«البحث
عن منفذ لخروج السيد رامبو».. النضج كمأساة وجودية
أحمد شوقي
يعرف محبو السينما جيدًا أفلام النضج
coming of age،
حتى وإن لم يعرفوا المصطلح الذي يمكن تطبيقه على أفلام عديدة تنتمي لأنواع
فيلمية مختلفة. ففيلم الحركة والتشويق والكوميديا والميلودراما وأي نوع
يمكنك تذكره بإمكانه في نفس الوقت أن يكون فيلم نضج، إذا ما تضمن رحلة
نفسية تخوضها شخصيته الرئيسية تتحول فيها مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى،
بالمعنى الفسيولوجي أو النفسي، فأفلام المراهقين الذين يكتشفون حياة الكبار
لأول مرة أفلام نضج، وأفلام البالغين الذين يعيشون بخبرة محدودة حتى تجبرهم
الحياة لأول مرة على اختبار العالم بصورة مختلفة هي أيضًا أفلام نضج.
غير أن المخرج المصري خالد منصور في فيلمه الطويل الأول
«البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، والذي استضاف مهرجان فينيسيا السينمائي
الدولي الحادي والثمانين عرضه العالمي الأول ضمن قسم «آفاق إكسترا»، يأتي
بصياغة مغايرة لفيلم النضج، تستحق التأمل والتفكير، من ثلاثة مداخل على
الأقل: مدخل كوني، وآخر محلي، وثالث يرتبط بالعلاقة بمفهوم النضج بشكل عام.
رامبو كونيًا.. من الذي قد يكره كلبًا ذكيًا؟
خلال استعداد فريق الفيلم لحضور مهرجان فينيسيا تابعنا نشر
عدة صور لاستعدادات الكلب الذي لعب دور رامبو (في الحقيقة هما كلبان كما
تذكر عناوين الفيلم) من أجل السفر للسير على السجادة الحمراء قبل العرض،
يمكن أن تشعر ببعض التحفظ حيال الأمر، باعتبار أن الكلب – أي كلب – لا يرغب
بداهةً في السفر بالطائرة ثم المركب البخاري عدة ساعات مرهِقة كي يقف أمام
عدسات الصحافة ثم يكرر الرحلة ليعود إلى وطنه، فهذه أهداف بشرية بامتياز،
ربما كان من الممكن تعويضها بكمية وافرة من الطعام ونزهة في حديقة واسعة إن
كان الغرض هو مكافأة أحد أبطال الفيلم على ما قدمه.
لكن سفر رامبو له قيمته التسويقية بطبيعة الحال، وكلنا
نتذكر حضور الكلب من الفيلم الفرنسي «تشريح سقوط
– Anatomy of a Fall»
عروض الفيلم وحفلات الجوائز التي ترشح لها وصولًا للأوسكار. وما يهمنا هنا
في هذه المساحة النقدية هو قدر الاتفاق على أن مشاهدة كلب ذكي، ظهر في فيلم
بشكل جيد، هو دائمًا أمر محبب للنفس، وإذا كان الفيلم يتعلق بمحنة يتعرض
لها هذا الكلب فيحاول صاحبه أن يخرجه منها سالمًا، فذلك مدخل كوني بحق،
أجاد خالد منصور ومحمد الحسيني مؤلفا الفيلم اختياره ليكون صالحًا للتواصل
مع الجمهور في كل مكان.
للأمر تبعاته التنفيذية بطبيعة الحال، فكلنا نعلم ما يقال
عن أن توجيه الحيوانات والأطفال هو أصعب مهمة يمكن لمخرج أن يخوضها، ناهيك
عن صعوبة الأمر إنتاجيًا، لاسيما والفيلم الذي تدور أحداثه في مواقع تصوير
عديدة حول القاهرة، هو التجربة الأولى لمنتجته الرئيسية رشا حسني، فهي
تجربة معقدة عمومًا، فما بالك إن كانت تأتي في الفيلم الطويل الأول للمخرج
والمنتجة معًا. تجربة خرجا منها بقدر كبير من النجاح، وبعمل يحمل داخله
أسباب جاذبيته، فمن الذي يكره أن يشاهد كلبًا مثل رامبو وعلاقته العذبة
بصديقه حسن على الشاشة؟
رامبو محليًا.. بسيطة، جت في حتّة كلب!
