شهد المجتمع السينمائي المصري خلال الأيام القليلة الماضية
نقاشاً كبيراً حول فيلم «ريش» لمخرجه عمر الزهيري، وذلك انطلاقاً من فوزه
بجائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الخامسة من مهرجان «الجونة» السينمائي
الذي تم انعقاده من 12 إلى 21 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
سبب الجدال من حوله أنّه فيلم يعرض واقعاً قبِل به بعض
الذين شاهدوه ورفضه البعض الآخر. وهذا البعض في كلا الموقفين لم يكن عبارة
عن حفنة قليلة من المشاهدين، بل كناية عن حجم لا بأس به اتخذ قراره إما مع
الفيلم أو ضدّه، وغالباً لما قدّمه من صورة وصفها الفريق الأول بأنها
«حقيقية» و«واقعية»، ورفضها الفريق الثاني على أساس أنها «تُسيء إلى مصر».
هوية مفقودة
إنّها تُهمة قديمة دأب على إطلاقها سينمائيون وإعلاميون
مصريون عندما يتقدّم فيلم ليعرض حكاية تدور في رحى بيئة اقتصادية وشعبية
فقيرة تفرض شروطها وحدود طموحات الذين يعيشون فيها ومشاكلهم الفردية
والاجتماعية. في السبعينات أطلق المخرج الراحل حسام الدين مصطفى وصف
«الشيوعيون» على كل مخرج يلتمس درباً من السينما المختلفة عن السائد، هذا
شمل حينها أفلام علي عبد الخالق الأولى وخيري بشارة ومحمد خان ونقاداً
سينمائيين مالوا إلى تلك الأعمال، نابذين السينما التقليدية من النوع الذي
دأب حسام الدين مصطفى والعديد سواه على تقديمها.
جوهر
الموضوع هو أنّ المخرجين السينمائيين، مصريين أو غير مصريين أحياناً، يجدون
أنفسهم ملزمين بتقديم أفلام ذات قضايا اجتماعية. أحياناً ما تدور في رحى
القطاع الاجتماعي المرتاح مادياً، وأحياناً ما تقع في البيئات المعدمة كحال
فيلم عمر الزهيري «ريش» الذي خرج فائزاً بذهبية الدورة الخامسة من مهرجان
الجونة كأفضل فيلم عربي في المسابقة الروائية الرسمية (من بين ثلاثة أفلام
عربية فقط هي «أميرة» لمحمد دياب، من مصر والأردن و«إيقاع كازابلانكا»
لنبيل عيوش من المغرب).
رفض الفيلم بدأ من وقت عرضه عندما بدأت الجموع تُغادر
القاعة بنسبة كبيرة. المغادرون انتظروا، على الأرجح، فيلماً سعيداً أو على
الأقل مقبولاً ومفهوماً. وجدوا عكس ذلك منذ أن شاهدوا الزوج يتحوّل إلى
دجاجة والكاميرا تتصب على الزوجة التي تبحث عن وسيلة لاستمرار الحياة وسط
البؤس الذي تعيش فيه.
فيلم عمر الزهيري يدور في صلبه حول رجل فاقد لهويّته
ووظيفته الاجتماعية. وهو يبدأ بمشهد صادم (رجل يحرق نفسه) وننتقل بعد ذلك
إلى الرجل ذاته (قبل الحرق) وهو يعيش مع زوجته وأطفاله الثلاثة في فقر شديد
في بيت ملاصق لمصنع ما يبث دخان محروقاته الملوّثة على نحو شبه دائم.
ذات يوم خلال حفل «على قد الحال» بمناسبة عيد ميلاد أحد
أطفاله يُدخله ساحر صندوقاً ويُخرجه دجاجة. عندما حاول الساحر إعادة
الدجاجة إلى رجل فشل وهرب. هذا ما يترك الزوجة أمام مهمّة رعاية دجاجة
تعتقد أنّه زوجها والبحث عن عمل تعتاش وصغارها منه.
لن يترك الفيلم الزوج بلا عودة. سنراه هو نفسه الذي حرق
نفسه وستستقبله ثانية قبل نهاية الفيلم لترعاه (ولو إلى حين).
ميل للفانتازيا
«ريش»
مدروس جيّداً تبعاً لرغبة المخرج في كيفية سرده وكيفية معالجته كبعد
اجتماعي ما وكحكاية. من شروط عمله إبقاء معظم المشاهد بعيدة عن وجوه
أصحابها وإذا اقتربت ففي الغالب هي غير واضحة وبالتأكيد - وعن قصد - غير
منفعلة. هذه قيمة جيّدة لفيلم خارج المعهود كذلك لعمل يعكس بيئة مكانية
ملوّثة ومباني مهجورة ومتسخة توازي بيئة نفسية اجتماعية قاهرة ضحيّتها
امرأة كل ما ترغب فيه هو استمرار حياتها وحياة أولادها بزوج أو من دونه.
ليس أنّ الفيلم بلا مشاكل وأهمها تفسير الوضع الماثل على
نحو لا يضر بالفانتازيا الغريبة التي يوفرها الفيلم لمشاهديه. ومنها بعض
التفاصيل التي لا تتطلّب إلا حسن الملاحظة، ومنها المشهد الذي تقع فيه
الزوجة في المسبح لكن حين تخرج منه نجد ثيابها ناشفة. على صعيد الزوج كان
يمكن أيضاً الإتيان بما يوضح أن روح الزوج تسكن الدجاجة فعلاً. هناك الكثير
من لقطات للدجاجة (استعان المخرج بأكثر من دجاجة، وهذا يفسّر كيف أن كل
دجاجة تختلف فجأة عن الأخرى) وهي على فراش غرفة النوم. لو أنّها اقتربت
مرّة من الزوجة كما لو كانت تريد التواصل معها لكان ذلك أنفع لفكرة هي من
بداياتها غريبة.
