هى المسابقة الأقوى عربيًّا لأنها تنتقى الأجمل، أتحدث عن
مسابقة الأفلام الطويلة فى مهرجان (مالمو)، ومن خلالها تستطيع أن تتأكد أن
السينما العربية، مهما واجهت من معوقات، سيظل هناك مبدعون قادرون على
النفاذ إلى المشاعر وأيضًا عبور الحدود.
تعلن نتائج الأفلام الفائزة، السادسة مساء الغد. عدد كبير
منها حظوظها قائمة وبقوة مثل الفيلم المغربى (كذب أبيض) لأسماء المدير
والتونسى (بنات ألفا) لكوثر بن هنية، والسعودى (مندوب ليل) على كلثومى،
والأردنى
(إن شاء الله ولد) لأمجد الرشيد، والسودانى (وداعًا جوليا)
لمحمد كردفانى، والفلسطينى (الأستاذ) لفرح نابلسى.
اخترت من بين هؤلاء التوقف أمام الفيلم اليمنى (المرهَقون)
لعمر جمال. نادرًا ما تحظى بالمتابعة هذه السينما الوليدة المتفردة، اليمن
بلد الخير والجمال والحضارة وأيضًا الإبداع.
استطاع المخرج عمرو جمال أن يضع دولة اليمن على خريطة
السينما العالمية، بفيلمه الذى يحمل عنوانًا موحيًا (المرهَقون)، إنها
المعاناة اليومية التى يعيشها أهلنا فى اليمن، الذى نصفه فى كل الأدبيات
العربية
بـ(اليمن السعيد)، ونرجو له جميعًا أن يعيش قريبًا تلك
السعادة المفقودة.
الفيلم لم يكتفِ بالمشاركة المشرفة، فى قسم (البانوراما)
بمهرجان برلين السينمائى الدورة قبل الأخيرة، ولكنه استطاع أيضًا اقتناص
جائزتين، الأولى جائزة العفو الدولية، الشريط السينمائى أيقظ الضمير
العالمى لما يجرى على أرض اليمن من تناحر، كما أن المخرج أثبت قدرته على
القراءة الصحيحة والعميقة لمشاعر الجمهور مع اختلاف الجنسيات، فحقق الجائزة
الثانية وهى الجمهور الذى منحه المركز الثانى بين الأفضل، فى كل أقسام
المهرجان.
المخرج عمرو جمال قدم قبل نحو عشرة أعوام فيلمه الروائى
الأول (عشرة أيام قبل الزفة)، أيضًا أحداثه داخل اليمن، وفيلمه (المرهَقون)
هو أحد أهم عناويننا العام الماضى، والبطل الحقيقى هو اليمن.
المخرج مدرك تمامًا أهمية الجانب التوثيقى حتى فى الفيلم
الروائى، الذى يحفظ للأجيال القادمة ذاكرة المكان، تكشف بقراءة متأنية أن
اللقطات الطويلة هى قانون هذا الفيلم، دائمًا هى اختيار المخرج الأول ليظل
محتفظًا بحضور المكان، إنه أحد العشاق المتيمين بالمدينة التى وُلد فيها
(عدن)، ولهذا تجدها دائمًا فى عمق (الكادر).
قد يبدو للوهلة الأولى العنوان (المرهَقون) لو قارنته
بالمعاناة التى يعيشها الإنسان اليمنى وتحملها لنا يوميًّا وسائل الإعلام،
تبدو الكلمة، وكأنها تخفف حقيقة المأساة، تعودنا أن نرى فى الإعلام فيضًا
من مشاهد الدماء والدمار، يبدو الإرهاق بالمقارنة بحقيقة ما يجرى على
الأرض، وكأنه لحظة استرخاء، إلا أن مدلول الإرهاق وصل بنا إلى المنتهى،
معاناة تجاوزت القدرة على التعايش، الأسرة، الزوج والزوجة والأبناء
الثلاثة، وينتظرون الرابع، ولهذا يقرر الزوجان التخلص منه، وهم يعيشون على
حد الكفاف، البعض بنظرة متعجلة، يحاكم الفيلم بمنظور دينى، الإجهاض محرم فى
الشرع، ومجرم فى القانون، لم يكن هذا الخط الدرامى هو عمق الفيلم، ولكن
تداعيات العلاقات داخل الأسرة التى لا تجد سوى الإجهاض حلًّا.
