ملفات خاصة

 
 
 

ختام فينيسيا السينمائي الـ81:

جوائز تُصيب أهدافها

فينيسيا – محمد هاشم عبد السلام

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الحادي والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

اختتمت مساء أمس 7 سبتمبر/ أيلول الحالي فعاليات الدورة الـ81 في عمرمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، والتي بدأت عروضها في 28 أغسطس/ آب الماضي، وذلك بتوزيع الجوائز وصولًا إلى جوائز “المُسابقة الرئيسية”، التي أعلنتها رئيسة لجنة التحكيم المُخرجة الفرنسية إيزابيل أوبير. تألفت لجنة التحكيم من: المخرج الأميركي جيمس غراي، والمخرج البريطاني أندرو هاي، والمخرجة البولندية أغنيشكا هولاند، والمخرج البرازيلي كليبر ميندوسا فيلهو، والمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، والمخرج الإيطالي جوزيبي تورناتوري، والمخرجة الألمانية جوليا فون هاينز، والمُمثلة الصينية تشانج زيي.

في مُستهل كلمتها التقديمية للجوائز، قالت أوبير، مُخاطبة ومُطمئنة المُدير الفني للمهرجان ألبيرتو باربيرا، بأن السينما لا تزال بخير. وبصرف النظر عن كلمات أوبير، فقد أثبتت اللجنة المُختارة أنها فعلًا على قدر المسؤولية، وأجابت عن أسئلة طرحناها بخصوص لجنة مكونة في معظمها من مخرجين، ولأي شيء سوف تميل، أو حتى تنحاز، اختياراتها. الإجابة كانت مع إعلان الجوائز ذات النظرة الفنية الإخراجية المُراعية لفنيات وجماليات سينمائية بارزة فعلًا في معظم الأفلام الفائزة. من هنا يمكن وصف اللجنة بالعادلة والمُنصفة، وبأن الجوائز ذهبت إجمالًا إلى مُستحقينها فعلًا. وهذا في ضوء المستويات الفنية والفكرية والجمالية للأفلام الـ21 المُتنافسة في مُسابقة هذا العام. ربما باستثناء جائزة التمثيل النسائي، التي جاءت في غير محلها، على غرار جائزة التمثيل النسائي العام الماضي.

جوائز المُسابقة الرئيسية

بعد حصوله من قبل على جائزةالأسد الذهبي الفخري عن مسيرته المهنية عام 2019، وأيضًا جائزة “أفضل سيناريو” عام 1988 عن فيلمه “نساء على حافة الانهيار العصبي”، ها هو الإسباني المخضرم بيدور ألمودوبار يعود بعد ثلاث سنوات من آخر مُشاركة له في مهرجان فينيسيا بفيلمه “أمهات مُتوازيات” (2021) لينتزع، أخيرًا، بفيلمه “الحجرة المُجاورة” جائزة المهرجان الكبرى، “الأسد الذهبي”، ليضُمها إلى خزينة جوائزه العديدة التي كانت في حاجة لأسد ذهبي فينيسي.

الفيلم بطولة تيلدا سوينتون، وجوليان مور، ومأخوذ عن رواية صدرت عام 2020 للأديبة والروائية الأميركية سيجريد نونيز، بعنوان “ما تمرين به”. يأتي العمل كأول فيلم روائي طويل للمخرج باللغة الإنجليزية، بعد أول أفلامه القصيرة باللغة الإنجليزية “طريقة الحياة الغريبة”، ثم “الصوت البشري”، اللذين عُرضا لأول مرة في مهرجاني كانّ، وفينيسيا، على التوالي.

في جديده، لا يبتعد ألمودوبار كثيرًا عن عوالمه المُعتادة تقريبًا، ولا عن رصده لحياة النساء، في صورها ومُستوياتها كافة. هذه المرة، يحضر الموت والسرطان والرغبة المُلحة في مُغادرة الحياة بهدوء وسلام. تلعب تيلدا سوينتون دور “مارثا”، الصحافية الحربية المريضة مُؤخرًا من دون أمل في الشفاء. بينما تقوم جوليان مور بدور الكاتبة “إنجريد” صاحبة الأعمال الرائجة والمشهورة في الأوساط الثقافية في نيويورك. فور معرفتها بمرض “مارثا”، لا تتردد “إنجريد” في إعادة علاقتها مع صديقتها القديمة بعد انقطاع التواصل بينهما لسنوات طويلة.

أما جائزة “الأسد الفضي”، أو “جائزة لجنة التحكيم الكبرى”، التالية في الأهمية لجائزة “الأسد الذهبي”، فنالها الفيلم الإيطالي “فيرميليو”، للمخرجة ماورا ديلبيرو. وهي جائزة مُستحقة بكل تأكيد، نالتها السينما الإيطالية بشق الأنفس، وذلك بعد مُشاركات كثيفة سابقًا في مُسابقة المهرجان بلغت هذا العام خمسة أفلام، مُتنوعة المستوى والموضوعات والمعالجات، لتأتي رائعة ماورا ديلبيرو، التي تتناول الحرب وقسوتها، من دون أن نراها، فقط نشعر بها، وبتأثيرها الفادح على أسرة بسيطة من بين أسر عديدة تعيش حياة جد مُتواضعة في المناطق الجبلية الإيطالية.

جائزة أفضل إخراج حصل عليها فيلم “الوحشي” للأميركي برادي كوربيت. وهي جائزة مُستحقة بالطبع، نظرًا لما بذله المُخرج من جهد في خروج فيلمه بالصورة التي ظَهَرَ عليها. لكن أيضًا خروج فيلمه على هذا النحو يثير كثيرًا من التساؤلات حول مدى توافر الإمكانيات التقنية المطلوبة لعرض الفيلم في السينما حول العالم. بخلاف هذا، فالفيلم، وهو بطولة أدريان برودي، وفيليستي جونز، كان أطول أفلام المسابقة بزمن عرض تجاوز الثلاث ساعات ونصف الساعة بقليل. يسرد الفيلم قصة بسيطة جدًا، لا جديد فيها، خالية من التشويق، وتسودها بعض المشاكل، خاصة قرب النهاية. ولولا أداء أدريان برودي المُستحق لجائزة عن دوره كمُهندس معماري يهودي فر من المحرقة إلى أميركا لتُفتح له الأبواب هناك لتنفيذ مشروعاته الوحشية الطابع، لأخفق الفيلم كثيرًا جدًا.

