ملفات خاصة

 
 
 

"ريش".. فيلم يخرج عن النمطية السائدة في السينما المصرية

طاهر علوان

عن فيلم «ريش»..

لـ «عمر الزهيري»

   
 
 
 
 
 
 

هو ليس معجزة سينمائية ولا عملا خارقا لكنه أجاد التقشف والتمرد.

تراكمت عبر التاريخ الطويل للسينما أساليب وتجارب بذلت فيها أجيال من السينمائيين جهودا ملحوظة لتأسيس مسار مختلف، مسار قادر على التأثير وعلى البقاء محافظا على ذلك التأثير بمرور الزمن. ولكن ليس من السهولة تقبل أي تمرد لتأسيس جماليات أو أفكار سينمائية جديدة، وما تعرض له أخيرا الفيلم المصري “ريش” خير دليل على ذلك.

صار اتخاذ مسار جديد ومختلف في مجال التجارب السينمائية من المهمات الصعبة والمعقدة التي تتطلب المزيد من الحفريات والجهود المضنية في ذلك التراكم الهائل للتجارب السينمائية، فضلا عن المزيد من التجريب والبحث عن أسلوب مختلف ذي بصمة مميزة.

وفي وسط هذا كله يحضر النقاش حول فيلم “ريش” للمخرج المصري الشاب عمر الزهيري، الذي صار حديث السينمائيين ووسائل الإعلام وسائر الجمهور العريض، وسط العديد من علامات الاستفهام بسبب وجود نقيضين واجههما تسويق الفيلم إلى الجمهور وهما حصوله على أرفع الجوائز وأهمها جائزة أسبوع النقاد، وهي جائزة رفيعة من مهرجان كان، وجائزة رابطة النقاد وجائزة أخرى من مجلة فيرايتي، أما المقابل لهذا النجاح والنقيض له فهو بخس قيمة هذا الفيلم وإلقاء أشكال شتى من الاتهامات من طرف ممثلين وسينمائيين بالدرجة الأولى.

الرفض أو القبول

هذا المشهد ترك وراءه بلبلة في قبول هذا الفيلم أو رفضه، لكن في المقابل، تبدو مسألة القبول أو الرفض وعدم وجود بديل عنهما بمثابة خيارين شديدي التطرف والمبالغة فمن حق أي عمل فني أن ينال نصيبه من التواجد في الميدان، ومن حق أي سينمائي أن يطرح تجربته بالشكل الذي يراه مناسبا ويعبر عن أفكاره ورؤيته.

ميزة الفيلم أنه خرج عن إطار المسطرة المعتادة لمتذوقي السينما المصرية ومتابعيها وجمهورها والعاملين المخضرمين فيها

أما في حالة فيلم “ريش” فإن هنالك العديد من السينمائيين والممثلين يريدون من الفيلم أن يلبي طلباتهم ويسقط أفكارهم ويستجيب إلى النمطية الفيلمية التي اعتادوا عليها، أما كسرها أو التمرد عليها فهو غير مقبول بالمرة في نظرهم، وذلك ما حصل بصدد مقاطعة هذا الفيلم من قبل عدد من السينمائيين والممثلين، الذين وصل بهم الأمر إلى مغادرة قاعة العرض والهجوم على الفيلم، وصولا إلى اتهامه بتشويه الواقع والإساءة لسمعة البلد.

في المقابل هنالك شبه تكتل مجتمع بعض الممثلات – النجمات (في السينما المصرية) اللائي لم يستطعن هضم فكرة أن تقوم بالدور الرئيسي في فيلم يعرض في كان، ويلاقي كل هذا الاهتمام، مجرد امرأة بسيطة لم يسبق لها قط الوقوف أمام الكاميرا.

واقعيا، ومن جهة أخرى لا يمكن أن يعد هذا الفيلم معجزة سينمائية ولا هو عمل خارق في حد ذاته، بل إن ميزته أنه خرج عن إطار المسطرة المعتادة لمتذوقي ومتابعي وجمهور وعاملين مخضرمين في السينما المصرية.

 إنه ببساطة خرج عن نمطية الفيلم المصري وذهب بعيدا باتجاه تجارب أخرى كنا قد شاهدناها خاصة في أفلام من أميركا اللاتينية وحتى من خلال الصور والبناء السردي في روايات غابريل غارسيا ماركيز وفي أفلام الواقعية الروسية، إنه نوع من السينما التي لا تريد ولا تهدف إلى تجميل الواقع بل عرضه كما هو بقبحه وهشاشته وفوضاه وتبعثره وكل ما فيه من علل وخبايا.

