ملفات خاصة

 
 
 

ريش.. عبثية أن تأخذ الأمور على محمل الجد!

محمود الغيطاني

عن فيلم «ريش»..

لـ «عمر الزهيري»

   
 
 
 
 
 
 

إن فيلم ريش للمخرج المصري عمر الزهيري من الأفلام الجديدة التي تقدم رؤية فنية موغلة في ذاتيتها والخاصة من خلال عالمها المغلق والمحكم في إغلاقه حتى أننا لا يمكن لنا تلقيه من خلال العالم الخارجي عليه، بل من خلال مفرداته الداخلية فقط، كما لا يفوتنا أن المخرج لا يعنيه في صناعة فيلمه سوى عالمه الذي يراه من خلال رؤيته الخاصة، وأسلوبيته التي يرى أنها الأنسب لصناعة السينما كفن له فرادته، أي أنه لا يعنيه الجمهور بقدر اهتمامه بالصناعة كما يراها.

هذا فيلمٌ مُنفرٌ، وكئيبٌ، وقاتمٌ، ولا يمكن له أن يكون فيلما!

من الطبيعي والمُستساغ انطلاق مثل هذه التوصيفات، والشعور بها بصدق حقيقي- لا ادعاء أو كذب فيه- من قبل جمهور السينما غير الواعي بها كفن له أسلوبيته التي من المُمكن الانطلاق والتحليق بها إلى آفاق رحبة لا سقف يحدها، أي أن المُشاهد الباحث عن السينما التي تزجي من وقت فراغه، وتدفع عنه الملل، صادق كل الصدق، ولا يمكن لنا إنكار ذوقه أو مثل هذه التوصيفات عليه حينما يطلقها على فيلم "ريش" Feathers  للمُخرج المصري عمر الزهيري.

لكن، لم لا ننظر للأمر من زاوية ثانية؟

هذا فيلمٌ مُشوهٌ، وناقصٌ، ومُرتبكٌ، وغير مُكتمل فنيا، ومُخرجه لا يعرف أين من المُمكن له أن يضع قدميه بعد!

هذه التوصيفات من الطبيعي سماعها وتقبلها، أيضا، من عدد لا يُستهان به من العاملين في صناعة السينما- سواء كانوا صُناعا، أو نقادا- حيث يمثلون جبهة قوية ومُتلاحمة من أجل الدفاع عن مُعسكرهم النمطي التقليدي، والكلاسيكي، والثقافي، وربما التجاري- أيضا- الذي لا يرون غيره في صناعة السينما التي يقدمونها؛ فهم لا يعرفون السينما إلا من خلال نمطهم السائد الذي نشأوا عليه، وكرسوا له لعشرات من السنين، وبالتالي لن يقبلوا أي شكل آخر من أشكال الصناعة مهما كانت أهمية الأسلوبية الجديدة التي يواجهونها؛ لأنهم يدافعون، في حقيقة الأمر، عن تاريخهم، ووجودهم؛ أي أن الرأي هنا بمثابة الدفاع عن الذات التي سينتفي وجودها إذا ما وافقوا على أي شكل جديد من أشكال الصناعة!

رغم ذلك، ثمة زاوية ثالثة لا بد من تأملها والتوقف أمامها طويلا، وهي رؤية المُشاهد والصانع السينمائي والناقد الواعي بمفهوم وجوهر صناعة السينما كفن قادر على التحليق في كافة الاتجاهات، والأساليب السينمائية المُختلفة، إنها الرؤية السينمائية الخاصة جدا- والتي تخص صانعها فقط، لا الجمهور- والتي يرى من خلالها صانع العمل العالم الفني الذي يقدمه حاملا معه جمالياته التي يعيها ويفهمها، وأسلوبيته التي يختلف بها عن غيره من الصُناع- فالفن يحتمل الاختلاف والخصوصية في الأسلوب أكثر من احتماليه التطابق أو التشابه مع الآخرين.

إذن، فنحن أمام مُخرج يحمل رؤيته الذاتية للعالم، ويقدم لنا من خلال هذه الرؤية عالمه الفني من خلال أسلوبية تخصه وحده؛ الأمر الذي حدا به إلى الاختلاف، بل والتنافر مع الذوق العام للمُشاهد العادي الذي صُدم بما قُدم إليه؛ فنفر منه لأنه لا يتناسب مع ما اعتاده، وما يرغب في رؤيته، لكن رغم نفور المُشاهد العادي نجح هذا الأسلوب في إغلاق العالم على صناعه تماما من أجل اكتمال الرؤية الفنية؛ ومن ثم اكتسب منطقه الخاص، وهو المنطق الذي لا يمكن لأي شخص خارج العمل مُحاسبة عالمه عليه بما أنه رؤية مُغلقة وشديدة الخصوصية والذاتية.

لكن، لم لا ننظر للأمر من زاوية أخرى مُختلفة تماما؟

إن اختلاف تلقي المُشاهد للفيلم- أو العمل الفني بشكل عام- بل وتنافر هذا التلقي بشكل جلي لدرجة أن تبدو الآراء فيه على طرفي نقيض يحمل في باطنه دلالة غاية في الأهمية تؤكد على أن العمل- موضوع الاختلاف- إنما يحمل داخله طبقات من الرؤى الفنية العميقة ذات الخصوصية- وهو ما يخص صانعه- والأكثر من التأويلات، وطبقات الوعي والتلقي- التي تخص المُشاهد- أي أن العمل مثار الخلاف هنا قد نجح في إثارة عاصفة من عدم الاتفاق عليه، ولعلنا نفهم أن العمل الفني الذي يحمل اتفاقا عليه سواء بالسلب أم بالإيجاب يكاد أن يكون عملا ناقصا؛ لأن الفن يحتمل الخلاف- سواء فكريا، أو أسلوبيا، أو جماليا-  أكثر مما يحتمل الاتفاق عليه.

