دانيال كريغ “يقتل” جيمس بوند في البندقية محدثاً خضّة
الديكتاتورية البرازيلية تحضر بفيلم مؤلم عن ضحاياها
هوفيك حبشيان
بدأت الأعمال الكبيرة والمثيرة والاشكالية تفرض حضورها،
بعدما تجاوز #مهرجان
البندقية ال#سينمائي
(28 آب - 7 أيلول) أكثر من نصف فترة انعقاده، فكان لنا صباح أمس موعد مع
"كوير" للإيطالي #لوكا
غوادانينو المعروض
في المسابقة؛ فيلم مقتبس من رواية أوتوبيوغرافية قصيرة للأميركي #وليام
بوروز نُشرت
في العام 1985 تحت العنوان نفسه. الفيلم يشكّل خضّة، ذلك انه يعطي الممثّل
البريطاني دانيال كريغ دور رجل مثلي يطوي معه جيمس بوند نهائياً، وربما
يجوز القول انه “يقتله”. يجسّد كريغ رجلاً أميركياً يُدعى وليام لي، يقيم
في #المكسيك ويمضي
معظم أوقاته في الحانات محتسياً الخمر ومحاولاً التعرف إلى أشخاص جدد وسط
شلّة من الأميركيين الذين يعتاشون من أعمال متفرقة. يحافظ على علاقة سطحية
بالجميع، يمنح الانطباع بأنه لا يأبه لشيء، لكنه مفعم بالحياة والشغف
والرغبة. وجوده مرهون بالعثور على مشاعر جديدة لم يعشها من قبل. انه هذا
البوهيمي البلا أفق، كأن لا ماضي له، وعلى الأرجح لا مستقبل. سنميل اليه
منذ اللحظة الأولى، ففيه ما هو يجذبنا اليه، أقله كشخصية سينمائية، رغم ان
غوادانينو لا يبذل جهداً كبيراً في هذا الشأن.
زمن الفيلم هو الخمسينات، أما مكانه، فعاصمة المكسيك. يمكن
للقارئ تخيّل الأجواء المهيمنة في تلك الفترة، لكن المُشاهد المحظوظ سيراها
مستعادة على نحو يوفي جماليات السينما حقّها. نشعر اننا في داخل استوديو
(صُوِّر الفيلم في تشينيتشيتا)، وهذا الشيء يحدث قطيعة مع الأفلام التي
تحاول بناء روابط أساسية مع الواقع. نحن هنا داخل فيلم ونعي ذلك. داخل
سينما ونعي ذلك. داخل الزيف الفنّي الجميل وكم نعي ذلك أيضاً. وداخل عقل
البطل وخارجه في آن واحد. كلّ المشروع السينمائي لغوادانينو يمدّنا بإحساس
اننا نتابع فصولاً من سيرة لا تحدث إلا في الروايات والأفلام، واذا حدثت
فلن نراها تحدث. الفنّ وحده قادر على حمل تلك السيرة إلى هذه المرتبة من
الارتقاء، ووحده القادر على جعلنا نرى المعيش من مسافة زمنية ومكانية.
سيلتقي وليام مواطناً له؛ طالب وسيم (درو ستاركي) يصغره
سنّاً يُدعى يوجين، وستنشأ بينهما علاقة، سيكتشف معها صديقنا الخمسيني
شيئاً آخر، بعيداً من المغامرات الجنسية التي كانت حوصرت فيها حياته إلى
الآن. بعد اللقاء بينهما، سيتحوّل التسكّع السينمائي الطويل الذي يقترحه
الفيلم إلى تسكّع من نوع آخر، يحفر في الداخل، محاولاً استكشاف الرغبة، وهي
التيمة الغالية على قلب غوادانينو التي تجد هنا حضوراً جديداً. وكلّ مَن
يعرف دانيال كريغ في دور جيمس بوند (رمز للفحولة والطلّة الواثقة من
نفسها)، سيكتشف هنا النقيض: رجل متردد، هشّ، يبدي تعلّقاً بأشياء وناس
وأماكن، ابتسامته مختلفة ودخوله إلى الكادر مختلف، شأنه شأن تصرفاته. أما
المشاهد الجنسية الصريحة والقوية التي تجمع كريغ بشريكه ستاركي، فتعبّر عن
خطوة فنية غاية في الجرأة أقدم عليها الممثّل، كاسراً الصورة الأيقونية
التي التصقت به. يذكّرنا هذا بدور آل باتشينو في "كروزينغ" للراحل وليام
فريدكين، على أمل ألا ينكره في يوم من الأيام، كما فعل زميله.
"كوير" رحلة استكشاف بتفاصيل كثيرة، متداخلة ومترابطة، إلى
داخل الهوس والادمان والرغبة بقيادة دانيال كريغ الذي يهيمن على الفيلم
بالكامل. في الشق الأخير، يُزَّج بنا في بيئة أخرى مع سفر وليام إلى
الأدغال بحثاً عن نبتة كيف توفّر له أحاسيس جديدة لم يسبق له ان جربها.
