"ليلى واخوانها” تحفة سينمائية
يوم بعد آخر تحلق السينما الايرانية بعيدا تدهشنا بمبدعيها
ومضامين اعمالها والطروحات السينمائية التى تقدمها عبر كوكبة من المبدعين
سواء في طهران او حتى المقيمين خارجها والذين تظل السينما هاجسهم والانسان
قلقهم .
ومن الاسماء التى راحت تشكل علامات وبصمات ايجابية يأتى اسم
المخرج سعيد رستائي الذى كلما حضر ادهشنا وكلما اضاءت شاشات السينما منها
الزهو والتفرد عبر ابداعات ستظل تثير الجدل . ومن اعماله نشير الى
افلام"الضوء"وثائقي 2012 و"الحياة واليوم"2016"و"قانون طهران"2019 .
واليوم يأتى عمله وتحفته الجديدة"ليلى واخوانها"قصيدة
سينمائية محبوكة الصنعة عميقه كلما تاملتها ثرية حينما تتماس معها وصيغة
سينمائية تقول الكثير عبر كتابة سينمائية عالية الجودة واحترافية في
الانتاج والاخراج عالية الكعب سيتوقف عندها النقاد مطولا حول العالم وفي كل
مهرجان سيحط الرحال به هذا الفيلم وهذا المبدع الشاب"من مواليد طهران 14
اغسطس 1989.
حكاية عائلية ولكنها ليس مجرد حكاية من مخرج"حكاء"شخوص
تزدحم بها الكاميرا ومنذ المشهد الاول حيث يقوم عمال احد مصانع الحديد
والصلب بالاضراب نتيجة عدم قبض رواتبهم لاكثر من 8 اشهر . وتكون المواجهة
مع رجال الشرطة الذين ينهالون بهرواتهم وعصيهم على الالاف من العاملين في
ذلك المصنع وبايقاع متزاحم لاهث مصمم ومكتوب بعناية نتابع من خلال محاولة
خروح الشاب"على رضا- من ذلك الجحيم الذى اشتعل واصاب وجرح الكثير من زملائه
حتى يصل الى منزل العائلة لتبدا حكاية اخري . وكان المخرج سعيد روستائي
بتلك الاستهلاله يقول بان هناك هم والم نتيجة الازمة الاقتصادية الخانقة
والحصار الاقتصادي الذى يمارسه العالم ضد ايران ولكن المه وقسوته تصيب
الانسان والاسرة الايرانية الفقيرة على وجه الخصوص .
وحينما يصل"على رضا"الي بيت الاسرة نجد انفسنا من الحالة
الاحادية الى الحالة الجمعية عبر الاسرة بكاملة التى تعاني الضغوط
الاقتصادية لنكون امام حكاية ليلي ذات الاربعين عاما والتى نذرت حياتها من
اجل رعاية والديها واخوتها الاربعة حيث الضغوط الاقتصادية تكاد امامها تسمع
قرقعة العظام وهي تفارق احلامها وتهشم الذوات من خلال تضحيات يذهب معها
العمر والامل والمستقبل .
كمية من الحوارات التمهيدية والتى تاخذ اكثر من ساعة من
الزمان (الفيلم ساعتان و23 دقيقة).
اسرة تحاول الصمود تحاول ان تبدا مشروعها المستقبلي الصغير
من خلال تجميع بعض الاموال خصوصا بعد عثور ليلى على مجموعة من الليرات
الذهب كان والدهم قد اخفاها كما اخفي حكايات اخري ومن بينها بيت اخر لم
يعلن عنه لاسرته وفي خط متوازي كان الاب يسعي الى العودة لاستلام رئاسة
العائلة وهو تقليد اجتماعي ايراني عريق ولبلوغ ذلك الشرف علية ان يقدم
التبرع الاعلي من المال والذهب في احدي المناسبات الاسرية وهو تبرع مكلف
عرفت ليلى بان هذا المبلغ هم الاحق به من اجل شراء او بناء اي مشروع لذا
تنصح اخوتها بالامر وتاتى فكرة شراء حمام عام يعمل به احد اشقائها يدر دخلا
كبيرا يوميا . وهكذا تسير الامور ولكن الاب يفكر بحلمه الاكبر بان يكون
رئيس العائلة ومن خلال هذا المنصب سيحصل على المال.
