ملفات خاصة

 
 
 

ريش.. الجدل أقوى من شباك التذاكر

مرفت عمر

عن فيلم «ريش»..

لـ «عمر الزهيري»

   
 
 
 
 
 
 

أبرز ما يميز فيلم ريش للمخرج عمر الزهيري هو خلق حالة الجدل بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي وتنافس الأقلام على طرح رؤى متباينة عنه تجاوزت النقاد والصحفيين إلى عدد من خبراء الصورة وصناع الأفلام تخطت الإطار القومي إلى آخر عربي وغربي، ولم يكن رجل الشارع بعيدا عن النقد فبادر الكثيرين بالتعبير عن اراءهم في مساحاتهم الخاصة على الفيس بوك وبتعليقاتهم على حوائط الأخرين.

بالطبع حصول الفيلم على جائزتين من أكبر مهرجان سينمائي على مستوى العالم "كان" هذا العام وهي جائزة مسابقة أسبوع النقاد وجائزة النقاد الدوليين "فيبرسي" أسعد الملايين، ليأتي عرضه في مهرجان الجونة موصوما بالإساءة لسمعة مصر وانسحاب فنانين مصريين من قاعة العرض دون استكمال مشاهدته، وانقسام الأراء  حوله من نقادا وسينمائيين حضروا عرضه محفزا على مشاهدته من الكثيرين الذين أثير فصولهم من هول ما يقرأون، ثم تسريب لينك تحميل للفيلم بجودة عالية ليكون خلال ساعات قد شوهد من الألاف قبل سحبه والكتابة عنه.

تهمة الإساءة لسمعة مصر لاحقت عددا من الأفلام خلال تاريخ السينما المصرية، فهو ليس حدثا جديدا كما يتصور البعض وتحسم نتيجته دائما لصالح العمل بعد أن يثبت زيفها،  مثلما حدث مع فيلم "المدينة" ليسري نصرالله على سبيل المثال وأثبتت الأيام أنه يحمل رؤى وأفكار خارج الصندوق، فاختزال سمعة مصر في عمل فني هو جرم لو تعلمون عظيم، واختلاف الرؤى حول فيلم سينمائي يؤكد أن صانعه نجح في تحريك الساكن والتفاعل الإيجابي معه.

فيلم "ريش" هو حالة خاصة يجب أن تشاهد سواءا اتفقت أو اختلفت معه، ينتمي للسينما التجريبية التي انتهجها العديد من السينمائيين على مستوى العالم، وأرضت شغف البعض منهم في التعبير عن رؤيته بعيدا عن المألوف، وحتى تكون وجهة نظر متكاملة يجب أن تشاهده كاملا وعدم التسرع في إصدار أحكام قبل الانتهاء من مشاهدته، فهو ليس فيلما ينتظر المنافسة على إيرادات شباك التذاكر، وهو ما يسهل التنبؤ به بمجرد عرض تريلر قصير عنه، وصانعه يعلم أنه يخاطب فئات معينة اختلفت فيما بينها حوله.

وما حدث من جدل حول الفيلم بمجرد عرضه ضمن مسابقة أفلام مهرجان الجونة السينمائي ثم تسريبه منحه دعاية لم يحلم بها ليتخطى حاجز مشاهدته أى توقعات، ويصبح "ريش" هو الحدث السينمائي الأبرز خلال العام ومخرجه الذي يقدم عمله الروائي الطويل الأول محط أنظار العالم.

الفيلم يمثل حالة استسلام تام لواقع مؤلم في أغلب مشاهده حتى أن شعاع الأمل الذي اراده صانعه استمد قوته من إزهاق حياة إنسان، ما يعد امتدادا لفقدان القدرة على خوض صراعات حسمت نهايتها جدلا، واختزال قضية الفيلم في الفقر يعد قراءة غير مستوفاة لسطوره.. كما أن قولبته في إطار الإساءة لسمعة مصر واحدة من القراءات السطحية له.

موقع الأحداث يعد واحدا من أبرز عناصر الفيلم وأكثرها ملائمة لأجواء الانكسار، منازل شاهدناها جميعا في أغلب محافظات مصر تأثرت من الخارج بفعل عوامل الزمن وعدم خضوعها لأي صيانة منذ إنشاءها، يطلق عليها اسم "بلوكات" كانت ملاذا لمحدودي الدخل، تعاني اختراقا للأدخنة المنبعثة من فوهة مصنع، أما الداخل فلم يعد انسانيا بالمرة وهو ما أثار حفيظة الفقراء ذاتهم مؤكدين أن الفقر لا يعني دوما قذارة وان وجدت فلن تكون بتلك الصورة، إلا أن الإفراط في القذارة متعمدا دون شك وأحد الأسباب التى اعتمد عليها المخرج تمهيدا لحالة اللامبالاة التي سيطرت على بطلة الفيلم بحيث تبدو بلا انفعالات في أصعب مواقفها.

