمجموع
درجاته الضئيل إلى كلية الزراعة بالإسكندرية، لتبدأ الرحلة فى تكوين فرقة
(أولاد غانم) قبل أن يتوجه للقاهرة ويلتقى بضلعى المثلث جورج والضيف ليصبح
(ثلاثى أضواء المسرح).
سمير غانم نَبْتٌ فنى عفوى طبيعى، لم يدرس فن الأداء، ولم يجهد نفسه كثيرا
فى تعلُّم حرفة التمثيل، انطلق كما هو وأحبه الناس كما هو.
وهكذا صنع اسمه من خلال تلك الطاقة الإيجابية التى يبثها فى الناس، ليصبح
مجرد ذِكر اسمه بمثابة ارتباط شَرطى للضحك.
ثلاثة أجيال متلاحقة أسعدها ووصلنا للرابع، ولاتزال تتوارث (جينات) الضحك
مع سمير غانم كلما أطل عليهم فى واحدة من أعماله التى صارت جزءا من تراثنا
الأبيض والأسود قبل عصر الألوان، الذى يحتفظ له أيضا بالكثير، فهو نجم عابر
للزمان والألوان.
استطاع أن يتجاوز دور الكاتب والمخرج، لتجد بين الحين والآخر إضافة خاصة
به، لا يمكن أن تعتبرها من تأليف كاتب أو توجيه مخرج، من الممكن أن يقرأ
على الورق الشخصية بأبعادها التقليدية، ولكن مَن يضمن لها النجاح، ومَن
يحقق لها الانتشار؟!.. تلك هى التفصيلات التى يضعها بكل اقتدار سمير غانم،
وبالطبع قد ترى هنا نصف الكوب الفارغ، سمير يعيد تقديم سمير، إلا أن نصف
الكوب الملآن يؤكد أن سمير ظل كل تلك السنوات والناس تطالبه بالمزيد.
فنانٌ منحنا قرابة 60 عامًا من الضحكات الصافية، هذا الإشعاع وتلك البهجة
التى أحدثها فى قلوبنا تتجاوز الأفلام والمسلسلات والمسرحيات والفوازير
و(الاسكتشات) التى لعب بطولتها أو شارك فيها نجمنا الكوميدى الكبير، والتى
تعد بالمئات، أهم من هذا الرصد الرقمى المباشر أن «سمير» صار المصدر
الطبيعى للضحك فى مصر والعالم العربى، العنوان الأثير لإكسير السعادة الذى
يخرج مباشرة من القلب ليستقر فى القلب، أنت لا تسأل عن قيمة الضحكة عندما
تضحك، ولكن يكفى أنك تضحك، تلك هى القيمة التى منحها لنا سمير غانم، ولا
تزال توابع تلك الضحكات تسكن قلوبنا، فهى من فرط صدقها تتجدد كلما شاهدناها
أو حتى تذكرناها. لا شك أن سمير غانم واحد من قلائل جدا ستظل ضحكاتهم تؤنس
حياتنا كلما شعرنا بحاجتنا إلى ضحكة تغسل همومنا فى هذا الزمن الضنين، فهو
المضاد البشرى المضمون فى مفعوله لأى أحاسيس من الممكن أن تنتاب البشر
فيشعرون بالاكتئاب.. عليهم بسمير غانم، تلك هى الوصفة السحرية.
«جورج وسمير والضيف» طرقوا الباب بضربة ثلاثية الأبعاد، فلماذا الثلاثى؟
إنه الرقم الأشهر فى العالم، الدراما مدينة بتلك الثلاثية القائمة على قالب
(الزوج والزوجة والعشيق أو العشيقة)، أحيانا يطلقون عليه الثالوث الدموى
لأنه يؤدى للعنف والقتل، ويبقى الوجه الآخر لتلك الثلاثيات التراجيدية،
أقصد الوجه المرح الكوميدى ستجده أيضا مقرونا بالثلاثة «الأصدقاء والأعداء
والأغبياء والمغامرون واللصوص.. وغيرهم»، أغلب العناوين الفنية للأفلام
مدينة لرقم ثلاثة، لأنها تسمح ببناء شخصيات مختلفة فى أبعادها.
