ملفات خاصة

 
 
 

Beetlejuice ..

العفريت الشقي في عصر السوشيال ميديا

القاهرة -رامي عبد الرازق*

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الحادي والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

عقب عرضه في حفل افتتاح الدورة 81 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، انطلقت عروض الجزء الثاني لفيلم الرعب الكوميدي الأميركي الكلاسيكي Beetlejuice Beetlejuice، في الشرق الأوسط بالتزامن مع عرضه في صالات السينما الأميركية.

وكان المخرج تيم بارتون، صرح خلال المؤتمر الصحافي بالمهرجان، أنه لم يصنع الفيلم من أجل المال، ولكن لتجديد نشاطه وطاقته السينمائية، بعد أن كلفه الإحباط العام فترة توقف غير إبداعية، ففي العام الماضي حققت رقصة جينا أورتيجا في مسلسله Wednesday على شبكة نتفليكس تريند عالمي على منصات التواصل، وهي الشخصية المأخوذة من دراما الرعب الأميركية الشهيرة The Addams Family.

ورغم أن بارتون، أعلن أنه لم يشاهد الفيلم الأصلي الذي قدمه عام 1988، وأصبح واحداً من أشهر أفلام سينما الرعب الكوميدي التي سيطرت على حقبة الثمانينيات، إلا أن ما يمكن اعتباره مجازاً الجزء الثاني من الفيلم يبدو أقرب إلى إعادة إنتاج للعمل الأصلي، صحيح أنه يتابع ما حدث مع عائلة "ديتز" بعد 36 عاماً من استدعاء العفريت الشقي إلى منزل الأشباح في بلدة وينتر ريفر، وصحيح أن بطلته هي المراهقة "ليديا"، التي صارت الآن من أشهر مقدمي برامج الرعب المبتذلة على شاشة الإعلام الرخيص، بعد أن استثمرت قدراتها في التعاطي مع الأشباح طوال حياتها، وتزوجت وأنجبت ابنتها المراهقة الجديدة "استريد".

صحيح أن كل هذا يبدو وكأنه استكمال بشكل ما لأحداث الجزء الأول، إلا أن التجربة في مجملها تحمل قدراً هائلاً من النوستالجيا، والارتباط العضوي والشعوري والبنائي مع الفيلم الأول بكل عناصره، والتي شكلت في زمن الثمانينيات الجميل طزاجة مسلية وطرافة أصيلة.

ويكفي أن نشير إلى أن الكثير من شخصيات الرعب الكوميدي، أو حتى الفانتازيا الكوميدية تأثرت بشخصية "بيتلجوس" المارقة، فمن السهل مثلاً أن نرى حجم تأثر صنّاع فيلم جيم كاري الخارق The Mask عام 1994، بشخصية العفريت الشقي الملقب بـ"عصير الخنفساء".

"بيتلجوس" العجوز

 يبدو إيقاع الجزء الثاني أكثر بطئاً وأقل حيوية من الجزء الأول، كأن فارق العمر لم يطفو على وجه الشخصيات، ولكن على الإيقاع أيضاً.

يستغرق الفيلم وقتاً طويلاً في تأسيس الأزمة، وإعادة بناء العالم الذي سوف تنطلق منه مغامرة "بيتلجوس" مايكل كيتون الخرافي التالية، ربما بسبب إضافة عنصر زوجة بيتلجوس الأولى "ديلورس" مونيكا بيلوتشي، التي تعيد بناء جسدها عبر دباسة ضخمة، وتتحرك مثل حيوان شره لامتصاص أرواح كل من تقابلهم سعياً وراء بيتلجوس زوجها وقت أن كانوا أحياء قبل 600 عاماً.

لنكتشف أن العفريت الشقي لم يكن سوى آدمي يعمل في سرقة القبور في إيطاليا وقت الطاعون -في مقطع عبثي جداً نراه وهو يحكي قصة زواجه الأول وموته باللغة الإيطالية- وأن زوجته الأولى كانت السبب وراء موته الشيطاني؛ لأنها تنتمي إلى طائفة من ممتصي الأرواح.

فيما عدا هذا العنصر الجديد -مضاف إليه الشاب الشبح الذي يستدرج الابنة إلى العالم الآخر- يكاد يتطابق الجزئين الأول والثاني في مختلف السياقات الدرامية والبصرية، بل أن افتتاحية الفيلم نفسها التي تمر فيها عين الكاميرا محلقة فوق البلدة الأميركية التي تقع خارج نطاق المدن الحديثة هي نفسها من دون تغيير يذكر، حتى على مستوى شريط الصوت وموتيفات الموسيقى.

يبدأ الجزء الثاني مع إعلان موت تشارلز أبو "ليديا"، ورغبة زوجته الفنانة الحداثية المدعية أن تبيع البيت "منزل الأشباح"، بعد أن احتفظوا به طويلاً من أجل قيمته العاطفية والروحية بالنسبة للعائلة، منذ أن صادفت فيه "ليديا" شبح الزوجين الشابين اللذان توفيا في الجزء الأول وسكنا العلية.

من السماسرة إلى المؤثرين

لا يمكن اعتبار "بيتلجوس" في تجليه الأول أو نسخته الجديدة مجرد فيلم رعب مسلي فقط، فثمة مسحة نقد اجتماعي وسياسي واضحة النبرة، تعلن عن نفسها صراحة، سواء في الثمانينيات أو العشرية الثالثة للألفية.

في النسخة الأًولى، نجد الفيلم يركز على السخرية من مدعي الفنون الحديثة -زوجة "تشارلز" والد "ليديا" التي قدمتها كاثرين أوهارا ذات الطرافة الفاتنة- لنرى منحوتاتها العبيثة التي تشبه انتفاخات حجرية تافهة، لكنها تعاملها معاملة القطع الأثرية الخالدة.

وفي الفيلم الجديد، يستكمل نفس سخريته منها ومن أشباهها، خاصة مع تحولها إلى واحدة من عبيد ثقافة العصر الجديد أو الـnew age، فنراها وهي تحيط المنزل بوشاح أسود طويل من أعلاه لأسفله دلالة على الحزن، وتقرر شراء أفاعي مصرية، لكي تقيم طقس جنائزي فرعوني فوق قبر زوجها، مما يؤدي بها في النهاية إلى أن تُلدغ منهم، وتهبط للعالم الآخر رغماً عنها، رغم أن الكتالوج الخاص بهم يؤكد على أنهم منزوعي الأنياب.