وسط إظلام تام للشاشة تسمع سكب سائل يتبعه صوت أحدهم يملأ الفضاء صراخا لتتكشف شيئا فشيئا احتراق شخص وسط احد المصانع المهجورة دون التركيز على ملامحه، ثم الانتقال لعائلة مكونة من خمسة أفراد يسكنون شقة صغيرة ذات غرفة واحدة وأحد الأسرة في الصالة مع جدران استجارت من الإهمال، ومع استيقاظ الزوج للذهاب لمنزله تبدأ المعاملات النقدية التي تكررت طوال الأحداث، اوراق مالية بالية تكمل استراتيجية اللامبالاة وتحديد نوع الطعام التي الذي يتلاءم مع المبلغ الزهيد الذي يمن الزوج على زوجته به، في حالة استسلام تام تأخذ النقود منه لتطهو الباذنجان ليومين كما أمرها، بينما يأكل هو الدجاج مع أصدقاءه، وهو ذات الشخصية التي تصرف بسخاء على عيد ميلاد ابنه ويشتري له الهدية التي لا تتلاءم اطلاقا مع الحياة التي فرضها عليهم.

يمزج المخرج بين الفانتازيا والواقعية المفرطة في حدث عارض يستجيب فيه الزوج لطلب الساحر الذي أحضره لإحياء عيد ميلاد ابنه وسط جيرانه ويدخل الصندوق الخشبي، لتخرج منه دجاجة وسط تصفيق الحضور وتفشل محاولة إعادته لصورته البشرية وسط ذات الاستسلام الذي لا تملك غيره، وفي رحلتها عن الساحر الذي فر هاربا بعد فعلته لم تجد الزوجة معلومة تفيد الشرطة للبحث عنه، كما تلجأ للسحرة لاسترجاع زوجها ولصديق زوجها للانفاق عليها وأبناءها، خاصة أنها بلا عائل أو عمل دون سابق إنذار لإمراة تعيش خارج الزمن.

يطرح الفيلم يوميات زوجة فقدت زوجها في ظروف خاصة واضطرت للبحث عن مصدر رزق وسط انتظار عودة الزوج، فيرفض المصنع الذي يعمل به زوجها عمل النساء، كما يرفض الاعتراف بأحقيتها في معاش على اعتبار انه لم تثبت وفاته، فتلجأ للعمل في البيوت وتطرد منه بعد ضبطها وبحوزتها قطع لحم كان أصحاب المنزل يضعونه طعاما للكلاب إلى جانب شيكولاتة ومربي، ثم تنتقل للعمل في تنظيف مخزن الا ان صديق زوجها يبدأ في ابتزازها عاطفيا بعد مساعداته لها، وحينما تصده يقرر ملاحقتها حتى تلجأ لصاحب المخزن لحمايتها منه، وفي ذات الوقت تبدأ في سداد مديونياتها واعادة الأجهزة المرهونة بسداد الأقساط المستحقة.

قدم العمل نموذجا لزوجة تعيش تحت خط الفقر لا تملك رفاهية الحلم، استبد بها اليأس حتى انعدمت انفعالاتها، وهو ما عززه المخرج بعدد من العناصر منها الإيقاع البطيء للأحداث والأجواء الغابرة بأدخنة المصنع والافراط في مشاهد القذارة والاستغناء عن الموسيقى التصويرية،  وكان اعتماده على جهاز "الكاسيت" للأغنيات ينحصر في مواقف خاصة تفرضها ضرورة منها أغنية على وش القمر لفايزة أحمد في موقف الاعتراف بالحب من صديق زوجها،  وأغنية أخرى في الاحتفال بعيد ميلاد ابنها، حتى لحظة عثورها على زوجها ممددا على الأرض فاقدا للوعي في حال يرثى لها بعد غياب كانت مصحوبة بإيقاع بعيدا عن دراما الموقف.

تعددت قراءات الفيلم واتفق الجميع على أنه فيلما ليس جماهيريا ولن يحظى بفرصة حقيقية في العرض التجاري، فقد غابت المتعة التي تعد واحدة من أساسيات العمل السينمائي، إلا أنه تجربة تستحق المشاهدة لما تحمله من رؤية لواقع أكثر مرارة أراد صانعه أن يكشف عوراته في صورة سينمائية حملت العديد من التأويلات، إلا أنها في المجمل صرخة لفئة لا يستهان بها قد تصل للتخلص من قيود فرضت عليهم في سبيل استمرارية الحياة، وقد تضطر للتنازل عن آدميتك أمام ظروف قاسية، تشبث البطلة بالحياة هو ذلك الخيط الرفيع الرابط بين ابناءها وأحلامهم المستمدة من شاشة تليفزيون قديم.

 ركز المخرج عمر الزهيري في كثير من مشاهده على تبادل العملات الورقية البالية التي في مجملها تمثل القليل من الجنيهات، وهي التي يدفع في مقابلها الكثير وتعد الرابط الأول بين شخصيات الفيلم، سواءا جهة عمل الزوج التي تطلب مستحقاتها التي تجاوزت الميعاد المحدد، والمشعوذين الذين يحاولون إعادة الزوج لحياته، وأجر الزوجة عن عملها والمساعدات التي يقدمها بإفراط صديق الزوج طمعا في الزوجة، كما ابتعد في زوايا تصويره عن وجوه أبطاله الذين يقدمون اول أعمالهم ولا يجيدون التمثيل، ورهانه على عفويتهم لم يشفع ضعف إمكانياتهم، وحرص أن تغني صورته عن حوارات قد يكون ضررها أكثر من نفعها، إلا أن عددا من المشاهد قد أقحمت دون ضرورة درامية، وربما أحداثه تكون أكثر ملائمة لو قدمت في فيلم قصير.