أما جائزة “لجنة التحكيم الخاصة”، فذهبت إلى فيلم “أبريل”، للمخرجة الجورجية ديا كولومبيجاشفيلي. المُثير أن المُخرجتين الإيطالية ماورا ديلبيرو، والجورجية ديا كولومبيجاشفيلي، لديهما الجماليات البصرية نفسها. كذلك التناول السينمائي، والاشتغال الفني، والسرد بالصورة، وبطء الإيقاع، والاهتمام البالغ بالجماليات والأداء، وغيرها من السمات الفنية البارزة واللافتة بصريًا إلى حد بعيد. صحيح أن ديا كولومبيجاشفيلي توغل أكثر في بطء الإيقاع، وغيرها من الجماليات، مثل الإكثار من اللقطات الفارغة الممتدة لعشر دقائق تقريبًا من دون حدوث أي شيء وبإيقاع بطيء، أو اللقطات التي تقع الأحداث فيها خارج الإطار، لكنهما من المدرسة نفسها، إن جاز التعبير والتشبيه بينهما. وبينما يدور الفيلم الإيطالي في الماضي، تدور أحداث الفيلم الجورجي في الحاضر، حول مُمرضة ماهرة متهمة بإجراء عمليات إجهاض سرية، ما يثير حولها كثيرًا من الشبهات والاتهامات، لتتطور الأمور على نحو مأساوي من بين أفضل الأفلام المعروضة هذا العام، وكانت من الأعمال المُرشحة بقوة للجائزة الكبرى، الفيلم البرازيلي “أنا ما زلت هنا”، للمخرج العائد بعد توقف، والتر ساليس. حصل الفيلم على جائزة مُستحقة، وهي “أفضل سيناريو”، لكاتبي السيناريو موريلو هاوزر، وهيتور لوريجا. يستند الفيلم إلى أحداث ووقائع حقيقية وقعت في البرازيل في أثناء فترة الديكتاتورية العسكرية، حيث تم اختطاف العديد من الأشخاص واختفائهم، لدرجة أن بعضهم مجهول المصير حتى الآن، بعد مرور عقود على الاختفاء. يتناول الفيلم قصة أحد هؤلاء، وكيف نجحت زوجته بعد سنوات عديدة في انتزاع اعتراف الدولة بالجريمة، حتى وإن ظلت على جهلها بحقيقة ما حدث لزوجها، ومكان جثته.

برز أكثر من ممثل في أدوار مختلفة، وكانت ثمة حيرة بين من منهم سيحصل على جائزة “أحسن ممثل، أو كأس فولبي”، التي ذهبت في النهاية إلى الدور الرائع والمُؤثر فعلًا الذي أداه المُمثل الفرنسي المُخضرم فنسان لاندون، في دور “بيير”، بطل فيلم “الابن الهادئ”، أو “اللعب بالنار” (وفقًا للعنوان الفرنسي)، للمخرجتين دلفين وموريل كولين. يتناول الفيلم قضية جد شائكة ومؤرقة في فرنسا المعاصرة، وأوروبا إجمالًا، وهي قضية التطرف والانضمام لجماعات مُتعصبة عنيفة ضد المهاجرين، وضد الآخر إجمالا، تعمل على بث العنف ونشر الكراهية. يُعاني بيير، الأرمل، من هذه المُعضلة مع ابنه الأكبر المُراهق، ويحاول بشتى السُبل التصدي لها.

أما جائزة “أفضل مُمثلة أو كأس فولبي”، التي حصلت عليها الأسترالية نيكول كيدمان عن دورها في فيلم “بيبي غيرل”، للمُخرجة هالينا راي، فيبدو على نحو جلي أنها جاءت كنوع من العزاء، أو السلوى، للنجمة نيكول كيدمان، التي فقدت والدتها قبيل إعلان الجوائز، ولم تستطع حضور الحفل وتسلم الجائزة. بخلاف هذا، ليس ثمة ما يُبرر بالمرة منح كيدمان هذا الجائزة. إذ لم تكن في أفضل حالاتها، ولا أدوارها، على الإطلاق، ولا الفيلم يستحق حتى جائزة التمثيل تلك الممنوحة له. تؤدي كيدمان دور مُديرة قوية الشخصية ومُتسلطة وواثقة من نفسها، تجد نفسها ذات يوم تنساق تدريجيًا لرغبات جنسية لم تكن تدركها، تجعلها تقع تحت إغواء شاب يأتي للتدرب في الشركة الكبرى التي تعمل فيها.

كما حصل على جائزة “مارشيلو ماستروياني لأفضل مُمثل صاعد” الفرنسي بول كيرشير، مواليد 2001. وذلك عن دور البطولة في الفيلم الفرنسي، “أولادهم مثلهم”، سيناريو وإخراج التوأم لودفيك وزوران بوخيرما. ينتمي الفيلم إلى ما يعرف بأفلام مرحلة أفلام المُراهقة، أو فترة النضج، وتدور الأحداث في بلدة ريفية، حيث يمضي مراهقون يبحثون عن مستقبل ما غير محدّد أوقاتهم بلا هدف واضح. تحضر مشاكل المراهقة والبلوغ، إلى جانب العنف والتنمّر، والرغبة في الانتقام، وكراهية الآخر، وغيرها، بصُور مختلفة.

فيلم الختام

عقب توزيع الجوائز، عُرض فيلم الختام، وهو “الفناء الخلفي الأميركي”، للمخرج الإيطالي بوبي أفاتي. يستند الفيلم إلى رواية بالعنوان نفسه صدرت العام الماضي، من تأليف المخرج نفسه، صاحب الـ”85” عامًا. يتناول الفيلم قصة شاب مُختل عقليًا اسمه فيليبو، يطمح إلى أن يصبح كاتبًا، ويُصادف أن يقع في الحب من النظرة الأولى لمُمرضة شابة في الجيش الأميركي تدعى باربرا. تدور خلفية الأحداث في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة. تتشابك خيوط الحبكة بين منطقة بولونيا، وتتقاطع والمناطق الريفية في الغرب الأوسط الأميركي، حيث يسافر فيليبو للإقامة قرب منزل والدة باربرا، قبل شروعه في البحث عن باربرا المفقودة وطمأنة قلب والدتها المكلوم. يتسم الفيلم بالتشويق والإثارة من خلال عناصره القوطية المُخيفة والمُشوقة، وأحداثه الخارقة للطبيعة قليلًا، وتصويره بالأبيض والأسود، ونقل أجواء الماضي. الفيلم بطولة فيليبو سكوتي، وريتا توشينجهام، وكيارا كاسيلي، وروبرتو دي فرانشيسكو.