وفي مقابل سماسرة الرهونات العقارية الذين يريدون الحصول على المنزل في الثمانينات، استغلالاً لكونه بيت أشباح، وكيف يتخلص منهم "بيتلجوس" عندما يلجأ إليه الزوجين الشبحين و"ليديا" كي ينقذهم من طمع وشراهة رأس المال الذي يشم رائحة المكسب من أي عنصر تسويقي، حتى لو كان دم أو حادثة موت أو أشباح طيبة تسكن منزل بعيد.

في مقابل هؤلاء السماسرة الذي يتخلص منهم "بيتلجوس" بعبثيته الطريفة، نجد المؤثرين أو الأنفلونسرز الذين يأتون جماعات لحضور زفاف طاردة الأشباح الشهيرة "ليديا ديتز"، وزوجها المستقبلي، المخرج التافه الذي لا يرغب سوى في الحصول على مزيد من الأموال من وراء برنامجها الشعبوي المبتذل عن الأشباح، ولكن حتى هؤلاء المؤثرين يستمرون في متابعة حفل الزفاف في الكنيسة مع ظهور "بيتلجوس"، مطالباً "ليديا" أن تفي بتعاقدها معه، في مقابل أن ينقذ ابنتها "استريد" من هبوطها الاضطراري إلى العالم الآخر.

وفي لمحة ساخرة ناقمة على عصر السوشيال ميديا، يقوم "بيتلجوس" بجعل التليفونات المحمولة تمتص وجوه المؤثرين صانعة منها نسخ مشوهة، تشبه الفلاتر السخيفة المنتشرة على مختلف التطبيقات، لتصبح آخر صورة لهم على هذه الهيئة المبقعة الملعونة، ثم يُمتص كل منهم إلى تليفونه فجأة، لتسقط التليفونات أرضاً، وهي تحمل على شاشاتها صور المؤثرين بوجوههم الشيطانية المشوهة. ولو أننا وضعنا سم

أسرة العقارات ومدعي الفن واتباع الثقافات السطحية المبتذلة ومؤثري السوشيال ميديا على خط واحد، سوف نجد أن صنّاع "بيتلجوس" ليسوا مجرد مهرجين يرتدون أقنعة كوميديا الجروتيسك أو الفانتازيا المرعبة، بل أن هناك ما يستحق القراءة خلف المربعات الأبيض والأسود، التي تمثل أرضية الممر المؤدي إلى العالم الآخر.

المراهقة والزيجة المستحيلة

قدمت وينونا رايدر، في النسخة الأولى دور المراهقة "ليديا" صاحبة الثقافة (القوطية) التي تملك القدرة على مشاهدة الأشباح، لأنها تصدق في الحياة، وتنظر لها بقلبها ومشاعرها، ولا تأخذها المظاهر مثل زوجة أبيها ومساعدها المدعي ذو البدلات الغريبة، وأبيها الطماع الذي يرغب في استغلال كون البيت مسكون ليبيعه بأعلى سعر.

وفي نسخة 2024، تعود المراهقة مرة أخرى، ولكنها فتاة برتون المفضلة في العام الأخير، جينا أورتيجا، التي قدمها معا العام الماضي مسلسل Wednesday.

لا تكاد ملامح الفتاتين عبر أكثر من 36 عاماً تختلف كثيراً، سواء "استريد" أو أمها التي كانت مراهقة في النسخة الأولى، نفس الانفصال عن واقع الأسرة السطحي والتافه والمبتذل، ونفس الرغبة في الهرب أو الانفلات من الشعور المستمر بأن الحياة لا شك هي في مكان آخر، وفي مقابل افتقاد الأم في النسخة الأولى، تفتقد "استريد" الأب في النسخة الجديدة، وهو ما يدفعها إلى قبول الخدعة التي تمارس عليها من قبل الشبح الشاب الذي يستدرجها للعالم الآخر بحجة لقاء أبيها الغائب، بينما يحاول أن يستبدل شبحيته بحياتها، ويتركها هي في الأسفل تواجه مصيرها العدمي.

وفي واحد من أجمل مشاهد الفيلم نرى قطار الأرواح، والذي يظهر هنا لأول مرة، تهبط إليه عشرات الأجساد الراقصة، وهي ترتدي ملابس السبعينيات، وتضع إكسسوارات وملابس الشارلستون، رمز الحقبة الملونة الجميلة، مع خلفية موسيقى راقصة من موسيقى عام 1970، وكأن بارتون يكرم واحدة من أجمل الحقب في القرن العشرين بموسيقاها ورقصها وصخبها القزحي.

وبينما تندفع أجساد الراقصين الذين يمثلون الأرواح الصاعدة إلى اللانهائية، تجد "استريد" نفسها في خضم طوفان من الاهتزازات والأيفوريا الجسدية الفائرة بالحركة والتلوي، لكن أمها تنقذها في اللحظة الأخيرة، قبل أن يغادر قطار الأرواح إلى أبدية النسيان.

أما الزيجة المستحيلة، فهي استكمال لرغبة "بيتلجوس"منذ النسخة الأولى الزواج من "ليديا"، رغم عمله بمطاردة زوجته الأولى له، والتي تحل محل دودة الرمال الضخمة في فيلم عام 1988، والتي قادتها الزوجة الشبحية "بربارا" لكي تبتلع "بيتلجوس" قبل أن يتم زفافه على "ليديا"، وينتقل إلى عالم الأحياء مرة أخرى.

يطرح Beetlejuice Beetlejuice، سؤال النوع بقوة على جمهور جديد، لم يعد الرعب الكوميدي من مفضلاته بنفس الدرجة التي كان عليها بالنسبة للآباء من جيل الثمانينيات، فهل الجمهور الذي وصل إلى الملحمية الإباحية لـ"ديدبول" يمكن أن يشد أنف انتباهه العفريت ذو العصارات الخضراء المقززة، والشعر العشبي المنكوش، والإفيهات النظيفة التي لا يشوبها التصريحات الجنسية المعلنة؟.  