يراهن البعض على أن القيمة الحقيقية للفيلم قد تبدو أكثر وضوحا بعد سنوات، إلا أن التجربة تحمل الكثير من الطزاجة السينمائية التي تستقطب شباب السينمائيين في تغريدهم خارج السرب، ومحاولة إيجاد مكانا لهم لا يشبه غيرهم، وهو ما سعى له عمر الزهيري خلال رحلته مع فيلم ريش التي امتدت لست سنوات، إلى جانب كونه محظوظا بالظروف التي فرضته على الساحة إسما كبيرا مع صغر سنه ومن خلال تجربته الأولى التي أحدثت دويا غير مسبوقا بداية من عرضه في الجونة وصولا لتسريب لينك الفيلم لتتسع رقعة مشاهدته ما يفوق عرضه تجاريا.

 

####

 

على مفيش ...ريش

الهام عبدالعال

رغم كل ما أثاره من ضجة  يظل "ريش" هو فعلا "ريش على مفيش" كما يقول المثل، فالعمل الفني مكتوب او مقروء أو مصور له معايير نستطيع من خلالها أن نقول انه عمل جيد او غير جيد وفي حالة هذا العمل لا سيناريو ولا حوار و لا تصوير ولا تمثيل..

مشاهد متتالية البطل فيها جميعا هو "القبح و القذارة" قذارة المكان والاشياء وقبح السلوكيات والأخلاق...

ففي بداية الفيلم يظهر الزوج المتسلط داخل البيت الذي يتسم بالفقر والقذارة الشديدة وكأن الفقر يعني قذارة الحوائط و الاثاث.. وتظهر الزوجة البائسة المستسلمة التي لا تنطق بكلمة واحدة.

هو قد اغلق على جنيهاته القليلة داخل علبة معدنية صغيرة سوداء لها مفتاح. وهذه العلبة الحديدية الصغيرة وضعها داخل دولاب حديدى اسود عليه بقع لبقايا دهان ابيض قديم. في داخل حجرة زجاج نافذتها مهشم ليضيف إلى قذارة الحوائط والأثاث بؤسا فوق بؤس.

يخرج الزوج من خزانته السوداء التي لا يتعدى حجمها كف يد واحدة جنيهات قليلة يضعها في يد زوجته البائسة مع تعليماته الواضحة بنوعية الطعام وبشكل حازم مشوب بابتسامة اللامبالاة "النهاردة وبكرة بتنجان" رمزا للفقر الشديد.

تأخذ الزوجة الجنيهات القليلة وتصمت، بلا اي رد فعل او كلمة اعتراض.. فقط نظرات قهر وبؤس.  

في اليوم التالي يشتري الأب نافورة ويضعها في ركن البيت ويقول لزوجته انها "حلوة وشيك" نافورة في وسط فقر وقذارة شديدة…

ولإننا عندما درسنا النقد تعلمنا أن العمل الفني مكتوب او مصور لا يخلو من معان واسقاطات على واقع حتى وان كان يتناول فكرة خيالية، فإن بعضنا قد يرى في هذا المشهد اسقاطا سياسيا خاصة مع التعرف على خلفية مخرج العمل.

فيبدو الأمر وكأن هذه المشاهد فيها اسقاط على الحكومة المصرية  التي يراها اصحاب إتجاه بعينه تقتر على الشعب وترفع اسعار كل الخدمات شديد في حين  تقيم مشروعات "حلوة وشيك" وسط ما يصفونه بأنه مستنقع من الفقر بحسب وجهة نظر أصحاب هذا التيار.

يجلس الزوج ليشاهد التليفزيون مع اطفاله ويقول لهم انه سوف يعمل ليكسب اموالا كثيرة ويشتري لهم فيلا فيها حمام سباحة وبلياردو… وهنا رمز للوعود الكبيرة والبعيدة تماما عن قدرات من اطلقها والتي لن تتحقق خلال احداث الفيلم.

ويخرج الزوج ولا نعرف شيئا عن شخصيته او عمله، لكننا نراه في الصباح وهو يعود الى الدولاب ليفتح خزانته الصغيرة  ويعطي زوجته الجنيهات القليلة ومعها جملة "موش عاوز لخبطة بكرة" ولا يفصح عن ما سيحدث بكرة.

وفي المشهد التالي الزوج يعلق زينات في البيت ويجهز لاقامة حفل عيد ميلاد الإبن، بحضور  بعضا من معارفه.
موسيقى صاخبة ليرقص الضيوف واثناء رقصهم تستعرض الكاميرا حالة من الفقر المدقع في الاجساد والملابس للجميع فالأجساد نحيفة والملابس مهترئة، وبينهم رجل يرتدي فقط "فانلة داخلية قديمة" وهو نوع من المبالغة الشديدة لاظهار الفقر والبؤس.

لكن هؤلاء البؤساء يرقصون ولا تدري ايرقصون فرحا أم حزنا وكأنهم مغيبون.