كان من اللافت جدًا المُشاركة العربية القليلة، وغير المُبهرة، أو القوية فنيًا، إلى حد كبير، في بعض أقسام المهرجان هذا العام، مُقارنة بالسابق. ربما باستثناء فيلم “عائشة” للمخرج التونسي مهدي برصاوي الرائع فعلًا، على أكثر من مُستوى. ما يطرح أسئلة كثيرة حول مُستوى المُشاركة في “مهرجان فينيسيا” هذا العام. سواء في ما يتعلق بالمُستوى الفني، أو الجمالي، أو الفكري، أو حتى الأداء.

بخلاف هذا، فاز فيلم “إجازات سعيدة”، من سيناريو وإخراج الفلسطيني إسكندر قبطي بجائزة “أحسن سيناريو”، وذلك في قسم “آفاق”، التالي في الأهمية لمُسابقة المهرجان الرئيسية. وتتألف حبكة الفيلم من خمس قصص مُنفصلة مُتصلة، بعناوين مُختلفة شارحة لكل قصة. تتلاقى الأحداث والخيوط الاجتماعية الطابع، وتتقاطع مصائر الأبطال، وتتجلى لنا في القصة الخامسة والأخيرة كثيرٌ من التفاصيل والحقائق التي تضيء ما غَمَضَ منها.

 

الـ الـ cinarts24  في

09.09.2024

 
 
 
 
 

الإجهاض والموت الرحيم والقضايا الاجتماعية في الواجهة:

أخيراً... بيدرو ألمودوفار متوّجاً في «البندقية»

شفيق طبارة

البندقيةانتهت النسخة الحادية والثمانون من «مهرجان البندقية السينمائي الدولي» أول من أمس، بشعور متناقض في ما يتعلق بالجوائز لأنّ الفيلم الذي كان يستحقّ قطعاً جائزة الأسد الذهبي» هو «الوحشيّ» لبرادي كوربيت، قطعاً، لكنه أخذ جائزة أفضل مخرج. في الوقت نفسه، لا يمكن ألا نفرح بنيل المعلّم الإسباني بيدرو ألمودوفار «جائزة الأسد الذهبي» للمرة الأولى عن فيلمه الرائع «الغرفة المجاورة» (الأخبار 5/8/ 2024الذي يدافع عن مفهوم القتل الرحيم، فـ «توديع هذا العالم بشكل صحيح وبكرامة هو حق أساسي لكل إنسان» وفقاً لما قال ألمودوفار لدى تسلّم الجائزة. أما جائزة أفضل ممثل، فذهبت إلى الفرنسي فنسان ليندون في «الابن الهادئ» (الاسم الفرنسي هو «اللعب بالنار») لدلفين كولان وموريال كولان (فرنسا) اللتين تستكشفان ديناميكيات الأسرة وسط التطرف اليميني.

أما جائزة لجنة التحكيم، فقد ذهبت للفيلم الإيطالي «فيرميلليو» للمخرجة مورا ديلبورو. فيلم هادئ وجميل تدور أحداثه في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وينطلق من قرية فيرميلليو الإيطالية، ليستكشف قصة عائلة كبيرة وصراعات النساء والذكور فيها وفي المجتمع ككل. وراحت جائزة أفضل ممثلة للممثلة الأسترالية نيكول كيدمان عن فيلم «بيبي غيرل» (الأخبار 2/8/ 2024 ــــ إخراج الهولندية هالينا ريين) الذي يمكن القول بأنّه شريط «إباحي» معقّم يلتزم بتعليمات حركة «مي تو»، فيما نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة فيلم «أبريل» (إخراج ديا كولومبيجاشفيلي) من جورجيا، الذي يحمل نكهة وثائقية، ويتكلم عن حق الإجهاض. ولا بد من التوقّف عند فيلم «لا أزال هنا» (جائزة أفضل سيناريو) للمخرج البرازيلي وولتر ساليس الذي يقدّم قصة مأخوذة من الأخبار، من أبطال حقيقيين. إنّه ملحمة تأخذنا من السبعينيات إلى عام 2014 عن الديكتاتورية العسكرية القاسية التي شهدتها البرازيل في السبعينيات، عن التعذيب والمختفين، ولكن قبل أي شيء هو عن الآثار المدمرة التي خلفها التاريخ المأساوي على العائلات التي دخلت فجأة في دوامة من الخوف والرعب. أما فيلم «الوحشي» الذي كان يستحق ـ برأينا ــ «الدبّ الذهبي»، فهو الثالث للمخرج المذهل برادي كوربيت. يتمتع العمل بعظمة متدفقة، خارج الزمن وخارج القاعدة، نحو أقصى العواقب الجمالية والسردية. يحلّق «الوحشيّ» عالياً في نواياه السامية، يحكي عن الهندسة المعمارية، والهولوكوست، والمنفى، وكواليس التاريخ والفن عبر حياة خاصة. يقوم كوربيت وزوجته مونا فاستفولد بكتابة و«بناء» السيرة الذاتية الخيالية للازلو توت (أدريان برودي)، المهندس المعماري اليهودي المجري، الذي فرّ إلى الولايات المتحدة من معسكرات الإبادة. يهتم كوربيت بـ«التجربة الأميركية». لذلك يبدأ فيلمه في نهاية الأربعينيات، مع وصول توت إلى نيويورك وإقامته المضطربة والفقيرة في فيلادلفيا. هناك يلتقي بالملياردير هاريسون لي فان بورن (غاي برس)، الذي يفتح له طريقاً محتملاً للنجاح، لكنه يفتح أيضاً أبواب الخضوع التي قد تلغي رؤيته الفنية. وبين كل هذا، هناك العلاقة العاطفية المضطربة مع زوجته إيرزيبيت توت (فيليستي دونز) وابنة أخته زوفيا (رافي كاسيدي). إن طول مدة الفيلم (ثلاث ساعات وثلاثون دقيقة)، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعته، وبفكرة كوربيت عن السينما، وببحثه عن العظمة في كل الاتجاهات الفنية الممكنة. كل شيء هائل في الفيلم، ولكنه لا يصبح زائداً عن الحاجة أبداً، منذ مشهد الافتتاح المهيب، مع تمثال الحرية الذي يُرى من منظر غير عادي، ملتوياً ومقلوباً، ومع ذلك أكثر واقعية، ومبهجاً، ورمزياً، إلى النهاية التي تحتوي صليباً مقلوباً، إذ يقوم كوربيت بقلب رموز الولايات المتحدة الأميركية رأساً على عقب. «الوحشيّ» عمل فني شامل يعرض بوقاحة كل عظمته، ويدعمه كل شيء، من التصوير السينمائي، إلى أداء أدريان برودي العظيم والموسيقى التصويرية المبجلة لدانيال بلومبرغ. «الوحشي» هو نقاء وجنون السينما، فيلم مستحيل، معجزة إتقان الوقت، يصوّر فيه كوربيت برشاقة وحشية التاريخ. أخيراً، لم تخل الدورة الحادية والثمانون من مواقف فردية تضامنية مع غزّة ومندّدة بالوحشية الصهيونية. إلى جانب حضور بعض الفنانين بحقائب وملصقات ودبابيس تضامنية مع القطاع المذبوح، اعتلت المخرجة الأميركية سارة فريدلاند المسرح في ختام المهرجان يوم السبت. وقالت أثناء تسلّمها جائزة عن فيلمها «فاميليار تاتش» في قسم «آفاق»: «بصفتي فنانة يهودية أميركية (...)، لا بد لي أن أشير إلى أنني أقبل هذه الجائزة في اليوم الـ336 على الإبادة الإسرائيلية في غزة والعام الـ76 على الاحتلال».