ربما يندفع الكثيرون إلى مشاهدة النسخة الأولى، أو استعادتها بشكل مضر، خاصة في المقارنة مع الفيلم الجديد، فهذا عمل كلاسيكي لا تزال الأجيال التي تربت عليه حاضرة الوعي والذاكرة، فهل سيطغى الحنين إلى الماضي على ثقافة التحديثات أم سيدهسه أقرب تريند؟، فلا يذر منه سوى الأقنعة التي شكلت جزءاً من طفولة جيل كامل من الأمريكان تربوا على عدم نطق اسم "بيتلجوس" 3 مرات كي لا يحضر بشيطانيته المحببة وفوضاه المبهجة

* ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

11.09.2024

 
 
 
 
 

لماذا حاول الروس منع الفيلم الجورجي “القديم” في البندقية؟

هوفيك حبشيان

انها الساعة الثانية بعد ظهر السبت، اليوم الأخير في مهرجان البندقية ال#سينمائي الحادي والثمانين (28 آب - 7 أيلول). شلّة من المشاهدين ينتظرون أمام صالة "برلا" الواقعة داخل القصر الذي يحتضن الحدث السينمائي الإيطالي البارز. المناسبة: فكّ أسر الفيلم الجورجي "القديم" (المشارك في قسم "أيام المؤلفين") بعدما حاولت السلطات الروسية منعه عبر القضاء الإيطالي. الحفنة تحوّلت إلى صالة مكتظة في غضون الدقائق الثلاثين التي سبقت العرض. أُلقيت كلمات كثيرة ندّدت بما سمّته محاولة لفرض رقابة ووصاية، من بينها كلمة ألقتها مخرجة الفيلم روسودان غلورجيتسه (ظلّت ابنتها الصغيرة تحوم حولها مشتّتة انتباه الحضور)، ولم تنسَ رد الاعتبار إلى المخرج الجورجي الشهير أوتار أوسيلياني الذي رحل في نهاية العام الماضي. كشفت انها سعيدة بعرض عملها أخيراً، لكنها مع ذلك حزينة لأن ما حدث تسبّب برحيل طاقم العمل من البندقية. لا شك ان ما تعرضت له غير مقبول، لكن في المقابل عليّ الاعتراف ان كثراً منّا كانوا في الصالة في ذلك اليوم، فقط لأننا سمعنا عن منع الفيلم. نتيجة ذلك، سُلِّطت الأضواء على عملها. ويا للمفاجأة: تبيّن لنا بعد المشاهدة اننا حيال أحد أجمل #أفلام الدورة المنتهية، نوع من علامة فارقة في السينما الجورجية المقلّة، التي تأتينا منها جواهر بين حين وآخر.

قد يتساءل قارئ هذه السطور، عن الأسباب خلف تدخّل محكمة البندقية لمنع عرض الفيلم في المهرجان بعدما اشتكت ثلاث جهات (روسية وكرواتية وقبرصية) كانت شاركت في التمويل، قبل ان تعود وتسمح به. السبب الرسمي: حقوق الملكية الفكرية. لكن المخرجة صرّحت بأن المسألة تتعلّق بحالة رقابة صريحة على منتوج فني، خصوصاً ان الفيلم مستوحى من عمليات ترحيل آلاف الجورجيين في العام 2006 على يد الحكومة الروسية، خلال الولاية الأولى لفلاديمير بوتين. في أي حال، حتى قبل وصول الفيلم إلى الـ"موسترا"، عانت المخرجة التي تقدّم هنا فيلمها الثاني، من مضايقات، بعدما طلب منها وزير الثقافة الروسي حذف مشاهد معينة، لكن طلبه جُبه بالرفض، مما دفعه إلى وضع عقبات أمام فريق العمل ومحاولة توقيف عملية التصوير، ثم مصادرة نسخ من الفيلم عند انتهائه. لكن يبدو انه تم انقاذ البعض منها قبل ان تشق طريقها إلى البندقية.

أقدمت المخرجة غلورجيتسه على حبك قصّة نتابعها بلهفة، قصّة مسكونة بهم الذاكرة ومشغولة بإنصاف ضحايا الأنظمة التي مارست ولا تزال تمارس التعسّف، مدفوعةً برغبة عارمة في قول بعض الحقائق حول ما حدث خلال تلك الحقبة التي سقطت في النسيان (ولكن ليس من دون ان تتجاهل كلّ ما يصنع أهمية السينما من تشكيل وسيناريو وإدارة فنية وأداء ومونتاج). لا يهم اذا كنّا مطّلعين أو لا على كلّ ما يحدث في الخلفية. فالأفلام التي تتجاوز مكانها وزمانها تحمل دائماً هذا البُعد الكوني الذي يغنيك عن صفحات كاملة من كتاب التاريخ.

يجمع "القديم" شخصين بمحض المصادفة. هي اسمها ميديا (#سالوميه ديموريا)، جورجية هاجرت من بلادها لأسباب اقتصادية، وهو عجوز روسي متعب اسمه فاديم (سيرغي دريدن) يرغب ببيع منزله، لكن على المالك الجديد ان يتحمّل وجوده فيه، فهو يريد البقاء فيه، على ان يكون جزءاً من الأثاث (ينبغي التقاط الاستعارة السياسية التي خلف الفكرة)، علماً انه يعد الشاري بأنه سيصمد في هذه الحياة خمس سنوات حداً أقصى. البيت الواقع في وسط سان بطرسبرغ، يحتضن قسطاً كبيراً من الأحداث والتطورات الدرامية، وهو زاخر بالتحف والمقتنيات والموبيليا والصور، الى درجة شعورنا بأننا في متحف الإرميتاج، كما تقول إحدى الشخصيات عند زيارتها لفاديم. وصول ميديا، بسحرها وغموضها، سيدفع بالأشياء إلى الأمام، كما في أي نصّ درامي كلاسيكي، علماً انها تعمل في مجال الترميم، وهذا ليس تفصيلاً. لكن الفتاة ليست مقطوعة من شجرة تماماً، على الأقل عاطفياً، فهناك لادو (فلاديمير دوشفيلي)، الذي يطاردها ويسعى إلى تعزيز العلاقة بها، رغم صعوبة الأمر.

المكان، أي شقّة الروسي، مسرح أحداث، لكنه أيضاً بيئة حاضنة لعلاقة غير تقليدية ستجمع روحين عالقتين تحاولان البحث عمّا يجمعهما وسط ركام وخراب معنويين. كلّ روح من هاتين ستغدو انعكاساً للأخرى. وفي الأخير، ستجدان أرضاً مشتركة. في هذا المجال، يبدي الفيلم نزعة شديدة الإنسانية، محاولاً عدم الخلط بين معدن الكائن والخلفية التي يأتي منها. فلولا عدم الخلط هذا، لما تبقت فسحة أمل نحيا فيها. أما تيمة "الشخصيات التي عليها ان تتعايش رغم فوارقها الكبيرة" تيمة هوليوودية استثمرت فيها سينمات كثيرة، لكن يرفعها الفيلم هنا إلى مستوى آخر من المعالجة اللمّاحة والفهم، مموضعاً إياها في لحظة تاريخية قاسية تتحوّل إلى عنف واقصاء وقمع.

