يصعب التغاضي عن مفارقةٍ، تُستعاد فور شيوع نبأ رحيل المخرج
اللبناني برهان علوية (1941
ـ 2021). مفارقة تقول إنّ الفيلم الأخير له، المُنجز عام 2006، يحمل
عنواناً يُفهم منه، بعد المُشاهدة، أنّ علوية يريد حسم أمورٍ أساسية مع
مدينةٍ وهوية وذاكرة واجتماع وحربٍ. أنْ يختار مفردة "خَلَص" (يكفي،
بالعامية اللبنانية) عنواناً لما سيُصبح فيلمه الروائي الطويل الأخير، يعني
أنّ في ذات السينمائيّ ـ المُشارك، بفعالية، في ابتكار سينما
لبنانية بديلة
عن سائدٍ تجاري، في لحظة تحوّلات أساسية في البلد ومحيطه العربيّ ـ شعوراً
بأنّ حسم الأمور، إنْ يكتَمل فعلياً، يُنهي مرحلةً ومساراً وانفعالات
وتفكيراً، من دون أنْ يعني هذا تغييراً وانقلاباً، بل نوعاً من استراحةٍ،
تطول أو تقصر بحسب وجدان المرء وتأمّلاته.
مع برهان علوية، يُصبح تعبير "خَلَص" أشبه بصوتٍ أخير له في
عالمٍ متوتّر، يجهد في مواكبته ومقارعته وتحدّيه، في آنٍ واحد، عبر أفلامٍ
ومواقف واشتغالات. فعلوية ـ المُصاب بمرضٍ سرطانيّ منذ أعوام عدّة، يُكافحه
كعادة المكافحين في مراحل زمنية تشهد انقلاباتٍ كثيرة في مستويات العيش
والفن والعلاقات والمصائر والمطبات والأقدار ـ يقول "خَلَص" لا كمَن يتوقّف
نهائياً عن كلّ شيءٍ، بل كي يبدأ مرحلةً أخرى، ستشدّد عليه ضغطاً وعقبات،
تحول دون إنجاز ما يصبو إليه من مشاريع وأفكار، وإنْ تسبق بعض المشاريع
والأفكار، غير المُنجزة وغير المُكتملة، فيلمَه الأخير هذا.
مشاركته في ابتكار سينما لبنانية بديلة، منذ بداية سبعينيات
القرن الـ20، تنطلق من رغبةٍ في إيجاد مُعادل سينمائيّ لوقائع العيش في
جغرافيا، مليئة بغليانٍ متنوّع الأشكال، في السياسة والاجتماع والثقافة
والفكر والصحافة، وبمسائل يلتزمها كثيرون حينها، فلسطينياً
ويسارياً تحديداً.
لهذا، يستعين برهان علوية وزملاؤه، وبعضهم راحلٌ في أعوامٍ سابقة متفرّقة،
بالكاميرا أداة تمزج السينمائيّ بالاجتماعي والثقافي، وتطرح أسئلة العلاقة
الوثيقة بين العدسة والناس، فيذهبون معها إليهم لفهم ذواتهم وحالاتهم
ورغباتهم وأحلامهم وخيباتهم ومشاغلهم، جاعلين الكاميرا كياناً حيّاً ينبض
بقولٍ وتوثيقٍ ومواجهةٍ وكشفٍ واستفزاز.
مشاركته في ابتكار سينما لبنانية بديلة تنطلق من رغبةٍ في
إيجاد مُعادل سينمائيّ لوقائع العيش، في جغرافيا مليئة بغليانٍ متنوّع
الأشكال
مع مارون
بغدادي (1950
ـ 1993) ورندة
الشهّال (1953
ـ 2008) وجان
شمعون (1944
ـ 2017) وجوسلين
صعب (1948
ـ 2019)، وغيرهم القليل، تُصبح الكاميرا وسيلةً لتفكيك الواقع ومواجهة
الحاصل فيه، وتحويله إلى مادة نقاشٍ وتأمّل وبحثٍ دائمٍ عن إجابات عن
أسئلة، ستبقى معلّقة، بخصوص الهوية والانتماء والبلد، كما السينما ومعناها
الجوهريّ، في مرحلةٍ لعلّها أكثر المراحل اللبنانية والعربية حاجةً إلى
مواكبة بصرية لمسارات بلدانٍ واجتماعٍ وتفاصيل.