بيئة غريبة منسية

سوف نبدأ مع هذا الفيلم مع مشاهد تقدم يوميات عائلة ينهشها الفقر مكونة من الزوجين وثلاثة أولاد صغار، أصغرهم رضيع وأكبرهم في بدايات مدرسته الابتدائية، وهؤلاء يعيشون حياتهم المعتادة في فقر مدقع، هنا وعلى الرغم من كل مظاهر الفقر إلا أن المخرج كان يترك الكاميرا تعيش مع الشخصيات برتابة وتبقى ساكنة وهي ترصد سكونهم وحواراتهم المتقشفة وخاصة الزوجة (الممثلة دميانة نصار) التي كرست شخصية المرأة والأم الصامتة التي تتعامل مع الواقع بالمزيد من التسليم واللاجدوى.

ها هي الأسرة البسيطة والجيران والأصحاب يجتمعون لغرض الاحتفال بعيد ميلاد أحد الأطفال الثلاثة، ويحضر ذلك الحفل البسيط ساحر ومساعد له على سبيل الطرافة والاستمتاع ومن بين الألعاب المضحكة التي يقوم بها الساحر أنه يجرب أن يضع الأب (الممثل سامي بسيوني) في الصندوق على سبيل الدعابة والألعاب السحرية وبعد إغلاق الصندوق ثم إعادة فتحه يكون الرجل قد اختفى إلى الأبد، أو هو قد تم مسخه إلى دجاجة، ويختفي مع هذا التحول أثر الساحر هو الآخر.

هذا التحوّل في حبكة الفيلم هو الذي بنيت عليه الأحداث التالية، فالمرأة الوحيدة التي تعيل الأطفال الثلاثة لا تقوى على تلبية تلك الاحتياجات اليومية، فضلا عن عجزها عن فهم ما جرى لزوجها، وها هي تقف أمام مسؤول الشرطة عاجزة عن إعطاء بيانات تتعلق بزوجها أو بالساحر، كما أنها عاجزة عن إثبات موت زوجها لغرض أن تنال عنه مبلغا من المال بمثابة راتب تقاعدي، كما أنها عاجزة عن إثبات أنه حي سوى تشبثها بتلك الدجاجة ورعايتها لها عسى أن يعود زوجها ويخرج من ذلك الانمساخ.

في تلك البيئة المتداعية يصبح وجود الزوجة عبثيا بالكامل، هنالك قتامة في ما حولها وثقل معنوي هائل يجعل متابعة تلك اليوميات الثقيلة عملا متعبا، ذلك أن الفيلم تم تحميله بتلك الطاقة التعبيرية الكبيرة التي تجثم على شخصيات هائمة في بيئة ترابية، فالشوارع ترابية يتطاير منها الغبار والبيوت بائسة وعتيقة والأثاث وكل شيء بالغ الرثاثة والتآكل وحتى الشخصيات بدا واضحا كيف ينهش بها الزمن ويلتهم سعادتها ويهمش وجودها تلك هي الحياة المغلقة القاتمة التي يعنى بتقديمها هذا الفيلم.

ما بين الغبار شبه الدائم وما يشبه الضباب تعيش تلك البيئة المنسية لتلك الشخصيات المحدودة التي تبدو وكأنها جغرافيا ومكانيا شبه مقطوعة عن العالم الخارجي، وتلك إشكالية إضافية تتعلق بالشكل والعناصر البنائية للمكان الذي تعيش الشخصيات في كنفه، إنها في كل الأحوال مجرد هياكل متداعية لا تعني شيئا ولا تعبر عن انتماء الشخصيات، بقدر ما هي قوقعة يتشبث بها الجميع ويمضون فيها أيامهم.

الفيلم تم تحميله بطاقة تعبيرية كبيرة تجثم على شخصيات مقهورة وسطحية هائمة في بيئة ترابية متداعية

هنالك مصنع لا نعلم ما الذي يصنعه بالضبط، وهنالك موظفون وإداريون تتناثر من حولهم أوراق متآكلة، وهنالك حوارات ثقيلة الوطء من قبيل أن ذلك المصنع لا يتيح توظيف دميانة أو غيرها، أي أنه مصنع ذكوري بالمطلق، ووسط هذا كله ليس هنالك سوى كتل حجرية ضخمة وما يشبه المدخنة تبدو في عمق المكان، وما عدى ذلك فسوف تظهر الشخصية الرئيسية (دميانة) متضائلة في كل مرة سواء عند ذهابها لمركز الشرطة أو خروجها منه أو عند هروبها من صديق زوجها المتحرش وغيرها من المشاهد.