اثناء الحفل تدخل الزوجة وهي تحمل تورتة عيد الميلاد وتضعها في صمت وكأنها ضيفة بين الضيوف.. لا تتحدث ولا تبدي اية مشاعر.

على جانب من البيت يجلس الزوج الى جوار ضيف مهم يبدو أنه مديره في العمل ويبدو الزوج سعيدا بالضيف وبالحفل وإلى جوارهم النافورة ليكرر للضيف الجملة ذاتها "حلوة و شيك" متجاهلا القذارة المحيطة به وكأنه غير مدرك لواقعه وغير عابئ بمعاناة اسرته.

يخرج الضيف المهم بعض النقود ليعطيها للطفل كهدية فيأخد الأب المبلغ من الطفل ويدخله في جيبه، وهنا تبدو اشارة رمزية الى أن هذا الحاكم بأمره الطاغية يحرم الاسرة من هذا المال ويستولي عليه لنفسه.

يخرج الضيف المهم بعد انتهاء الزيارة ويدخل الساحر الذي أتى به الزوج ليبهر ضيوفه من الفقراء، فيقدم الساحر بعض الالعاب البسيطة وينبهر الحضور، ثم يصر الساحر على ادخال الزوج في صندوق فيحوله إلى دجاجة ولا يستطيع اعادته ثم يدخل الساحر مع الجميع الى دورة المياة ذات الحوائط القذرة ليهمهم انه سيعيد الدجاجة رجلا ثم يفشل ويخدع الجميع ويهرب مع مساعده.

اختيار المخرج الدجاجة لا يمكن ان يمر دون ربطه بمعنى الدجاجة عند الغرب الذي انفق لانتاج الفيلم واعطاه الجائزة.

الدجاجة عند الغرب هي رمز للجبن حتى ان قول احدهم للآخرyou are chicken. هي نوع من الشتائم التي تعني انت جبان. هنا يكون اختيار الدجاجة مقصودا للدلالة على جبن هذا الرجل المتسلط ورمزا لضعف صاحب السلطة المتحكم فى قوت من يحكمهم..

يستمر الفيلم ببحث الزوجة عن الساحر في الاماكن المختلفة مستعينة باحد زملاء زوجها في سيارة قديمة متهالكة وفي اماكن خربة فيظهر هؤلاء المتسولون او السحرة بملابس بالية ومعهم القرد الذي يستخدم من قبل بعض المتسولين في المناطق الشعبية ليقدم به صاحبه بعض الالعاب ويتسول بعض المال. ولا يبدو للقرد او اصحابه اي دور في القصة سوى اظهار مزيدا من الفقر والقذارة.

والفيلم الذي يفتقر الى وجود قصة لها حبكة روائية، او سيناريو جذاب او حوار مقنع يستمر في استعراض مزيدا من البؤس والسواد.

تظهر الزوجة بين بيتها البائس ومحاولاتها العمل وفي كل محاولة لها للعمل تجد صعوبات وجفاء وسوء معاملة، وعندما تجد عملا في احد المنازل تسرق بعض الطعام فيتم القبض عليها من قبل اصحاب المنزل ويتم طردها لعدم أمانتها.

ولا يظهر هنا هل اراد المخرج أن يجعل الفقر مبررا للسرقة أم اراد أن يقول لنا أن هذه الزوجة ليست افضل من هؤلاء المحيطين بها ليصور الجميع كشخصيات سيئة ليس بينها شخصية واحدة سوية.

ولم يفت المخرج ضمن ما ساقه من شخصيات منحرفة-  بينها الزوج المتسلط وصديق الزوج الذي ساومها على نفسها ولفظته وهؤلاء الذين لم يترفقوا بها بعد ان تراكمت عليها الديون - وما استعرضه من قبح، لم يفته ان يسجل لقطة تعيين الطفل ابن هذه الاسرة والذي لم يتخط عشر سنوات مكان والده في المصنع الذي كان الاب يعمل به. وهنا  في هذه اللقطة اشارة مقصودة إلى عمالة الاطفال.

ثم يأتي الدور لاستعراض قسم الشرطة ضمن سلسلة السلبيات المصورة، وفجأة وبعد الموافقة على تعيين الطفل مكان والده ليحصل على راتبه، يطلب مسؤول المصنع من الزوجة أن تحرر محضرا بغياب زوجها وهو الطلب الذي كان يجب ان يطلبه في بداية التفاوض حول عملها او عمل طفلها. لكن يبدو ان المخرج تذكر فجأة انه نسي تصوير احد المشاهد داخل قسم الشرطة فوضع هذه الجملة.

تذهب السيدة الى القسم لتحرير المحضر وتتعرض لمعاملة فيها قدر من الاهمال فيقول لها المسؤول عن عمل المحضر "روحي استني هناك" لتقف الى جوار حائط، لكن تظهر مساوئ قسم الشرطة في المفاجأة، حيث تفاجأ الزوجة بوجود زوجها محبوسا داخل القسم في حالة قذرة وسيئة صحيا وجسديا فتأخذه الى البيت وتبحث عن كيفية علاجه.