لكن هذه التفاصيل لم تستوقف أحداً ولم تمنع لجنة التحكيم
التي ترأسها المنتج الأميركي روب ألين من منحه جائزة أفضل فيلم عربي. كذلك
لم يتحدّث أحد عن الفانتازيا وشروطها الحاضرة منها أو الغائبة في هذا
الفيلم.
كان عمر الزهيري كشف عن ميله لزرع وضع فانتازي ما في بنية
أفكاره عندما قام، سنة 2014. بإخراج فيلمه القصير «ما بعد وضع حجر الأساس
لمشروع الحمّام بالكيلو 375». حمل ذلك الفيلم فكرة نيّـرة منفّذة ببعض
التسرّع: خلال قيام مدير عام إحدى الشركات بوضع حجر الأساس لمشروع حمّـام
في مكان قصي عن العالم، يرتكب موظف صغير هفوة لا تغتفر. أخطأ بذكر الاسم.
تركه الجميع وحده وغادروا المكان الصحراوي. قصّـة المخرج الزهيري لا تقف
هنا. حال الموظف تسوء بعدما أدرك أنه أغضب المدير العام والخوف ينتابه.
يحاول الاعتذار مرّة تلو المرّة لكن اعتذاره لا ينفع. يحيل المخرج فيلمه
إلى وضع شبه كيفكاوي وينجح في توطيد العلاقة بين الفرد المقهور والسُـلطة
القاهرة من دون كثير جهد. أماكن التصوير مجرّدة والحوار قليل والمشكلة في
بعض التفاصيل.
سجالات سابقة
بالعودة إلى الجدال القائم حول «ريش» فإنّ المسألة لا تخلو
من الغرابة والانفعال. لقد سبق لأفلام مصرية حديثة أن تناولت أوضاعاً
اجتماعية داكنة كما فعل «فتاة المصنع» لمحمد خان (2014) و«أخضر يابس» لمحمد
حمّاد (2016) و«آخر أيام المدينة» لتامر السعيد (2016) و«زهرة الصبار»
لهالة القوصي (2017) و«يوم الدين» لأبو بكر شوقي (2017) و«ورد مسموم» لأحمد
شوقي صالح
(2018).
حيال كل فيلم من هذه الأفلام دار سجال بين النقاد وبعض أهل
المهنة السينمائية حول جودة الفيلم من عدمها وحول واقعيّته. لكن لم يحدث أن
ووجه الفيلم بمثل هذا القدر من النقد بناءً على ما يعرضه. هذا رغم أنّ «آخر
أيام المدينة» لم يُعرض حينها في مهرجان القاهرة لسبب غير مقنع (بعدما تم
إدراجه ثم سحبه) ورغم أن ما عرضه «ورد مسموم» (الذي شوهد في مهرجان القاهرة
كذلك) هو تماماً ما يعرضه «ريش» إن لم يكن أفدح (يبدأ الفيلم بمشهد لمياه
ملوّثة تخرج من أنبوب تصريف مصنع نسيج وتمتزج بمياه مواسير الصرف) بفارق أن
«ورد مسموم» لم يعمد للفانتازيا بل أمّ الواقع كما هو.
التهمة الجاهزة لفيلم «ريش» وسواه هو أنه فيلم مسيء لمصر،
والمثير للملاحظة أن مطلقي التهمة هم من الذين لا يعيشون الحياة الصعبة
ذاتها وربما هذا أوضح ما في المسألة. ويزيدها وضوحاً أن الذين يحضرون
مهرجان الجونة، في الغالب، القسم الذي يتدثر بفساتين السهرة وثياب
السموكينغ ويعيش على الطرف الآخر من الفاصل الاجتماعي الذي عبّر عنه فيلم
عمر الزهيري.
مهرجان الجونة مهرجان سينمائي جاد يديره انتشال التميمي
بنجاح. هذا يعود إلى أنه يجمع بين الرؤية والخبرة ودائماً ما يدفع
بالمهرجان صوب تحديات جديدة. لكن المهرجان في الوقت ذاته يتّكل على الكثير
من المناسبات الاجتماعية والمظاهر الاحتفائية وبساطه الأحمر الذي يبدو فعل
السير فوقه لبعض المدعوّين والمدعوّات شهادة تقدير من نوع خاص بحد ذاتها.
يبقى أنّ كل مخرج مصري يحب وطنه (وكل مخرجي مصر يشتركون في
هذا الحب بلا ريب بمن فيهم حمّاد وشوقي والقوصي وصالح والزهيري) يُصاب بجرح
دفين إذا ما اتهم بأن فيلمه يسيء لوطنه. الإساءة هي آخر ما في بال هؤلاء أو
سواهم. التميّز بأعمال فنية لا تلتزم بالمعهود من إنتاجات السينما التجارية
هو حق لهم يرغبون فيه لأداء رسالاتهم الاجتماعية. وربما الإساءة الفعلية
الأساسية هي تلك الأفلام الركيكة التي تبتعد عن الواقع في سبيل النكتة أو
مشاهد الأكشن ولا سبيل ثالث. |