يبدو المكان محيطا بالشخصيات وكأنه هو قدرها المطبق الذي لا خروج منه فلا حديث عن مدينة أو مدن مجاورة ولا عن حياة موازية فيها شيء من التطور والرفاهية وكأنه كوكب معزول أو جزيرة منسية مكتفية بذاتها، وكل هؤلاء الذين جلبهم المخرج غير آبه بوسامة أي أحد ولا بإظهار أي جمالية ترتبط بشخصياته، فهم كائنات أنتجتها بيئة الفقر وتركت بصماتها عليهم ليس أكثر، ولهذا حرص المخرج على تقديم شخصيات مطحونة ومتهالكة ومحدودة الاهتمامات، ولاحظ طبيعة شخصية صديق الزوج (الممثل محمد عبدالهادي) وهو يقود سيارته القديمة، ولكن المنطلقة دائما بسرعة كبيرة مخلفة وراءها دوما عاصفة من الغبار.

وهكذا يتوازى عالمان بالنسبة إلى دميانة وهما عالمها العائلي البسيط الذي صارت الدجاجة التي هي زوجها الممسوخ جزءا منه، وعلى الرغم من رثاثته وتهشمه إلا أنها ملاحقة من جهة دائرة الإسكان بالعقاب وربما بالإخلاء ما لم تسدد الأقساط الشهرية المتراكمة، فإلى أين المفر؟

إنها عاجزة عن التشبث بالشرطة لمساعدتها في إيجاد زوجها وعاجزة عن إقناع القائمين على المصنع بمساعدتها وعاجزة عن مجاراة صديق الزوج نزوته ثم ها هو العالم الذكوري الكامل والمطلق يتجسد أمامها في المقهى الذي لا تكترث فيه الشخصيات بما حولها ولا حتى بوجود دميانة وإنما هو هكذا وجود ذكوري مشغول بكل ما هو هامشي ومنسي.

في المقابل هنالك الهامش الأكثر ثراء، حيث تقرر دميانة أن تعمل في خدمة أحد المنازل، ثم ما تلبث أن تتعرض للطرد أو التسليم للشرطة لأنها أقدمت على سرقة بضعة قطع من اللحم النيء لتطهوه لأولادها وبضع حبات من الحلوى أيضا تختزنها لهم، ولكن ها هي دميانة مطرودة وبلا جدوى.

لقد كان ذلك الهامش المترف هو الهامش الوحيد في هذا الفيلم على وجود عالم مجاور يضم أولئك المتبطرين، ولهذا سوف تجد نفسها خاضعة لوطأة ذلك العالم وحتى وهي تؤدي عملها اليومي بتنظيف المنزل ها هي تمسح الأرض زاحفة على ركبتيها لكي تقوم بالعمل المطلوب على أكمل وجه.

لا تنتظر من هذا الفيلم مثلا أن يحرص على تقديم كادر – إطار صورة متوازن ومثالي فهو لا يكترث كثيرا لذلك، ولهذا يتم اقتطاع ما تصوره الكاميرا اقتطاعا حادا، فقد يتوازن الكادراج أو ينحرف أو يتم التصوير من زاوية غير ثابتة، كما في لقطات المركز البيطري أو في منزل الأثرياء أو عند الدخول إلى إدارة المصنع أو غيرها من المشاهد، ولم الحرص على الكادر المتوازن بصريا وقد تشوه كل شيء من حول الشخصيات وهي تعيش منسية في هامش منسي، ولربما هو في بعض الأحيان منظور جمعي عن ذلك الواقع الخرب الذي سوف ينعكس على كل ما حول الشخصية من جغرافيا مكانية.