ويعرض لنا الفيلم المشهد وهي تنظفه ويأتي الطبيب ليخبرها ان رعايتها له غير كافية وينصحها بالذهاب به الى المستشفى.

لكنها تكون قد ملت من عبئ الاهتمام به مع مسؤولياتها في العمل لتدبير قوت اولادها. وتظهر  في النهاية وهي تضرب وجه زوجها فاقد الوعي عدة مرات مطالبة اياه ان يفيق او ينطق، ثم تضع على رأسه الوسادة المهترئة لتكتم انفاسه وتقتله.

الفيلم

وهكذا ينتهي الفيلم الذي افتقد الى كل عناصر الفيلم السينمائي والفيلم التسجيلي معا...

فالفيلم التسجيلي يعتمد على تسجيل احداث حقيقية بشخصيات حقيقية وفي ازمنة حقيقية او بالاشارة الى شخصيات حقيقية حتى لو تم تجسيدها بممثلين.

والفيلم السينمائي يعمل على تجسيد قصة مكتوبة لها حبكة و بداية وتصاعد درامي ونهاية وفيها سيناريو وحوار من خلال ممثلين يتقنون تجسيد المشاعر والاحداث..

لكننا هنا أمام اختيار شخصيات حقيقية لتسجيل مشاهد ملفقة لتبدو مشاهد حقيقية.

اختيار اسرة مسيحية صعيدية حقيقية لتجسد حالة من الفقر الشديد ودراما سوداوية قد تتنافى واي واقع فقير عاشته البشرية، فمهما كان الفقر لايمكن ان يكون الفقر مرتبطا بالقذارة المادية والاخلاقية بهذا الشكل، ومهما كان الواقع قاسيا لابد من بعض النماذح الايجابية ونقاط الضوء.

اختار المخرج محافظة المنيا حيث تتفجر بين وقت وآخر احداثا طائفية بسيطة وكأنه يريد أن يؤكد أن هناك يوجد اضطهاد وافقار لهؤلاء، رغم ان اغنى اسرة في مصر هي اسرة مسيحية من صعيد مصر.

التمثيل

افتقرت البطلة الى ادنى مستوى للتعبير، فلم نرى لها سوى وجه واحد بائس بلا اية انفعالات، فلم تصرخ او تعلق على تحول زوجها لدالى دجاجة، ولم نسمع لها صوتا سوى في جمل قليلة خالية من الاحساس والانفعال.

الموسيقى

لم تكن هناك موسيقى تصويرية تسهم في تجسيد الاحداث، فقط مقاطع من اغنيات لا تعبر كلماتها ولا الحانها عن المشاهد التي زج بها فيها.

الديكور

اعتمد الديكور على اظهار القذارة في كل شئ و كل مكان، فالبيت قذر، ومكان العمل ومشاهد تقطيع لحم راس عجل وقطع لحم ودجاج مدبوح ودماء تسيل وكل مكان دارت فيه الاحداث كلها كانت تتسم بالقذارة.

التصوير

بدا التصوير غير محترف فالمشاهد لها زوايا غير واضحة تركز على اشياء دون الاشخاص وردود افعالهم.

الكفكاوية

واذا كان البعض ينسب هذا العمل الى الواقعية السريالية التى اشتهر بها الاديب التشيكي فرانس كافكا والذي ظهر نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وكتب عدة اعمال بالالمانية كلها تناولت الواقعية العبثية السريالية، فإن ما عايشه كافكا من ظروف الحرب العالمية الاولى واثارها المدمرة كان له تاثيره على كتاباته التي امتلات بالعقد النفسية ومات عن عمر اربعين عاما. و نحن لسنا في ظروف الحرب العالمية .

ما علاقة الفقر بالقذارة؟

عرفنا بيوتا فقيرة كثيرة ولم نرها ابدا قذرة، بل على العكس يحرص اصحابها على اظهارها غاية في النظافة حتى وان كانت في عمق الريف.

يقول علماء النفس أن مثل هذه الاعمال السوداوية تنشر الكآبة واليأس في المجتمع، وتزيد من الشعور بالبؤس وتؤثر على الروح المعنوية والقدرة على العمل والانتاج؟

اهمية السينما

هل رأينا فيلما امريكيا او صينيا او هنديا او تركيا يصور مثل هذا السواد القاتم القذر؟

للأسف أن من يعش خارج مصر وحده يعلم كيف تؤثر السينما والمسلسلات في ترسيخ صورة ذهنية لدى غير المصريين عن مصر.

للأسف السينما والتليفزيون فعلا لهما تأثيرهما في رسم الصورة لدى المشاهد الاجنبي.

ولو لم يكن الفن مؤثرا لما حرصت الولايات المتحدة على تصوير الحرب على العراق تليفزيونيا بشكل مبهر يرسخ في الأذهان فكرة القوة الخارقة.

ولما حرصت على انفاق عشرات، بل ومئات الملايين من الدولارات لانتاج افلاما سينمائية تحكي قصص بطولات للجيش الامريكي ومؤسسات الدولة الامريكية.

ولو لم تكن الدراما لها اهميتها في رسم صورة للدولة لما ركزت تركيا على تصدير قصص حب  عبر افلامها ومسلسلاتها على مضيق البوسفور وكأن كل تركيا بجمال هذا الجزء منها رغم ان تركيا بها اماكن شديدة الفقر.