يتناول الزهيري في فيلمه تيمة الفقر والفقراء ومُعاناتهم في هذا العالم، وهو من خلال تناوله لها لا يتأملها بشكل خاص ومُحدد، بل مال بالفكرة- التي من المُمكن لنا رؤيتها في أي مكان من العالم- إلى المعنى العام، وربما الفلسفي، والكوني، والعبثي؛ ولكي يصل إلى هذه الفكرة العامة والمُطلقة لجأ إلى تجهيل كل شيء في فيلمه؛ فالمكان مجهول لا دلالة فيه على أي شيء سوى أنه مُجرد بقعة صناعية في مكان ما على ظهر هذا الكوكب، والزمن مجهول تماما؛ حتى أننا لا نعرف هل يدور الفيلم في الوقت الآني، أم في المُستقبل، أم في الماضي، وإن كانت المُوسيقى والأغنيات المُصاحبة لشريط الصوت قد مالت بشكل ملحوظ إلى حقبة السبعينيات من القرن الماضي- لكن هذا لا يعني بالضرورة إلى أن الفيلم يدور في هذه الحقبة- حتى أنه عمد إلى تجهيل شخصيات فيلمه؛ ومن ثم فلن نعرف لأي شخصية من شخصياته أي اسم يحمل دلالة ما، أو أي انتماء ديني، أو عرقي، أو أيديولوجي؛ لأنه في حقيقة الأمر لا تعنيه هذه المُفردات جميعها بقدر ما يعنيه موضوعه الذي يتأمله سينمائيا بأسلوبيته الخاصة.

كما لم يهتم المُخرج- أو تجاهل مُتعمدا- بماضي الشخصيات، ولا مُستقبلها؛ فهو لا يعنيه تاريخ شخصياته وما سيحدث لهم فيما بعد بقدر اهتمامه باللحظة الآنية التي يعيشون فيها، أي أن المُخرج هنا يتأمل مقطعا من حياة لمجموعة من البشر المُنبتي الصلة بكل شيء، هذا المقطع العرضي من حياتهم يخدم رؤية المُخرج في تأمله للفقر بشكله العام، ويساعد المُشاهد بدوره في تأمل ما يقدمه لإسقاط دلالاته من دون إدانة لأي أحد فيما يحدث لهم؛ فجميع الشخصيات واقعة في مأزق وجودي يعانون فيه من الفقر الذي يقسو عليهم؛ الأمر الذي يجعلهم يسقطون هذه القسوة على بعضهم البعض في عملية إحلال اجتماعي وطبقي طبيعية باعتبار أن القهر، هنا، عبارة عن حلقات مُتصلة، ورغم مُعاناتهم جميعا إلا أنهم يتبادلون المُعاناة فيما بينهم، وكأنما الحلقة الأقوى- في الدائرة الواهية رغم وهنها- تُمارس القهر على الحلقة الأكثر وهنا إلى أن تنتهي عند الحلقة المُتفسخة تماما!

إذن، فنحن، هنا، أمام حالة فنية ومزاجية خاصة جدا، يعمل المُخرج على إكسابها قدر غير هين من الخصوصية؛ وهو ما أدى به إلى إغلاق العالم عليه تماما، أي أننا أمام عالم فني شديد الإغلاق، لا علاقة له بما يدور خارجه في الواقع، ولا يمكن لهما الاشتباك معا أو تبادل التأثير والتأثر، وهو ما أكسب الفيلم منطقه الفيلمي الذي لا يمكن لنا- كمُشاهدين- نقاشه فيه- أي المنطق الفيلمي- بما أنه قد نجح مُنذ اللقطة الأولى في إغلاق العالم من أجل إكسابه خصوصيته الذاتية.

يبدأ الزهيري فيلمه القاتم بشاشة مُظلمة تماما بينما نسمع في الخلفية صوت بكاء رجل ما بقهر، ثم صوت انسكاب سائل ما، يتلوه صوت أعواد ثقاب تشتعل، وسُرعان ما نستمع لصوت اشتعال النيران وصراخ رجل يتعذب أو يحترق، هنا نرى على الشاشة رجلا مُشتعلا تماما يقاوم النيران وسط العديد من مداخن المصانع بينما التوقيت يبدو ليلا، وليس ثمة شخص آخر داخل الكادر، وسُرعان ما ينتقل إلى الصباح على نفس المشهد في بيئته الصناعية لنرى نفس الجثة صباحا بعدما أتت عليها النيران تماما!

إن مشهد ما قبل التيترات السابق Avant titre يكاد يكون هو المشهد التأسيسي للفيلم الذي يرغب الزهيري في تقديمه، بل هو المشهد الحامل لفلسفة فيلمه بالكامل، ومضمونه الذي يعمل عليه المُخرج. ربما سنتساءل: من هو هذا الرجل، ولم أقدم على حرق نفسه، وأين هي أسرته، وما هي حكايته؟

لكننا لن نعرف عنه شيئا مرة أخرى؛ لأن علاقته الوحيدة بالفيلم هي مُجرد الرمز فقط، أي أنه مُنبت الصلة بالأحداث رغم أهمية رمزيته إليها، ومن هنا نفهم أن فعل الانتحار في المُقدمة إنما يُدلل على حياة القهر والفقر الشديدين اللذين سنراهما على طول أحداث الفيلم فيما بعد، أي أن مشهد ما قبل التيترات، هنا، إنما يعطينا صورة كلية عن هذا العالم.