السينما الفقيرة

ومن جهة أخرى إذا مضينا مع إشكالية حركة الكاميرا والصورة فهنالك كادراج متكرر أن تسمع حوار الشخصيات فيما الصورة تشمل جزئية صغيرة ومحدودة من المشهد، فالحوار في مركز الشرطة مثلا تقابله صورة ورقة البلاغ الفارغة والقلم، والحوار مع المرأة الثرية صاحبة المكان لا يظهر سوى كعبها العالي، والحوار حول شروط العمل في المنازل يقابله ظهور عمليات فحص المرأة وإخراج لسانها وفحص عينيها، والحوار عند البحث عن الساحر تقابله صورة عبر الزجاجة الأمامية للسيارة وقرد يزحف عليها فيما الشخصيات في عمق الصورة يتحدثون عن غياب الساحر.

هذه أمثلة من الكثير من تلك الاستخدامات التي تبدو للوهلة الأولى معوجة وغير فنية ومنفرة لما اعتادت العين مشاهدته، ذلك أن المخرج في واحدة من مشكلات هذا الفيلم ونواقصه أنه أغلق تماما الطريق على إظهار أي بعد جمالي تنتظم فيه الأشياء أو عنصر المكان ولو كان فقيرا جدا، كما أن مصادرة دميانة بشكل شبه كامل وعدم وجود هاجس ذاتي وتسطيحها هي علامة أخرى على الإسراف في تقديم شخصية مقهورة في عالم سوداوي.

ومن جهة أخرى ظهرت مشاهد في الفيلم بدا فيها أن الموسيقى لا علاقة لها بأجواء المشهد والعلاقة بين الشخصيات، ومن ذلك التصعيد بصوت الغيتار في عدة مشاهد بشكل مبالغ فيه ولا مبرر له، وفي المقابل بدت المشاهد الصامتة مع تلك الصور القاتمة والسوداوية أكثر تعبيرا عن موضوع الفيلم.

يحاكي هذا الفيلم في مجمله تجارب السينما المستقلة والسينما الفقيرة والمتقشفة، لكنه لا ينتمي إليها وواحدة من ميزاته أنه لفت الأنظار وذكّر بوجود تلك التجارب السينمائية الخاصة، بينما هو فيلم سهرت على توفير متطلباته الإنتاجية شركات عدة أجنبية ومصرية، فهو يوحي بأنه خارج ومتمرد على نظام الاستديو، لكنه في الوقت ذاته منخرط في دوامة الاستثمار في الفيلم والتمويل والريع للمنتجين وما إلى ذلك، بينما يمكن إنجاز الفيلم بإمكانات ومتطلبات إنتاجية أقل خاصة أن أغلب مشاهد الفيلم قد تم تصويرها في أماكن حقيقية.

كاتب عراقي مقيم في لندن

 

العرب اللندنية في

31.10.2021

 
 
 
 
 

مبدعو الظلال: على هامش الفيلم المصري «ريش»

رامي أبو شهاب

طرح رولان بارت سؤالاً عن ماهية الطبيعي، أو ما هو الطبيعي؟ وكيف يمكن أن نحدده، وتبعاً لأي محكّات؟ هل يمكن أن نراه تجسيداً للمنطق، أم تلك الحدود التي ينتجها عقلنا من حيث المطابقة مع معيارية ما؟ أم هو تلك الأطر أو الخطابات التي ينتجها المجتمع لتمسي الحقيقة أو الشيء الطبيعي؟

لا تشكل تلك الأسئلة سوى هامش نطرحه على ما اتصل بالفيلم المصري «ريش» الذي نال جائزة النقاد في مهرجان كان السينمائي، بوصفه أول فيلم مصري ينال هذه الجائزة، على الرغم من امتداد تاريخ السينما المصرية بنجومها، وأعمالها، غير أن العامل الوحيد الذي كان الأكثر تأثيراً، مدى توفر الموهبة الحقيقية، بعيداً عن أنماط هندسة الذكاء الاجتماعي، والنخبوية الزائفة، وهنا نتساءل عن وعي الإبداع، ومقولة النجم والمخرج، وسينما المؤسسة والمال التي تهاوت أمام فيلم خرج من بين الظلال، ليعري واقع الفنون، بل يكشف زيف الفهم لنجوم ومخرجين لم يدركوا ماهية الفيلم وأبعاده، لكن الأهم أن تنتهي الأكذوبة القائمة على تحديد من المبدع، الذي يعدّ جزءاً من الطبيعي. لقد تعرض بعض ممثلي الفيلم إلى إساءات عنصرية، لكونهم من خارج إطار النجومية الزائفة، أو المصطنعة التي أنتجتها المؤسسة، أو أوصياء الفنون، أو لكونهم ليسوا من طبقة النجوم.

