ملفات خاصة

 
 
 

فنسان لاندون لـ«فاصلة»:

مشاهدة نفسي على الشاشة جلسة تعذيب

هوفيك حبشيان

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الحادي والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

نال الممثّل الفرنسي الكبير فنسان لاندون جائزة التمثيل في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي عن دوره في «اللعب بالنار» للمخرجتين الشقيقتين دلفين وموريال كولان. في سعيه لإنقاذ ابنه من براثن اليمين المتطرف، والتعامل مع المستجد في حياته بحكمة وتفان وحبّ، استطاع لاندون أن يسحق قلوبنا والفوز بالجائزة المرموقة التي تسلّمها من يد مواطنته إيزابيل أوبير، رئيسة لجنة التحكيم. هذه ليست المرة الأولى يصنع فيها لاندون دهشة أدائية، فهو أحد أسياد التشخيص في الشاشة الحديثة.

 تميل «مدرسته» إلى المكوث في وقار من التلقائية بعيداً من أي تصنّع، حد ردم الهوة بين الشخص والشخصية. هذا النمط وضع أسسه منذ بداياته في مطلع الثمانينات. يكفي أن ترميه في أي مكان ليخرج منه بفيلم. لاندون هو السيناريو والإخراج والتمثيل في جسد واحد. جامع كلّ الأطراف. نوع من خلاطة مولينكس، تضع فيها مواد مختلفة فيخرج لك بعصارتها. في الآتي، مقابلة أجريناها مع هذا الفنّان البالغ من العمر 65 عاماً، عشية فوزه بالجائزة

أنت تضطلع بدور الأب في «اللعب بالنار»، وموضوع الأبوة بالغ الأهمية في الفيلم. مع ذلك، قلتَ أنك لا تحب الأفلام التي تعطي المُشاهد أوامر، رغم أن إحدى وظائف الأب هي توجيه أبنائه. كيف وفّقتَ بين هذين الجانبين؟ ألا يوجد شيء من التناقض؟

لا، العلاقتان ليستا سيّان. لا أوجّه ابني. هذا ما يعطي الفيلم قوته. في كلّ مرة يخرج عن الخط، أعود واقترب منه لعقد مصالحة، لكني لا أعطيه توجيهات. لا أفرض عليه دروساً أخلاقية بل أعارضه بشدّة. هنا يقع الاختلاف. صحيح أن من مهام الأهل توجيه الأبناء، لكن عندما أقول إنني لا أحب الأفلام التي تعطيني أوامر، أقصد تلك التي تتعامل معي باعتباري غبياً. أعتبر أنه عندما يدخل المُشاهد إلى صالة السينما، عليه أن يكون حراً وأن يكون على مسافة من الأشياء كي يكوّن رأياً حراً. علينا كسينمائيين أن نعرض الوقائع، بأفضل طريقة ممكنة، من دون أن نقول للمُشاهد «هذا جيد، هذا سيئ».

 لا يعود إلينا القول «لا تفكّروا بالطريقة الفلانية»، ولو أنه، يجب الاعتراف، نحن نفعل ذلك في الفيلم بطريقة ضمنية متسترة، إذ أن المتلقّي يفهم في الأخير ما هو التفكير الصائب. إذا عرضتَ لونين بعيدين أحدهما عن الآخر، فلا بد أن نرى أن أحدهما أقوى من الثاني. لا يمكن أن نفعل شيئاً حيال ذلك. لكن، في المقابل، من الممكن أن نعطيهما فرصتين متساويتين. لذلك، أمقت الأفلام التي تفصل البشر بين أشرار وطيبين. أفضّل شيئاً من الالتباس والتساؤلات والغموض

هل جذبك دور الأب أكثر من انجذابك إلى الخطاب السياسي الذي يحمله الفيلم؟

انجذبتُ لكليهما. إنها فكرة القصّة الصغيرة داخل القصّة الكبيرة. أما أيٌّ منها هي الصغيرة وأيٌّ هي الكبيرة، فهنا السؤال… لي جوابي الخاص الذي لا أفرضه على المُشاهد، وأعتقد ان القصّة الكبيرة هي قصّة الحبّ غير المشروط من الأب لابنه. وهي ستبقى إلى الأبد أهم قصّة عند البشر. أما القصّة الصغيرة، فهي تلك التي يعيشها الشاب عندما يقع في شباك التطرف، وهذا شيء في منتهى الخطورة. لكنها ستبقى القصّة الصغيرة بالمقارنة مع الحبّ الذي سيكون مؤلماً

صرحتَ في المؤتمر الصحافي في البندقية أنه تم اختيارك لهذه الشخصية لتشابه شخصك مع الدور.