ولكن ليلى تمضي في المشروع عبر الذهب الخاص بوالدها الذي
كان يسعي هو من خلاله لبلوغ عرش الاسرة . تتمكن ليلى مع اخوتها بعد موافقة
البنك الحصول على الحمام . وتزامن ذلك مع حفل زواج احد افراد الاسرة من
الاعمام وهنا هو اليوم المقرر ان يدفع الاب الذهب ليتوج عميدا للعائلة .
ولكن الذهب الا ياتى في الوقت المناسب لان ليلى واخوتها باعوا كل شئ من اجل
مشروعهم الذى يؤمن مستقبلهم وحياتهم وتجاوز بطالتهم ازماتهم الاقتصادية
الخانقة .
وفي الحفل الذي يعتبر من اهم المشاهد مثل مشاهد الفيلم بعد
المشهد الاستهلالي ينهار كل شي وينحي الاب ليحل مكانه اخية عم الاسرة لانه
دفع المبلغ الاكبر وينهار الاب صارخا لقد اخذتوا منى التاج من اجل حمام .
وامام انهيار الاب ومرضه يقرر الابناء الاستغناء عن المشروع
والغاء الاتفاق مع البنك واعاده الذهب ولكن الكارثة تحل حينما يرتفع سعر
الذهب وينهار الدولار وتكون الاسرة امام معضلة جديدة حيث عدم المقدرة
الاستعادة المال الذى راح يتناقص وينكمش امام الازمات الاقتصادية والحصار
الذي تدفع الاسرة الايرانية بشكل عام واسرة ليلى ضريبته. فيلم يصرخ من
الازمات الاقتصادية بلا شعارات وبلا تصريحات سوى الانهيار الاسري الذى يوصل
الى موت الاب في مشهد هو الاخر قمة الفيلم حيث يتزامن موته مع الاحتفال
بعيد ميلاد احدي حفيداته اللواتى يزدحم بهم المنزل وعبر مشهد لا يمكن
تجاوزه والتوقف عنده مطولا بل ابعد من ذلك .الموت وسط رقصة الحياة من اجل
غدا افضل، في الفيلم كوكبة من كبار الممثلين يتقدمهم بدور الاب سعيد
بوررستمامي الذى يدهشنا في كل مشهد بدائه العفوي والعميق . ومعه الممثلة
ترانه علي دوستي بدور ليلي وهكذا هو شان بقية نجوم العمل
خلف الكاميرا كان مدير التصوير الايراني القدير هومان بهمنش
بحلوله البصرية المذهلة بالذات في مشهد الاضراب . سينما ايرانية مغايرة
تذهب بعيدا في تحليل الحالة الاقتصادية التى يعيش تحت ضغوطها الانسان
الايراني، ابداع سينمائي عال الكعب من توقيع سعيد روستائي، ويبقي ان نقول
”برافو“!
أرزق القفطان: الحياة والموت خارج التقاليد
الفيلم المغربي "ازرق القفطان“ واحد من اهم نتاجات السينما
المغربية يذهب بعيدا في طروحاته واحتفاءه بالخياطين المهرة والحياة خارج
تقاليد الحياة وايضا الموت والدفن في بلد اسلامي مثل المغرب . فيلم لربما
اكثر اهمية بقيمته واسلوبه ومضامينه في السباحة عكس التيار وخارج كل ما
مستعاد وتقليدي ومكرر .
فيلم "ازرق القفطان "قراءة وتحليل لمسيرة القفطان والتالي
صناعة واساليبة وقيمته. احتفاء عال عبر لغة سينمائية وكتابة رصينة عميقة
وثرية بالصوره والاحاسيس . في الفيلم الذى تعاونت في كتابته المخرجة
المغربية مريم توزانى مع وزوجها المخرج والمنتج نبيل عيوش تشتغل هذة
المبدعة على ما ابعد من حدود الصورة والمسرود من الحدث الى كم اخر من
الحكايات التى تذهب الى عمق التاريخ والمجتمع . وان ظلت المحاور الاساسية
محل الخياطة التقليدية والحمام والحي وقبل كل هذا القفطان بكل بهاءهلا
ومجده .
حكاية حليم ( صلاح بكري ) المتزوج من مينا (لوبنا ازبال)
وهما يدران محل للخياطة التقليدية الخاصة بالقفطان . حيث مدينة سلا القريبة
من العاصمة المغربية وحيث لا تزال التقاليد صامدة امام عالم متسارع متغير .