لقد بات الفيلم مثار جدل، كونه عمل على مناقشة المسكوت عنه، في ما يتعلق بعوالم المهمشين والمقموعين، لكن الأهم أن كل هذا جاء ضمن مزاج إخراجي وأدائي مغاير، أو كما وصفه أحد النقاد الفيلم بأنه فيلم ذكي؛ أي أنه مفارق للنسق التقليدي، أو التجاري الفارغ من أي أبعاد كما هو سائد في السينما العربية، مع بعض الاستثناءات القليلة. ربما لا تبدو هذه السياقات سوى جزء من مشكلة أكبر، ونعني التساؤل عما هو طبيعي في هذه الصورة، وهنا يكمن السر، فهل استطاع هذا الفيلم أن يخدش كبرياء ما هو طبيعي؟ هكذا يمكن أن نرى في نتاج ممثلين مغمورين، أتوا من واقع بلا مرجعيات سينمائية، فكان الأداء لتجسيد حيوات مهمشة من قبل ممثلين انبثقوا من الظلال، ولطالما كانت العقول أو المواهب الأكثر حقيقية متوارية في الظلال.

في هذا السياق نستدعي الفيلسوف كانط، الذي يعدّ أعظم عقل فلسفي، غير أنه كان يعمل في الجامعة بمعدل (21) ساعة تدريس أسبوعياً، وينال أجره من الطلاب، حسب أعداد الملتحقين بدروسه، بعد سنوات طويلة خصصت الجامعة له راتباً شهرياً، بعد الإدراك المتأخر لماهية الرجل، في حين أن الفيلسوف الألماني هيغل تجاوز الأربعين قبل أن يصبح أستاذاً جامعياً، وكان قبل ذلك مدرساً خصوصياً، ومديراً لمدرسة ثانوية، في حين أن نيتشه نال اعترافا من مدرسيه، فأعفي من الاختبار لتقوم الجامعة بتعيينه أستاذاً، أما رولان بارت فبقي على هامش المؤسسة لسنوات طويلة، قبل أن يعين قبل وفاته بسنوات قليلة في الكوليج دي فرانس، إحدى أعرق المؤسسات الأكاديمية في فرنسا، ليموت بعد ذلك في حادث دهس، وهناك الكثير من الحيوات التي بدت فاقدة للحضور، لكنها لم تفقد الأثر. هكذا تبدو معضلة العقل البشري، حين يتهاوى خلف المظاهر، وخلف أقنعة المجتمعات التي لا تدرك حقيقة القيمة.

لا تبدو الصورة سوى جزء من مشهد كبير لاندحار العقل، حيث تنتج المجتمعات والمؤسسات نماذجها التي تبقي على التحييد الحقيقي للإبداع، كيف لا يتحقق ذلك حين نرى بعض السينمائيين ينسحبون من مشاهدة فيلم «ريش» كونه مسيئاً للوطن، وهنا نتساءل عن ماهية الفن ما لم يتمكن من تعرية الواقع، كيف يمكن أن يصاب الطبيعي بالعمى، وأن نحارب من يتمكن من نقد الواقع عبر عمل فني موهوب، وما جدوى الإبداع، ما لم يمتلك الجرأة على أن يشتبك مع الإشكاليات الأكثر تشوهاً في حياتنا.

لا تبدو الصورة سوى جزء من مشهد كبير لاندحار العقل، حيث تنتج المجتمعات والمؤسسات نماذجها التي تبقي على التحييد الحقيقي للإبداع، كيف لا يتحقق ذلك حين نرى بعض السينمائيين ينسحبون من مشاهدة فيلم «ريش» كونه مسيئاً للوطن.