ربما لا بد لنا، هنا، من التوقف هنيهة للتعرف على أسلوبية المُخرج التي اختارها من أجل تقديم عالمه السينمائي. سنُلاحظ مُنذ المشهد الأول حرص الزهيري على تقديم فيلمه من خلال ألوان باهتة تماما، تميل إلى الشحوب الموحي بالبرودة الثلجية والموت، وتقترب أحيانا كثيرة من الإظلام في بعض المشاهد، كما سنرى الكثير من الغبار، والأدخنة المُسيطرة على إطار الصورة حتى نهاية الفيلم، فضلا عن المباني المُتهالكة التي تزخرفها بقع الرطوبة، أو تقشر طلائها، أي أن المُخرج حريص من خلال الألوان والإضاءة على أن يقدم لنا عالما مُنتهيا تماما، عالما منتهي الصلاحية أقرب إلى أفلام نهاية العالم/ الدستوبيا التي نراها في السينما الأمريكية المُعبرة عن حلول كارثة ما بالعالم، ومن ثم يكون المُتبقون على ظهر هذا الكوكب، بعد الكارثة، مُجرد مجموعة من البشر البائسين الذين يحاولون التحلي بالأمل في إعادة العالم إلى ما قبل هذه الكارثة.

إن عالم الزهيري هو عالم ما بعد الكارثة- بالتأكيد لن يُحدد لنا الكارثة التي حلت بالعالم، لكن لا بد لنا من إدراكها حيث تعني الفقر المُمثل للمأزق الوجودي للشخصيات- وشخوصه الفيلمية فيه هم المُتبقين في هذا العالم بعدها، محاولين التشبث بالحياة وسط دمار كامل، ربما لتمسكهم بالأمل الذي لا فائدة منه، أي أن المُخرج ينجح هنا من خلال الصورة وألوانه التي اختارها في إدخالنا إلى عالمه/ مأزقه الشخصي والخاص؛ ومن ثم أصبح علينا التعامل مع مُفردات هذا العالم الذي علقنا معه فيه حتى النهاية.

هنا يصبح من الضرورة على المُشاهد التعامل مع هذا العالم الفيلمي القاتم بناء على مُفرداته الداخلية، ومنطقه الخاص اللذين قدمهما له المُخرج؛ لأن أي تعامل معه من خلال مُفردات شخصية، أو خارج دلالة الصورة سيكون بمثابة ليّ لعنق الفيلم وعالمه، وبالتالي سنفشل في التواصل معه مما سيفسد علينا عملية التلقي.

ينتقل المُخرج في المشهد التالي على أسرة مكونة من الزوجة- قامت بدورها المُمثلة دميانة نصار- والزوج- قام بدوره المُمثل سامي بسيوني- وابنيهما الصغيرين، وطفلهما الرضيع، أي أننا أمام أسرة صغيرة لعامل فقير تعيش في منزل شديد التواضع والتجرد من مُفردات الحياة الإنسانية- لاحظ أن المُخرج يميل إلى تجريد كل شيء سواء على المستوى المادي أو المستوى المعنوي- حيث لا نرى سوى الأسرّة التي خرج حشوها منها، والمقاعد المُتهالكة، وتلفاز صغير مُتهالك، وغسالة مُتهالكة، وثلاجة مثلهما بينما تبدو لنا الجدران الإسمنتية عارية تماما وقد علاها الغبار الكثيف، وبقع الرطوبة، فضلا عن الدخان الكثيف الذي يخرج من المصانع المُحيطة بهم، والذي يهجم عليهم كشلال كلما بدأ المصنع في العمل؛ الأمر الذي يجعل الزوجة تُسرع بإغلاق النافذة وإلا اختنقوا جميعا موتا منه. سنعرف أن البيئة المُحيطة هي عبارة عن منطقة صناعية يحيا فيها مجموعة من العمال البائسين والفقراء بينما يعيشون في مجموعة من المباني المُتهدمة التي تمتلكها إدارة الإسكان الخاصة بهذه المصانع.

لعل أول ما يجذب انتباهنا إلى هذه الأسرة البائسة هو وجه الزوجة الحيادي تماما- والذي سيظل حياديا حتى نهاية الفيلم- والذي لن نلمح عليه أي بادرة من بوادر الحياة وكأنها مُجرد جثة تتحرك على قدمين، فلا انفعالات، ولا ابتسامة، ولا رضى، ولا رفض، ولا حتى حديث سوى القليل جدا من الكلمات، وكأنها غير موجودة في هذا العالم، بل تحيا في عالم آخر مُغلق عليها تماما، أو كأنها قد غادرت عالمنا مُنذ فترة طويلة، وربما من أجل الإمعان في هذه الصورة حرص المُخرج على أن تكون ملابسها طوال أحداث الفيلم باللون الأبيض الحيادي تماما، أي أن حيادية المرأة/ الزوجة هنا ليست مقصورة على الانفصال الكامل عما يحيطها، بل تعدى ذلك إلى اللون الذي ترتديه طوال الوقت- الأبيض- أي أن المُخرج يؤسس لعالمه بشكل فيه من التفصيل والوعي بمُفرداته ما يجعلنا، بالضرورة، قادرين على استيعاب الأحداث والعالم الذي سيتوغل فيه فيما بعد.