بينما تبدو الإجابة على السؤال السابق محسومة في كل مكان
حول العالم، لا تبدو بنفس السهولة عندما يتعلق الأمر بالواقع الذي تدور فيه
أحداث «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»: الحياة في مصر المعاصرة، في
مجتمع تحوم حوله كثير من التساؤلات الأخلاقية حول علاقة البشر ببعضهم
وبالقانون والسلطة، فما بالك بعلاقتهم بالحيوانات الأليفة؟
حسن شاب بسيط، يعمل حارس أمن في نادٍ اجتماعي راقٍ، لكنك
تدرك من أول نظرة أنها مجرد وظيفة وجدها فأخذها، فلا سماته الجسدية ولا
طبيعة شخصيته المسالمة تصلح لأن يكون حارسًا لأي شيء حتى لنفسه وبيته.
البيت الذي تهدده قوى غاشمة تتمثل في كارم، الميكانيكي مالك البناية الذي
يرغب في إخراج حسن وأمه منها بأي ثمن. لا نقصد هنا بأي ثمن استعداده لدفع
ما يحتاجانه من المال لترك منزلهما، ولكن استخدام أي وسيلة، مشروعة أو غير
مشروعة، لتحقيق هدفه، بما في ذلك التهديد والبلطجة والإساءة المتعمدة.
المعتاد أن يحكم العلاقة بين البشر – لا سيما في المناطق
الشعبية – مزيج بين الالتزام بالقانون خوفًا من العقوبة واتباع الأعراف
تقديرًا للتراتبية العمرية والعلاقات العائلية، غير إن كارم كافر بكل ما
سبق، لا يحترم كبيرًا ولا يضع اعتبارًا لجيرة عمرها سنوات، ولا يبدو عليه –
ولا على جميع من حوله في الحقيقة – أي تفكير في أن القانون قد يتدخل ليحسم
أمرًا أو يعيد حقًا لصاحبه، ربما لأن أصحاب المشكلة أقل من الاهتمام بهم أو
بذل الجهد لحماية الضعيف منهم.
وعندما يتطور الخلاف بين حسن وكارم إلى نقطة اللا عودة بسبب
بلطجة الأخير وافتعاله الأزمات، توضع حياة الكلب رامبو على المحك، يعتبره
كارم خصمًا حَكَم عليه بالإعدام، على صاحبه أن يسلمه للموت بيديه إن أراد
العودة إلى نقطة البداية: أي إلى كون كارم يرغب فقط في طرده ووالدته من
بيتهما، دون أن يُلحق بهما الأذى!
وكما يمكنك أن تتوقع، لا يجد أي شخص من المحيطين غضاضة في
اعتباره طلب كارم مقبولًا يُمكن تنفيذه. «بسيطة، جت في حتة كلب»، «سلمه
الكلب ليرتاح واشتري لنفسك واحدًا آخر إن كنت تحب الكلاب»، «الأفضل أن
تتزوج وتنجب طفلًا بدلًا من هذا الارتباط بحيوان». هذه نوعية التعليقات
التي يسمعها حسن من كل المحيطين، والمنقسمين بين من يرى طلب كارم مشروعًا،
ومن لا يعجبه الأمر لكنه يعتبرها نزوة بسيطة يمكن منحها للرجل المخبول
اتقاءً لشره. لا يفكر أحد هنا أن موقفه يتطابق كليًا مع موقف السلطة من
الصراعات الأهم في حياته، فما تساهل الجميع من فكرة قتل رامبو ببعيد عن
فكرة اعتبارهم القانون غائبًا عن إصرار بلطجي على طرد بشر من بيتهم.
بين عالم يمكن فيه اعتبار وجود الكلب ضمانًا لنيل الفيلم
بعض الدعاية والتعاطف أو على الأقل الاهتمام، وعالم لا تعتبر فيه حياة
الكلب (وربما حياة صاحبه) ذات أهمية تُذكر، يرسم حضور الفيلم في مهرجان
فينيسيا مفارقة تستحق التأمل.
مأزق حسن.. في ذم النضج
لو تجاوزنا شعور التعاطف مع الحيوان المسكين المطلوب حيًا
أو ميتًا، والسخط على الموقف الذي يتعرض له هذا الشاب المسالم الذي يجد
نفسه مضطرًا أن يطوف مع كلبه بحثًا عن مكان آمن يأويه، وحاولنا التفكير في
الرحلة التي يخوضها حسن خلال محاولته إنقاذ رفيقه الصامت سنجدها رحلة نضج
بامتياز. يُفصح فيها عما سكت عنه طويلًا من آلام الماضي، حتى أن حبيبته
السابقة التي تركته بعدما يئست من مستقبل العلاقة تسمع لأول مرة عن الأسرار
التي يعيش بها منذ طفولته، ويحيدها جانبًا متظاهرًا أنها غير موجودة.