إن أعمال المبدعين، وكل ما يتصل بالفكر والثقافة لطالما كان جزءاً من عملية مقاومة الانحراف التاريخي الذي طبع المؤسسة أو السلطة على مدار قرون، لكن تكمن المشكلة حين تتمكن المؤسسة من اختراق هذه الكيانات، فلا جرم ألا نتقدم في شتى المجلات، لأن المبدعين الحقيقيين يتوارون خلف الظلال، مقابل من تصنعهم المؤسسة ليكونوا ضمن مشهدية الظاهر. ما حصل مع فيلم «ريش» يماثل مع حصل مع الفيلم الأردني «ذيب» الذي نهض به ممثلون بدوا أكثر قدرة على تجسيد عوالمهم، وهنا تنبثق إشكالية عميقة جداً، هل ما ننتجه فعلاً يتعالق بنا، أو بمشاكلنا؟ أم أننا لا نرغب في أن نقرأ أو نشاهد ما يحدد ماهيتنا، أو يشير إلى ذلك الاعوجاج الحاصل في تكويننا المعرفي. ليس ثمة مشكلة سوى إن قيود الواقع أكبر مما يحتملها الفرد، لكنه قادر على أن يمارس ذلك القفز في غمرة النسيان، أو في ظل ذلك التقليل من الذات لتبرز، أو تتجاوز معنى هذه الظلال التي تحيط بك. فالمعنى أن تسرق التاريخ ممن يزيفون التاريخ، أو أن تخط مروية موازية في الفائض من الزمن، لا يمكن أن ننكر بأن الطبيعي، كما يرى رولان بارت ليس سوى تكوينات اجتماعية ثقافية، ليس لها معنى إلا في سياق المجتمع عينه الذي نعيش فيه؛ ولهذا يمكن أن نرى أن الطبيعي في مجتمعنا ليس سوى ظاهرة يتوافق عليها المجتمع، وبذلك يتحدد المعنى الزائف، وهنا تبدو الإحالات المفاجئة لعوالمنا الطبيعية بأنها هزة أو رضة عميقة تصيب كبرياء الطبيعي الذي اعتدنا عليه، أو ذاك الذي يمنحنا الآخرون صيغته الأخيرة، وعلينا أن نقتنع به على الرغم من تهافته فنياً، ومضمونياً.

تكمن مشكلة الطبيعي في المجتمعات عبر تحديد ما يتلاءم مع هذا الاعوجاج؛ ولهذا نرى أن الكتابة على سبيل المثال، باتت نمطاً مستعاداً، فكيف يمكن لنتاجات تتضخم كل يوم لتمسي نوعاً من المرض على مستوى الإبداع، بلا معنى حقيقي، لقد باتت الكتابة والفنون والآداب، جزءاً من مشهد طبيعي للرداءة، لكن تكمن مشكلة النقد حين يعلق بمحدودية عدم القدرة على التواصل مع النص، والأهم أنه يتجنب الاشتباك مع الأفكار، ويعلق بالشكلية التي لا تحتاج للكثير من البحث كونها ظاهرة للعيان، فلا جرم أن تشجع المؤسسات هذا الاتجاه. إن مجتمعاتنا مسكونة بحراس الذاكرة، أو حراس القيم البائدة التي تمجد الذات السلطوية، كما التمترس خلف قناعات زائفة، ولا يمكن أن نتجاوز هذا الاهتراء الثقافي والفني ما لم نبحث عن حقائق الأشياء، وأن نسعى لها، وفي هذا السياق نستعيد أسماء منها: بيل غيتس وستيف جوبز كونهما من خارج الطبيعي، بل إن ستيف جوبز قد بدأ إبداعه من دورة تدريبية صغيرة في فن الخط، لتلهمه الكثير من إبداعاته التي كانت كافية لأن تغير وجه التاريخ ، في حين إنه لم يجد ذلك الإلهام في الجامعات الأمريكية، في حين اكتفى بيل غيتس بكراج منزله كي يضع الإنسان على مسار أكبر ثورة تكنولوجية، وهناك الكثير من العقول التي قبعت في الظلال قبل أن تستعيد مكانتها، ومنهم العالم آلان تورنغ، وفرانز كافكا، والتوحيدي، وغيرهم الكثير ممن حجبهم المعنى المجتمعي لما هو طبيعي.

يبدو التسويق خطاباً حاضراً، غير أنه لا يستجلب سوى مشهد من مشاهد التكوين الهوسي بالذات، تبعاً للمعضلة التي روجتها الرأسمالية التي ترى أن التسويق جزء من النجاح – الذي إن تحقق مؤقتاً – فإنه لن يكون حقيقياً، وسيتلاشى سريعاً، فالإبداع فعل عصي ما لم يكن نتاج أزمة… وتوتر دائم.. لقد أمسى الإبداع إحالات زائفة، أو جزءاً من الذاتية المفرطة في كينونة الصراع للبحث عن موقعك في هذا الفيض الفارغ، ولا يمكن أن ننكر أن جزءاً من معضلة تراجع حقيقة الأشياء أداتية مواقع التواصل الاجتماعي التي أسهمت في هذا النهج.

