«الشرق
الأوسط» في مهرجان كان ـ 6 :
عنف لكروننبيرغ لا يُحتمل في «جرائم المستقبل»
كان: محمد رضا
قبل عامين، غاب مهرجان «كان» عن الحضور الفعلي. استبدل بعض
نشاطه على الهواء، ووزع العديد من الأفلام التي اختارها لتلك الدورة في سنة
الوباء الشهير، على مهرجانات صديقة له لم يكن من بينها «برلين» ولا
«فنيسيا». لماذا؟ قلنا وزعها على المهرجانات «الصديقة».
في ذلك العام نجا «مهرجان فنيسيا» من كل المخاوف، وأقام
دورة ناجحة وقوية. «مهرجان برلين» اضطر للغياب في عام 2020 ومهرجان «كان»
عاد بأفلام شحيحة الحضور (جيدة أو لا، لكن قليلة وغير ذات ثقل) في دورة قام
بدفعها من الشهر الخامس إلى الشهر السابع هرباً من الوباء.
هذا العام، وقد بقي من الدورة يومان، عاد المهرجان إلى
صباه. استعاد كامل قوته ونشاطه وهفواته. تلك التي كان من بينها الاحتفاء
بفيلم افتتاح
«Final Cut»
الذي دخل وخرج من البال مثل كابوس لم يعمر طويلاً.
رعب في الأحشاء
الأمر مختلف مع معظم ما ورد من أفلام بعض فيلم ميشيل
أزانافسيسوس ذاك. بعضها كان محط قبول فوري. في بعضها تطلب الأمر معاينة
وخضع لاختلاف الأذواق، وبعضها الثالث كان موضع انتظار الجمهور الكبير
بشقيه: النقاد والعاملون في مهنة الصحافة عموماً والجمهور.
أحد هذه الأفلام فيلم الكندي ديفيد كروننبيرغ الجديد «جرائم
المستقبل». في تناول مسبق لأفلام المهرجان قبل نحو أسبوعين شككت في أن عودة
كروننبيرغ لسينما الرعب البيولوجية (تلك التي تدور في وحول تحولات الجسد
الإنساني إلى تشويهات عنيفة) ستكون ناجحة. بعد المشاهدة، هي ناجحة إعلامياً
من باب أن شخصية مثله لا بد أن تثير الجدل مع وضد الفيلم والكثير من
الاحتفاء. لكنها ليست ناجحة فنياً على النحو الذي بشر به بعض النقاد.
ربما الاختلاف يكمن في معرفة تاريخ العلاقة بين كروننبيرغ
وذلك النوع من حكايات الرعب التي تدور حول اختلاق جسد آخر غير الجسد الذي
وُلد الإنسان به والعنف والألم اللذين يصاحبان ذلك الانتقال من وضع إلى آخر.
في المؤتمر الصحافي الذي عقد بعد العرض الأول للفيلم، اختار
ديفيد كروننبيرغ الحديث في السياسة، فمال إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا،
مختاراً كلماته ببعض العناية. قال: «نتحدث عن بوتِين وغزوه أوكرانيا، لكن
جنوب كندا يشعرنا بارتجاجات مشابهة». وأضاف: «أعتقد أن الولايات المتحدة
فقدت عقلها».
هذا لم يغضب أحداً ولم يؤد تلقائياً لسؤال حول أسباب ما
قال. ما كان في بال الحاضرين هو سؤاله عن السبب الذي اختار من أجله العودة
إلى منواله في السبعينات والثمانينات عندما قاد (والأميركي الراحل لاري
كوهن) خوض أفلام رعب بيولوجية ومخلوقات تخرج من الرحم كسيحة أو مشوهة
وقاتلة.
السبب الذي دفعه إلى العودة إلى تلك الأفلام
(من
بينها
«Rabid»
و«Shivers»)،
حسب قوله، أنه وجد نفسه معنياً بالعودة إلى تلك الأفلام لطرح سؤال راوده
دائماً؛ هو: «من يملك جسد من؟»... هل يملكه صاحبه أم إن هناك تحولات لا
سُلطة له عليها تتدخل وتسيطر وتمتلك؟
في عام 1983 سمعنا مثل الجواب مطروحاً في فيلمه
«Videodrome».