ربما يسيطر على المُشاهد المُعتاد على مُشاهدة السينما العالمية إحساس ما بأنه قد انتقل فجأة إلى أوروبا الشرقية، أو أنه يشاهد فيلما من أفلام أوروبا الشرقية وأسلوبيتها الخاصة، لا سيما أن أسلوبية التصوير التي اختارها المُخرج مع مُدير التصوير كمال سامي، فضلا عن الإضاءة والألوان، والاقتصاد في الحوار وغيرها من المُفردات لا سيما البيئات الصناعية، أو تيمة الفقر تتشابه إلى حد كبير مع أفلام الكتلة الشرقية من أوروبا. كما سنُلاحظ مُلاحظة أخرى أكثر أهمية تخص أسلوبية التصوير التي ارتآها المُخرج حيث اللقطات العامة Full Shot التي لا يعنيها الاهتمام بالتفاصيل أو الملامح، أو اللقطات القريبة Close Shot حيث الحرص على التركيز على أيادي المُمثلين، أو أقدامهم- الاهتمام بالفعل أكثر من الاهتمام بوجه المُمثل- أو اللقطات المتوسطة Medium Shot الحريصة على عدم الاهتمام- في الغالب- بوجوه المُمثلين؛ الأمر الذي جعل بعض المشاهد يبدو فيها الإطار وكأنه مقطوعا بحيث لا تظهر وجوه المُمثلين فيه- تجاهل تعابير الوجه في مُقابل التركيز على الجسد والفعل أكثر- وهي أسلوبية خاصة تخص المُخرج، ولها علاقة عضوية ودلالية تخص الموضوع الذي يتناوله.

نُلاحظ من خلال المشاهد الأولى الخنوع الكامل للزوجة التي تبدو لنا في حالة مُكتملة من القهر حتى أنها تبدو لنا بأنها تحيا الحياة لمُجرد أنها ما زالت تتنفس؛ ومن ثم فهي مُرغمة على هذه الحياة؛ فنراها تناوله حذاءه وملابسه بآلية ملحوظة أثناء استعداده للخروج إلى وردية عمله في المصنع، وسُرعان ما نراها واقفة أمامه في شكل واضح من الإذلال، مُنحنية الرأس باتجاه الأرض كطالب مُذنب أمام مُعلمه، مُنتظرة إياه لإعطائها القليل جدا من المال الشحيح من أجل الطعام، وهو ما سيتضح لنا حينما يقول لها بصرامة فظة، آمرا لها: النهاردا وبكرا بتنجان. كما يتضح لنا بشكل أكثر جلاء حينما يقول لها آمرا قبل حفل عيد الميلاد بعد إعطائها القليل من المال: مش عايز لخبطة بكرا.

ثمة مُلاحظات مُهمة هنا لا بد من التوقف أمام بخصوص الزوجة والزوج: فالزوجة- التي نراها هنا غير حية- مُنتهية تماما من الوجود، مسحوقة بشكل كامل ومُستسلمة لقدرها، لامبالية بأي شيء مما يحيطها، أي أنها رافضة للحياة- يعمل المُخرج بذكاء على ربط هذا الشكل والأداء الذي بدت عليه مُرتبطا بسلوكها اليومي العادي- فنراها أثناء قيامها بغسيل الثياب لا مُبالية بما تفعله، وكأنه لا يخصها، لذا تقوم بعصر الثياب بالصابون من دون شطفها لتقوم بتعليقها على حبل الغسيل الموجود داخل الحمّام- اللامبالاة والانفصال الكامل، والآلية في الفعل- كما تقوم بتقطيع الباذنجان كيفما اتفق لتلقيه في الزيت، أي أنها خارج المشهد الحياتي تماما، أو أن كل ما حولها لا يعنيها أو يخصها. يتبدى لنا هذا الانفصال بصورة أكثر وضوحا في المشهد الذي نرى فيه الزوجين وأطفالهما يتناولون طعامهم بينما يتحدث إليها الزوج عن الألبان؛ فنراها لا تلتفت إليه مرة واحدة أثناء حديثه- رغم التفاته إليها أثناء الحديث- كما تتجاهل الرد عليه بكلمة واحدة في دلالة ورمزية واضحة من المُخرج على أنها خارج هذه الحياة تماما، ولا تطيق هذا الرجل الفظ في التعامل معها رغم استسلامها واضطرارها للحياة في كنفه!

لكن، ما الذي قد يدفع الزوجة إلى مثل هذا الانفصال الذي لا بد له من جعلنا نتساءل عن السبب في ذلك؟

