هو ليس معجزة سينمائية ولا عملا خارقا لكنه أجاد التقشف
والتمرد.
تراكمت عبر التاريخ الطويل للسينما أساليب وتجارب بذلت فيها
أجيال من السينمائيين جهودا ملحوظة لتأسيس مسار مختلف، مسار قادر على
التأثير وعلى البقاء محافظا على ذلك التأثير بمرور الزمن. ولكن ليس من
السهولة تقبل أي تمرد لتأسيس جماليات أو أفكار سينمائية جديدة، وما تعرض له
أخيرا الفيلم المصري “ريش” خير دليل على ذلك.
صار اتخاذ مسار جديد ومختلف في مجال التجارب السينمائية من
المهمات الصعبة والمعقدة التي تتطلب المزيد من الحفريات والجهود المضنية في
ذلك التراكم الهائل للتجارب السينمائية، فضلا عن المزيد من التجريب والبحث
عن أسلوب مختلف ذي بصمة مميزة.
وفي وسط هذا كله يحضر النقاش حول فيلم “ريش” للمخرج المصري
الشاب عمر الزهيري، الذي صار حديث السينمائيين ووسائل الإعلام وسائر
الجمهور العريض، وسط العديد من علامات الاستفهام بسبب وجود نقيضين واجههما
تسويق الفيلم إلى الجمهور وهما حصوله على أرفع الجوائز وأهمها جائزة أسبوع
النقاد، وهي جائزة رفيعة من مهرجان كان، وجائزة رابطة النقاد وجائزة أخرى
من مجلة فيرايتي، أما المقابل لهذا النجاح والنقيض له فهو بخس قيمة هذا
الفيلم وإلقاء أشكال شتى من الاتهامات من طرف ممثلين وسينمائيين بالدرجة
الأولى.
الرفض أو القبول
هذا المشهد ترك وراءه بلبلة في قبول هذا الفيلم أو رفضه،
لكن في المقابل، تبدو مسألة القبول أو الرفض وعدم وجود بديل عنهما بمثابة
خيارين شديدي التطرف والمبالغة فمن حق أي عمل فني أن ينال نصيبه من التواجد
في الميدان، ومن حق أي سينمائي أن يطرح تجربته بالشكل الذي يراه مناسبا
ويعبر عن أفكاره ورؤيته.
ميزة الفيلم أنه خرج عن إطار المسطرة المعتادة لمتذوقي
السينما المصرية ومتابعيها وجمهورها والعاملين المخضرمين فيها
أما في حالة فيلم “ريش” فإن هنالك العديد من السينمائيين
والممثلين يريدون من الفيلم أن يلبي طلباتهم ويسقط أفكارهم ويستجيب إلى
النمطية الفيلمية التي اعتادوا عليها، أما كسرها أو التمرد عليها فهو غير
مقبول بالمرة في نظرهم، وذلك ما حصل بصدد مقاطعة هذا الفيلم من قبل عدد من
السينمائيين والممثلين، الذين وصل بهم الأمر إلى مغادرة قاعة العرض والهجوم
على الفيلم، وصولا إلى اتهامه بتشويه الواقع والإساءة لسمعة البلد.
في المقابل هنالك شبه تكتل مجتمع بعض الممثلات – النجمات
(في السينما المصرية) اللائي لم يستطعن هضم فكرة أن تقوم بالدور الرئيسي في
فيلم يعرض في كان، ويلاقي كل هذا الاهتمام، مجرد امرأة بسيطة لم يسبق لها
قط الوقوف أمام الكاميرا.
واقعيا، ومن جهة أخرى لا يمكن أن يعد هذا الفيلم معجزة
سينمائية ولا هو عمل خارق في حد ذاته، بل إن ميزته أنه خرج عن إطار المسطرة
المعتادة لمتذوقي ومتابعي وجمهور وعاملين مخضرمين في السينما المصرية.