المخرج الذى شارك أيضًا فى كتابة السيناريو مع مازن رفعت
يقدم دائمًا سطحًا ناعمًا للأحداث، أسرة بسيطة تريد أن تمسك بالحياة، أقصد
بأقل القليل من أسلحة البقاء فى الحياة، بينما كل ما يحيط بها يدفعها إلى
الانسحاب التدريجى من الحياة.
استطاع المبدع اليمنى أن يعبر عن نفسه من ثقب إبرة، وهو ما
فعله المخرج عمرو جمال، الذى تمكن من الحصول على تمويل من أكثر من جهة مثل
مهرجانى (البحر الأحمر) فى جدة، وأيضًا (مالمو) فى السويد، وفى عدد آخر من
الهيئات وأيضًا الأصدقاء المتحمسين للتجربة.
نتوقف أمام الإرادة التى يمتلكها المخرج اليمنى، الفيلم
يمنى القضية واللهجة، إلا أنه أيضًا استطاع أن يحصل على تمويل من السودان،
المخرج السودانى أمجد أبوالعلا صاحب فيلم (ستموت فى العشرين)، الذى تحرر من
الإنتاج فقط لنفسه، صار متواجدًا بإمكانياته وراء العديد من التجارب
المختلفة سواء قدمها سودانيون أو عرب.
شارك «أمجد» فى الإنتاج لأنه تحمس للتجربة، الفيلم يعنيه
فقط البشر فى صراعهم من أجل الحياة، وعين المخرج تلتقط كل هذا الجمال
والسحر فى المعمار اليمنى، وتحديدًا مدينة (عدن)، حيث تجرى الأحداث،
السينما حتى لو لم تقصد ذلك بالضرورة ومع سبق الإصرار فهى تحافظ على الحياة
وتوثقها. اللقطات الطويلة التى تأخذ مساحات مكانية على (الكادر) تتيح
للمخرج، رغم صعوبتها، لمحات من الإضافة تمنح أيضًا للمشاهد قدرًا لا يُنكر
من تعدد زوايا الرؤية، فأنت تشاهد وتعيش وتتذوق، بل تشم أيضًا رائحة
المكان، تتعاطف مع الأبطال بعين راصدة وعقل مستيقظ.
الإنسان اليمنى لا يريد سوى ضمان المقومات الأساسية للحياة،
هذه تكفيه، والمخرج حدد من البداية الهدف، لن يدخل فى جدل فكرى وصراعات
سياسية، قضيته أبعد من كل ذلك، أيضًا السياسة بكل تفاصيلها تعبر عن
لحظة آنية، قد تتغير المعادلات على أرض الواقع فى أى توقيت آخر، ليصبح ما
نراه على الشاشة خارج الزمن، ويبقى قبل وبعد كل ذلك الإنسان.
المخرج بذكاء يراهن فقط على الإنسان، لم يشارك أو بالأحرى
يبدد طاقته فى معركة يجد نفسه فى نهايتها مثخنًا بالجراح، التداخلات
السياسية معقدة جدًّا، والأعمال الدرامية التى دخلت كطرف فى تلك المعارك
الجدلية لم تصمد طويلًا فى الذاكرة، وصار الخط السياسى بالنسبة لها مثل
الرمال الناعمة، التى تجذب مَن يقف عليها ليجد نفسه قد انزلقت قدمه، وتنفس
تحت الرمال.
المعاناة اليومية، هذا هو بالضبط ما قدمه عمرو جمال، حتى
مشاكسات الأمن وقوات الجيش للمواطن نراها جزءًا من الحياة، وتعمد ألا يضع
خطًّا فاصلًا بينها وبين ممارسة طقوس الحياة، فهو يمسك بذكاء بالخط
الاجتماعى: زوج وزوجة وثلاثة أطفال، ينتظرون الرابع الذى يعنى زيادة فى
المعاناة، إلا أن كل ذلك لا يشكل سوى إطار شكلى فقط لما يريده المخرج بهذا
الشريط الذى ينضح صدقًا.
توثيق حياة الإنسان هو القضية، ليظل هذا الشريط قادرًا على
مواصلة الحياة، الفيلم كبناء رغم أنه يتبنى تقديم المعاناة، فإنه يزرع فى
نفس اللحظة إحساس المقاومة داخل كل منّا لمناصرة الحياة.
ومع نهاية العرض يومض شىء بداخلك، وترى هذا الطيف وهو يلوح
من بعيد، وكأنك ترى فى القريب العاجل (اليمن السعيد) ليصبح حقًّا وصدقًا
(اليمن السعيد)!!. |