مع تأملنا لسلوك الزوج مُنذ المشاهد الأولى سيتبين لنا أنه زوج مُتسلط، كريه، موغل في الذكورية، مُنفر، أي أنه بدا لنا في الفيلم أبا جيدا يرعى أبنائه، ويحمل رضيعه مناولا إياه رضعته الصناعية أثناء تناوله لطعامه- التركيز على الرضاعة الصناعية بدلا من الرضاعة من ثدي أمه فيها دلالة الفقر والجوع اللذين جعلا ثدييها جافين خاليين من الحليب- كما نراه يجلس بين صغيريه مُشاركا إياهما مُشاهدة أفلام الكارتون، ويهتم بالاحتفال بعيد ميلاد صغيره، لكن في المُقابل هو زوج فاشل شديد القسوة، يعطي زوجته القليل جدا من المال الشحيح للطعام، ويخفي عنها النقود القليلة في صندوق مُغلق بينما يحمل مفتاح قفله في جيبه، ويرفض دفع إيجار الشقة القذرة التي يعيشون فيها في الوقت الذي يشتري فيه نافورة ماء باهظة الثمن بالنسبة لهم من أجل تجميل المنزل القبيح! بل ويأتي بكعكة عيد الميلاد للاحتفال بابنه، ويدعو زملائه في المصنع، وجيرانه مُتباهيا بما يفعله، وبنافورته، فضلا عن استيلائه على المال الذي يعطيه رئيسه في العمل لطفله كهدية عيد الميلاد، بالإضافة إلى أننا سنكتشف فيما بعد بأنه قد استدان من المصنع مبلغا كبيرا جعله مديونا لصاحب العمل، ويأتي لابنه بساحر- من باب الوجاهة الاجتماعية- في حفل عيد ميلاده أي أنه في النهاية يبدو لنا رجلا مُنفرا، لا يرى سوى نفسه، ورغم فقره الشديد، وشح موارده إلا أنه يوغل في هذا الشح والفقر مُسقطا إياه على الزوجة والأولاد في طعامهم من جهة، والامتناع عن دفع إيجار الشقة من جهة أخرى في الوقت الذي ينفق فيه ببذخ على سجائره التي لا تُفارق فمه، والاحتفال بعيد ميلاد الابن- كمظهر اجتماعي، ورغبة منه في القفز إلى طبقة أعلى ظاهريا- وشراء نافورة مائية غالية لا حاجة إليها اللهم إلا التظاهر الاجتماعي الذي يبدو واضحا في قوله: بتدي شكل حلو للمكان، وفي نفس الوقت شيك برضه! وهي الجملة التي كررها مرتين- مرة للزوجة الصامتة المُنفصلة، ومرة أخرى لرئيسه في العمل حينما زاره في حفل عيد ميلاد ابنه!

إذن، فمن خلال هذه الحياة التي تبدو جحيمية بالنسبة للزوجة نستطيع فهم سلوك الزوجة المُنفصل، وحيادية ملامحها التي لا حياة فيها، وتعاملها مع زوجها وأبنائها وكأنها لا تنتمي إليهم، والتزامها بالصمت الدائم، وعدم رؤيتنا لها تبتسم مرة واحدة على طول أحداث الفيلم اللهم إلا مرة واحدة حينما رأت الرجل الذي يرقص مُقلدا النساء في صالة البلياردو، ولعل المُمثلة دميانة نصار قد أدت دورها في الفيلم كما هو مرسوم لها تماما، وبنجاح حقيقي استطاعت من خلاله إقناعنا بموقفها كزوجة تعاني من حياة جحيمية.

أثناء حفل عيد الميلاد، وفقرة الساحر الذي أتى به الزوج، يقنعه الساحر بدخول صندوقه من أجل إحدى الحيل السحرية، وحينما يفتح الصندوق مرة أخرى نُفاجأ بأنه قد حوّل الزوج إلى دجاجة- في إحالة منه على رواية المسخ والعالم الكابوسي لدى الروائي التشيكي فرانز كافكا- أي أن المُخرج هنا يوغل في كابوسية عالمه- الذي بدأه كابوسيا بمشهد الانتحار- بالجنوح باتجاه السيريالية الكابوسية التي ستزيد من قتامة هذا العالم المُغلق، ولعلنا نُلاحظ أن الزوج حينما تحول إلى دجاجة على يد الساحر قام المُخرج بتركيز الكاميرا على وجه الزوجة التي رأينا رد فعلها حياديا تماما، غير مُعبر عن أي شيء؛ فالعالم هنا لا يخصها وغير مُرتبطة به، كما أن الزوج المُتسلط لا يعنيها في شيء.

يحاول الساحر إعادة الزوج إلى طبيعته لكنه يفشل لسبب ما في عكس السحر، أي أن الزوج هنا انحبس في هيئة دجاجة ولا يمكن له العودة إلى أصله الإنساني مرة أخرى! وحينما يفقد الساحر الأمل في إمكانية إعادة الزوج مرة أخرى يسرع بالفرار هو ومُساعده ليختفي تماما تاركا للزوجة زوجها الذي تحول إلى دجاجة.

هنا تبدأ الأزمة الحقيقية في أحداث الفيلم، وربما هي رحلة التحرر التي تحاول من خلالها الزوجة إعادة زوجها إلى ما كان عليه، فضلا عن إعالة أسرتها الصغيرة في غيابه. يحاول أحد الجيران- الذي يبدو عليه أنه يُتاجر في أشياء مسروقة- مُساعدة الزوجة، بل ويعطيها غير مرة بعض المال، ويبدأ في مُساعدتها من أجل العثور عن الساحر لإعادة الزوج، لكنهما حينما يفشلا في العثور عليه تأتي الزوجة بساحر آخر ليصحح ما فعله زميله السابق، ورغم اهتمامها بإعادة الزوج المُتسلط مرة أخرى إلا أن المشهد الذي رأيناها فيه بجوار الساحر الجديد جالسة في الحمّام هو مشهد دال على أنها لا يعنيها ما تفعله، لكنها مُضطرة لفعله من أجل أبنائها فقط؛ حيث نراها مُنكمشة على ذاتها، غير مُبالية بالالتفات إلى ما يفعله بزوجها/ الدجاجة؛ مما يُدلل على انكفائها في عالمها الخاص، واستكانتها الكاملة للانفصال عما يدور من حولها!

يعطيها الساحر الجديد زجاجة فيها سائل ما، مُوصيا إياها بسكب قدر منه للدجاجة حينما تضع لها طعامها، لكن يبدو أن هذا السائل كاد أن يقتل الدجاجة التي دخلت عليها الزوجة لتجدها وقد أخرجت ما في جوفها بينما تتنفس بصعوبة في حالة موات.