برهان علوية غير محصورٍ بحيّز جغرافي عربيّ دون آخر، وغير
"وطنيّ" بالمعنى الضيّق للتعبير، وغير لبنانيّ بالصورة الشوفينية المتعالية
والفارغة من أي مغزى. في سيرته السينمائية، المترافقة وسيرة جغرافيا عربية
متجاورة ومتشابهة بتشاركها هموماً عامّة وقضايا فردية، يعثر علوية، في مدنٍ
وأسئلة خارج لبنان، على ما يدفعه إلى عمق حكايات وتساؤلات، يكتشف مشاهدو
أفلامه عنها مدى ارتباطها، المبطّن والمباشر، بلبنان وفضائه المشحون
بغليانٍ وغبارٍ. فلسطين أساسية، و"كفرقاسم" (1974)
يتحرّر من جمالية كونه شهادة سينمائية تعكس إحدى أبشع المجازر الإسرائيلية
بالفلسطينيين، ليُصبح تمريناً سينمائياً على كيفية إلغاء الخطّ الفاصل بين
الروائي والوثائقي، وهذا يُعرف لاحقاً (بعد سنين مديدة) بـ"الدوكو دراما"،
أو الوثائقي المتخيّل (الأوصاف وفيرة). فالبناء الأساسيّ وثائقيّ، يؤرشف
بصرياً مجزرة يحاول الإسرائيليون تغييب وقائعها، فإذا بـ"كفرقاسم" يفرض
عليهم إعادة النظر بالتغييب المقصود، لشدّة مصداقيته وجماليته التوثيقية.
في التقديم، يُكتَب أنّ "كلّ مُطابقة أو مُشابهة مع أشخاصٍ
أو أحداث حقيقية" لا علاقة لها بالصدفة، "لأنّ كلّ ما يعرضه هذا الفيلم
مأخوذٌ من الوثائق التاريخية الأصلية". ألن يكون هذا كافياً لدحض ادّعاءات
المحتلّ، وأكاذيبه وتزويره؟ "كفرقاسم" يُعلن، حينها، أهمية التعاون العربي
العربي في اشتغالاتٍ، تخرج من وقائع وتفاصيل فتُرسَم صُوراً سينمائية، يغلب
عليها الفكر والنضال والقضايا، من دون غياب أدوات السينما وحاجاتها.
فالفيلم يستند إلى نصٍ للسوري عاصم الجندي، وسورية حاضرةٌ أيضاً في
الإنتاج، عبر "المؤسّسة العامة للسينما"، ما يُحيل إلى سبقٍ في إنتاجٍ
مشترك بين بلدين عربيين ("المؤسّسة العربية للسينما" في بيروت)، سيخفّ
كثيراً في أعوامٍ لاحقة، قبل انتعاشه مجدّداً منذ أعوام عدّة، وإنْ قليلاً.
التعاون مع صحافي وكاتب يُسْتكمل بتعاون مع أكاديمي وكاتب آخر، اللبناني
أحمد بيضون، الذي يؤلّف سيناريو وحوار "بيروت اللقاء" (1981)، أحد أهمّ
الأفلام اللبنانية في صدامها مع حربٍ وعنفٍ وعلاقات اجتماعية ممنوعة بين
طوائف تخوض حروبها الصغيرة ("حروب صغيرة"، فيلم لمارون بغدادي، 1982)
لتحطيم إرادات وأحلامٍ وأمزجة، ولتدمير مدينة وذاكرةٍ وتاريخ.
عن العمارة، يُنجز "لا يكفي أنْ يكون الله مع الفقراء"
(1978)، المرتكز على اشتغالات المعماريّ المصري حسن فتحي. وهذا دافعٌ
لبرهان علوية إلى قراءة أحوال اجتماعٍ وأشكال عيشٍ، كمن يحفر عميقاً في
جذور وتاريخٍ وراهنٍ. أما السدّ العالي في "أسوان" (1991)، فيخرج من حيّزه
الضيّق إلى إعادة قراءة مرحلةٍ، بطرح أسئلةٍ عن إنجازاتٍ وشخصياتٍ. ورغم
هذا الانجذاب إلى مسائل عربيّة، يرى فيها انعكاساتٍ مختلفة لأهوائه وتفكيره
والتزاماته الثقافية والأخلاقية والفكرية، تبقى بيروت الجاذب الأكبر له،
إذْ ينشغل بها حتى آخر فيلمٍ، فيصرخ بها ولها ومعها: "خَلَص". النص كاملاً
على الموقع.