 

الأخبار اللبنانية في

09.09.2024

 
 
 
 
 

الدورة الـ81 من مهرجان البندقية وزّعت جوائزها:

ألمودوفار أغوى اللجنة وسرق "الأسد" ممّن يستحقّها!

هوفيك حبشيان

بعد 36 عاماً على فوزه بجائزة السيناريو عن "نساء على حافة الانهيار العصبي" في #مهرجان البندقية، نال المخرج الإسباني الكبير #بدرو ألمودوفار مساء السبت الماضي جائزة "الأسد الذهب" في المهرجان نفسه عن فيلمه الأحدث "الغرفة المجاورة" الذي نافس 20 فيلماً آخر خلال الدورة الحادية والثمانين التي أُقيمت من 28 آب إلى 7 أيلول واختُتِمت مساء أول من أمس بحفل توزيع ال#جوائز.

هذه أرفع جائزة من أحد المهرجانات الأوروبية الثلاثة، ينالها ال#سينمائي الشهير البالغ من العمر 75 عاماً، رغم انه شارك ست مرات في مهرجان كانّ ولم ينل يوماً "سعفته" المشتهاة، مما دفعه إلى عرض جديده هذه المرة في "الموسترا" التي كان شارك فيها بأحد أول أفلامه، لكن عاد وغاب عنها لعقود ليرتبط اسمه باسم كانّ حيث عرض معظم أعماله، ونال فيه جائزة الإخراج عام 1999 عن رائعته "كلّ شيء عن أمي"، بيد ان الحظ لم يحالفه بأكثر من ذلك. أما المفارقة، فهو انه ينال أكبر جائزة في حياته عن أول فيلم له بالإنكليزية، أي بلغة غير لغته.

ألمودوفار الذي لا تزال ملامحه ملامح شاب يافع مفعم بالحياة، شوهد يوم السبت الماضي في #مطار ماركو بولو عائداً إلى الليدو ليتسلّم جائزته. وهكذا، بدأت تنتشر الأخبار بأن اسمه في لائحة الجوائز، من دون ان نعرف أي جائزة. مع ذلك، يمكن القول ان هذه الجائزة هي نوعاً ما عن مجمل أعماله، لا بل عن مجمل تجربته المديدة، أكثر ممّا هي عن فيلمه هذا الذي لم يبلغ به القمم الألمودوفارية الماضية، رغم بعض الإيجابيات الموزّعة هنا وهناك. لا يمكن معرفة خفايا النقاشات بين أعضاء لجنة التحكيم التي ترأستها الممثّلة الفرنسية إيزابيل أوبير، لكن لدينا كلّ الأسباب للاعتقاد بأنها جائزة تسوية. في أي حال، هذا ما حدث عندما استلمت أوبير رئاسة لجنة تحكيم كانّ في العام 2009. يومها أعطت "السعفة" لميشائيل هانكه، رغم ان نقاشا دار بين مَن انحاز إلى "نبي" لجاك أوديار و"المسيح الدجال" للارس فون ترير. في النهاية، وقع الاختيار على طرف ثالث هو هانكه وفيلمه "الرباط الأبيض". فهل كرر التاريخ نفسه؟

مع "الغرفة المجاورة"، ابتعد ألمودوفار من البيئة التي ألفها والأشخاص الذين يعرف قصصهم جيداً، مناقشاً مرة جديدة موضوعاً عزيزاً عليه: الموت بتفاصيله\ الغامضة. حمل أشياءه وتوجّه بها إلى أميركا. صحيح ترك نساءه في إسبانيا، لكنه وجد نساء جديدات هناك، واحدة منهن هي تيلدا سوينتون والثانية جوليان مور. الشخصية التي تلعبها سوينتون مصابة بالسرطان، ولا أمل في شفائها، فتقرر ان تنهي حياتها. لا تريد ان تمنح المرض فرصة ان يتغلّب عليها. فتختار الزمان والمكان لاتمام هذه المهمة التي تُسمَّى "الموت الرحيم". لكن سوينتون تريد أحداً بالقرب منها في لحظة الرحيل، فتعرض الفكرة على جوليان مور، التي عادت العلاقة بينهما بعد انقطاع. تريدها في الغرفة المجاورة للشقّة التي استأجرتها. الفكرة بسيطة، لكن الترتيبات المتعلّقة بهذا الموت وأصداء الماضي (كما دائماً عند ألمودوفار) قادرة على ملء ساعتين من السينما لا يستغلّهما المخرج لاعطاء محاضرة، بل كلّ ما يحاول ان يفعله هو تصوير فعل الرحيل الطوعي في ضوء الصداقة والعلاقات الإنسانية والأمل المفقود، هرباً ممّا ينتظر الإنسان من عذاب. لا يسقط في الدراما، بل يبحر على أمواج الميلودراما التي يعرف كيف يتلاعب بخيوطها، بتكوينات صارخة بالألوان والموسيقى وحركات كاميرا أنيقة.
بعد استلامه "الأسد"، ألقى ألمودوفار خطاباً اختتمه بالقول: "أعتقد ان الموت الرحيم حق أساسي. يجب مواجهة هذه المشكلة بطريقة إنسانية. أعلم ان هذا الحق يتعارض مع المعتقدات التي تقول إن الله هو أصل الحياة، لكنني سأطلب من جميع المؤمنين احترام هذا القرار. يجب ان يكون الإنسان حراً في ان يعيش أو ان يموت عندما تصبح الحياة مستحيلة".