تُسرع الزوجة بالدجاجة إلى الساحر الذي يشير عليها الاتجاه إلى أقرب مشفى، وهناك يحاول الطبيب البيطري علاجها وإنقاذها من الموت، لكنه يطلب منها 300 جنيه مُقابل العلاج، وأحد الأجهزة التي أشار عليها بضرورة وضع الدجاجة داخله لمُدة زمنية، حينها لا تجد مناصا من الاستعانة مرة أخرى بجارهم الذي يحاول رعايتها والذي يمنحها المال دائما باحثا معها عن الساحر الذي حوّل الزوج، وبالفعل يحضر الرجل ويدفع المبلغ، بل يعطيها المزيد من المال أيضا من أجل إيصالها إلى بيتها، أي أن الزوج هنا قد تحول بالنسبة إليها إلى عبء مُضاف لا بد لها من رعايته، والاهتمام به، وإطعامه، بل وتطبيبه مما يعني أن الزوج/ الرجل حتى بعد تحوله ما زال هو الفرد الأول في الأسرة الأكثر تدليلا وتطلبا داخل الأسرة!

ربما لا بد لنا من التوقف هنيهة لتأمل العالم الذي ألقى به المُخرج شخصية الزوجة بعد تحول الزوج إلى دجاجة؛ فالعائل الوحيد للأسرة- رغم شحه وعدم مسؤوليته وقسوته- تم فقده وتحول إلى عبء مُضاف، وهو ما جعل الزوجة تقوم بدور العائل ومواجهة الحياة للمرة الأولى، مما يعني ضرورة المُحافظة على حياة الأطفال الثلاثة، وإطعامهم، بالإضافة إلى الدجاجة/ الزوج أيضا، بل ومحاولة البحث عمن يعيده إليها مرة أخرى، كما أنها وجدت نفسها فجأة غارقة في الديون ومُهددة بالطرد من الشقة البائسة بسبب امتناعه عن دفع الإيجار فيما سبق؛ وهو ما يجعل إدارة الإسكان تتحفظ على الثلاجة والغسالة والتليفزيون، والكاسيت، أي أنهم يجردونها من كل سُبل الحياة تماما! ورغم أنها تحاول- على قدر استطاعتها- البحث عن مخرج من مأزقها الوجودي الذي وجدت نفسها فيه بعد تحوّل الزوج بمُساعدة جارها الذي يدفع لها ببذخ يجعلنا نتساءل عن السبب، إلا أننا سنعرف فيما بعد أن الجار إنما يرغب فيها، أي أنه في حالة مُقايضة على جسدها في مُقابل ما يقدمه إليها من مال والوقوف إلى جانيها، وهو الأمر الذي ترفضه الزوجة؛ حيث تهرب منه.

كما لا يمكن أن يفوتنا أن الفيلم بعد تحوّل الزوج قد اتخذ شكل الرحلة- رحلة محاولة البحث عن عمل، واستعادة الزوج مرة أخرى- وهو القالب الذي لا بد له أن يذكرنا في وجه من وجوهه- لا سيما مع إغلاق العالم الفيلمي تماما، وغرائبيته، وانفصاله التام عما هو خارج عن إطاره- بفيلم "البحث عن سيد مرزوق" للمُخرج داود عبد السيد مع الفارق الشاسع بين الفيلمين- وإن ظل قالب الرحلة الغرائبي، وانغلاق العالم الفيلمي يربط بين الفيلمين من جهة ما.

يبدو العالم بالكامل من حول شخوصه الفيلمية عالما غارقا في البؤس والفقر الشديدين، حتى أن شخصياته الأكثر غنى- الجار، وأصدقائه- ليسوا سوى مجموعة من الفقراء البائسين الأعلى درجة بسيطة من عالم الزوجة المُدقع. يتوجه الجار مع الزوجة إلى أحد الأماكن المجهولة التي يلعب روادها البلياردو، وهناك نرى صاحب المكان- من المُفترض ثرائه- جالسا ليتناول الكوكاكولا، وحينما يرحب بها يطلب لها الكوكاكولا أيضا عارضا عليها بسخاء تناول الطعام الذي لم يكن سوى "السميط"! أي أن الثراء هنا لجميع شخصيات الفيلم هو في جوهره الفقر الحقيقي. يعرض عليها صاحب المكان العديد من الصور لمجموعة من الأشخاص، ربما تجد الساحر بينهم لكنها تؤكد له بأنه ليس منهم.

تحاول الزوجة العمل مكان زوجها في المصنع من أجل إعالة أولادها ودجاجتها/ زوجها، لكن مُدير المصنع يؤكد لها أن القانون يمنع عمل النساء في المصنع، لكنه في المُقابل يؤكد لها بأن ابنها من المُمكن له العمل مكان أبيه كي يعطيها مُستحقاته المالية وراتبه، في تناقض عنيف بين منع عمل النساء الذي يمنعه القانون، لكنه يسمح بعمل الأطفال الذي يمنعه القانون أيضا!

توافق الزوجة على عمل الابن مكان أبيه، كما تبحث عن عمل يساعدها على الحياة ومُتطلباتها، فتعمل خادمة في أحد القصور لامرأة مجهولة، ولعل المُخرج كان حريصا هنا على بيان مدى البذخ الذي يعيش فيه الأغنياء في تناقض صارخ؛ حيث يذبحون عجلا كاملا ليخزنون لحمه في الثلاجة، ونتيجة لحاجة الزوجة وفقرها الشديد، ولرغبتها في إعالة أبنائها وإطعامهم تضطر إلى سرقة القليل جدا من قطع اللحم، وقطعة من الجبن، ونصف برطمان من المربى، وعدة قطع من الشيكولاته من أجل إطعام أولادها، لكن كلب الحراسة يضبطها؛ الأمر الذي يجعل المرأة تطردها بقسوة، بل كادت أن تسجنها بسبب هذه السرقة، ورغم أن ما سرقته الزوجة لا يمكن له أن يكفي وجبة كلب الحراسة، إلا أن صاحبة القصر لا تشعر نحوها بالشفقة أو الرحمة وتتعامل معها بقسوة واحتقار مُتناهيين!