الجواب تحديداً كان «ليحيا اللحم الجديد»
(Long live the new flesh).
يبني كروننبيرغ طقوساً مناسبة. المدينة ليست جميلة. الشارع
كئيب والسائرون فيه يبدو كما لو كانوا مخدرين. عنف المستقبل الذي يتحدث عنه
المخرج يلد فجأة ومن دون مقدمات في مطلع الفيلم قبل دخوله صلب القصة. بطل
الفيلم صول (فيغو مورتنسن) يشعر بأن هناك شيئاً في داخل جسده يحاول أن يخرج
من كل منحنى بدني ممكن. هذا يعني، بالنسبة إلى المخرج، الاستفادة من
الموضوع لخلق تشويهات دموية وعنف مؤلم للمتابعة بسبب الحالة التي نرى صول
عليها. ثم - بالطبع - بسبب أنه ليس من الفن في شيء أن نرى ما نراه. هناك
جنس غير طبيعي، وعنف يجتاح الصغار والكبار، ودم مراق، ولكن ليس هناك ما
يبرر هذه الحدة في استخدام العنف، ولا الهدف من وراء الحكاية أساساً، ولو
أنها تعمل في خط بعيد على الإيحاء بأن مستقبل البشرية أكثر دكانة من واقعها
الحالي.
بعد حين قصير، بدأ خروج المشاهدين الذين لم يستسيغوا أياً
مما مر أمامهم. إنها الفترة الكافية لكي تتولد القناعة بأن الفيلم يهدف إلى
العرض أكثر مما يهدف إلى الفكرة، ويشتغل على الرعب البيولوجي (وما يسببه من
شعور بالقيء) أكثر مما يتولى تقديم بعد إنساني ما. لا نقداً نراه متمثلاً
في المعروض، ولا حكاية تأخذنا إلى آفاق كافكاوية. والأفدح؛ تلك المسافة بين
ما يعرضه كروننبيرغ وبين أي مسؤولية فنية أو فكرية مأخوذة بعين الاعتبار.
كل شيء من بعد نصف ساعة ينقلب إلى سوريالية وكابوس.
فيلمان فرنسيان {نص – نص}
من حسن الحظ أن باقي ما شاهده هذا الناقد لا يلجأ إلى
هلوسات أزانافسيوس أو هواجس كروننبيرغ. واضح أن اختيارهما كان لأجل احتواء
الاسمين أساساً، وهي حال معظم الأفلام التي جرى توفيرها في المسابقة
الرسمية.
هناك تواصل مع الواقع في العديد من أفلام اليوم. حتى الفيلم
الفرنسي «شباب أبدي»
(Forever Young /
Les Amandiers)
للممثلة - المخرجة ڤاليريا بروني شيرو يتلألأ بحسن اختيارات مخرجته الموضوع
وكيفية التعبير عنه. هو عن التمثيل وفنه وشخصياته الراغبة فيه. وهو الفيلم
الخامس لها مخرجةً، والأول الذي لا تنبري فيه للوقوف وراء وأمام الكاميرا
في آن واحد.
موضوعها بسيط وبلا تطورات كبيرة: مجموعة من الشباب والبنات
يلتحقون بمدرسة باتريس شيرو المسرحية التي أسسها في النصف الثاني من
الثمانينات باسم «مسرح الساعين». شيرو كان مخرجاً مسرحياً وسينمائياً أمتن
عضداً من ڤاليريا. كلاهما امتلك الخيال، لكن شيرو استخدمه بتصرف ذاتي وليس
فقط سردَ حكاية، وهو ما تفعله المخرجة موفرة فيلماً مقبولاً كما هو من دون
أن يكون خارقاً للمعتاد.
المصير نفسه، لكن على نحو مختلف، يتعرض إليه فيلم المخرجة
الفرنسية ليا ميسيوس «الشياطين الخمسة». هذا ثاني فيلم لها بعد تجربتها
الأولى سنة 2017 بفيلم
«Ava».
ذاك نال إعجاباً محدوداً، والفيلم الجديد يبرهن عن أنها كاتبة سيناريو أفضل
من منفذة له.