يظل حليم يعيش عالمه السري عبر العلاقات المثلية في احد الحمامات الشعبية
في الحين ذاته تظل زوجته وفيه له رغم علمها بانه يعيش تلك اللحظات الشاردة
التى تظل تحمل له الهدوء النفسي والجسدى .لقد ظلت مينا امينه عالية تفتخر
به وتعتز حيث تقول له وهو يعترف امامها بانه ( سيد الرجال) .
ذات يوم يحضر اليهم شاب (يوسف) ايوب موسوي للعمل عندهم في
حرفة الخياطة وتبدا العلاقة بالتطور بينه وبين حليم . في متوازي مع
الانهيارات الصحية لزوجته "مينا "التى التهم السرطان جسدها وباتت غير قادرة
على العمل وتحمل الالم الموجع .احدث تسير بهدوء وتكاد تتكرر حيث محل
الخياطة والحمام والحي وايضا عملية الخياطة والحياكة والاشتغال اليدوي
لتشكيل القفطان الذى يتطلي كثير من الوقت وهذا ما جلتنا مريم توزاني نعيشه
ونحسه ونتامله ونستمتع به .
حياة ذلك الثنائي كانت خارج الطار التقليدي وهكذا كانت لحظة
الموت وتقاليد الدفن حيث يقرر حليم ان تدفن زوجته مينا وهي ترتدي القفطان
بدلا من الكفن حسب التقاليد الاسلامية . ولربما يثير هذا المشهد كثير من
الجدل اكثر من موضوع المثلية الجنسية التى قدمتها الشخصية المحورية وتصوير
الحمامات وكانها ساحة لمثل تلك العلاقات .
سينما تحتفي بالارث الكبير للقفطان وصناعة وظروفهم . عبر
قراءه خارج التقليد في كل شي اعتبارا من بناء الشخصيات وتطورها الى المناخ
العام للفيلم الذي ظل محافظا على ايقاعة ومساراته الثرية وشخوصة المكثفة
والتى هي الاخري خارج السياق التقليدي . شخصيات اختارت ما تريد كما اختارت
التعامل مع هذا السمو العالي بما يمثله القفطان من اللون الى التصميم
والشغل والانجاز والعلاقة مع الجسد والمناسبة وهي في الغالب الفرح الاكبر
.
شخوص ودلالات وايضا لغة سينمائية مقرونه بالاحترافية التى
ترسخ بصمه هذة المبدعة المغربية مريم توزاني حتى وهي تحرك الساكن وتثير
الجدل وتحفز الوعي باننا امام حرفة تذهب الى الاحتضار والموت . لذا تأتى
احدث الفيلم بصرخة مكتومة تتفجر في اتجاهات عدة تاره عبر الممارسات المثلية
لخياط عاش طيلة حياته مهمشا مع والدة وحينما جاءت زوجته لتفجر طاقاته
الابداعية وتحولة الى معلم ومنحته الحرية حيث تقول له (لا تخاف من الحب)
وقد اخذ بتلك النصيحة حيث المشهد الاخير بعد الموت يظهر حليم ومع يوسف في
احد المقاهي الشعبية وهو يعلم جيدا ما سيقال عنه ولكنه اختار ما يريد لذا
ادار ظهرة للكلام من اجل ان يحافظ على الحب كما يحافظ على صنعته وحرفته.
في الفيلم اداء متجانس متناغم عادي رقيق بين ثلاثي الفيلم
صلاح بكري ولوبنا ازبال وايوب موسوي . ولابد من التامل كثيرا الاداء العميق
للفنانه لبنا ازبال التى ذهب بعيدا في تحليل الشخصية ومعايشة لانتقالات
التى عاشتها الشخصية بكافة مراحلها وصولا الى النهاية عبر حالة سخية من
التحليل والفهم لطبيعة الشخصية ومعطياتها وهو اداء لا يتحقق الا
بالاحترافية العالية.
الحديث عن "ازرق القفطان "يدعونا الى تحية المركز السينمائي
الوطنى المغربي الذى يظل دائما وراء انجاز تلك الاعمال السينمائية التى
تليق بالسينما المغربية وترسخ مكانتها حتى وان كانت بالنسبة للبعض مثيرة
للجدل، متسائلين ما هو نفع السينما ان لم تكون كذلك، ويبقي ان نقول، برافو
مريم توزاني. |