فوز ألمودوفار صنع بهجة عند المعجبين بفنّه، لكنه أحزن آخرين أيضاً. عملياً، يمكن القول انه خطف "الأسد" من يد زميله الأميركي برادي كوربيت. فوتت لجنة التحكيم على نفسها صناعة لحظة تاريخية عبر اسناد الجائزة إلى مَن يستحقها أكثر من أي سينمائي آخر: كوربيت عن تحفته "الوحشي" الذي كان أهلاً لمصير أفضل. هذه الرائعة السينمائية نزلت علينا كمياه باردة وسط حرارة الصيف العالية وأثارت دهشة شرائح كبيرة من المحترفين والهواة. في الأخير، أُعطيت "أسد فضّة" (جائزة أفضل مخرج).

كان ناقد قد نقل عن زميل له قوله بأنه سيُصاب بصدمة اذا لم يظفر "الوحشي" بجائزة "الأسد". لكن اللجنة "تجرأت" على التفكير بطريقة مخالفة للرأي العام، وهذا يحدث كثيراً في المهرجانات، لا بل من النادر ان تتوافق آراء النقّاد مع آراء اللجنة. في عالم مثالي، كان يجب ان ينال "الوحشي"، الذي يتجاوز بقية الأفلام روعةً وجمالاً وجرأةً ومطموحاً، "الأسد الذهب"، لكن نحن في مجرد تظاهرة سينمائية حيث حفنة من الأشخاص يفرضون ذوقهم، وهذه لعبة نقبل بقانونها مسبقاً. في أي حال، بدا كوربيت سعيداً بما ناله، وألقى كلمة حماسية طويلة عند استلامه الجائزة. وأياً يكن، ختام مهرجان وتوزيع جوائزه ليسا النهاية، بل العكس، هذا كله ليس سوى البداية، والحديث عن هذا الفيلم، أو أي فيلم، لا يزال في بدايته، خصوصاً اذا ما تم الانتقام في حفل الـ"أوسكار".

في الأخير، ما اسناد جائزة أفضل مخرج سوى اعتراف ضمني بأنه الأفضل. فالسينما إخراج قبل أي شيء. البقية مجرد توزيع حصص، قالب حلوى يجب ان يُستهلك.

في "الوحشي"، يروي كوربيت أكثر من نصف قرن من سيرة إنسان سينتقل من ماضيه إلى مستقبله، بلا تحضيرات مسبقة، ومن دون ان يقضي الماضي الذي جاء منه على تطلّعاته. سيتعين عليه الخروح من سجن النازية إلى غابة الرأسمالية مدركاً لعبتها بسرعة. يتعقّب الفيلم شخصية خيالية تُدعى لاسلو توت (أدريان برودي)؛ مهندس مجري هرب من الحرب الدائرة في أوروبا. انه يهودي نجا من المحرقة، لكنه ترك فيها زوجة وابنة اختها. سيجد هذا الناجي نفسه وحيداً في موطنه الجديد، أرض الأحلام والفرص وكلّ ما هو ممكن. لكن حياته ستأخذ منعطفاً غير متوقّع عندما يكلّفه ملياردير أميركي (غاي برس) بناء مجمّع ضخم جداً تكريماً لأمّه الراحلة. تشييده سيصبح يوماً بعد يوم من أقسى الامتحانات له وللمحيطين به، وسيُغرق الفيلم في فوضى خلاّقة، بسبب ما يحمله من طموحات ستصبح تدريجاً صدى للمخرج ولتجربته وطموحه، وتنتهي بأن تتحول استعارة لعملية الخلق الحر في وجه القيود.

"فرميليو" للإيطالية ماورا دلبيرو نال "جائزة لجنة التحكيم الكبرى". يحكي الفيلم عن السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية من خلال قصّة عائلة. سنرى كيف تفقد الاحساس بالأمان في اللحظة التي يجد فيها العالم سلامه الخاص. للأسف، لم نشاهد الفيلم، ولكن هكذا يعرفه المهرجان في ملف صحافي خاص به. أما "أبريل" للجورجية لديا كولومبيغاشفيلي فأُسندت اليه "جائزة لجنة التحكيم الكبرى". هذا أحد أغرب الاقتراحات السينمائية وأقساها في المسابقة. إلى الآن، لا أعرف ماذا أقول عنه سوى انه فيلم محيّر، لا يحدث فيه شيء مهم، ما عدا اننا سنتعرف الى طبيبة متخصصة في التوليد. من خلال بضعة مشاهد ممتدة، تتخللها فصول عن استياء الطبيعة، نتابع أبرز ما يصنع الفيلم: اتهام هذه الطبيبة بإجراء عمليات اجهاض على حسابها في قرى بعيدة، ما يُعتبر خروجاً على القانون. هذا كلّ ما هو عليه الفيلم الذي قد يعجب نخبة من المشاهدين، لشدّة ما يغرق في التجريد والملل والادعاء.