يخبرها صاحب المصنع بأنه في حاجة إلى محضر رسمي باختفاء الزوج من أجل صرف مُرتبه للابن بدلا منه، لكنها حينما تتوجه إلى نقطة الشرطة البائسة لعمل المحضر تُفاجأ بوجود زوجها داخل النقطة مُجرد جثة هامدة لا تتحرك أو تتحدث؛ حتى أن رجال الشرطة يجرونه على الأرض كجوال من القاذورات مُخبرين إياها بأنه قد جاء إلى النقطة مع مجموعة من المُشردين، كما أنه لم يتحرك أو يتكلم مُنذ دخل نقطة الشرطة.

ألا نُلاحظ هنا المزيد من الأعباء على الزوجة التي باتت مُطالبة برعاية زوج هو مُجرد جثة، فضلا عن الدجاجة التي هي في نظرها تحمل روح زوجها داخلها، بالإضافة إلى أولادها، وضرورة سداد الإيجار المُتأخر عليها؟

تحاول المرأة البحث عن عمل جديد؛ فتعمل في أحد المحال لبيع السيراميك، ويحاول الجار مُطاردتها والتهجم عليها في شقتها مُطالبا إياها بأمواله التي كان قد أعطاها لها في مُقابل جسدها، لكنها حينما رفضت الانسياق إليه حاول معها بطلب ماله والرغبة في استرداده، هنا تُخبر الزوجة صاحب العمل بأنها في حاجة إلى مُساعدته لإنقاذها من هذا الجار؛ الأمر الذي يجعل رجاله يوسعونه ضربا للابتعاد عن طريقها وعدم مُضايقتها.

ترعى الزوجة زوجها الذي تحول إلى جثة استشرت فيها الجروح والقروح، كما نُلاحظ أن ثمة جرح كبير يعاني منه مكان الكلية- ربما في إحالة من المُخرج أن ثمة من سرق كليته من تجار الأعضاء البشرية- كما نراها تنظفه، وتغير له ملابسه، وتُحممه، وتأتي له بالأطباء- عبء مالي مُضاف عليها، فضلا عن العبء المعنوي- وتُساعده على الطعام بوضعه له في فمه، وتحلق له شعره، لكنه يظل مُجرد جسد لا حياة فيه، يحتاج للرعاية فقط لا سيما أنه يبول على نفسه أيضا، بما أنه غائب عن العالم.

هل يمكن إنكار أن الفيلم بمثل هذا المفهوم الذي نراه، ومثل هذه المُعاناة التي تعاني منها المرأة بعد تحوّل واختفاء الزوج، هو فيلم نسوي بامتياز؟

إنه فيلم يهتم بالمرأة، ويتعاطف معها، وينقل مُعاناتها في مُقابل عبث الرجال وقسوتهم، وصلفهم، ولهوهم، أي أن المُخرج يرغب في التأكيد على أن المرأة، هنا، هي أصل كل الأشياء مهما كانت مُعاناتها، ورغم هذه المُعاناة فهي تقبل بتحمل مسؤولية كل من يحيطها حتى لو كان الزوج/ الجلاد الذي أدى بها إلى مثل هذا المأزق/ المُعاناة التي لم يكن لها القدرة على تحملها؛ فهي تحاول العمل من أجل أولادها، ولم تتخل عن الزوج المُتسلط سواء في صورة دجاجة أو في صورة جثة بالية، ولعلنا لا ننسى المشهد الذي رأيناها فيه تشتري قطعتي جاتوه من أجل ولديها حارمة نفسها من تذوقه، حيث يتناوله طفلاها أمامها بينما تتأملهما شاعرة بالكثير من الرضى لسعادتهما. إن تحمل المرأة للمسؤولية الصعبة كان بمثابة رحلة للتحرر رغم المُعاناة، التحرر من السُلطة الأبوية/ الزوج، وقهره لها، وشحه، وعبثيته؛ لذا حينما تفقد الأمل في عودته إلى الحياة مرة أخرى نراها ترفع من صوت التلفاز إلى درجة كبيرة جدا- حيث نستمع إلى ألحان أغنية حكايتي مع الزمان لوردة في إسقاط واضح على حياة الزوجة- وتتجه إلى الغرفة التي يرقد فيها الزوج لتضع الوسادة على وجهه إلى أن يلفظ أنفاسه تماما، بل وتقوم بذبح الدجاجة وطهيها لتقدمها إلى أطفالها كوجبة لذيذة!

أي أن الزوجة حينما تأكدت أنها قد تحررت من الزوج الذي لم يعد له أي فائدة في الحياة، بل بات عبئا كبيرا عليها وعلى أطفالها، تخلصت منه ومن روحه/ الدجاجة التي رأت أنها أكثر فائدة لطفليها وتغذيتهما!

