سمير غانم.. فارس فن الارتجال
كتبت- بوسى عبدالجواد:
«تمانيين
سنة وأنا مستنيكي» هذه الكلمات المقتطعة من سياقها من مشهد تكريمه الأول
على الإطلاق فى مهرجان القاهرة السينمائى بجائزة فاتن حمامة التقديرية
بدورته التاسعة والثلاثين، التى أثارت ضحكات الجمهور والحاضرين، ربما
للتلقائية التى اعتمدها فى إطلاق إفيهاته التى اشتهر بها، لتنتهى الضحكات
التى ضجت ساحات القاعة حينها بمجرد نزوله من على خشبة المسرح.. ولكن لم
يلتفت الجمهور حينها لدموع زوجته الفنانة القديرة دلال عبدالعزيز وتمتماتها
التى تعكس رضاها وفرحتها بتكريم الدولة لزوجها، لم يلتفوا أيضاً للفرحة
العارمة التى كانت تكسو وجهى ابنتيه الفنانتين دنيا وإيمى. وركزوا فقط على
المقطع المثير للضحك من كلماته التى تحمل ولأول مرة إسقاطاً ومدلولاً أو
عتاباً لم يدركه حينها الجمهور لكن ترجمته دموع وفرحة أسرته الذين كانوا
بصحبته فى هذا اليوم.
بهذا المشهد، أبدأ كلماتى عن الفنان القدير سمير غانم، ملك الارتجال وزعيم
الضحكة، الذى غيبه الموت عن عمر يناهز 84 عاماً إثر إصابته بوعكة صحية نقل
على إثرها لأحد المستشفيات الخاصة الذى لفظ بداخله أنفاسه الأخيرة.
رغم أننا نتحدث عن فنان استثنائى فى تاريخ الكوميديا، صنع مدرسة كوميدية
خاصة به حتى الآن لم يستطع أحد من فناني الكوميديا الحاليين اقتحامها، لكن
لم يأخذ نصيبه من جوائز الدولة التقديرية، فقد تجاهلته المحافل السينمائية
عن دون عمد منهم رغم اعترافهم بفنه، إذ كان يتم تقديمه فى المناسبات
والمحافل على أنه رائد الكوميديا، ربما لأنه لم يبدِ اهتماماً ولم يتحدث
يوماً عن تجاهل المحافل السينمائية له فى أحد البرامج الإذاعية مثلما يفعل
أغلب الفنانين الآخرين، حتى أنصفته أخيراً الدكتورة ماجدة واصف رئيس مهرجان
القاهرة السينمائى السابق، التى انتبهت لتاريخه الفنى وقامت بتكريمه فى آخر
دورة لها.
صاحب رسالة «الضحك لأجل الضحك»
لنبدأ من بداياته الفنية مع جورج سيدهم والضيف أحمد، الذى كون معهم فرقة
«ثلاثى أضواء المسرح» الذى ذاع صيتها فى الستينيات، وتعتبر من أشهر الفرق
التى ظهرت فى تاريخ الفن المصرى. وقدما سوياً العديد من الأفلام والمسرحيات
والاسكتشات التى لاقت جميعها رواجاً كبيراً.
اكتشف الفرقة المخرج الراحل محمد سالم، بعدما آمن بموهبة الثلاثة وقدمهم
للجمهور بشكل يظهر موهبتهم فى أفلام ومسلسلات عديدة.
قدمت الفرقة ما يزيد على 18 فيلماً أبرزها «شاطئ المرح»، و«30 يوم فى
السجن»، و«الزواج على الطريقة الحديثة»، و«المجانين الثلاثة»، و«رحلة
السعادة»، و«فرقة المرح» وغيرها من الأفلام الأخرى، وعلى المسرح قدموا نحو
ثمانى مسرحيات منها «طبيخ الملائكة»، و«فندق الأشغال الشاقة»، و«كل واحد
وله عفريت»، و«موسيقى فى الحى الشرقى»، إلى جانب البرامج الإذاعية. حتى
انحلت الفرقة برحيل الضيف أحمد، ليتجه بعدها سمير وجورج للتمثيل معاً فى
أفلام ومسرحيات حققت نجاحاً صارخاً، لينتقل به قطار الحياة إلى محطة أخرى
وهى
«التوهج
الفني» وهى المرحلة التى عاش فيها قمة تألقه ومجده، حيثُ استطاع بكراكترات
وشخصيات مميزة قدمها فى أفلامه ومسلسلاته وفوازيره أن يسطر اسمه بجانب نجوم
الكوميديا الكبار.