للفن وظيفة هامة ومؤثرة خاصة للدول التي ترغب في جذب السياحة والترويج للاستثمار. ومعروف موقف الغرب وتصيده للاخطاء في دول منطقتنا والفيلم لم يترك شيئا سيئا الا وعرضه.

الفقر. القذارة، التحرش، عمالة الاطفال، سوء المعاملة في اقسام الشرطة، التمييز ضد المراة.

كل هذه المساوئ في فيلم مثلته اسرة مسيحية حقيقية ليرمز الى معاناة من يسميهم الغرب بالاقليات الدينية، وهم في الواقع ليسوا اقلية وانما اخوة وشركاء الوطن.

لا تستهينوا بالفن فهو القوة التي كانت ناعمة ثم اضحت خنجرا في ظهر الوطن.

 

مجلة ميريت الثقافية في

01.11.2021

 
 
 
 
 

ريش.. أفضل فيلم عربي في الجونة السينمائي

كاظم مرشد السلوم

بعد أن حصد جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان السينمائي، وهي الجائزة التي لم ينلها اي فيلم عربي سابقا، جاء عرضه العربي الأول في مهرجان الجونة ليثير جدلا ولغطا، استمر الى ما بعد انتهاء المهرجان، بين من يرى ان الفيلم يسيء الى سمعة مصر، وبين من يرى ان السينما وفي واحدة من أهم مهامها هي تسليط الضوء على الواقع وتحديد المشكلات الكامنة فيه.

الفيلم يتحدث عن أسرة فقيرة جدا، أب يحاول توفير ما يمكن لأطفاله الثلاثة وزوجته، رغم تسلطه وتهميشه لدور زوجته داخل الأسرة، وفي محاولة منه لادخال الفرح الى اطفاله يقوم بعمل عيد ميلاد لأحدهم، ويجلب ساحرا من الذين يجيدون العاب الخفة، ويطلب منه الأخير أن يدخل في صندوق كبير وهو صندوق إخفاء، وبعد دخوله يقوم الساحر بإخراج دجاجة بدلا عنه، لكنه يفشل في اعادته الى وضعه الطبيعي، ومن هذه النقطة تنطلق حكاية الفيلم وحبكته التي تغوص عميقا في الواقع المزري الذي يعيشه الناس ومن ضمنهم هذه الاسرة.

الاشتغال

لا يمكن تصنيف الفيلم بشكل دقيق، فهو عبارة عن فنتازيا، قد تنتمي للعبثية، او للكافكوية التي تحول فيها رجل كافكا الى مسخ، المخرج عمر الزهيري أراد ذلك متعمدا، ليبتعد عن التشخيص الدقيق الذي قد لا ترضى به الرقابة، لذلك لا يوجد تحديد للزمان او للمكان، وليست هناك أسماء لأبطاله، وتأثيث المكان يضعك في تصور ان الزمان هنا يمضي من دون وجود أثر له على الناس، أزياء السبعينيات والثمانينيات، وسيارات قديمة، وتلفزيونات قديمة، مع وجود موبايلات حديثة، ليس هناك حوار كبير بين شخصيات الفيلم، بل جمل بسيطة، أسئلة وأجوبة مقتضبة فقط، مواقع التصوير صنع البعض منها خصيصا للفيلم، والآخر جاء بتقنية الغرافكس، حتى يبتعد الزهيري بفيلمه عن تحديد هوية الفيلم، وان كانت العملة المصرية واللغة هما الدالتان الوحيدتان على هوية الموضوع وشخوصه.

رحلة البحث عن الزوج المفقود

بعد فشل الساحر بإعادة الزوج الى وضعه الطبيعي، تبدأ رحلة الزوجة في البحث عنه، رحلة جعلها عمر الزهيري رحلة استكشاف لواقع صعب ليس لأسرة بطله، بل لشريحة كبيرة من المجتمع، حيث لا رحمة لمن لا يجد لمشكلاته حلا يسيرا، انتهازيون، و برجوازيون يتمتعون بكل شيء، وقوانين وضعت منذ عقود ما زال العمل بها ساريا، لا تراعي وضع الناس، ومنها قانون الإسكان، وعمالة الأطفال وغيرها.

رغم كل مشكلاتها تحرص الزوجة على اطعام الزوج الدجاجة والاعتناء به، مجربة كل السبل الممكنة لإعادته الى وضعه الطبيعي من دون جدوى، الى أن تصل الى اللحظة التي يطلب منها مدير المعمل الذي يشتغل فيه الزوج، جلب وثيقة تثبت فقدان زوجها، حتى يمكنه من دفع مرتبه وتشغيل ابنه الطفل مكانه، لتكتشف أن زوجها عثر عليه منذ فترة، لكنه لا يتحرك ولا يتكلم، رغم عديد محاولاتها لإعادته الى وضعه الطبيعي، الا انه لا يستجيب لها، وبقى كأنه ميت سريريا، فتقرر في النهاية التخلص منه ومن الدجاجة التي تحول اليها، فتخنقه وتذبح الدجاجة، محاولة الاستمرار في حياتها وانهاء رحلة البحث وحكاية الفيلم.