نعم، يشبهني حتماً لأن الشخصية هي أنا. هذا ما يدفع السينمائيين في الأساس إلى اختيار ممثّل. يختارونه لأنهم يعتقدون بأنه سيكون مناسباً لدور معين. لكن، نحن الممثّلون عندما نؤدّي دوراً، نصبح في لحظة من اللحظات، الشخصية تماماً. وعندما نصبحها، نصبح شبيهين بها إلى حد كبير. وفي الأخير، يصبح الممثّل والدور كتلة واحدة.

 السؤال الأهم: هل لا أزال الشخصية عندما أذهب إلى المطعم مساءً بعد التصوير، أو عندما أكون نائماً؟ بصراحة، لا أعلم. لكن، ما أعلمه جيداً هو أنني لن أكون كليهما معاً في وقت واحد. أنا لا أعمل في مكتب ارتاده صباحاً وأعود منه مساءً. أنا إما الدور أو فنسان لاندون. يمكنني أن أكون أيضاً مزيجاً من الإثنين. لا أخرج من الشخصية ولكن لا أخرج أيضاً من ذاتي. في النهاية، لكلّ ممثل طريقته في العمل

أليس من المتعب أن تكون هكذا؟

لا أفكّر في الأمر. يحدث بشكل تلقائي

اذاً، أنت لا تتبع أي منهج.

لا. هكذا أنا. لا يسعني أن أفعل شيئاً حيال من أنا عليه

ثمّة علاقة طبيعية جداً بينك وبين الممثّلَين الآخرَين، سواء في النحو الذي تنظر فيه إليهما أو التفاصيل الجسدية وغيرها ممّا يوحي بالتقارب، إلخ

حدث تعاون حقيقي بيننا. لم نختلقه. فرض وجوده. هذا الأمر أشبّهه بتاريخ العالم. حدث تعاون، ثم بعد ذلك، بدأنا نخترع الأسباب التي تشرح وجود هذا التعاون. لكن في الحقيقة نحن لا نختلق شيئاً. عندما تشرح لماذا عشتَ علاقة استمرت عشرين عاماً مع شخص ما، عبر القول أنك عندما دخلتَ من باب المطعم وعلى الفور رأيته ورأيتَ فيه طيبة وذكاء، فإجابتي لك «لا، لم ترَ شيئاً، لأنه لم يتسن لك الوقت لترى أصلاً». ما عشته مجرد حالة كيميائية، شيء حيواني، والآن تجد نفسك مضطراً لاختراع دوافع وقوعك في غرام هذا الشخص. هذه كلها أشياء لا يوجد لها أي تفسير.

 في العودة إلى موضوعنا الأساسي، تفاهمنا جيداً نحن الثلاثة خلال التصوير، منذ لحظة لقائنا الأولى، حدث تعاون صريح بيننا، الأمر الذي يظهر جلياً على الشاشة. لكن الإدعاء أننا اخترعنا هذا الشيء، فهنا عليّ أن أجزم أن هذا غير صحيح. الأشياء حدثت من تلقاء نفسها. في الماضي، عملتُ مع ممثّلين وممثّلات، وكنّا على خط واحد من التفاهم، لكن روح التعاون هذه لم تحدث

كيف تعلم أن هذه الروح ستكون موجودة قبل البدء بالتصوير؟

لا أعرف. هذا ما وددتُ قوله قبل قليل

هل تخشى غيابها؟

بالطبع. أصل إلى موقع التصوير، يُقال لي أن هذين الشابين ابناك في الفيلم، أهز رأسي وأمضي إلى التصوير. في البدء، أوضّح أنهما ليسا ابنيّ. ثم بعد أن يسعى الطرف الآخر إلى طمأنتي، لا أعود أملك سوى الأمل، الأمل ان يسير كلّ شيء على ما يرام. ثم، نصل في صباح اليوم التالي، نلقي التحية بعضنا على بعض، وهناك أشياء تتولّد تدريجاً. يقترح أحدنا على الآخر ان نشرب كأساً معاً، وفجأةً شيء ما يتأسس. قد لا يحدث فوراً، لكن على الأقل بعض الحواجز تسقط واحداً تلو الآخر.

هل حدث أن هذه الشرارة لم تتولّد بينك وبين شركائك في التمثيل؟

بالطبع

وماذا تفعل في تلك الحالة؟

أؤدي واجبي المهني

وهل يمكن لمس ذلك على الشاشة؟

ليس بالضرورة. الأشياء ليست بهذه البساطة. الحياة أعقد من ذلك. أحياناً، نستمتع جداً في تصوير فيلم، لكن النتيجة تأتي فاشلة، والعكس صحيح. لا توجد وصفات جاهزة للعمل الفني، وإلا كنا جميعاً اعتمدناها ضامنين النجاح الأكيد

هل تلقيتَ تعليمات كثيرة من المخرجتين خلال الفيلم؟

لا. لا أحب تلقّي الكثير من التعليمات. بعض السينمائيين يكثرون من التوجيهات وآخرون يوجهونك من دون تعليمات. يموضعونك في مناخ من الحرية. وهذا يجعلك تستشيرهم بعد التصوير لتسألهم عن رأيهم في أدائك. إنه أشبه بترويض. بعضهم يستخدم النعومة وبعضهم الآخر يلجأ إلى القوة

أعتقد أن التوجيه يبدأ منذ مرحلة اختيار الممثّل للدور.

