فيلم ريش | احذر وأنت تصنع فيلمًا فنيًا.. فربما يشاهده
الناس! | أمجد جمال
أمجد جمال
يوم فاز فيلم ريش بجائزة مهرجان كان، انشغلت الميديا
بالمباركة والاحتفال (عمياني).
نسينا كالعادة وضع الأمور في سياق مفيد، لتكون توقعاتنا
تجاهه منطقية.
ما كان يجب شرحه أن فيلم ريش لم يفز بجائزة في المسابقة
الرسمية أو الفرعية، بل بفعالية موازية يطلق عليها أسبوع النقاد.
هذه المعلومة نفسها تحتاج لمزيد من التوضيح؛ فتلك المسابقة
تحتوي سنويًا على أفلام تختار بمعايير مختلفة نوعيًا، ويمكن تلخيصها
بأنها الأفلام ذات الفرص الأدنى للقبول الجماهيري. فكلما كان الفيلم
راديكاليًا وشاذًا وقاسيًا، كلما استمال لجان المشاهدة في أسابيع النقاد.
موجة أفلام “للأصدقاء فقط”
أسلوب فيلم ريش صدم كثيرين من الفنانين والصحفيين الذين
حضروا عرضه الأول محليًا في مهرجان الجونة.
وحده الفنان شريف منير اختار تسييس عدم إعجابه بالفيلم،
فظهر في الإعلام ليهاجمه بشكل تحريضي، ويحمله أكثر مما يحتمل.
حديث شريف منير صنع استقطابًا حادًا.
سأتحدث عن شق إيجابي تولّد منه عن طريق الصدفة؛ إذ صنع شهرة
لم يحلم بها صناع فيلم ريش.
لدي شعور أنهم لم يريدوا تلك الشهرة أصلًا!
وكأن تسليط الضوء على فيلم ريش نجح في تعرية هذه النوعية من
الأفلام فنيًا على نطاق أوسع.
والنوعية تضم أفلام أخرى على شاكلة “ورد مسموم” و”أخضر
يابس” و”الخروج للنهار”… إلخ.
معظمها هرب من رادار الجمهور لحسن حظ صناعها!
يمكنك اعتبارها موجة سينمائية.
موجة تجيب على سؤال “كيف تصنع فيلمًا لأصدقائك وحسب”؟
موجة: إن لم تسعفك الإمكانات في تقليد أفلام هوليوود، فقلد
أفلام الواقعية الأوروبية بشكل سطحي وستجد من يظل يطلق عليك أصيلًا
ومتمردًا.
قصدت استخدام كلمة “تعرية” لأن صناع هذه الأفلام، والحاضنة
الثقافية التي ترعاهم، يظنون أنفسهم في صف المشاريع السينمائية المجازفة
والمناضلة باسم الفن والمحفوفة دومًا بمخاطر الخسارة.
أفلام تنجح بمخاطبة “الأهل والعشيرة”
لا أزايد على أحد في تفضيلاته وذوقه.
لكن ثمَة نوع من خداع النفس بادعاء مظلومية تلك الأفلام
فنيًا! فما من مخاطرة حقيقية تخوضها تلك الأفلام.
تنجح من قبل طرحها. تنجح لأنها النوعية الوحيدة غير الهادفة
للربح بالأساس. تنجح بإلغاء الجمهور من المعادلة، وتنجح كلما ابتعدت عنه
أكثر فأكثر مع سبق الإصرار.
الحقيقة أنها المشاريع الأكثر كسلا على الإطلاق، فهي تقوم
على التمويل من منح وهبات إنتاجية، أو تمويلات أجنبية تمنحها جهات على صلة
بالمهرجانات التي تعرض الأفلام، والثانية على صلة بالجهات التي تمنح
الجوائز، تشعر كأنها فقاعة صغيرة من تبادل الأدوار.
نعم، فيلم ريش بريء سياسيًا من التهم المثارة.
والقول أن عملًا فنيًا يسيء لسمعة دولة تصريح مرفوض منطقيًا
وأخلاقيًا.
لكن الإيجابي أن ضجة فيلم ريش كسرت الفقاعة، وجعلت الجميع
يشاهدون من باب الفضول ليحكموا بأنفسهم.
دعك من السياسة، فلأول مرة تدخل هذه الموجة السينمائية في
اختبار فني مع الجمهور العادي!
وأظنها أخفقت رغم كل التلميع النخبوي، ونسب المشاهدة
العالية بفضل التريند، أخفقت لأن داود عبد السيد ومحمد خان ورأفت الميهي
وأسامة فوزي وغيرهم أعطونا في الماضي نماذج عن سينما فنية لا تلغي الجمهور
من المعادلة. ومن قبلهم كمال الشيخ وهنري بركات وصلاح أبو سيف.
مشروع مخرج جيد.. لكن!
فيلم ريش للمخرج عمر الزهيري يعايش أسرة فقيرة تحوّل عائلها
إلى فرخة، ما أدى بزوجته للنزول إلى سوق العمل لتنفق على أبنائها وعلى
الفرخة.
السطر غريب وجذاب. لكن التنفيذ يعلق في نقطة وسط بين
المفارقة الكافكاوية والمزحة الصبيانية.