تأويل النص المرئي 

يمكن لحكاية الفيلم أن تكون موجودة في أي مكان وزمان، خصوصا في بلدان الشرق الأوسط، التي لو سلط الضوء بشكل دقيق على مشكلات الناس فيها، سواء بالشكل الذي تناوله الفيلم او بالشكل الوثائقي للسينما، لوجدنا حكايات تفوق فنتازيا عمر الزهيري مخرج الفيلم.

القانون ورعاية الدولة عندما يغيبان او يضعفان، يكونان أس مشكلات المجتمع، وهو ما طرحه الفيلم في الكثير من مشاهده، فضعف الروابط الأسرية نتيجة ذلك وانشغال الناس كل بمشكلاته طرحهما الفيلم من خلال عدم وجود أي علاقة اسرية للزوج او الزوجة داخل الفيلم، هنا تعمد الزهيري ذكر أسماء شخصياته، الكل بلا أسماء، قسوة الفقر والعوز، وغياب قوانين الضمان الفاعلة، وبقاؤها حبرا على ورق في معظم البلاد العربية، كل ذلك تناوله الفيلم وأشار اليه من خلال رحلة معاناة الزوجة.

الأداء

حتى يقترب من الواقع بشكل كبير تعمد الزهيري أن يكون جميع ابطال فيلمه من الناس العاديين الذين لم يسبق لهم الوقوف امام الكاميرا، وجعلهم يتصرفون بالعفوية ذاتها التي يعيشونها في حياتهم اليومية، مستخدما كاميرته برشاقة، اذ تدور في أماكن ضيقة جدا لكن زواياها معبرة توصل ما أراد الفيلم قوله، بطلة الفيلم دميانة نصار التي حملت الفيلم على اكتفاها، أدت دورها بشكل مميز، وساعدها في ذلك عدم وجود حوارات طويلة تحتاج من الممثل لريكشنات عديدة على وجهه، وجاء ذلك نتيجة للسيناريو المحكم الذي كتبه الزهيري بنفسه مع احمد عامر، ولم يحتج مدير التصوير كمال سامي الى الكثير حتى تدور كاميرته في أماكن التصوير، فلا قطعات وحركة شاريو، بل ان الكاميرا كانت ثابتة في معظم الوقت.

أخيرا، يبدو ان جيل المخرج عمر الزهيري سيبحث مستقبلا و بشكل عبثي وفنتازي  في الواقع وما فيه من خلل ومشكلات تعصف بحياة الناس.

الزهيري درس الإخراج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، واخرج اول فيلم قصير  بعنوان «زفير» الذي فاز بجائزة المهر في مهرجان دبي السينمائي، واخرج بعد ذلك فيلمه القصير الثاني «ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375» الذي شارك في مهرجان كان عام 2014 في مسابقة سينيفودناسيون، وحصل على العديد من الجوائز بعدها.

 

الصباح العراقية في

01.11.2021

 
 
 
 
 

«ريش»

عاطف بشاي

«الفنان شريف منير؟! فيلم (الكيت كات) اللى حضرتك مثلت فيه اكتشفنا ان أحداثه كلها بتدور فى العشوائيات.. نمنعه من العرض؟!».

العبارة السابقة تمثل كاريكاتيرًا للفنان «عمرو سليم»، نُشر فى «المصرى اليوم».. والحديث لمذيع بقناة فضائية، فى تعليق ساخر عن واقعة تمت فى مهرجان «الجونة» فى دورته الأخيرة.. حيث اندفع «شريف منير»، فى موقف عنترى، بالانسحاب خارجًا من قاعة العرض، أثناء عرض فيلم «ريش»، تأليف وإخراج «عمر الزهيرى»، الحاصل على جائزة النقاد من مهرجان «كان»، معربًا عن اعتراضه وسخطه من محتوى الفيلم، متهمًا المخرج بتعمده الإساءة إلى سمعة المحروسة من خلال أحداث الفيلم، الذى يدور فى منطقة عشوائية وإبراز حالة الفقر المدقع لبطليه الزوج والزوجة، اللذين يعانيان شظف العيش ويقطنان منزلًا متصدعًا قذرًا لا يصلح لحياة آدمية.. مؤكدًا أن هذه رؤية زائفة للواقع، منكرًا أن هناك فقراء فى «مصر». ويؤيده بعض الفنانين.

وبصرف النظر عن عدم صحة معلوماته المغلوطة.. فإن دلالات موقفه الأهوج، الذى يعبر عنه الكاريكاتير بذكاء، تشِى بأنه هو وإخوانه المعارضين قرروا بجسارة أن يقدموا أنفسهم بصفتهم حراسًا يفرضون وصايتهم على الفن حماية للوطن وخوفًا على سلامته من عبث الفنانين المارقين، مثلما يفرض التكفيريون وصايتهم على الفضيلة التى تبكى وتنتحب من انحلال الرعِيّة من خلال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتحريم والتجريم والمنع والإقصاء، كما تشِى بتكريس شيوع الازدراء وكراهية الآخر واستنكار الجدل عن طريق الحوار بين الرأى والرأى المخالف.. ومن ثَمَّ التحريض على منع العرض الجماهيرى للفيلم.