إنه
ببساطة خرج عن نمطية الفيلم المصري وذهب بعيدا باتجاه تجارب أخرى كنا قد
شاهدناها خاصة في أفلام من أميركا اللاتينية وحتى من خلال الصور والبناء
السردي في روايات غابريل غارسيا ماركيز وفي أفلام الواقعية الروسية، إنه
نوع من السينما التي لا تريد ولا تهدف إلى تجميل الواقع بل عرضه كما هو
بقبحه وهشاشته وفوضاه وتبعثره وكل ما فيه من علل وخبايا.
بيئة غريبة منسية
سوف نبدأ مع هذا الفيلم مع مشاهد تقدم يوميات عائلة ينهشها
الفقر مكونة من الزوجين وثلاثة أولاد صغار، أصغرهم رضيع وأكبرهم في بدايات
مدرسته الابتدائية، وهؤلاء يعيشون حياتهم المعتادة في فقر مدقع، هنا وعلى
الرغم من كل مظاهر الفقر إلا أن المخرج كان يترك الكاميرا تعيش مع الشخصيات
برتابة وتبقى ساكنة وهي ترصد سكونهم وحواراتهم المتقشفة وخاصة الزوجة
(الممثلة دميانة نصار) التي كرست شخصية المرأة والأم الصامتة التي تتعامل
مع الواقع بالمزيد من التسليم واللاجدوى.
ها هي الأسرة البسيطة والجيران والأصحاب يجتمعون لغرض
الاحتفال بعيد ميلاد أحد الأطفال الثلاثة، ويحضر ذلك الحفل البسيط ساحر
ومساعد له على سبيل الطرافة والاستمتاع ومن بين الألعاب المضحكة التي يقوم
بها الساحر أنه يجرب أن يضع الأب (الممثل سامي بسيوني) في الصندوق على سبيل
الدعابة والألعاب السحرية وبعد إغلاق الصندوق ثم إعادة فتحه يكون الرجل قد
اختفى إلى الأبد، أو هو قد تم مسخه إلى دجاجة، ويختفي مع هذا التحول أثر
الساحر هو الآخر.
هذا التحوّل في حبكة الفيلم هو الذي بنيت عليه الأحداث
التالية، فالمرأة الوحيدة التي تعيل الأطفال الثلاثة لا تقوى على تلبية تلك
الاحتياجات اليومية، فضلا عن عجزها عن فهم ما جرى لزوجها، وها هي تقف أمام
مسؤول الشرطة عاجزة عن إعطاء بيانات تتعلق بزوجها أو بالساحر، كما أنها
عاجزة عن إثبات موت زوجها لغرض أن تنال عنه مبلغا من المال بمثابة راتب
تقاعدي، كما أنها عاجزة عن إثبات أنه حي سوى تشبثها بتلك الدجاجة ورعايتها
لها عسى أن يعود زوجها ويخرج من ذلك الانمساخ.
في تلك البيئة المتداعية يصبح وجود الزوجة عبثيا بالكامل،
هنالك قتامة في ما حولها وثقل معنوي هائل يجعل متابعة تلك اليوميات الثقيلة
عملا متعبا، ذلك أن الفيلم تم تحميله بتلك الطاقة التعبيرية الكبيرة التي
تجثم على شخصيات هائمة في بيئة ترابية، فالشوارع ترابية يتطاير منها الغبار
والبيوت بائسة وعتيقة والأثاث وكل شيء بالغ الرثاثة والتآكل وحتى الشخصيات
بدا واضحا كيف ينهش بها الزمن ويلتهم سعادتها ويهمش وجودها تلك هي الحياة
المغلقة القاتمة التي يعنى بتقديمها هذا الفيلم.