تدريجاً، سيصبح الفيلم أكثر وضوحاً وأكثر تماسكاً وأكثر شاعريةً، فنتعلّق به وبشخصايته، وفي هذا تبرع المخرجة، الى درجة انه يمكن ان نرفع لها القبّعة في نهاية العرض.

يدعو "القديم" إلى نقاش، مدركاً ان لا حل آخر. لا يتحوّل ولو لحظة إلى عمل انفعالي كرد فعل على مظالم التاريخ الحديث. الفصول التي تدور على العلاقة بين الفتاة والعجوز، تصوّرها المخرجة بحساسية وعناية بصرية، ممّا يساهم في تطوير حس الفضول لدينا لمعرفة أين ستتّجه الأحداث. غني عن القول ان هذه العلاقة تتجاوز الشخصين لتشمل بلدين وثقافتين وجيلين وإلى ما هنالك من أشياء تفرّق وتجمع في آن. هذا بالاضافة إلى طباع العجوز الصعب المراس الذي يقول شيئاً عن المزاج الروسي.

لكن، أمام ما سيحدث لاحقاً، يمكن تصنيف العلاقة المضطربة بين الشخوص في خانة سوء الفهم، فجميعهم ضحايا ما عاشوه، وصولاً إلى اللحظة التي سيتم فيها ترحيل الجورجيين إلى بلدهم، في انتهاك صارخ للأعراف، علماً ان هذه العمليات أدانتها لاحقاً المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. رغم ما يضمره، لن يتحوّل الفيلم إلى مرافعة حقوقية، من شدّة حرصه على سرد تجربة شخصيات تناسلت من الخيال لكن صداها قوي جداً في الوجدان. "القديم" نزول في أعماق بلدين وناسهما، ولن يخرج أحد منها خالي الوفاض، بل وحتى المشاهد الذي لن يكترث للحظة التي تدور فيها الأحداث، يستطيع دائماً ان يمتّع نظره بمدينة سان بطرسبرغ المدفونة تحت الثلوج، حيث النفوس الهائمة تبحث عن منفذ لها.

 

النهار اللبنانية في

12.09.2024

 
 
 
 
 

خالد منصور: رامبو كلب شارع بسيط يعبر عن مشاعر جيلي

منى شديد

مثل نجوم السينما العالميين الذين خطوا قبله في الموضع نفسه، وبخيلاء مثير للإعجاب، سار الكلب البلدي المصري «رامبو» على سجادة فينيسيا الحمراء في بدلته الأنيقة جنبًا إلى جنب مع أبطال الفيلم المصري «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» الذي شارك في قسم آفاق أبعد «أوريزونتي إكسترا» في الدورة الحادية والثمانين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، ليعيد رامبو والفيلم الذي يحمل اسمه السينما المصرية لأروقة المهرجان بعد غياب 12 عاماً منذ عرض فيلم «الشتا اللي فات» للمخرج إبراهيم البطوط في مسابقة أوريزونتي في عام 2012.

تعتبر تجربة صناعة رامبو هي تجربة الفيلم الروائي الطويل الأول لـ 99% من أعضاء فريق عمل الفيلم، بمن فيهم صاحب الفكرة ومخرج الفيلم خالد منصور والمنتجة رشا حسني والسيناريست محمد الحسيني وبطل الفيلم عصام عمر وشريكاه في البطولة الكلبان اللذان لعبا دور رامبو. امتدت رحلة صناعة الفيلم أكثر من ثماني سنوات، شارك خلالها مشروع الفيلم في عديد من معامل التطوير وحاز على جوائز دعم مختلفة، كما تبنى المنتج المعروف محمد حفظي مشروع الفيلم وانضم لإنتاجه من خلال شركته فيلم كلينك منذ ما يقرب من عام ونصف.  

قبل محطة الوصول إلى سجادة فينيسيا الحمراء، خاض الفيلم رحلة مليئة بالتحديات، أصر الثلاثي خالد منصور ومحمد الحسيني ورشا حسني على مواجهتها حتى النهاية، شرحتها رشا قائلة إن إصرارهم على خروج الفيلم للنور بالرؤية التي كانت في أذهانهم والتي تعبر عنهم كشباب، وعزمهم على ألا يحيدوا عنها لأي عقبات كانت، مثَّل تحديًا كبيرًا أمام عملهم، وتضيف: «عملت على الفيلم ليس فقط كمنتجة؛ وإنما على عدة أوجه أخرى، حيث عملت على تأمين ميزانية لتمويله وشاركت في رحلة البحث عن معامل لتطوير السيناريو، فنحن نؤمن أن الفيلم الجيد يبدأ بفكرة وسيناريو جيدين، لذلك شاركنا في عدد من الورش ومعامل التطوير في أنحاء العالم والتي ساهمت في تطوير قدرتنا على صناعته بالطريقة التي نريدها».

السيناريست محمد الحسيني يقول إنه تعلم الكثير خلال رحلة العمل على صناعة «السيد رامبو». موضحًا أن الفيلم جرى تطويره خلال مراحل مختلفة حتى وصل للصورة الأخيرة، والتي تمثل النسخة 13 من سيناريو الفيلم. يقول «النسخة الأولى لسيناريو الفيلم كانت مختلفة تمامًا عن النسخة الأخيرة التي سيراها الجمهور على الشاشة، الثابت فيها كان رحلة البطل حسن ومحاولاته لإنقاذ كلبه رامبو من مصير مؤلم، لكن التفاصيل والحكايات التي تحيط بهذا المسار وتعبر عن الشخصيات اختلفت تمامًا مع مراحل التطوير التي ساعدتنا على الوصول لأفضل طريقة للتعبير عما نريده بلغة ورؤية سينمائية بسيطة ومميزة، تؤثر في المتلقي وتدفعه لطرح تساؤلات».

أما المخرج خالد منصور، فيقول إن فكرة الفيلم بدأت بصورة في خياله لا يعرف سببها أو مصدرها الحقيقي، لكنها شغلته لفترة طويلة، حتى وقعت حادثة كلب شارع الأهرام الشهيرة في شبرا الخيمة عام 2015، وانتشار فيديو لعدد من الرجال قاموا بقتل كلب بعدة طعنات بعد ربطه في عمود بالشارع على مرأى ومسمع من الجميع بينما اختفي صاحبه تمامًا عن الأنظار.