تصدر الراحل أفيشات السينما المصرية فى نهاية السبعينيات وحقبة الثمانينيات
وهى الفترة التى ظهر فيها مصطلح «سينما المقاولات»، حيثُ يزخر رصيده
السينمائى بعدد من الأفلام التجارية التى حققت مبيعات كبيرة استطاع أن يرسخ
من خلالها اسمه فى ذاكرة الجمهور فى حقبة زمنية شهدت إنتاجاً غزيراً لعدد
من الأفلام الكوميدية التى كانت السائدة والمسيطرة على سوق السينما.
ورغم تألقه السينمائى، لكنه لم يجد حرجاً فى المشاركة كضيف شرف فى الأفلام،
بشرط أن يكون الدور مؤثرًا ومحوريًا فى الأحداث، فلا أحد يستطيع أن ينسى
دوره فى فيلم «عالم عيال عيال».
لم يغضب زعيم الضحكة من وصف النقاد لأفلامه بأنها «تجارية»، فظل مدافعاً
عنها وعن أبطالها فى كل حوار إعلامى له، فهو كان صاحب رسالة وهى الضحك لأجل
الضحك. فهو يرى السينما الكوميدية من منظوره وسيلة للمتعة يهرب فيها
الجمهور من همومه وأحزانه.
سمورة وفطوطة
بنظارته الكبيرة وباروكته اللامعة، وملابسه المزركشة المستوحاة من التراث
التونسى وشاربه الكبير، صنع النجم سمير غانم كراكتر خاصًا تفرد به عن غيره
من فناني الكوميديا، كما أنه كان يمتلك طبقات صوتية مميزة التى تتلون حسب
الجملة التى يريد قولها. وهى أدواته الفنية التى تسلح بها أثناء تقديمه
لشخصيتى «فطوطة» و«سمورة» فى فوازيره التى كان يقدمها فى رمضان، والتى نال
عليها شهرة عربية، فأغانيه وأفيهاته التى كان يطلقها فى فوازير فطوطة كان
يرددها أطفال جيل الثمانينيات، التى انتقلت لجيل التسعينيات.
وكانت شخصية فطوطة عبارة عن قزم صغير يرتدى بذلة خضراء اللون، ورابطة عنق
كبيرة وهى البدلة الأشهر فى تاريخ الدراما المصرية.
على امتداد تاريخه الفنى الطويل كان الفنان الكبير سمير غانم مختلفاً، فقد
قدم فناً لا يشبه غيره، وتربع منذ بدايته على عرش الكوميديا، إذ يكفى أن
تسمع صوته أو ترى صورته لتستدعى مخزون الضحك ورصيد الكوميديا المستقر فى
وجدان أجيال على مدار ما يقرب من 60 عاماً.
كان الراحل يزاحم نجوم الكوميديا عادل إمام ومحمد صبحى على لقب زعامة
الضحك، الذى استطاع أن يقتنصها منهم باقتدار ربما لأنه كان ينصب كامل
تركيزه على الكوميديا فقط، فلم يجرب أن يلعب أدوارًا درامية- باستثناء فيلم
«الرجل الذى عطس»
الذى كان رغم نهايته الدرامية كوميديًا أيضًا ولم
يكررها مرة أخرى، أو قام ببطولة أعمال تعرض وجهة نظر سياسية.
رائد «كوميديا الفارص»
ارتبط اسم الراحل بالمسرح على مدار مشواره الممتد لأكثر من 60 عاماً، منذ
كون مع صديقيه الضيف أحمد وجورج سيدهم أشهر وأنجح فرقة كوميدية «ثلاثى
أضواء المسرح» فى الستينيات، الذى قدم معهم عدداً من الأعمال المسرحية التى
حطمت الإيرادات فى شباك التذاكر.