سمير غانم ينتمى إلى (الكوميدى دى لارتي) الارتجالى، الجينات الإبداعية
التى يمتلكها سمير تتحرك وفقا لهذا المعيار، فهو ينطلق من دور إلى دور ولا
يضع أى شرط على الحركة والموقف، يدرك بلماحية كل تفصيلة من الممكن أن
يلتقطها لتخدم الشخصية، ولهذا فإن كاميرا السينما المنضبطة بطبعها من الصعب
أن تحتويه أو تقيده، هو يحتاج إلى مخرج يستوعبه ويحدد معه بعدها كيف يضع
الكاميرا والزمن ويحدد الزاوية طبقا لحالة سمير غانم، فهو الفنان التلقائى
الأول فى تاريخنا الفنى، ولكنه لم يعثر بعد على المخرج السينمائى الذى
يستوعب تلك الطاقة.
نعم.. هناك العديد من التلقائيين، إلا أن إمامهم وقائدهم والألفة الذى يقف
فى مقدمة الصف هو ولا شك سمير غانم، فهو الذى صنع إحساسه ولزماته على
الشخصية الدرامية، لا يتعمد أن يخطط لها، بل يتركها لتعبر عن نفسها من
خلاله، فهو يحلم بها ويصحو ليجدها أمامه مكتملة صوتًا وصورة وإحساسًا
وتعبيرًا.
لو سألته عن خطوته التالية، سيقول لك لا أدرى أين تلك الخطوة، يبدو دائما
بعيدا عن التخطيط، الذى هو فى نهاية الأمر يمنح الفنان عمرًا إضافيًا، ورغم
ذلك فإن سمير تمكن حتى من الانتصار على نفسه، فهو لا يزال قادرًا على أن
يمنح جمهوره ومضة كوميدية تنعش حياته، وكثيرًا ما تجده يقفز فوق الأرشيف
الخاص به، وأعنى بكلمة أرشيف تلك اللزمات التى نجدها تتكرر بين فنانى
الكوميديا لتصبح ملازمة لهم، قد يستدعى سمير شيئًا ما من رصيده السابق، إلا
أنه من المؤكد سوف يضيف إليه لمحة عصرية، فهو لا شعوريا أدرك أن الفنان مع
الزمن يرسل أكثر مما يستقبل.. هنا مكمن الخطورة، وخاصة لفنان الكوميديا
الذى عليه أن يظل محتفظا بقدرته على الاستقبال ليصبح هو والجمهور على نفس
الموجة، ولهذا لا يزال سمير يتابع بكل دقة فنانى هذا الجيل ليعرف بالضبط
أين هم من الجمهور وأين هو منهم وأيضا من الجمهور.
لا يمتلك عقلًا يدير موهبته بل يترك الموهبة تتحرك كما يحلو لها، بلا سياج
من التفكير والمراجعة، وقد يجامل مخرجا يريد أن يستغل اسمه، فعلها كثيرا،
بل أكثر حتى مما ينبغى، ولكن ظل سمير غانم هو سمير غانم، يسامحه الجمهور
ويغفرون له هفواته الفنية، لأنهم يتذكرون له كم أسعدهم، الناس لا تتذكر فقط
سمير فى أدوار البطولة، ولكن حتى فى تلك المساحات الصغيرة التى شاهدناه
فيها فى بدايته سينمائيا لا يزال لها سحرها، مثل دوريه مثلا فى فيلمى
(صغيرة ع الحب) و(خلى بالك من زوزو).
إنه سمير غانم صانع الضحكة والبهجة والومضة، إكسير السعادة التى لا تغادر
القلب.
وتمضى السنوات بنجمنا الكبير وتمنحه السماء فتاتين رائعتين من زوجته دلال
عبدالعزيز، لنجد أمامنا «دُنيا» و«إيمى».. وفى توقيت نرى فيه موجة التوريث
الفنى تفرض نفسها على الجميع، ابن المطرب يصبح مطربا، وابن الممثل ممثلا،
فإن النسبة الأكبر من هؤلاء يعتمدون فقط على الوقوف على أكتاف الآباء
والأمهات لتطول أعناقهم أمام الجمهور، بينما «دُنيا» و«إيمى» لم تكونا
أبدًا بحاجة إلى قوة دفع من الأب أو الأم، لقد أحبهما الناس بعيدا عن الاسم
الثلاثى دنيا أو إيمى سمير غانم.. إنهما هدية من السماء لسمير، تقول له
سيظل اسمك محفوظا من خلال أعمالك الفنية وأيضا بما قدمته وستقدمه ابنتاك،
إنهما المكافأة السماوية التى حصل عليها سمير غانم من الله، لتستمر جينات
(إكسير السعادة) تنتقل بيننا من جيل إلى جيل، الضحكة الصادقة تتحدى
الموت!!.
tarekelshinnawi@yahoo.com |