لكن رد الفعل جاء سريعًا، وقبل ختام المهرجان، ليثبت أن السهام المسمومة تُرَد إلى صدور أصحابها، وأن المزايدة الذميمة تموت فى مهدها.. عن طريق البيان الذى صدر عن مدير الإدارة المركزية للمبادرة الرئاسية «حياة كريمة»، والذى أكد الانحياز إلى حرية التعبير والإبداع الفنى وعدم الانحياز إلى الرأى الذى يرى أن فيلمًا سينمائيًا من الممكن أن يسىء إلى سمعة مصر.. فمصر دولة أكبر من ذلك بكثير، وحرية الإبداع مكفولة.. وكذلك وجهة نظر المؤلف والمخرج.

المدهش فى الأمر أن تصدر هذه الزوبعة من فنانين، لتعكس مفارقة مؤسفة تتصل بجهلهم بمفاهيم ووظيفة ورسالة الفن، المتصلة بمعالجة مشاكل الواقع المعيش وقضايا المجتمع- بصرف النظر عن الأسلوب أو الشكل- والغوص فى هموم وأوجاع البشر ومعاناتهم الإنسانية تجاه الظلم والقهر الاجتماعى.. ونفور هؤلاء الفنانين وتأفُّفهم من مظاهر الفقر التى يصفونها بقبح يخاصم الجمال.. وأى تصور قاصر ذلك الذى يدعونا إلى ازدراء أعمال تشيكوف ودستويفسكى وهوجو ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، المُوغِلة فى طرح قضايا قاع المدينة وشخصياته البائسة ضحايا التمايز الطبقى وانعدام العدل الاجتماعى؟.

■ ■ ■

يستند الفيلم منذ البداية فى مشهد أساسى يمثل نقطة تحول رئيسية فى البناء الدرامى.. فالأب الذى يتوق إلى إسعاد ابنه بالاحتفال بعيد ميلاده يستقدم ساحرًا (بائسًا) مثله ليقدم عرضًا لمهاراته للأطفال (البؤساء) المشاركين للطفل (البائس) فرحته.. يطلب الساحر من الأب الدخول فى صندوق يغلقه عليه.. وعندما يفتحه نجد أن الأب تحول إلى دجاجة.

إذًا، فإن نقطة الانطلاق (المقدمة المنطقية) تؤكد أننا إزاء فيلم يتخذ شكلًا عبثيًا.. ينتمى إلى سينما تتخذ من واقع اجتماعى بائس مدخلًا لرؤية (لا معقولة) لهذا الواقع باستخدام (الفانتازيا) والخيال الفنى الجامح.

وتبدأ الرحلة العبثية التى تقوم بها الزوجة بالبحث عن الساحر الذى اختفى ليعيد إليها الزوج كما كان إنسانًا بلا جدوى وبلا رجاء فى العثور عليهما (الساحر والأب).. وتتجسد فى تلك الرحلة أزمة الوجود بمعناها الفلسفى المتجاوز للأبعاد الاجتماعية، التى حصر المتلقون أنفسهم فى تقييم الفيلم وتحليله استنادًا إليها.. وتخوض الزوجة رحلة عبثية أخرى فى التعامل مع الدجاجة باعتبارها هى الأب، فترعاه وتناجيه وتتوحد به.. ثم تمارس دوره فى الحياة العملية.. إن المؤلف، المخرج، يصوغ هنا رؤية فلسفية بالغة الغور والتعقيد تشمل الإنسان والكون والوجود الإنسانى، الذى يجاهد لينجو من السقوط فى العدم، فى إطار سخرية مريرة من ذلك الواقع الاجتماعى الجامد بثوابته وتابوهاته المتحجرة وقسوته والخواء الوجدانى لشخوصه، الذين يتحركون كأنهم دمى يسكنون أجسادًا مُضْمَحِلّة ويعيشون فى صمت رهيب وفراغ روحى وقبح المكان والبيئة وخلوهما من مظاهر الجمال الشكلى.. إن القبح الواقعى هنا يستحيل إلى جمال فنى يشمل المضمون والمحتوى والتعبير المرئى عن فداحة قبح الواقع.

والمكان غير محصور فى معالم واضحة تحدد جغرافيته.. والزمن يأخذ شكلًا رمزيًا يوحى بامتداده خارج الزمن الواقعى.. إن المخرج فى هذا الفيلم يحلم ويجسد حلمه تجسيدًا سرياليًا عبثيًا فوق الواقع وضد السائد من الأشكال الجاهزة المتعارَف عليها، متجاوزًا التصور الآنى اللحظى الثابت إلى رحابة المتغير الغامض ليقدم رؤية شاملة للحياة والبشر والمعانى، دون أن يُغفل عذاب الإنسان واحتياجاته المادية والغرائزية فى أرض الشقاء.

لا تحاكموا الفيلم بمقاييس الدراما الواقعية، ولا تعتقلوا السحر والخيال والإبداع فى زنازين أزمنة سينما متراجعة يُقبل عليها متلقٍّ فسد ذوقه، وتداعَت معارفه، وتدنّت ثقافته.

Atef.beshay@windowslive.com

 

المصري اليوم في

02.11.2021

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004