ما بين الغبار شبه الدائم وما يشبه الضباب تعيش تلك البيئة
المنسية لتلك الشخصيات المحدودة التي تبدو وكأنها جغرافيا ومكانيا شبه
مقطوعة عن العالم الخارجي، وتلك إشكالية إضافية تتعلق بالشكل والعناصر
البنائية للمكان الذي تعيش الشخصيات في كنفه، إنها في كل الأحوال مجرد
هياكل متداعية لا تعني شيئا ولا تعبر عن انتماء الشخصيات، بقدر ما هي قوقعة
يتشبث بها الجميع ويمضون فيها أيامهم.
الفيلم تم تحميله بطاقة تعبيرية كبيرة تجثم على شخصيات
مقهورة وسطحية هائمة في بيئة ترابية متداعية
هنالك مصنع لا نعلم ما الذي يصنعه بالضبط، وهنالك موظفون
وإداريون تتناثر من حولهم أوراق متآكلة، وهنالك حوارات ثقيلة الوطء من قبيل
أن ذلك المصنع لا يتيح توظيف دميانة أو غيرها، أي أنه مصنع ذكوري بالمطلق،
ووسط هذا كله ليس هنالك سوى كتل حجرية ضخمة وما يشبه المدخنة تبدو في عمق
المكان، وما عدى ذلك فسوف تظهر الشخصية الرئيسية (دميانة) متضائلة في كل
مرة سواء عند ذهابها لمركز الشرطة أو خروجها منه أو عند هروبها من صديق
زوجها المتحرش وغيرها من المشاهد.
يبدو المكان محيطا بالشخصيات وكأنه هو قدرها المطبق الذي لا
خروج منه فلا حديث عن مدينة أو مدن مجاورة ولا عن حياة موازية فيها شيء من
التطور والرفاهية وكأنه كوكب معزول أو جزيرة منسية مكتفية بذاتها، وكل
هؤلاء الذين جلبهم المخرج غير آبه بوسامة أي أحد ولا بإظهار أي جمالية
ترتبط بشخصياته، فهم كائنات أنتجتها بيئة الفقر وتركت بصماتها عليهم ليس
أكثر، ولهذا حرص المخرج على تقديم شخصيات مطحونة ومتهالكة ومحدودة
الاهتمامات، ولاحظ طبيعة شخصية صديق الزوج (الممثل محمد عبدالهادي) وهو
يقود سيارته القديمة، ولكن المنطلقة دائما بسرعة كبيرة مخلفة وراءها دوما
عاصفة من الغبار.
وهكذا يتوازى عالمان بالنسبة إلى دميانة وهما عالمها
العائلي البسيط الذي صارت الدجاجة التي هي زوجها الممسوخ جزءا منه، وعلى
الرغم من رثاثته وتهشمه إلا أنها ملاحقة من جهة دائرة الإسكان بالعقاب
وربما بالإخلاء ما لم تسدد الأقساط الشهرية المتراكمة، فإلى أين المفر؟
إنها عاجزة عن التشبث بالشرطة لمساعدتها في إيجاد زوجها
وعاجزة عن إقناع القائمين على المصنع بمساعدتها وعاجزة عن مجاراة صديق
الزوج نزوته ثم ها هو العالم الذكوري الكامل والمطلق يتجسد أمامها في
المقهى الذي لا تكترث فيه الشخصيات بما حولها ولا حتى بوجود دميانة وإنما
هو هكذا وجود ذكوري مشغول بكل ما هو هامشي ومنسي.
في المقابل هنالك الهامش الأكثر ثراء، حيث تقرر دميانة أن
تعمل في خدمة أحد المنازل، ثم ما تلبث أن تتعرض للطرد أو التسليم للشرطة
لأنها أقدمت على سرقة بضعة قطع من اللحم النيء لتطهوه لأولادها وبضع حبات
من الحلوى أيضا تختزنها لهم، ولكن ها هي دميانة مطرودة وبلا جدوى.
لقد كان ذلك الهامش المترف هو الهامش الوحيد في هذا الفيلم
على وجود عالم مجاور يضم أولئك المتبطرين، ولهذا سوف تجد نفسها خاضعة لوطأة
ذلك العالم وحتى وهي تؤدي عملها اليومي بتنظيف المنزل ها هي تمسح الأرض
زاحفة على ركبتيها لكي تقوم بالعمل المطلوب على أكمل وجه.
