في "الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس" ل#جون
فورد،
جملة شهيرة تأسيسية لا بد من العودة اليها: "يا سيدي، نحن هنا في الغرب
الأميركي، عندما تتحوّل الاسطورة إلى واقع، ننشر الاسطورة". هذه الجملة
يقولها رئيس تحرير جريدة إلى السيناتور. فيلم فورد يرينا بعضاً ممّا ساهم
في تأسيس الديموقراطية الأميركية، محاولاً الاضاءة على الصراع بين الاسطورة
والحقيقة في صناعة التاريخ الأميركي والثقافة الشعبية السائدة.
"#جوكر:
فولي أ دو" لتود فيليبس الذي شاهدناه ضمن مسابقة الدورة الحادية والثمانين
من #مهرجان
البندقية ال#سينمائي
(28 آب - 7 أيلول)، لا يروي شيئاً سوى هذا، ولكن بتنويعة مختلفة، بإضافة من
هنا وحذف من هناك، بتلاعب واسع مع المكونات والجانرات والأساليب، متماهياً
في طبيعة الحال مع زمن مختلف له تحدياته، مستحدثاً هذا الخطاب في ضوء
التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية التي حدثت منذ القرن
الماضي، لكن الجوهر يبقى هو هو، ويحملنا بسرعة إلى الاستنتاج الآتي: كلّ
شيء في أميركا يُستمَّد من الاسطورة، فيتحول استعراضاً، "شو"، ملهاة، فرجة،
سواء للاستهلاك التجاري أو التغذية العقائدية. من السجن الذي يقبع فيه #آرثر
فلِك (واكين
فينيكس) بعدما قتل ستّة أشخاص، إلى قاعة المحاكمة (مكان له رمزيته في
السينما الأميركية) التي تحاول اصدار حكم فيه، فاستوديو تصوير البرامج
التلفزيونية، وغيرها من الأماكن… هذه كلها ديكورات مسرحية لصناعة الأساطير.
في هذا الجزء الثاني من الفيلم الذي حاز قبل خمس سنوات #جائزة
"الأسد الذهب" مفاجئاً
الجميع، يتعين على آرثر ومحاميته (كاثرين كينر) الاثبات لهيئة المحلفين انه
يعاني من خلل نفسي، فصام، ازدواجية، أدّى به إلى ارتكاب هذه الجرائم، وذلك
بهدف تخفيف الحكم. لكن، هناك من ليسوا مقتنعين بهذه الذريعة، ويطالبون
بإعدامه. في تلك الأثناء، مر ما يكفي من الوقت، كي يتحوّل آرثر أيقونة عند
الجماهير الذي رفعته إلى مصاف الرمز، رمز الفوضى والعصيان. يتزامن هذا مع
دخول عنصر جديد على القصّة: فتاة (لايدي غاغا)، يتعرف اليها في السجن،
تعبّر عن اعجابها به، فيقع في غرامها على الفور. هناك، أخيراً، مَن يحبّه
في هذا العالم الظالم حيث ولد ونشأ.
وفي حين تبذل المحامية كلّ ما في وسعها لإخراجه من شخصية
جوكر ونسب كلّ أفعاله إلى التروما التي عانى منها بسبب ما عاشه في طفولته،
فالاغراءات أمام آرثر لاعتناقها كبيرة، فهو في النهاية "لا أحد" من دونها.
هذه الشخصية، على الأقل، جذبت اليه المريدين، وصنعت منه اسطورة. لكن أين
يبدأ هو وتنتهي هي (الشخصية)، وهل يوجد أصلاً شخص آخر في داخله يحاول
استدراجه إلى الشر، وهو منفصل تماماً عن إرادته الحرة، أم انه صنيع الأجواء
المحيطة به من ثقافة شعبية "تريد نشر الاسطورة لأنها تحولت إلى واقع"؟ تود
فيليبس يحاول خلط الأوراق لمرة أخيرة، مضاعفاً حجم الرهان على ورقة الجوكر.