يقول منصور «كنت أرى في خيالي صورة لشاب يجلس على جانب الطريق في شارع مظلم ومتسخ محتضنا كلبًا بقوة، ولا أعرف من أين جاءت هذه الصورة، ولم أكن أعرف حتى كيف استخدمها، وبعد مشاهدتي للفيديو البشع لقتل كلب الأهرام، استفزني الحادث جدًا، ولم أستطع النوم لعدة أيام، فهو تصرف غير إنساني ووضيع جدًا من كل الأطراف بما فيه صاحب الكلب نفسه الذي تركه لهذا المصير».

قتل كلب أو أي كائن حي ضعيف بهذا الشكل البشع هو جريمة بالطبع، ولكن هذه الواقعة فجرت في نفس خالد تساؤلات أخري عن البشر الذين شاركوا فيها كان نتيجتها صناعة الفيلم، ويقول «ما شغلني أكثر من الواقعة نفسها، هو كيف يفكر هؤلاء البشر وما الذي دفعهم للقيام بمثل هذا التصرف؟ ومن هنا حدث دمج بين الصورة التي كانت في خيالي وهذا الحادث، وقررت صناعة فيلم عن القصة وملابساتها، ولكن على العكس؛ يرفض بطل فيلمنا تسليم كلبه لهذا المصير ويبحث له عن منفذ لإنقاذه». 

اتفق الثلاثي خالد ورشا والحسيني على صناعة فيلم يجمع بين مواصفات أفلام الآرت هاوس التي تحمل بصمة فنية مميزة والفيلم التجاري الممتع للجمهور العادي، وهو ما صعب فكرة البحث عن مصادر لتمويل وإنتاج الفيلم، يقول خالد: «لم أكن أريد تقديم فيلم تجاري من نوعية أفلام التسلية التي ينتهى تأثيرها بعد لحظات من مغادرة صالة السينما، ولا فيلم آرت هاوس يشاهده حفنة صغيرة من الأصدقاء والسينمائيين المقدرين لهذا النوع من الفن، أردت صناعة فيلم يمزج بين الحالتين، يحمل قيمة حقيقية ويعبر عني وعن جيلي والبشر والمخلوقات الذين يعيشون حولنا في القاهرة، وفي الوقت نفسه يحبه الجمهور العادي».

وأضاف أن بعض المنتجين رفضوا الفيلم بحجة أنه تجاري أكثر من اللازم أو انه آرت هاوس أكثر من اللازم، لأنهم لم يدركوا طبيعته واتجاهه في البداية عندما كان مجرد فكرة وسيناريو على الورق

قام منصور بتصوير أغلب مشاهد الفيلم في شوارع القاهرة وبين مناطقها الشعبية مثل حي السيدة زينب وبجوار سور مجرى العيون وفي مناطق راقية أيضًا مثل حي الزمالك، وعبر بالكاميرا عما أسماه بعلاقة حب وكراهية بينه وبين مدينته القاهرة، ويقول «التصوير في الشارع دائما كارثي وشاق جدًا، لأننا دائمًا نواجه الزحام الشديد وفضول المارة ورغبتهم في الظهور في الكاميرا وأصواتهم المرتفعة، أغلبهم لا يعرف ما يحدث بالتحديد لكنهم يرغبون في المشاهدة، بالإضافة إلى أننا نحتاج للكثير من التصاريح للقيام بذلك». 

قام بدور رامبو في الفيلم كلبان بلديان من الشارع، استعان بهما فريق الفيلم بعد رحلة بحث طويلة امتدت أكثر من شهرين ويتحدث عنهما منصور قائلاً: «كلاهما كلبان وديعان ولطيفان جدًا يحبان اللعب ويقع في غرامهما كل من يراهما. وهما شقيقان ومتطابقان في الشكل تبادلا تصوير المشاهد لأنه من الصعب التصوير بواحد فقط لأنه من الممكن أن يشعر بالملل أو الإجهاد، ورامبو الذي رافقنا إلى فينيسيا هو من قام بتصوير 80 % تقريبًا من المشاهد».

وأضاف أن التحدي الأكبر كان في العثور عليه وتدريبه، لأنه كان لا بد أن يكون كلبًا بلديًا وليس أية فصيلة أخرى لأن شخصية الفيلم تتطلب ذلك. والكلاب البلدية رغم ذكائها الشديد هي كلاب غير مدربة على التفكير المنطقي أو تنفيذ أوامر متتالية، على عكس كلاب الجيرمان مثلا المؤهلة جينيًا للتدرب بشكل أسرع وأكثر فعالية. مشيرًا إلى أن الكلب البلدي ذكي جدًا لكنه عشوائي نوعًا ما، وتدريبه على التمثيل وتنفيذ التعليمات والمهمام المتتالية أصعب، ولم يجرب من قبل.

وأضاف أن فريق العمل استعان بأكاديمية خاصة قام مدربوها بعملية البحث لمدة شهرين وكانت عملية شاقة حتى وجدوا كلبين متطابقين وملائمين سلوكيًا لفكرة التدريب، واستمر برنامج تدريبهما الأول لمدة شهر وتضمن تغذية وتمرينات لياقة وجري لأنهما جاءا من الشارع في حالة يرثي لها، ثم بدأت مرحلة التدريب على المشاهد ومع الممثلين التي استمرت ستة أشهر، مع ترك مساحة أيضًا لأشياء تلقائية كان من الممكن أن تحدث خلال التصوير، حيث اتفق مع عصام عمر على أن يتجاوب مع تصرفات رامبو بشكل ارتجالي خلال التصوير اذا قام بحركة عفوية وخرجت بعض المشاهد تلقائية وعفوية بهذا الشكل.

بينما بدأت رحلة عصام عمر مع الفيلم منذ عامين ونصف تقريبًا، بعد حوار بينه وبين خالد منصور وقراءته للسيناريو الذي شعر معه لأول مرة أنه أمام فيلم حقيقي يحب مشاهدته وليس فقط التمثيل فيه، وبدأ من وقتها العمل على فهم أبعاد شخصية حسن ومشاعره ودوافع تصرفاته، وتدرب مع رامبو في الأكاديمية لمدة ستة أشهر تقريبًا، مشيرًا إلى أنه يعتبر تدريب رامبو من أصعب مراحل الفيلم لأنه كلب شارع وتطلب الأمر الكثير من الوقت والجهد لتدريبه، ثم انضم إليه هو في مرحلة لاحقة لبناء علاقة بينهما وحتى يتعلم رامبو تلقي الأوامر منه والاستجابة له أثناء التصوير، ويقول «كثيرا ما كنت أذهب إلى الأكاديمية فقط للعب معه وبناء علاقة تشبه علاقة حسن ورامبو في الفيلم، حتى أننا وصلنا لمرحلة كان يستمع فيها لأوامري ولا يستجيب للمدرب وهو خطأ كان لا بد من تداركه لأن المدرب لا بد أن يكون له اليد العليا حتى يتمكن من التحكم فيه خلال التصوير».