لا تنتظر من هذا الفيلم مثلا أن يحرص على تقديم كادر – إطار
صورة متوازن ومثالي فهو لا يكترث كثيرا لذلك، ولهذا يتم اقتطاع ما تصوره
الكاميرا اقتطاعا حادا، فقد يتوازن الكادراج أو ينحرف أو يتم التصوير من
زاوية غير ثابتة، كما في لقطات المركز البيطري أو في منزل الأثرياء أو عند
الدخول إلى إدارة المصنع أو غيرها من المشاهد، ولم الحرص على الكادر
المتوازن بصريا وقد تشوه كل شيء من حول الشخصيات وهي تعيش منسية في هامش
منسي، ولربما هو في بعض الأحيان منظور جمعي عن ذلك الواقع الخرب الذي سوف
ينعكس على كل ما حول الشخصية من جغرافيا مكانية.
السينما الفقيرة
ومن جهة أخرى إذا مضينا مع إشكالية حركة الكاميرا والصورة
فهنالك كادراج متكرر أن تسمع حوار الشخصيات فيما الصورة تشمل جزئية صغيرة
ومحدودة من المشهد، فالحوار في مركز الشرطة مثلا تقابله صورة ورقة البلاغ
الفارغة والقلم، والحوار مع المرأة الثرية صاحبة المكان لا يظهر سوى كعبها
العالي، والحوار حول شروط العمل في المنازل يقابله ظهور عمليات فحص المرأة
وإخراج لسانها وفحص عينيها، والحوار عند البحث عن الساحر تقابله صورة عبر
الزجاجة الأمامية للسيارة وقرد يزحف عليها فيما الشخصيات في عمق الصورة
يتحدثون عن غياب الساحر.
هذه أمثلة من الكثير من تلك الاستخدامات التي تبدو للوهلة
الأولى معوجة وغير فنية ومنفرة لما اعتادت العين مشاهدته، ذلك أن المخرج في
واحدة من مشكلات هذا الفيلم ونواقصه أنه أغلق تماما الطريق على إظهار أي
بعد جمالي تنتظم فيه الأشياء أو عنصر المكان ولو كان فقيرا جدا، كما أن
مصادرة دميانة بشكل شبه كامل وعدم وجود هاجس ذاتي وتسطيحها هي علامة أخرى
على الإسراف في تقديم شخصية مقهورة في عالم سوداوي.
ومن جهة أخرى ظهرت مشاهد في الفيلم بدا فيها أن الموسيقى لا
علاقة لها بأجواء المشهد والعلاقة بين الشخصيات، ومن ذلك التصعيد بصوت
الغيتار في عدة مشاهد بشكل مبالغ فيه ولا مبرر له، وفي المقابل بدت المشاهد
الصامتة مع تلك الصور القاتمة والسوداوية أكثر تعبيرا عن موضوع الفيلم.
يحاكي هذا الفيلم في مجمله تجارب السينما المستقلة والسينما
الفقيرة والمتقشفة، لكنه لا ينتمي إليها وواحدة من ميزاته أنه لفت الأنظار
وذكّر بوجود تلك التجارب السينمائية الخاصة، بينما هو فيلم سهرت على توفير
متطلباته الإنتاجية شركات عدة أجنبية ومصرية، فهو يوحي بأنه خارج ومتمرد
على نظام الاستديو، لكنه في الوقت ذاته منخرط في دوامة الاستثمار في الفيلم
والتمويل والريع للمنتجين وما إلى ذلك، بينما يمكن إنجاز الفيلم بإمكانات
ومتطلبات إنتاجية أقل خاصة أن أغلب مشاهد الفيلم قد تم تصويرها في أماكن
حقيقية.
كاتب عراقي مقيم في لندن |