جائزة السيناريو ذهبت إلى "لا أزال هنا" للبرازيلي والتر ساليس الذي يعود إلى النبش في سجلات الديكتاتورية التي حكمت بلاده طوال عقدين، وذلك من خلال سيدة تواصل تربية أولادها الخمسة بعد اعتقال زوجها (النائب السابق) وقتله. فرناندا توريس التي اضطلعت بالدور كانت تستحق جائزة التمثيل، لكن اللجنة منحتها لنيكول كيدمان عن "بايبي غرل"، أحد أسوأ أفلام المسابقة، حيث تطل في دور سيدة متزوجة تقع تحت سحر متدرب يعمل في شركتها. تمثيلها سليم، لكن لا يرتقي إلى جائزة. ختاماً، شكّل اسناد الممثّل الفرنسي الكبير فنسان لاندون جائزة التمثيل مفاجأة، اذ كانت متوقّعة لأدريان برودي عن دوره في "الوحشي". نالها لاندون عن "اللعب بالنار" للشقيقتين كولان، حيث يحاول أب انقاذ ابنه من براثن اليمين المتطرف لكنه يفشل. أصر لاندون على تقبيل جميع أفراد اللجنة وهو يتسلّم الجائزة.

 

النهار اللبنانية في

09.09.2024

 
 
 
 
 

هل يستحق ألمودوفار الفوز بـ«أسد» البندقية؟

هوفيك حبشيان

نال المخرج الإسباني الشهير بدرو ألمودوفار «الأسد الذهبي» عن فيلمه الأحدث، «الغرفة المجاورة»، في ختام الدورة الحادية والثمانين لـ«موسترا» البندقية. هذه أول جائزة مرموقة تُسند إليه في أحد المهرجانات الثلاثة الكبرى، أي برلين، كانّ والبندقية. إنه اعتراف على نطاق دولي واسع لطالما سعى إليه هذا الفنّان المتحدّر من تيار الموفيدا المدريدي الذي واكب مرحلة الانتقال من الفاشية إلى الحرية، وكان هو، آنذاك، في الثلاثينات

مشاركاته الست في مهرجان كانّ من دون أن يظفر يوماً بـ«سعفته»، تركت في فمه طعماً مراً. مع ذلك، لا يمكن أن ننكر أهمية كانّ في تكريسه. كلّ هذه المشاركات الكانية لم تأته إلا بجائزتين، إحداهما تلك التي نالها عن «كلّ شيء عن أمي». ومع أنه كان فاز بجائزة السيناريو في البندقية نهاية الثمانينات مع «نساء على حافة الانهيار العصبي»، إلا أنه ابتعد عن التظاهرة الفينيسية كثيراً، ولم يعد إلى حضنها إلا خلال الجائحة، في العام 2020، مع «أمّهات موازيات» الذي أقل ما يُمكن القول فيه أنه من أعماله التي يمكن نسيانها بسهولة

اليوم، أرادت لجنة تحكيم البندقية برئاسة الممثّلة الفرنسية إيزابيل أوبير صناعة لحظة سيظل ألمودوفار يتذكّرها إلى الأبد لأنها رسمت له شأناً وسط 20 فيلماً نافسها، ومن بينها تحفة الأميركي برادي كوربيت البصرية، «الوحشي»، التي توقّع كثر ألا يخرج من المنافسة بأقل من الجائزة الكبرى. لكن، لنكن موضوعيين: هل هذه الجائزة هي عن أفضل ما أنجزه المعلّم الإسباني في حياته؟ لعله من الأنسب الحديث عن تكريم عن مجمل أعماله، إذ من الصعب فصل أحدث ما يقدّمه السينمائي عن تاريخه الطويل، وكثيراً ما استُدرج المحكّمون إلى هذا الفخ.

 طبعاً، يجب ان يتوفّر حد أدنى من الإعجاب بالعمل. فعندما أعطى مارتن سكورسيزي «السعفة» لثيو أنغلوبولوس عن «الأبدية ويوم»، إنما كان تعويضاً غير معلن عن محاولات عدة له لاقتناصها من خلال أفلامه الأهم. هذا كله يعطي الشعور بأننا أمام نسخة متطرفة لـ«سياسة المؤلفين» (مدرسة في النقد) التي تعود على شكل جوائز، وهي تعتبر ان فيلماً عادياً لمخرج كبير أفضل من فيلم كبير لمخرج عادي. بمعنى أننا سنجد دائماً في فيلم المخرج الكبير بقايا من أعظم ما أنجزه.

وهذا ينسحب على قراءتنا لـ«الغرفة المجاورة»، إذ يمكن مقاربته بأنه فيلم ألمودوفاري من دون أن يكونه فعلاً. حمله إلى بلد آخر (أميركا) ولغة أخرى (الإنكليزية)، حيث عالمان يتصارعان، ذلك الذي يذعن إليه المخرج على الفور، وذلك الذي يحاول تطويعه، محقّقاً بعض النجاحات الطفيفة هنا وبعض الإخفاقات الكبيرة هناك.

 في النهاية، يمكن الادعاء مع بعض المبالغة، بأن هذا فيلم غير موجود إلا في مخيلة المخرج، أقله في ما يتعلّق بموضوع «الموت الرحيم» الذي يتناوله على نحو عرضي. شأنه شأن الغرفة المجاورة التي هي في الحقيقة، غرفة سفلية. ففور وصول الشخصية التي من المفترض أن تشغلها، تختار غرفة أخرى في بيت واسع غير ذلك الذي يقترحها العنوان بحجّة أنها «صغيرة». إذاً، تبتعد الغرفة عن الغرفة المجاورة لأسباب محض جمالية. من المعلوم أن أكثر ما يشغل ألمودوفار هو الجماليات. كلّ خطاب يجب أن يقابله ما يجعله مقبولاً للعين، وإلا «تباً للسينما»! «الغرفة المجاورة» لا يشذ عن هذا المبدأ

العلاقة بين تيلدا سوينتون وألمودوفار التي بدأت مع «الصوت الإنساني» (أفلمة لمسرحية كتبها جان كوكتو) تبلورت وامتدت إلى فيلم جديد يوضّح مرة جديدة حجم الاهتمام الذي يعطيه المعلّم للممثّلات وما يجسّدن في وجدانه. ألمودوفار لا يستطيع تصوير واحدة منهن إذا لم يشعر حيالها بحبّ، أقله بودّ. وهذا ما يحدث مع سوينتون، التي ترافقها هنا جوليان مور في أول تسلل لها إلى عالمه

كلتاهما سترويان الغياب على طريقة ألمودوفار، أي من دون بثّ أي إحساس بأن الموت هو النهاية. فإذا كان الوصول إلى العالم يتحقّق بلا استئذان، فلماذا على المغادرة ان تكون صاخبة؟ انطلاقاً من هذا، سنشهد على الرحيل الهادئ الذي قررته سيدة (سوينتون) مصابة بالسرطان ولا أمل من شفائها.