كانت المفاجأة كبيرة عندما شاهدنا الجزء الأول من "جوكر"
هنا في البندقية، أولاً لأننا لم نكن ننتظر شيئاً من الفيلم، وهذا يعفيك من
الكثير. أما الآن فالمعادلة تختلف وقد دخلنا الصالة بتوقّعات عالية. هناك
أشياء مفقودة في هذا اللقاء المتجدّد، في صدارتها عامل المفاجأة والسفر إلى
مجهول. رغم ان الفيلم يضمن أعلى درجة من الترفيه والهروب من الواقع.
الأحداث متسارعة، يكمّل بعضها بعضاً، الشخصيات مرسومة بدقّة، الإخراج
ممتاز، أداء سليم للجميع، لا وجود للملل. ورغم هذا كله، يحاول الفيلم ان
"يولّعها"، لكن النيران تُخمد بسرعة.
جديد هذا الجزء هو مزج الجانرات السينمائية محاولاً
التجديد. ففي غياب ما هو سوبر جديد على مستوى القصّة، كان من الضروري
الاتيان بعناصر مساعدة. المشكلة ان الخيوط التي تحركها ظاهرة أكثر ممّا
ينبغي. المخرج يحاول اخفاء هذا الضعف تحت السجّادة. هناك ثلاثة أفلام في
"جوكر 2": فيلم المحاكمة والفيلم الذي تجري أحداثه في مصحّ والميوزيكال. في
الميوزيكال، يسجل نجاحاً واخفاقاً في آن واحد، اذ الأشياء لا تتطوّر
بانسجام، بعض تلك النمر الموسيقية يأتي بروح ملحمي للفيلم، وبعضها الآخر
يتسبّب بالضرر لإيقاعه من دون أي اضافة نوعية. هناك تحيّات لميوزيكلات
خالدة، صنعت مجد هذا النوع الهوليوودي المجيد، لكن تُنسى بسرعة.
من الواضح ان اسطورة "جوكر" كبرت كثيراً، حد انها فلتت من
يد فيليبس نفسه. في هوليوود، نعلم أين نبدأ بالأشياء، لكن لا نعلم بالضرورة
أين ننتهي، خصوصاً مع مخلوقات كهذه تعود إلى الحياة تحت ضغط العرض والطلب
الرهيب. هذه مخلوقات معرضة إلى الأبد لمهانة الاضافة والحذف (وهوليوود تميل
أكثر إلى الاضافة منها إلى الحذف البريسوني). سيكون من الصعب ان تعود
الأشياء إلى لحظة انطلاقتها الأولى. الاعادة والتكرار يأكلان من الرصيد،
كقطعتي حديد تحفّان واحدة بأخرى، ليختفي البريق تدريجاً.
يخرج "جوكر 2" من رحم سينما أميركية، جادة وشعبية، وضعت
"المجانين" في قلب الصراع مع السلطة. يصعب عدم التفكير في "طيران فوق عش
الكوكو" لميلوش فورمان، الذي هو النموذج الأهم في هذا المجال. والفيلمان
يتشاركان العزلة عن المجتمع، بحجة الخلل النفسي، الذي سيفضي إلى العصيان
والانتفاضة. هذا كله ينتمي إلى الجزء الذي نعيه من الفيلم، أما ما يتعلّق
بالتفاعل، فشعرتُ وأنا أشاهد "جوكر 2" أنني أكرر مشاهدة الجزء الأول، لكن
نسخة "أبدايت" عنه، يأتي بعد نجاح الأول والهدف هو مواصلة ما تحقّق. الأمر
أشبه ان تشتري هاتفاً حديثاً فتأتي معه بعض المميزات الجديدة التي لا
تحتاجها بالضرورة، رغم انك دفعت ثمنها أغلى بكثير من سعر الأول. أخيراً،
هذا فيلم يتطابق مع عالم ما بعد الجائحة، عالم ينطوي على المزيد من سوء
النية على ما يبدو، حيث الحبّ لا يستطيع انقاذ أي شيء.