من ينصحون حسن بتسليم رامبو إلى قاتله قساة بالفعل، لكن
قسوتهم منبعها بالأساس أنهم يفكرون كالكبار، بواقعية وعملية؛ فإن كان موت
الكلب ثمنًا لحماية امرأة وابنها، فالمنطق يقول إن الانحياز لحياة البشر
اختيار أكثر نضجًا وعقلانية، وهو ما يدركه حسن نفسه عندما تُغلق في وجهه كل
السُبل: إنه إذا أراد أن يحمي صديقه من الموت، فعليه ألا يراه مجددًا
للأبد. أي أنه كي يحافظ على رامبو فعليه أن يفقده، وبين الفعلين تناقض لفظي
يُلخص الكثير من التضحيات التي اكتشفنا أننا لن نصير كبارًا إلا عندما
نقبلها.
إن أردت أن تؤمن دخلًا يمُكّنك من شراء ما تحب، فثمن ذلك أن
تمنح العمل كل وقتك فلا يمكنك الاستمتاع بما اشتريته. إذا أردت شريك حياة
فقدت حريتك، إذا أردت جسدًا صحيًا حرمت نفسك من الطعام الشهي، وهكذا يمكن
اعتبار النضج عملية استسلام لحتمية التضحية، فالأطفال وحدهم يظنون أن
بإمكانهم نيل كل شيء.
يجسد عصام عمر هذه الرحلة برهافة تليق بموهبته، وبإدراك لأن
حسن وإن كان يسعى خارجيًا لإنقاذ رامبو، فإن أزمته الأكبر هي اضطراره أن
يواجه دفعة واحدة كل ما كان يتعمد تجاهله: مأزق البيت، هوان حياته ووظيفته،
حبيبته التي لا يمكن لأحد أن يلومها على تركه، والمسكوت عنه في علاقته
بوالده، وهي المحنة الأكبر والأكثر ذكاءً في الفيلم: حسن سيترك رامبو يعيش
بعيدًا عنه لعجزه عن حمايته لو بقي جواره، وهو بالضبط تكرار للعقدة التي
تُشكل حياته كلها، حدث الوجود
circle of being event
كما تصفه كتب فن السيناريو.
على هذا المستوى يُمثل «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»
صرخة في وجه القدر الذي يجبرنا أن نكبر أو نُلفظ، أن نتعامل مع العالم
بواقعية فلا نجد غضاضة في موت كلب بريء، أو نكون أطفالًا أبديين، هائمين لا
يحققون شيئًا، يتذكر الناس نقاءهم، لكنه يلحقونه بالسذاجة وانعدام
المسؤولية. وضع مؤسف لا يمكن لحسن أو لأي إنسان مهما بلغت قدراته أن يغيره.
بين الطموح والنتيجة
ما سبق كان قراءة لما يحمله الفيلم من معانٍ يمكن بسهولة
وصفها بالسوداوية، فما من مأساة أكبر من اضطرارنا جميعًا أن نفقد براءتنا
كي نتمكن من العيش. لكن سيكون من التساهل أن نزعم أن الفيلم تمكن طول زمنه
من إيصال تلك الأفكار البراقة بقدر ثابت من الكفاءة. وإن أردنا الاقتراب من
الموضوعية سنقول إن «رامبو» عمل أول نموذجي، بكل ما يحمله الوصف من مزايا
وهفوات.
يأتي الفيلم بصوت جديد، لمخرج يقدم رؤيته لمأزق وجودي هائل
في حكاية بسيطة، ويدير ممثليه الرئيسيين ببراعة تستحق التحية (الثلاثي عصام
عمر وركين سعد وأحمد بهاء تحديدًا)، ويقدم في بعض المشاهد صورًا طازجة
للقاهرة لم نرها من قبل على شاشة السينما. لكنه يأتي أيضًا ببعض المسارات
الدرامية المفتعلة، التي يبدو فيها أن الأحداث تقع بهذا الترتيب لأنه
الوحيد الذي سيسمح للحكاية أن تمضي في المسار الذي يريده صانع الفيلم. يظهر
بعض التفاوت أيضًا في أداء ممثلي الأدوار الصغيرة، والمفارقة أن الممثلين
المشاهير الذين يظهرون كضيوف شرف قد يكونون هم الأقل حضورًا في الفيلم، وهي
أيضًا من المشكلات المعتادة في الأعمال الأولى.
لكنها تبقى مجرد ملاحظات هامشية، لا تؤثر في إيجابية الصورة
الكاملة للفيلم، ولقيمته كعمل يُقدم لنا مخرجًا جديدًا ومنتجة واعدة يأخذان
السينما بجدية وشاعرية معًا، وكأنهما يخوضان أيضًا عبر تجربة صناعة الفيلم
رحلة نضج اضطرارية كالتي مر بها بطل الحكاية. |