كاتب أردني فلسطيني

 

القدس العربي اللندنية في

31.10.2021

 
 
 
 
 

ريش . . . فيلم واقعي مُطعّم بنَفَس تغريبي قائم على المفارقة والكوميديا السوداء

الجونة: عدنان حسين أحمد

أثار فيلم "ريش" للمخرج المصري عمر الزهيري جدلاً واسعًا لم تنتهِ تداعياته حتى الآن، ولعلّ السبب الأبرز لهذه الإثارة و "اللغط" هو وصف البعض من النقاد والصحفيين بأنّ الفيلم "يسيء إلى سمعة مصر" لأنّ المخرج ركّز على السكن العشوائي، والأماكن الكئيبة الموحشة بما فيها المصانع المنتصبة في بيئة ترابية لا تسرُّ الناظرين.

لقد تعمّد الزهيري منذ اللقطة الافتتاحية للفيلم أن يربك المُشاهد أو يمتحنه، ويختبر قوة حدسه حينما وضعه أمام مشهد شخص يحترق وتندلع فيه ألسنة النيران، فهل أُحرق هذا الشخص من قبل آخرين أم أنه أحرق نفسه؟ وفي كلا الحالتين، ما المبرر لحرقِه أو لإحراق نفسه؟ مع أنّ المشهد يُحيلنا بقوة وبسرعة خاطفة لمشهد بوعزيزي الذي حرق نفسه على قارعة الطريق احتجاجًا على السلطة التي قطعت رزقه.

ينتمي الفيلم بقدر كبير إلى الواقعية الفظة التي تستفز البعض من قصيري النظر الذين يقرّون بوجودها سرًا، ويرفضون الاعتراف بها علنًا، لكن الفيلم لا يخلو من النَفَس الفنتازي، وبدرجة أقل من العبث والتغريب، وهذا ما منح الفيلم مسحة تجريبية حداثية. وعلى الرغم من خطورة هذا التلاقح الواقعي الفنتازي الذي قد يخرج من ذهنية غير مدرّبة فيسحب صاحبه إلى خانة الفشل الذريع لكن المخرج عمر الزهيري بمعية أحمد عامر الذي اشترك معه في كتابة السيناريو قد أقنعا المتلقين بهذه العجائبية التي تحوّل فيها الأب إلى دجاجة على يد ساحر نصّاب لم يُتقن مهنته جيدًا.

ما يُحسب لهذا الفيلم أيضًا، تأليفًا وإخراجًا، هو لغته العبثية القائمة على المفارقة والكوميديا السوداء. فالأب الذي بدا مستبدًا ويفرض سيطرته الكاملة على الأسرة، وخاصة زوجته التي لم نعرف لها اسمًا كما هو حال بقية الشخصيات المجرّدة من الأسماء. فاللغة في هذا الفيلم ليست وسيلة اتصال وإنما وسيلة انفصال، وحوار الأب مع ابنه هو مجرد تجليات حلمية، وسباحة في الخيال والأوهام التي يصنعها هذا الأب كي يمسك زمام السيطرة على هذه العائلة التي ينخرها الفقر والجوع والحرمان. فهو لم يسدّد إيجار هذه الشقة المتداعية لمدة ثلاثة أشهر، ورغم ذلك فهو يعد ابنه الأكبر بشراء ڨيلا فيها حوض سباحة كبير، ويشتري له طاولة بلياردو كي يلعب فيها مع أخيه الأصغر.