يدلل عمر الزهيري على أنه مشروع لمخرج جيد من حيث الأدوات.
السبب الأبرز إتقانه في تقديم التفاصيل، ولأنه يحقق رؤيته.
لكن هل رؤيته هنا تستحق الإعجاب؟ هذا أمر آخر.
فخريج معهد السينما يبدو واقعًا تحت ضغوط الزمالة. يعمل في
فيلم ريش بعقلية الطالب الذي يجهز مشروع تخرجه، يبحث عما سوف ينال إعجاب
زملائه وأساتذته في المعهد.
مشكلات فيلم ريش الحقيقية
ليست مشكلة الفيلم في كم القبح والرثاثة الذي يعرضه، وهو
مبالغ فيه بالفعل.
الفن ليس في تجميل الواقع وليس في تقبيحه أيضًا.
بل في البحث عن سياق منسجم للواقع.
الواقع فسيح وعشوائي، والفن أشبه بخاصية الـ
crop
في تطبيقات تعديل الصور، أن تختار عناصر الصورة التي ستحذفها أو تبقيها وفق
مقصد وحدس، ومن ثم تحتاج للغة فنية تخاطب المتلقي لإقناعه بمقاصدك. قوة
اللغة في سهولتها لا في تعقيدها.
واللغة السينمائية في فيلم ريش مرتبكة ومبهمة. يميل الفيلم
لسمات النوستالجيا لكنه يختار الديستوبيا واقعا لأحداثه، والديستوبيا
مستقبلية بطبعها بما يناقض النوستالجيا.
هو كذلك حائر بين الحداثة والريتروجارد. يبدأ حكاياته من
الواقعية ويعقدها بالفانتازيا، وحين تعجز الفانتازيا عن حل الأزمة، يلجأ
للواقعية مجددًا.
عشوائيات ريش
الفيلم ليس عن حياة العشوائيات، بل تسكن الأسرة في مساكن
أهلية مخططة من التي كانت تبنيها الدولة بكثافة في الستينيات والسبعينيات
لاستيعاب الطبقة الصناعية والبيروقراطية الجديدة، لكنها مساكن مهترئة بفضل
الفقر.
لا يحدد الفيلم زمنًا أو مكانًا لأحداثه دون مقصد واضح، بل
يتعمد إبراز تناقضات زمنية. كنت أفضل لو أستخدم هذا التجهيل المتعمد
للتخديم على فكرة سريالية أو نصف حلم/نصف واقع، لكن الأسلوب بدا كلعبة بلا
قواعد.
عشوائي في تحديد الأزمة فوق الدرامية، من الفقر للذكورية
للبيروقراطية لعالم ما بعد التصنيع لقسوة الطبيعة والتلوث، لكن الواضح أن
همومه عالمية وغير خاصة بمصر.
يوظف الحيوانات في إطار متماهي مع البشر، كدلالة على التردي
الذي وصلته الحالة الإنسانية. وتلك الاستعارة السينمائية صارت كليشيه.
يكتفي بمعنى المأساة دون التلويح بأصابع اتهام حتى ولو
فلسفية، هذا وإن كان ينفي الشبهات السياسية المطروحة، لكنه لا يترك بديلا
سوى استجداء الحزن والتقزز بهدف الحزن والتقزز.
اختياره للأغاني المصاحبة للأحداث مثير فعلًا، وهو الشيء
الوحيد الذي تصدى قليلًا لحالة الصقيع العاطفي المسيطرة على الأجواء رغم
بشاعة ما نراه. وإن كانت الأغاني لم تساعدنا في تحديد السياق الزماني بسبب
تنوعها، لكن جاء أغلبها من السبعينيات.
وكعادة هذه الأفلام تلجأ للإطناب والتكرار في أدواتها
وأفكار مشاهدها لا لشيء سوى أن ترتقي من رتبة الفيلم القصير لرتبة الفيلم
الطويل، مع اعتبار الرتابة أسلوبا فنيا.
الممثلون ليسوا أكثر من أشكال طازجة على الشاشة جذبت
الزهيري، لكن لا يوجد أداء تمثيلي بالمعنى الاحترافي أو نصف الاحترافي أو
حتى التوجيهي،
هذا متعمد، لكنه ضاعف إحساس البرودة بالفيلم. فتعمد
الخيارات السيئة لا يجعلها جيدة، لذلك لا يبهرني تمكن المخرج من أدواته،
بقدر اهتمامي بحصيلة ما يفعله بتلك الأدوات.
في فيلم ريش لا يتحاور الممثلون بنبرة واقعية مصرية ولا
بنبرة سينمائية أو مسرحية،
بل يبدو كلامهم تسميع لنص أجوف يحفظونه، وما صدقوا أن
تخلصوا منه،
أعتقد أنه الفيلم المصري الوحيد الذي أجبرني على قراءة
الترجمة لأفهم ما يقال بلغتي الأم ولأسباب أخرى غير اللهجة!
لكن، أعود وألتمس العذر لمخرج الفيلم، فهو لم يتوقع أن
يشاهد الناس فيلمه.
ناقد فني |