إن فيلم "ريش" للمُخرج المصري عمر الزهيري من الأفلام الجديدة التي تُقدم لنا رؤية فنية موغلة في ذاتيتها الخاصة من خلال عالمها المُغلق والمُحكم في إغلاقه حتى أننا لا يمكن لنا تلقيه من خلال العالم الخارجي عليه، بل من خلال مُفرداته الداخلية فقط، كما لا يفوتنا أن المُخرج لا يعنيه في صناعة فيلمه سوى عالمه الذي يراه من خلال رؤيته الخاصة، وأسلوبيته التي يرى أنها الأنسب لصناعة السينما كفن له فرادته، أي أنه لا يعنيه الجمهور بقدر اهتمامه بالصناعة كما يراها. إنه فيلم عن التحولات- تحول الزوج إلى دجاجة في عالم كافكاوي بائس، وتحول الزوجة إلى الحرية في رحلة إعالتها لأسرتها واستعادة الزوج- لذلك كانت الأنماط التي لجأ إليها المُخرج- السيريالية، والواقعية، والعبثية- مُتناسبة تماما مع تحولاته- رغم أن العالم الفيلمي لا يتحول إلى الأفضل بل يظل غارقا في بؤسه من دون أي أمل في المُستقبل- لذا فإن إطار الصورة الشاذ- أو الذي قد يبدو شاذا- هو إطار يتناسب تماما مع شذوذ العالم الفيلمي الذي رغب المُخرج في تأمله، وإن كان قد أعطى المُخرج والمُشاهد معا الفرصة لرؤية الأموال المُهترئة- أموال الفقراء التي تتناسب مع العالم المُهترئ الذي رأيناه- وحركة الأيدي- التركيز على الأفعال وردود الفعل- والقضبان الحديدية الصدئة للنوافذ، أي أن الإطار الذي اختاره المُخرج كان هو الأفضل لعالمه، كما لا يفوتنا أن الإضاءة والألوان القاتمة والشاحبة التي سيطرت على الفيلم كانت تلعب دورا مُهما في نقل العالم الفيلمي وتقريبه للمُشاهد، وهي الألوان التي لم نر سواها على طول الفيلم، ولم تختلف إلا في الثلاثة مشاهد التي تم تصويرها في قصر المرأة الثرية التي عملت الزوجة لديها كخادمة، حيث اختلفت الإضاءة والألوان واختفى الغبار، لكن رغم الإضاءة الجيدة في هذه المشاهد سنُلاحظ أنها كانت إضاءة شاحبة باردة كالثلج في إحالة إلى أن عالم هؤلاء الأثرياء قد يكون في حالة من حالات الموات على عكس ما يبدو لنا من الخارج، أو ظاهريا- لكنه الموات بالنسبة للفقراء.

ثمة مُلاحظة أخرى لا يمكن تجاهلها على شريط الصوت، والمُوسيقى التصويرية للفيلم؛ حيث لجأ المُخرج على طول فيلمه إلى الاستعانة بأغنيات ومُوسيقى مُبهجة، ومُتناقضة تماما مع العالم الفيلمي، وهو الأمر الذي يوحي لنا بالسخرية غير المُباشرة من صانع الفيلم؛ فرغم البؤس الذي نغرق فيه معه إلا أن كل المُوسيقى المُستخدمة هي مُوسيقى مُبهجة تدعو للتفاؤل وحب الحياة، لا سيما أن الفيلم ينتهي بأغنية شديدة البهجة توحي ببداية حياة جديدة خالية من الأعباء من أجل إصلاح ما أفسده الزوج سابقا حيث نسمع فيها جملة أهلا بالحياة.

لكن، لا يمكن لنا تجاهل الخطأ الفادح الذي وقع فيه المُخرج عمر الزهيري، وهو الخطأ، أو الحدث الذي لم يلجأ إلى تفسيره، ولن نعرف سببه أبدا، وهو ما جعلنا نتساءل حتى بعد انتهاء أحداث الفيلم ونزول التيترات: إذا كان الزوج قد تحوّل بالفعل إلى دجاجة؛ فمن أين أتت جثته التي عثرت عليها الزوجة في نقطة الشرطة، وما تفسير ذلك؟ هل اختطفه الساحر بحيلة ما للمُتاجرة بأعضائه- كليته- مما يعني أنه لم يتحول في حقيقة الأمر إلى دجاجة؟ وإذا كان قد اختطفه فكيف تم ذلك؟

رغم أننا لا بد لنا من إطلاق مثل هذا التساؤل والبحث خلفه، إلا أنه من المُمكن لنا تقبل العالم الفيلمي كما هو، ليس من أجل الرغبة في قبول أي شيء غير منطقي يقدمه لنا المُخرج، ولكن لأن منطق الفيلم المُغلق الغارق في الأنماط الفيلمية المُختلفة- سيريالية، وواقعية، وعبيثة- للتعبير عن التحولات في صورها المُختلفة قد تجعلنا نتقبل غرائبية الحدث، وربما تجعلنا نظل على تساؤلنا أيضا، إلا أنه لا يفوتنا الأداء الطبيعي والجيد للمُمثلين لا سيما دميانة نصار التي أدت دورها كما هو مرسوم لها تماما- وهو ما يتناسب مع العالم الفيلمي والشخصية- والزوج/ سامي بسيوني الذي كان أداؤه تلقائيا حتى أنهما كانا يستحقان جائزة التمثيل على أدائهما، لكن مما يؤخذ على المُخرج أنه لم ينجح في إدارة المُمثل بشكل جيد وكاف، وهو ما جعل بعض المُمثلين في الفيلم إما شاعرين بوجود الكاميرا، وإما غير قادرين على نطق الجُمل- رغم ندرتها- بشكل جيد!

 

مجلة ميريت الثقافية في

01.11.2021

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004