وأشار عمر إلى أن مفتاح شخصية حسن بالنسبة له كان في فكرة التخلي، حيث تخلى عنه والده في مرحلة الطفولة وهو لا يريد التخلي عن رامبو كما حدث معه، فهو يشعر أنه ورامبو شخص واحد، مضيفًا أن مفتاح الشخصية ليس في الجانب الظاهر منها أو في الحوار الذي يدور بينه وبين شخصيات أخرى مثل الأم أو الجار العصبي كارم الذي يرغب في طردهم ويطارد كلبه، «فأهم ما يميز هذا الفيلم ويميز الشخصية، هو الطبقات المتعددة والمعاني الخفية وراء الكلمات».

يوضح: «حسن يعيش مع تروما غياب الأب الذي لا يعرف عنه أي شيء، ومحمل بطاقة سلبية تجاهه بسبب الأم، والآن عليه اتخاذ القرار؛ إما أن يتخلى عن رامبو كما فعل والده، أو يحميه وينقذه من مصير مؤلم، ولذلك تعتبر جملة (رامبو متخافش مش هسيبك) تيمة ثابتة ومهمة في الفيلم، تخلى الاب يؤثر على الأطفال في الكبر، يصبحون أشخاصًا بلا حماس وقليلي الكلام مثل حسن الذي يشعر أنه نشأ بلا ظهر يستند عليه، لذلك هو منزوي وانطوائي، ولا يتحدث كثيرًا وانفعالاته داخليه فقط لا توجد أية انفعالات خارجية كبيرة».

«رحلة البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» بطولة عصام عمر، وركين سعد، وأحمد بهاء، وسماء إبراهيم وأحمد السلكاوي وفهد إبراهيم وضيوف الشرف بسمة ويسرا اللوزي، والكلبان رامبو، موسيقى أحمد مصطفي زكي ومدير التصوير أحمد طارق بيومي، وتصميم الملابس ناردين إيهاب، ومونتاج أحمد الجندي، وتصميم الصوت محمد صلاح، وتصميم فني وديكور مارك وجيه وسيناريو محمد الحسيني وخالد منصور وإخراج خالد منصور وإنتاج رشا حسني ومحمد حفظي، ومن المرجح أن يشارك الفيلم في مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي باعتباره من الأفلام الحائزة على جوائز دعم إنتاج من المهرجان.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

12.09.2024

 
 
 
 
 

ثلاثة أفلام عن اليمين المتطرف والفاشية في مهرجان البندقية:

سينما قلق وذنب ونبش أوراق في مواجهة عقيدة تبثّ الكراهية

هوفيك حبشيان

في "اللعب بالنار" الذي عُرض في مسابقة مهرجان البندقية ال#سينمائي (28 آب - 7 أيلول)، تطرح المخرجتان #دلفين وموريال كولان، سؤالاً جوهرياً: "هل يمكن الاستمرار في حبّ أبنائنا إذا تعارضت أفكارهم وقيمهم وتوجهاتهم مع أفكارنا وقيمنا وتوجهاتنا؟". مسألة ينبغي أخذها على محمل الجد، خصوصاً في ظلّ صعود اليمين المتطرف والفاشية، والمواجهة بين جيلين كالذي نراه في الفيلم، أحدهما صارت تجربته الحياتية خلفه والثاني يُطلب منه ان يتأقلم مع التغييرات الثقافية التي تشهدها بلاد أجداده مع وصول أعداد كبيرة من اللاجئين.

الفيلم، بشكل عام، عن التعصّب وما سيتسبّب به من خسائر في المعسكرين. هذا كله من منظور أسرة تتألّف من أرمل وابنيه. أحد الابنين ينضم إلى جماعة تعتنق أفكار النازيين الجدد. الأب، بيار، الذي يجسّده فنسان لاندون (فاز بجائزة أفضل تمثيل في المهرجان)، سيواجه أزمة وجودية نابعة من احساسه بالذنب والتقصير، عندما يكتشف تورط ابنه في هذا المسار الراديكالي. أين أخفق؟ ولماذا يحصد ما لم يزرعه؟ وما الحلّ الآن؟ أسئلة ستحوّل حياته إلى جحيم متواصلة، في انتظار التطورات الدرامية التي ستأخد الفيلم ومعه الشخصيات إلى منطقة أخطر بكثير من مجرد الذنب والقلق.

لا يأتي الفيلم بحلول عملية جاهزة أو يطرح نموذجاً فكرياً أوحد. الأشياء هنا رمادية، لأن المخرجتين تعلمان ان الاستقطاب الأعمى لا يصنع سينما ذكية، ولو ان اليمين المتطرف هو "الشر المطلق"، ولكن المعسكر النقيض يتحمّل أيضاً ذنوباً، خصوصاً الأب الذي يحل هنا مكان السلطة، مع العلم ان حبّه ودعمه غير المشروطين لأبنه يضعانه في موقف نقيض لسلطة الدولة التي تنظر اليه بصفته جهة تطبّق عليها القانون. يستعرض الفيلم المعاناة المتصاعدة للأسرة، طارحاً تساؤلات حول الأبوة، وحدود مسؤولياتها، خصوصاً في غياب الأم. وتتفاقم المعضلة الأبوية عندما يحاول الأب إنقاذ ابنه من الأفكار التي يعارضها بشدّة. هذا كله في جو محموم من صراع إيديولوجي ضخم، رأينا تجلياته في الانتخابات الفرنسية الأخيرة.

الفيلم غير مقل باللقطات القوية ذات التأثير النفسي على المُشاهد، خاصةً في تصويره للنشاطات الرياضية التي ينظّمها النازيون الجدد (كمال الأجسام لطالما كان أحد هواجس هؤلاء)، ممّا يعكس جواً كلوستروفوبياً يعبّر عن لحظة توتّر اجتماعي وسياسي. يلجأ الفيلم إلى اسلوب بصري ناتورالي يربط بين الواقع والمضمون، ويعكس تعقيدات الأزمة التي تمر بها العائلة.