حافظ الراحل فى أعماله المسرحية على مدرسة «كوميديا الفارص» الذى كان ينتمى
لها، وهى تعنى كوميديا الهلس، إذ كان يتفنن فى إطلاق إفيهات مثيرة للضحك،
كما أنه لا يجد حرجاً فى تقمصه لأى شخصية أيًا كانت حتى ينتزع الضحكات من
الحضور مثلما لمسنا فى مسرحياته «المتزوجون»، و«أخويا هايص وأنا لايص»،
و«أنا ومراتى ومونيكا»، و«دورى مى فاصوليا»، و«فخ السعادة الزوجية»،
و«المستخبي»، و«موعد مع الوزيرة»، و«الزهر لما يلعب» وغيرها من الأعمال
المسرحية المهمة التى حققت نجاحاً منقطع النظير.
لم يحاول سمير غانم التمرد على «كوميديا الفارص» التى كانت تعرف من جانب
النقاد على أنها كوميديا المهزلة، وظل محتفظًا بلون الكوميديان على المسرح
باستثناء مسرحية «جحا يحكم المدينة» للكاتب وحيد حامد، ولم يكررها ثانية.
رغم أن رصيده السينمائى يتفوق على المسرحى الذى يبلغ عدده 39 مسرحية، لكن
ارتبط اسمه بالمسرح، ليؤكد أن النجاح ليس كمًا وإنما كيف، فرغم نجاحه
الكبير فى مجال المسرح لكن لم تلفتت المهرجانات المسرحيه لفنه ولم تكرمه
على الإطلاق، فالتكريم حصل عليه من الجمهور الذين كانوا يعتبرونه ملك
المسرح، الذى ارتجل عليه وأصدر من على خشبته أشهر إفيهاته التى يحفظها
الجمهور عن ظهر قلب.
امتلك الراحل خامة صوت مميزة، كان يطوعها فى أعماله الفنية، فسجله الفنى
يزخر بالعديد من الأغانى المميزة التى يحفظها الجمهور ويرددها لسهولة
كلماتها وروعة لحنها أبرزها «كوتو موتو يا حلوة يا بطة»، و«أوشي»، و«الكورة
مدورة»، و«أنا مبسوط»، و«مانا مانا».
رغم تصدر اسمه على أفيشات أفلامه، لكن تنازل عن البطولة المطلقة أمام بناته
الفنانتين دنيا وأيمى، الذى ساندهما فى بدايتهما الفنية، وكانت تعتريه
سعادة عارمه بتصدر أسماء بناته على الأفيش حسبما أكد فى تصريحات صحفية
وتليفزيونية سابقة.
سمير غانم عدو السياسة
حرص الراحل طوال تاريخه الفنى، عدم التطرق فى أعماله للسياسة، عدا تجربة
مسرحية كتبها وحيد حامد اسمها «جحا يحكم المدينة»، وفور تلقيه إنذارًا
باصطدامه بالسياسة، ابتعد عن هذا المضمار، وذهب إلى كوميديا الفارص الذى ظل
رائدًا لها حتى وفاته.
حافظ الراحل على روح الكوميديا فى لقاءاته التليفزيونية، فلم يفلح إذاعيًا
من استدراجه للحديث عن السياسة، وكان لا يحب أن يبدى برأيه فى ثورات الربيع
العربى ولا عن النظام السياسى.
«سمورة»
ابن عرب الأطاولة بمحافظة أسيوط، المولود عام 1937، رغم نشأته فى منزل
متشدد حيثُ كان والده يعمل ضابط شرطة، لكن كانت له مواقف كوميدية عديدة مع
أفراد أسرته وأشقائه حسب تصريحاته فى لقاءاته التليفزيونية، انضم بعد
الثانوية العامة إلى كلية الشرطة احتذاءً بوالده وتركها بعد رسوبه عامين
متتاليين ليلتحق بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، وهناك انضم إلى الفرق
الفنية، وكون مع صديقيه جورج سيدهم والضيف أحمد فرقة «ثلاثى أضواء المسرح»
التى كانت الورقة الرابحة فى أغلب الأعمال الفنية، إذ كان يستعين بهما كبار
النجوم لإضافة لمسة خفيفة وروح كوميدية على العمل بداية من ضحكاتهم الرنانة
وإفيهاتهم الساخرة وتلقائيتهم المعهودة دون تصنع أو إسفاف، ليظل سمير غانم
ضحكة مصر التى لا تموت. |