أي مهمة تتطلب عدداً من الحكايات المتشابكة عليها أن تتأكد
من أن هذا التشابك لن يعرض الفيلم إلى الانهيار تحت ثقل المحاولة، وهذا ما
يقع هنا.
بطلة الفيلم (أديل إكساركوبولوس) تعمل في بلدة خارج باريس
(في طريقك وأنت متجه إلى الحدود الإيطالية) مدربة سباحة وحركات أكروباتية
للسيدات. خلفها، في حياتها البعيدة عن العمل، تكمن مشكلات عائلية تتضح
بالتدريج: هي تزوجت من أفريقي (مصطفى مبنغو) وزواجهما كان عن حب استمر بضع
سنين ثم خفت. لا نعرف تماماً السبب؛ لكننا نشاهد آثاره التي منها تعرض
ابنتهما إلى مضايقات من الفتيات في المدرسة.
ڤيكي هي المحور، والفيلم يبني الكثير على تمتعها بالقدرة
على احتواء رائحة الناس اللطفاء حيالها في زجاجات فارغة. كيف ذلك؟ لا يهم
المخرجة إعلامنا، لكنها تضيف إلى هذه الخصوصية قدرة الفتاة على زيارة ماضي
كل شخصية حفظت في القوارير رائحتها. هذا يعني رحلات مفتوحة صوب الماضي.
هذا كله جزء من موزاييك لا يعمل جمالياً ولا درامياً، ومن
الصعب الاعتقاد أن هذا الفيلم (أو «شباب أبدي») سيخرج بجائزة ما. لكن للجان
التحكيم عادة أذواق غريبة.
...
والكوري الأفضل
بعض الأفضل قادم من آسيا. وفي الطليعة فيلم بارك تشان - ووك
الذي لفت الأنظار أكثر من مرة. في عام 2000 قدم دراما جيدة بعنوان «منطقة
أمن مشترك
(Joint Security Area)»
عن حراس حدود كوريين؛ شماليين وجنوبيين، يتعارفون ويتحادثون ثم يعودون كل
إلى موقعه المعادي للآخر. في عام 2017 قدم «الخادمة» حول العلاقات المضطربة
عاطفياً وطبقياً بين عائلة ثرية وخادمة تسقط في هوة أنانية العائلة قبل أن
ينتهي الفيلم باحتمالات نجاة.
الفيلم الجديد، «قرار بالانصراف
(Decision to Leave)»
يختلف عن كليهما. في الطلاء الخارجي هو فيلم «نوار
(Noir)»
حديث حول التحري والمرأة المتهمة بجريمة قتل. في العمق هو عن تلك العلاقة
الرومانسية ذات الوتيرة المشدودة بين الاثنين. هو غير واثق بأنها بريئة وهي
غير واثقة بأنها تستطيع تأكيد براءتها. بطل الفيلم هو التحري هاي - جون
(بارك هاي - إل) الذي يحب عمله وما يحويه كحبه للروايات البوليسية السويدية
التي يقرأها (بالكورية) من أعمال مارتن بك. سريعاً ما ندلف إلى قضية جريمة
ذهب ضحيتها رجل سقط من على صخرة إلى حتفه. الزوجة شابة من المهاجرات
الصينيات. كانت تعرفت على القتيل الذي أحبها وسعى بنجاح لتأمين هوية كورية
(جنوبية بالطبع) لها.
ما يلفت انتباه التحري أنها لم تتأثر كثيراً عندما علمت
بالحادث. وهذا كله تمهيد كاف لانصرافه لمتابعتها ورصد تحركاتها، ثم للتعرف
عليها أكثر فأكثر من خلال استجواباته. المشاهد الصامتة محلاة بالموسيقى
التي وضعها تشو يونغ - ووك، أحد المؤلفين الموسيقيين الجدد في السينما
الكورية. بطلانا يرقصان عن بعد؛ كل حول الآخر، ثم تتحول علاقتهما إلى حضور
اجتماعي. هذا قبل أن ينجلي الفيلم عن مفاجآت أخرى وعن جريمة قتل جديدة تعيد
طرح الأسئلة الأولى. |