أداء لاندون في دور الأب الذي يسعى جاهداً للحفاظ على تماسك العائلة وابعاد ابنه من تجرع الكأس المرة، يسحق القلب، وقد سحق أيضاً قلوب أعضاء لجنة التحكيم. المواجهة التي يخلقها مع ابنه صورة مصغّرة عن التوتّرات الاجتماعية والسياسية المعاصرة في أوروبا، لكنه يحمل أيضاً في خطابه الأخير أمام هيئة المحلّفين مسألة عجز الجهات التي استغل المتطّرفون ضعفها للبقاء والانتشار.

"ذا أوردر" لجاستن كرزل (مسابقة)، يعيدنا إلى الثمانينات وهو عن قصّة جرت فصولها في منطقة أيداهو (الولايات المتحدة)، حيث تحاول ميليشيا يمينية متطرفة الترويج لعقيدتها من خلال العنف والإرهاب. كلّ شيء يبدأ مع عملية سطو ينفّذها هؤلاء لتمويل مشروعهم، مما يثير شكوك السلطات المحلية، فيُكلَّف فريق لاجراء تحقيقات والتوصّل إلى استنتاجات حاسمة. لكن سرعان ما يحوّل كرزل فيلمه إلى ثريللر يولي الاهتمام إلى المطاردات بين الشرطي الفيديرالي تيري هاسك (جود لو) وقائد التنظيم المسلّح #بوب ماتيوز (#نيكولاس هولت). يسعى ماتيوز لتأسيس منطقة محصورة بالبيض داخل الولايات المتحدة، مستخدماً وسائل عنيفة ومستنداً إلى عقيدة متشدّدة، الهدف منها افتعال حرب بين الأعراق. العقيدة هذه مستمدة من "يوميات ترنر" للكاتب العنصري #وليم لوثر برس. طوال الفيلم، سنشهد على العنف بصفته وسيلة لفرض مشروع قائم على الكراهية والفصل العنصري. لا يقدّم الفيلم الكثير من التفاصيل حول الإيديولوجيا التي يتصدّى لها، مركّزاً بشكل أكبر على المواجهة بين القانون والفوضى، بين النظام ومحاولات الاستيلاء على السلطة لأغراض قذرة.

الشرطي هاسك، المتمرس في محاربة هذه التنظيمات، سيصبح في مهب التحديات عندما يكتشف ان هذه الجماعة تخطّط لعملية كبيرة في أيداهو. مذّذاك، تُستأنف لعبة قط وفأر بينه وبين ماتيوز، تتخلّلها مطاردات يؤكد كرزل من خلالها حسا إخراجيا متقنا ومتمهّلا، وقدرة على التحكّم بالإيقاع والتوتّر اللذين يمسكان بالفيلم طوال مدّته.

أقوى ما في الفيلم هو إخراج كرزل الديناميكي الذي يربط الماضي بالحاضر، مضيئاً على تشابهات بين الأحداث المعاصرة في أميركا زمن ترامب وماضيها الحافل بالجماعات الكريهة. ما سيظهر جلياً من خلال الصراع بين التطرف ومحاولة ضبطه هو وجهان لأميركا: واحد يفرض حداً أدنى من القيم والآخر ينقلب عليه. يضعنا كرزل في أجواء لا ترحم، حيث تتصارع الشخصيات داخل بيئة ذكورية قاسية، عاكساً جذور العنف والتوتّر الاجتماعي العميق.

في "ريفنشتال" الذي شارك في المهرجان خارج المسابقة، ينبش المخرج أندريس فيل في صفحات النازية (سمّاها فاشية خلال مؤتمره الصحافي)، من خلال شخصية المخرجة النازية ليني ريفنشتال (1902 - 2003)، التي أنجزت أفلاماً وثائقية بصفتها الآلة الدعائية المفضّلة لهتلر. في رائعتها السينمائية "انتصار الإرادة"، وثّقت لنفوذ الرايخ الثالث واستحالة اطاحته. أعداد متجمهرة أمام الفوهرر تصفّق للقائد الأعلى، نقلت المخرجة من خلالها للمُشاهد فكرة ان ألمانيا عادت إلى زمن العظمة التي كانت سُرقت منها. فيلمها الثاني "أولمبيا"، جاء تمجيداً للعرق الآري. استغل الفيلم دورة الألعاب الأولمبية في برلين عام 1938 للقول بأن الشعب الألماني هو الوارث الشرعي للثقافة الآرية.

في حقبة تحاول اعادة قراءة الأساطير من منظور أكثر تداركاً للمفاهيم الحديثة، يحاول المخرج التطرق إلى ظاهرة ريفنشتال كشخصية أبعد من كونها جدلية. من خلال تيمة عبادة الجسد المثالي الخالي من أي عيب والاحتفاء بالمتفوّق والمنتصر، إنما يتناول مدى احتقار النازية للضعفاء وأصحاب الخلل. مشروع أندريس فيل هو ادانة المخرجة التي كانت حاولت التنصّل من نازيتها عبر الادعاء بأن أي علاقة لم تربطها بهتلر وغوبلز. محكمة نورنبرغ في الأربعينات أبعدت الشبهات عنها، لكن السينما لا تكتفي بذلك. قيل إنها لم تتورط في تصوير جرائم حرب، رغم ان هناك في الفيلم ما يروي العكس.

الفيلم غني بالوثائق من تلك التي تعود ملكيتها إلى ريفنشتال، بما فيها أفلام غير معروضة وصور ورسائل وتسجيلات. هناك محاولة للكشف عن أجزاء من سيرتها الذاتية مع وضعها في سياق تاريخي أوسع. يربط المخرج، على غرار كرزل، الماضي بالحاضر، محذّراً من ان تصبح أعمالها أكثر من مجرد وثيقة تاريخية بل مادة رومنطيقية يمارس من خلالها بعض الألمان حنينهم إلى زمن النازية. يؤكّد أندريس فيل ان عوالم ريفنشتال البصرية تقتصر على تمجيد الانتصار، أي الانتصار على الشكّ والتناقض والضعف. من هنا، أصبح إنجاز فيلم عنها "ضرورة ملحّة" بالنسبة اليه، ذلك ان إرثها الضخم، الذي أعاد فيل تفسيره في ضوء النبش في مقتنياتها، ما هو سوى فرصة مثالية لتناول حاجة الإمبريالية إلى تمجيد الأجساد المفتولة التي تظهر في وضعية المنتصر.

 

النهار اللبنانية في

13.09.2024

 
 
 
 
 

عُرض في «فينيسيا» و«تورنتو» السينمائيين ..