 سنناقش أشياء من أكثرها عاديةً إلى أبعدها فلسفةً وشعراً (مروراً بجيمس جويس) ونحن نستعد للحظة المغادرة التي تحضر لها سوينتون بعدما عرضت على صديقتها (مور) أن تبقى بالقرب منها عند لحظة العبور. لا تريد منها شيئاً سوى معرفة بوجودها هنا، في الغرفة المجاورة

يتناول ألمودوفار موضوع الموت الرحيم عندما يستحيل الاستمرار في الحياة، لكن من دون أن يسمّيه ويتعامل معه كفكرة يحارب من أجلها. لا يريد فيلماً ملفّاً، أو مرجعياً، أو حتى فيلم قضية. فما أبشع هذه الكلمة عندما يُزَج بها في بيئته السينمائية حيث الأشياء تحدث من دون سبب وجيه في الكثير من الأحيان.

 القضايا لا تشبه ألمودوفار ولا أفلامه. لذلك، يحرص على أن يقحم الموضوع إلى داخل إحساس المشاهد، من دون أن يحمل تعريفات جاهزة، ما عدا في الخاتمة حيث الشرطي المحقق يأتي محمّلاً سلطته وفكره المعلّب الذي لا يقبل الطعن، محاولاً فرضه باسم القانون والأخلاق والصواب

لشخصية سوينتون ماضٍ مضطرب يلقي بظلاله على واقعها، ويتحلّق حول شخصين: الرجل الذي تخلّى عنها، والابنة التي أنجبتها منه والتي لم تعرف والدها، والأخيرة تلوم والدته على ذلك من دون ان تعلم التفاصيل. هذه حبكة متداخلة، ثانوية، تتصدّرها أحياناً، تعود من خلال جملة استعادات زمنية (أضعف ما في الفيلم)

أما الابنة، فلن نراها الا في الخاتمة عندما ستغدو مناسبة لألمودوفار ليتناول تيمة أخرى عزيزة عليه، وهي الثنائيات: فالأم والابنة تشبهان الواحدة منهما الأخرى كحبّتي ماء، إلى درجة أن سوينتون هي التي ستلعب الدورين. مع ذلك، كلّ شيء يفرقهما، الماضي والحاضر والمستقبل

رغم هذا كله، يصعب اعتبار «الغرفة المجاورة» أفضل أفلام ألمودوفار، فتجربته غير الإسبانية ما هي سوى «نصف ناجحة»، ولأسباب عديدة أولها أن هذه الحكاية كلها، وللأسف، لا تولّد مشاعر تتحوّل في داخل المُشاهد إلى انفعالات. جبال تفصلنا عنها أحياناً. ربما لأن المخرج، خلافاً لسينماه التي تستثمر في فيض المشاعر، يتعامل هذه المرة مع الأشياء بخفّة، وهذا النمط فيه ما هو إيجابي وما هو ضار

الموت على ما يبدو ما عاد ذا رهبة، والحديث عنه ما هو سوى علاج، يتلقّاه كمسألة وقت لا أكثر. الأشياء كلينيكية أكثر ممّا يجب، لا شيء يفلت من يد السيدة التي تستعد للرحيل، فتصل الأشياء في الأخير إلى النقطة المتوقّعة.

 أما العلّة الثانية، فهي بعض الخيوط الثانوية، كحرب العراق التي نرى سوينتون تغطّيها مع زميلها، ممّا يحملنا إلى أضعف لحظات الفيلم. لا نقتنع انها تأتي من خلفية صحافية مثلما نبذل الكثير من الجهد لنسلّم بفكرة أن جوليان مور كاتبة. كان يحتاج الأمر إلى أكثر من مشهد نراها فيه تكتب وهي جالسة أمام حاسوبها.  

 

موقع "فاصلة" السعودي في

11.09.2024

 
 
 
 
 

فيلم «ينعاد عليكو» لإسكندر قبطي: تلعثم وتعايش

سليم البيك

على طول المسيرة السينمائية الروائية الفلسطينية، بالكاد يتعثّر أحدنا بفيلم تعايشي. يحضر في الذهن فيلم أو اثنان فقط وبحدٍّ أدنى. لكنه، التعايش، وبحد أعلى، ظاهرٌ هنا في فيلم «ينعاد عليكو» لإسكندر قبطي.

التعايش مفردة فلسطينية لا تحتاج إلى شرح، تعني جعل العلاقة ما بين المستعمِر والمستعمَر خارج سياق الاستعمار، أي طبيعيّة في إطار الإخضاع، بإظهار التآلف بين الطرفين. هي هنا تصوير حالةِ تعايش وتآلف بين فلسطينيي الـ48 والإسرائيليين، لأن الطرفين مواطنون في دولة واحدة، منزوعو السياق، التاريخ والراهن. تحديداً الراهن في عزّ الحرب الإبادية في القطاع والضفة.

نرى ذلك، التعايش، بين مشهد وآخر في السينما الفلسطينية، ويندر أن نشهد فيلماً كاملاً متأسّساً عليه. الفيلم، المشارك في تظاهرة «آفاق» لمهرجان البندقية السينمائي (2024) مثال جيد في شرح معنى التعايش، كحالة مطبَّعة. الإشكال الجوهري في الفيلم هو أنه لم يستحضر الحالة ليفككها أو يواجهها، أو يسخر منها على الأقل، بل ليتبنّاها ويبني عليها قصص شخصياته وعلاقاتها، فيكون التعايش جوهراً متضمَّناً في يوميات الشخصيات، مسلَّماً به ومنطلَقاً منه، أي حالة «طبيعية» مفرَّغة من السياق الاستعماري.