تبقى بيروت الجاذب الأكبر له، إذْ ينشغل بها حتى آخر فيلمٍ،
فيصرخ بها ولها ومعها: "خَلَص"
الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، كالسلم الأهلي
الناقص والهشّ، يُلاحقان برهان علوية في غربته الفرنسية، وفي عودته، قبيل
منتصف تسعينيات القرن الـ20، إلى مدينته، التي يقول عنها عام 2000 إنّها،
بعد مرور 10 أعوام، "تحاول أنْ تُهيل التراب فوق الحرب. ليس التراب فقط، بل
الرمل والباطون والمجارير وغيرها. مع هذا، لم تستطع أن تدمل الجرح، إذْ
كلما ظنّت أنّها دملته، يُفرِّخ من مكان آخر، تمامًا كـ(مرض) السرطان"، ذلك
المرض الذي سيُعيده إلى بروكسل، بعد إقامته فيها طالباً في معهد "إنساس"
السينمائي (تخرّج منه مطلع السبعينيات الفائتة)، ومنها إلى لحظة رحيله (9
سبتمبر/ أيلول 2021): "أخطر الأمراض المتفشية: الطائفية، المزدهرة بشكل
جيّد"، يقول في دردشة خاصّة معي قبل 21 عاماً.
يُضيف: "هناك أيضاً الهجرة، التي لا تُشبه بأيّ شكل من
الأشكال هجرة اللبنانيين في القرن الـ19. إنّها هجرة شبابٍ، تتراوح أعمارهم
بين 20 و30 عاماً، لا فرق بين مُتعلّم وغير مُتعلّم. شبابٌ أنهوا دراساتهم
الجامعية، وآخرون لم ينتسبوا إلى الجامعات. بمعنى آخر: إنها هجرة الطاقة
الخاصة بهذا المكان. هجرة الخلق والإبداع. هناك الآن نغمة جديدة: الفقر.
هذا ما تعدك به المدينة".
يُتابع، بنبرةٍ قاسية غير خالية من رأفة وحبّ وغضبٍ: "لهذا
أسأل: بيروت مدينة ماذا؟ أهي مدينة أم، أو مدينة طريق؟ أهي فندق أو منزل؟
ما أتمنّاه لنفسي ولبيروت أنْ تنتهي بيروت إلى مدينة منزل. مدينة لها ذاكرة
تتعلّم وتُعلِّم منها. أتمنّى أيضاً أنْ ترسو المدينة على حرب منتهية
فعلاً. أنْ ترسو على فضاء للمستقبل لا للماضي".
بيروت مدينة ماذا؟ أهي مدينة أم، أو مدينة طريق؟ أهي فندق
أو منزل؟ ما أتمنّاه لنفسي ولبيروت أنْ تنتهي بيروت إلى مدينة منزل. مدينة
لها ذاكرة تتعلّم وتُعلِّم منها.
رسالتان له "من زمن الحرب" (1985)" و"من زمن المنفى" (1990)
يستكملهما في "إليكَ أينما تكون" (2001)، في تجربةٍ تجعل النصّ المرويّ على
ألسنة أفرادٍ أشبه بمرايا مفتوحة على همومٍ واختبارات وحقائق.
يرحل برهان علوية في لحظة احتضار مدينةٍ، تُشكِّل عصب
اهتماماته واشتغالاته وانفعالاته. خروجه منها صعبٌ، لكنّه ضروريّ. رحيله
بعيداً عنها يطرح سؤال موت المدينة، لا موت السينمائيّ، وإنْ يكن موت
السينمائي واقعاً، فهذه نهاية الجميع. في رحيله، يكتب المخرج والباحث
اللبناني هادي زكّاك (فيسبوك) ما يختزل الحكاية كلّها. يقول إنْ برهان
علوية يرحل اليوم ليلتقي بمارون بغدادي ورندة الشهّال وجان شمعون وجوسلين
صعب، "كأنّ رحيل هذا الجيل المؤسِّس يواكب رحيل وطن". |