مراجعة فيلميه | «معطر بالنعناع» لـ محمد حمدي إسقاط صادم على جيل جريح

تورنتو ـ خاص «سينماتوغراف»

في عام 2011، حلم المصريون بالتغيير والعدالة الاجتماعية وإنهاء الفساد الذي استمر لعقود طويلة.

كانت ثورة 25 يناير، التي قادها جيل الشباب في المقام الأول، منارة أمل للملايين. لكن ما بدا وكأنه خروج نهائي من العصور المظلمة لم يؤد إلا إلى مستقبل أسوأ بكثير - مستقبل أصبحت فيه الأحلام شيئًا من الماضي وتلاشت الآمال.

لقد استطاع الجيل الأكبر سناً من المصريين الذين اعتادوا على بلد ميؤوس منه التكيف مع واقع الثورة الفاشلة - لكن الجيل الأصغر سناً هو الذي عانى أكثر من غيره.

في باكورته الروائية الطويلة اللافتة للنظر «معطر بالنعناع»، (الذي شارك فى أسبوع النقاد بمهرجان فينيسيا، وعُرض ضمن فعاليات تورنتو السينمائي الـ 49)، وبعد عدة سنوات من العمل كمصور سينمائي مشهود له في أفلام مثل الفيلم الوثائقي «الميدان» للمخرجة جيهان نجيم المرشح للأوسكار، يحقق محمد حمدي قفزة كبيرة في صناعة الأفلام الروائية بفيلم يكاد يكون غير روائي، ولكنه مع ذلك تجربة مشاهدة مثيرة لا تُنسى بالتأكيد.

لكن من المفارقات، وربما من المثير للسخرية أن من يتحدث عنهم الفيلم لن يتمكنوا أبدًا من مشاهدته لأنه من غير المرجح أن يتجاوز الرقابة في مصر بما يتضمنه من انتقادات سياسية لاذعة.

ومن المرجح أن يحقق الفيلم نجاحًا في المهرجانات السينمائية الدولية، على الرغم من أن أولئك الذين ليسوا على دراية بالأحداث في الشرق الأوسط قد لا يتواصلون معه بشكل كامل - فالفيلم لا يعطي سياقًا كبيرًا للمشاهدين غير المدركين للأوضاع السياسية في مصر - كما أن اللقطات الطويلة والمطولة المتعمدة والحوار المتناثر سيختبر صبر المشاهدين القلقين الذين يأملون في سرد أكثر مباشرة. لكن أولئك الذين يرغبون في الشروع في هذه الرحلة غير الاعتيادية سيحصلون بالتأكيد على متعة خلال المشاهدة.

يأخذنا «حمدي» إلى المستقبل القريب، وهو أحد الأفلام القليلة جداً في تاريخ السينما المصرية التي تدور أحداثها في عالم الواقع المرير.

أصبحت القاهرة مدينة أشباح، حيث رحل معظم سكانها بالفعل. الشوارع فارغة، مع صمت مخيف تفوح منه رائحة الموت والهجر، صمت لا يكسره سوى همسات تخرج بغرابة من نباتات النعناع.

ثم تنتقل الأحداث بعد ذلك إلى عيادة نائية، من الواضح أن أفضل أيامها قد ولّت، حيث ينتظر طبيب ثلاثيني (علاء الدين حمادة) مريضه التالي. تصل أم حزينة تطلب منه أن يساعدها في تخفيف ألمها المتزايد باستمرار. تشرح له أن ابنها لم يموت، وأن وفاته تطاردها بشكل يومي.

المريض التالي هو صديق بهاء القديم، مهدي (مهدي أبو بهات)، الذي ينمو شعره المجعد بالنعناع، وهي علامة على أنه في طريقه لفقدان شكله البشري والتحول إلى نبات كامل.

الحل الوحيد لإيقاف ذلك هو تناول الحشيش، فهو يخفف من الألم والعذاب، ويساعد المريض الذي ينبت النعناع على نسيان ذكرياته، ومعظمها مؤلمة، ولو لفترة قصيرة حتى موعد المفصل التالي.

بعد أن أعطى بهاء معظم مخزونه لمرضاه السابقين، ينفد مخزونه، وينطلق الصديقان القديمان في رحلة للبحث عن المزيد من الحشيش. يزوران الأصدقاء القدامى، الذين تحول بعضهم بالفعل إلى نبتة نعناع كاملة، على أمل الحصول على المزيد من المخدرات لمساعدتهم على النسيان.

تمضي معظم أحداث الفيلم في هذه الرحلة، حيث يتسنى رؤية ما آل إليه جيل كان مفعمًا بالحيوية في يوم من الأيام.

كل شخصية يقابلها الثنائي هي شخصية ميتة تمشي على قدميها، شبح لما كانوا عليه في السابق. لم يتحولوا جميعًا إلى نباتات بعد، لكنهم جميعًا لديهم براعم في أجسادهم، وهم في طريقهم لفقدان ما تبقى من أجسادهم وأرواحهم، ولكن هناك شيء واحد لا يفقدونه وهو صوتهم - فهم لا يزالون قادرين على الكلام بعد التحول؛ على الرغم من أن ما يتحدثون به هو مجموعة متكررة من الكلمات التي تعكس الصدمات التي أوصلتهم إلى ذلك.

حتى بعد فقدانهم لكل شيء، لا يزالون غير قادرين على فقدان ذاكرتهم، وتبقى صدماتهم حية ومثابرة لفترة أطول بكثير من أعضائهم البشرية. إنه انعكاس لكيفية استمرار الألم وبقائه، وكيف أن الاستسلام له أسهل بكثير من حشد أي طاقة للتغلب عليه.

بحسه البصري المتقن، يملأ حمدي الفيلم بلقطات جميلة ذات أجواء خلابة للمنازل المسكونة بالنباتات الناطقة والشوارع والأزقة المهجورة التي كانت ذات يوم حية، وأطلال المباني التي كانت تعمل ذات يوم، وكلها تنقل بشكل رائع الإحساس المؤلم بالاضمحلال. كل ذلك يبدو شاعريًا ومفجعًا للغاية، كما أن اللقطة الأخيرة تجسد أفكار الفيلم وتنهيه بشكل جميل ورائع.

فيلم «معطر بالنعناع» مليء بالتحدي والتأمل، قد لا يناسب الجميع، لكنه يبقى عملاً سينمائياً استفزازياً ومؤثراً يصعب نسيانه.

 

موقع "سينماتوغراف" في

14.09.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004