ينقل الفيلم قصصاً متفرقة لشخصياته، وهي قليلة وقريبة من بعضها بعضا. عائلة فلسطينية (ندرك ذلك ضمناً فلا إشارة إلى فلسطينيتها) في حيفا. شاب منها يقيم علاقة مع إسرائيلية فتحمل جنيناً فيبحثان في محاولة الإجهاض بعد جدالات. علاقة تنشأ بين شقيقته وصديقه، الأولى متحررة والثاني وهو طبيب، يرفضها لذلك، أهلها يوبخونها بسبب علاقاتها وأسلوب حياتها. في وقت كانت العائلة الإسرائيلية داعمة لابنتها التي تحمل في بطنها ابناً لفلسطيني، الفتاة الفلسطينية تُهان من أمها بسبب كلام الناس وأثره. والإسرائيلية يُطبطَب عليها.
كل ما يدور في الفيلم يحوم حول هذه التقاطعات المتخلخلة، فتفاصيل هنا كانت فائضة وأخرى هناك بقيت مبتورة. وقد يكون عدم الاعتماد على سيناريو بأسطر تؤدَّى، بل على كلام الممثلين وهم غير محترفين، متلعثمين في معظم الحوارات، مفتعِلين عبارات تنزل فجأة على حوار لا معنى لها فيه، قد يكون ذلك الكسل الإخراجي ما جعل من المشاهد رخوة، إذ لا أداء ماكناً فيها ولا كلام ثابتاً. الفيلم، بحواراته وتقطيعاته ومفاصل قصته، عبارة عن تأتأة طويلة بالعربية والعبرية. وبنهاية لا تمهيد لها، مباغتة كأن الكلام طال فتوجّب قطعه كيفما يكن.

لا ضير في أن يؤدي الشخصياتَ ممثلون غير محترفين. ليس هنا مكمن الضعف، فلكثير من الأفلام، فلسطينية وغيرها، ممثلون غير محترفين أضافت عفويتهم مصداقيةً إلى المَشاهد. الخلل هنا كان في إدارة المُخرج الذي غلبته عفويةُ الممثلين وتلعثماتهم في كلامهم وملامحهم، تائهين عنه، تائهاً فيهم. فخرج الفيلم أخيراً بكلام وإيماءات فارغة، بفراغ في المَشاهد لا تملؤه سوى الثرثرة.

يشعر أحدنا بذلك على طول الفيلم الذي تلقيتُ نصف مَشاهده بالعربية ونصفها الآخر مترجماً عن العبرية، لتوزّع الفيلم بين اللغتين. قد تحمي الترجمةُ الفيلمَ من هذا التلعثم وتلك الركاكة، لدى مشاهدين آخرين، لكن الثرثرة لا تُسعَف بالترجمة. وهذا ما يجعل من «أحداث» الفيلم، كثير الكلام قليل المعنى، تمريراً للوقت ريثما ينتهي، وحسب.

نال «ينعاد عليكو» جائزة أفضل سيناريو في تظاهرة «آفاق» ولا يبدو أن لذلك علاقة في ركاكته من عدمها، أو في أن الترجمة قد أسعفته، بل في مكان آخر، ثقيل الوطأة، يتعلق بالموضوع لا بحواراته وقصته.

لا يمكن إحالة السبب إلا إلى ما بدأتُ به المقالة، التعايشية في الفيلم شديد التهذيب سياسياً. وفق المنطق المهرجاناتي الأوروبي، نحن هنا أمام فيلم أقرب ليكون إسرائيلياً مكترثاً بأقلية عربية (لا أقول مجتمَعاً، بل أقلية، ولا أقول فلسطينية، بل عربية) وبعلاقات تتخطى القوميات، وحريات النساء في هذا المجتمع «الأقلّوي المتخلّف». هو أقرب ليكون، إذن، فيلماً لـ»يساري» إسرائيلي يمحو، كأي فيلم بسردية إسرائيلية، الحضورَ الفلسطيني في الفيلم، محيلاً إياه إن حضر، إلى أقلية قومية تستحق بعض الحقوق، استعطافاً. والفيلم فوق كل ذلك لمخرج فلسطيني (برافو!). وهذا تحديداً في عزّ زمن حربٍ بين «المتطرّفين من الطرفين» وحديثي في هذه المقاربة وفق منطق المهرجان الأوروبي ومحكّميه. ليكون الفيلم استجداءً رخيصاً لشهادة حسن سلوك منحَها المهرجانُ على شكل جائزة السيناريو.

لا يلفت المللُ ولا الركاكة في السيناريو النظرَ، طالما أن موضوعه أكثر حساسية من هذه المعايير التقنية، وأشد إلحاحاً. في الفيلم عربُ إسرائيل ويهودها، في علاقات تتخطى ما يريده «المتطرفون». إن كان للفيلم ما يريد قوله بكلمتين فهما «أحبّوا بعضكم» عرباً ويهوداً أبناء الدولة وبناتها.

في الفيلم لا مكان لفلسطينيي الـ48، أو لأي إشارة لفظاً أو صورةً لفلسطين، بل لإسرائيل في أعلام وحياة مدينية، وفي أطفال يتعلمون باللعب أساطير دولتهم، وبلباس عسكري، وفي فتاة ترفض أن تحتمي مع الآخرين في اختبار صفارات الإنذار، قائلة: فلتأتِني القذيفة ولأمُت هنا. هو كأي فيلم إسرائيلي لا يرى سوى ذاته ومجتمعه. لا قذائف سوى تلك التي يمكن أن تسقط على الفتاة، من مكان مجهول وعصابات مجهولة، الوحوش على الطرف الآخر من الحدود.

الحديث عن الحرب والقذائف هنا هو من وجهة النظر الإسرائيلية وحسب، المدنيّة منها تحديداً، في محاولة احتماء الفتيات والأطفال، في بلد يتعلّم أبناءُ أقليّته العربية في جامعاته، ويعمل في مشافيه ويرقص في باراته، كما يُظهر الفيلمُ بإلحاح، دون نواقص كغيرهم وإلى جانب غيرهم، كمواطنين مهذبين، محسني التعايش. وذلك لا يَظهر لنقضه أو تفكيكه، بل لتطبيعه.

لا مكان لفلسطين هنا. وفلسطينيو الـ48 صاروا عرب إسرائيل. القصة والشخصيات أرادها الفيلم إسرائيلية تامة، والتعايش بينها، ضمن عائلة يهودية منفتحة وأخرى عربية منغلقة، هو جوهر الفيلم. ولحسن حظ السينما الفلسطينية وحسب، أن هذا الجوهر وصل ركيكاً صوتاً وصورة. أيُّ بؤس وخزي كان للسينما الفلسطينية، ولعموم السردية الفلسطينية ثقافياً، لو أن فيلماً كهذا لم يكن بهذه الرداءة.

كاتب فلسطيني سوري

 

القدس العربي اللندنية في

11.09.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004