وهنا، يسلّم الفيلم سره ببساطة: فما رأيناه للتو ليس سوى رحلة بحث عن مشاعر
واختبار أحاسيس، مشغولة سينمائياً بحسية عالية، بخروج متكرر عن النصّ،
بمعالجة بصرية تتفوق على الكثير من الأفلام التي تقدّم صورة وظيفية.
هذا كله يجعل من "كوير" عملاً على قدر عال من التميز. نحن
حيال تجربة حسية، جمالية، بصرية، سمعية، تحلّق بنا عبر الزمان والمكان إلى
حيث الرغبة والآلام الناتجة من اكتشافها والآلام الأفظع الناتجة من محاولة
الاحتفاظ عليها وتجديدها.
بعد أربعة عقود على سقوط الديكتاتورية في البرازيل، يأتي
المخرج والتر ساليس بفيلم مرجعي عنها، وعن فصل دموي من تاريخ بلاده،
مختتماً غياباً عن الشاشات دام 12 عاماً. جديده هذا، "لا أزال هنا"،
اكتشفناه ضمن عروض المسابقة الرسمية التي تتضح معالمها كلّ يوم أكثر فأكثر.
الديكتاتورية العسكرية في البرازيل عاشت نحو عقدين، وخلّفت
وراءها كوارث إنسانية. الجرح لم يلتئم عند كثيرين، خصوصاً الذين خسروا أباً
وأخاً ورفيقاً وحبيباً. والخسارة أنواع، أسوأها ذلك الذي لم يُعرف فيه مصير
الضحية، اذ قضى تحت التعذيب ولم يُعثر على جثّته، وبات في عداد الموتى
الأحياء بالنسبة الى العائلة. كيف يموت الإنسان نهائياً في غياب الجسد؟ وهل
يمكن الحداد عليه؟
ينطلق الفيلم من هذه الواقعة، واقعة الآلاف الذين قضوا في
أقبية النظام البغيض، وظلّ أهاليهم بلا أخبار عنهم لسنوات، قبل ان
يُسلَّموا وثيقة وفاة تنهي القضية (عند دخول البلد في مرحلة الديموقراطية).
انها واحدة من روايات الظلم التي عاشتها أميركا الجنوبية بين الخمسينات
والثمانينات، ونُقِلت في العديد من الأفلام، لكن بمقاربات مختلفة.
"لا أزال هنا" أفلمة لقصّة روبن بايفاس الحقيقية، اقتبسها
ساليس من كتاب مذكّرات ابنه مارسيلو عن أمّه. هذا النائب اليساري السابق
(سلتون ميللو) كان انسحب من الحياة السياسية ليهتم بشؤون أسرته. كانت حياته
موزّعة بين زيارات متكررة لأصدقاء وارتياد السينما، عندما أُلقي القبض عليه
واتُهِّم بمساعدة أعداء النظام. الافتتاحية لافتة: على أحد شواطئ ريو دي
جانيرو، نشهد على تفاصيل الحياة العذبة. نلمس سعادة تكاد تكون مثالية، رغم
ان الديكتاتورية قائمة في البرازيل منذ ست سنوات عند لحظة بدء الحكاية. نرى
أطفالاً يلعبون بالطابة، مراهقون يدهنون أجسادهم بالكوكا كولا، الخ. هذا
آخر شيء جميل سنراه قبل الدخول في نفق القهر والعذابات. إلى الآن، كانت
الأحداث مسموعة. بعد الآن، ستصبح معيشة.
بعد دهم عناصر من الجيش باللباس المدني منزله لاقتياده إلى
التحقيق، لن نسمع شيئاً عن بايفاس. يحدث هذا في نصف الساعة الأولى من
الفيلم، أما الساعتان التاليتان فتنقلان معاناة زوجته أونيس (فرناندا
توريس) للبحث عنه ومعرفة مصيره ومحاولة التدخّل لدى السلطات للافراج عنه.
لكن كلّ المحاولات ستفشل.
أونيس تريد الحقيقة، هي تود ان تعرف ماذا حلّ بزوجها، لكن
لا أحد يملك الجواب. بعد اعتقال بايفاس، ستصبح الزوجة أماً وأباً لأولادها
الخمسة، ومناضلة ومحامية، محتكرةً كلّ الأدوار والوظائف. فيها يختزل ساليس
نضال نصف قرن، راسماً على وجهها المعبّر الجميل علامات تبدّل المواسم
والأنظمة والأجيال، مع دائماً تلك الصلابة المقترنة بالهشاشة التي تميز
الكبار. والأهم انها لن تنكسر، لن تخسر ولو قليلاً من كرامتها، لن تتحوّل
وحشاً وهي تحارب الوحوش. بل ستكون نموذجية في طريقة تعاملها مع المواقف
التي ستتعرض لها. أما الأسى فسيبقى. سنوات بعد نهاية الديكتاتورية، سيظلّ
صدى تلك الحقبة يتردد في وجدان هذه المرأة. في مشهد ختامي مؤلم، نرى شيئاً
ما يتحرك داخلها. |