بعد مجموعة أفلام لم تترك أثراً عميقاً، ابتعدت بعض الشيء
عمّا كان عليه في ذروته، يواصل المخرج الإسباني الكبير بدرو ألمودوفار
مسيرته السينمائية بهدوء واستمرارية لافتين، لكن مع تحوّل كبير لجهة المكان
واللغة، بعدما اختار ان يصوّر جديده، "الغرفة المجاورة" (مسابقة) باللغة
الإنكليزية وفي الولايات المتحدة، بعيداً من البيئة التي ألفها والأشخاص
الذين يعرف قصصهم جيداً. الإنكليزية لغة لا يتقنها ألمودوفار، وهذا من
المفترض ان يفتح آفاقاً جديدة للاستكشاف والمغامرة. سينمائيون كثر صوّروا
بلغات لا يتقنونها وأحياناً لا يتحدثّونها، لكن في حال هذا الفيلم يأخذ
القفز إلى لغة جديدة بُعداً آخر، اذ يختبر معها ألمودوفار مسألة الموت
بتفاصيلها الغامضة. لطالما كان الموت أحد هواجس السينما التي أنجزها، هذا
بالاضافة إلى انه لغة يفهمها كلّ البشر. الموت، شأنه شأن الحداد، حاضر بقوة
في سينما هذا السينمائي، لكنه يتّخذ أشكالاً مختلفة في كلّ مرة. الخسارة
الفاضحة وما تخلفه من تداعيات نفسية، تيمة أخرى نجدها في أفلامه، يوظّفها
المعلّم لتفكيك الرغبات والهواجس.
حمل ألمودوفار أشياءه وتوجّه بها إلى أميركا. صحيح ترك
نساءه في إسبانيا، لكنه وجد نساء جديدات هناك، واحدة منهن هي تيلدا
سوينتون، التي سبق له ان تعامل معها في فيلم قصير. الثانية هي جوليان مور،
حضورها في الفيلم يجعلنا ننتبه كم هي ألمودوفارية في الأصل. أما ما سيجمع
هاتين، فهو شيء في غاية البساطة: الشخصية التي تلعبها سوينتون مصابة
بالسرطان، ولا أمل في شفائها، فتقرر ان تنهي حياتها. لا تريد ان تمنح المرض
فرصة ان يتغلّب عليها. تود ان تتغداه قبل أن يتعشّاها. لذلك، ستختار الزمان
والمكان لاتمام هذه المهمة غير المسموح بها في أميركا. عملياً، هو مجرد
انتحار وتوجد منه آلاف الحالات كلّ يوم، وكلّ ما ستحتاج اليه هو حبّة، لكن
كون الرغبة في انهاء الحياة تأتي نتيجة مرض وتفادياً لعذابات الجسد، يُدرج
انتحار كهذا في ملف الموت الرحيم المثير للجدال.
لكن سوينتون لا تستطيع ان تفعل ذلك وحدها، فتطلب إلى
صديقتها جوليان مور، التي زارتها اخيراً في المستشفى بعد انقطاع طويل
بينهما، ان تبقى بالقرب منها في الغرفة المجاورة للشقّة التي استأجرتها (من
هنا عنوان الفيلم)، ريثما تتم عملية الانتقال بنجاح. الفكرة بسيطة، كان
يُمكن ان تُستنفذ بفيلم قصير، لكن الترتيبات المتعلّقة بهذا الموت وأصداء
الماضي (كما دائماً عند ألمودوفار) قادرة على ملء ساعتين من السينما لا
يستغلّهما المخرج لاعطاء محاضرة، بل كلّ ما يحاول ان يفعله هو تصوير فعل
الرحيل الطوعي في ضوء الصداقة والعلاقات الإنسانية والأمل المفقود، هرباً
ممّا ينتظر الإنسان من عذاب. لا يسقط في الدراما، بل يبحر على أمواج
الميلودراما التي يعرف كيف يتلاعب بخيوطها، بتكوينات صارخة بالألوان
والموسيقى وحركات كاميرا أنيقة، مع انه يجب التذكير بأن الفيلم في بعض
فصوله ينتفض ولو بخجل على هذا المناخ الألمودوفاري، لا لشيء انما لصعوبة
تطويعه مع أميركا. في المقابل، تغيب لمساته في بعض الأحيان، لمصلحة تسطيح
سينمائي، لحسن الحظ يتلاشى بسرعة، ذلك انه، رغم كلّ الهنّات، مَن يقف خلف
الكاميرا هو صاحب حساسية فريدة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بتصوير النساء. |