ينتصر فيلم "ريش" إلى الصورة ويتفادى الحوار ولغته الأدبية التي قد تأخذ الفيلم إلى ما لا يُحمد عقباه. فالحوار المتقشف هو الذي فسح مجالاً واسعًا للصورة التي أخذت على عاتقها كل شيء، ولهذا السبب كانت نسبة السينما، إن صحّ التعبير، عالية في هذا الفيلم الدرامي الطويل الذي بلغت مدته 112 دقيقة لكنه مرّ مرورًا سلسًا ولم نشعر، كمشاهدين، بالتذمر والاستياء ذلك لأن قصته السينمائية تنطوي على عناصر التشويق والشدّ والإثارة، خاصة وأنّ الثيمة برمتها تتمحور حول امرأة، هي رمز لشريحة واسعة من النساء، تبدو منصاعة لأوامر زوجها جملة وتفصيلا، بل أنها لا تنبس بحرف واحد إلاّ ما ندر ردًا على أوامره وطلباته الكثيرة. فهو الذي يحدد نوع الطعام والشراب الذي تأكله الأسرة، ويخطط للمناسابات القادمة وأولها مناسبة عيد ميلاد ابنه الأكبر، وتزيين الشقة بالبالونات، ونافورة الماء، واستقدام الساحر الذي سيحوله إلى دجاجة ويفشل في إعادته إلى جبّلته البشرية الأولى. الأمر الذي يتيح لزوجته أن تتحرر من هيمنة الزوج وأن تكتشف نفسها من جديد حيث طلبت أن تشتغل في المعمل بدلاً من زوجها الذي يعدُ غائبًا الآن، فهو لم يمت، وليس هناك شهادة وفاة تثبت موته. وبما أن المعمل لا يقبل بتشغيل النساء فقد كان عليها أن تبحث عن العمل في مكان آخر. ونظرًا لإلحاحها فقد وافق المسؤول على تعيين ابنه الأكبر لتسديد الديون المترتبة على الأب الغائب. فثيمة الفيلم في جانب منها تدين عمالة الأطفال وتشغيلهم في هذا السن المبكرة التي ينبغي أن يكونوا فيها على مقاعد الدراسة.

تجد الأم عملاً في مجزرة لتقطيع اللحوم، وتتحسن أوضاعها المادية شيئًا فشيئًا لكنها ترتكب خطًا جسيمًا حينما تسرق كمية صغيرة من اللحم فيتم طردها من العمل نهائيًا، لكنها سوف تجد عملاً بديلاً يدر عليها ما يسد رمق العائلة.

لم تنجُ الزوجة من ملاحقة صديق زوجها ومسؤوله في العمل، فهو الذي يحضر حفلة عيد الميلاد، ويقدم هديته المادية، ويغادر على وجه السرعة لكنه ما إن يتحول الزوج إلى دجاجة حتى يطل برأسه كعاشق قديم لزوجة صديقه التي أباح لها بأنه "يحبها من زمان"، وأنّ وجوده في حياتها سيعوّضها غياب الزوج. وحينما تلكأت في دفع إيجار الشقة، وصادروا أجهزتها الكهربائية القديمة كالسخّان والتلفزيون والثلاجة أعاد لها التلفزيون الذي يتابع فيه الأطفال برامجهم المفضلة. وحينما أصرّ على لعب دور العاشق والمُحب القديم زجرته، وحرّضت الآخرين على ضربه بطريقة مبرحة لكنه ظل يلاحقها مطالبًا إياها باسترداد الأموال التي أنفقها.

لم تفضِ محاولاتها الكثيرة للعثور على الساحر النصاب الذي توارى عن الأنظار، وكان عليها أن تجلب شهادة الوفاة من الجهات الصحية فتبين أن الأب حي يرزق وهو يعيش الآن مع المشردين، فتجلبه إلى الشقة ثانية ليصبح عبئًا جديدًا عليها، فتقرر في لحظة غامضة من الزمن أن تخنقه بيديها، وتضع حدًا لهذا الأب البطرياركي المستبد، وتثبت لنفسها، ولأفراد أسرتها، وللناس المحيطين بها أنها قادرة على تأمين هاجس العيش لها ولأطفالها الثلاثة لتضع حدًا لحياة التبعية والخنوع.

لم يشترك غالبية الممثلين في أدوار فنية سابقة ومع ذلك فقد جسدوا أدوارهم بطريقة مستوفية للشروط الفنية، ولعلها تتطابق مع النفس الواقعي الذي لمسناه في الفيلم من دون أن ننسى فنتازية القصة، وعبثية الحوار الذي يحيلنا الى المنحى الذي اتبعه المخرج السويدي روي أندرسون والمخرج الفرنسي جاك تاتي كما يذهب الناقد السينمائي محمد طارق، ولولا هذه المفارقة الفنتازية، واللغة العبثية، والغموض المستحب الذي خلقه المخرج لما حظي فيلم "ريش" بهذه المنزلة التي أهّلته للفوز بالعديد من الجوائز وآخرها جائزة أفضل فيلم روائي طويل في الدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي.

 

العالم العراقية في

31.10.2021

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004