بالضبط. كم صحيح ما تقوله. كلّ العمل يُنجز منذ تلك المرحلة. أن تختار أحدهم، فهذا يعني أنك وجَّهتَ إليه التعليمات

هل البُعد الاجتماعي حاسم في اختيارك أي دور؟

نعم، هذا مهم. لكن اختياري لا ينحصر في هذا فحسب. أختار دوراً لأنني في الأصل أحب السيناريو. وإذا كان الفيلم بالإضافة إلى حبّي للسيناريو، مطعَّماً بهمّ اجتماعي، فهذا يضاعف حماستي

هل ترى أي تشابه بين دورك في جديدك وبين الأفلام ذات البُعد النضالي اليساري التي أدارك فيها المخرج ستيفان بريزيه؟

نعم. في كلّ هذه الأفلام أعتبر نفسي أنني ما يسمّيه الأميركيون بـ«شاب الجوار». الجار. إني جار الفرنسيين. في الولايات المتحدة، تولّى توم هانكس هذه الشخصية باستمرار. أنه جار الأميركيين. أنا مقابله الفرنسي

هل ثمة فيلم من بين الأفلام الخمسة التي أنجزتها تحت إدارة بريزيه تراه أرفع شأناً من غيره؟

لا أنظر إلى الأشياء من هذه الزاوية. أبداً، أبداً، أبداً. وإلا وجدتني في ورطة، غير قادر على مواصلة عملي. أقوم بواجبي، ثم

لكن، هل ثمة دور من أدوارك تعيد مشاهدته مثلاً؟

لا أشاهد نفسي على الشاشة اطلاقاً. هذه جلسة تعذيب بالنسبة لي. لا أرغب في ذلك. أرى ممثّلاً لا أحبّه كثيراً في أداء لا أستطيع تغييره. ما الفائدة؟ ما الفائدة من صرف الوقت في مشاهدة شيء لا قدرة لي على تغييره؟ للأسف، أحياناً، أضطر، لا سيما خلال عروض المهرجانات. هذا التعذيب شيء خاص بي، ولكن ممثّلين آخرين يحبّون رؤية أنفسهم على الشاشة. انا أتعذّب بشكل لا يمكنك تخيله

ألا يحدث أن تُعجَب بفيلم من أفلامك؟

بالتأكيد، حدث هذا كثيراً.

هذا يعني أنك قد تُعجَب بالفيلم ولا تُعجب بأدائك فيه؟

قد أُعجَب أيضاً بأدائي، ولكن أكون في حينها على مسافة قريبة، غير كافية للنقد الذاتي. لكن حين أعيد مشاهدته بعد سنتين مثلاً، أشعر بعدم الرضى.

تتعذّب في مشاهدة الفيلم أكثر من المشاركة فيه كممثّل؟

نعم. لكن، بصراحة، أنا أتعذّب طوال الوقت

وهل تشعر بعدم الأمان ذاك خلال التصوير أم أن هذا يأتي بعد التصوير؟

يرافقني الخوف على الدوام. أحياناً، لا أرغب في الذهاب إلى التصوير. أخاف قبل التصوير، خلاله وبعده

ولكن ما الذي يعذّبك في كلّ شيء يحيط بك؟

أتمازحني؟! لم تبقَ سوى دقائق وتنتهي هذه المقابلة، أتريدني أن أروي لك عن العالم من حولنا؟ نحتاج إلى عشر ساعات

حسناً، ما الذي يجعلك إذاً تمارس مهنة تتعذّب فيها؟ هذا يعني أن هناك حتماً ما يجذبك إلى هذا العذاب؟

الأمر أشبه أن تخوض تجربة حياة زوجية. لا أحد يعرف ما الذي يحدث داخل غرفة نوم الزوجين. إنه تلذذ سادي مازوخي. إليك سلسلة التناقضات التي يوفّرها التمثيل: أتعذّب ولكني أشعر بمتعة. أكره المهنة لكني أعشقها. لا أرى أي فائدة في ما أفعله، ولكن في الوقت نفسه أوظّف فيه كلّ طاقتي ولا أرى ما هو أهم منه

هذا ما يعطي الحياة ثرائها. كلّ شيء في الحياة هو في منتهى الغرابة. أحياناً، أخشى الدخول في مشروع معين، ولكن إذا لم أخضه فسيخوضه شخص آخر وإذا خاضه شخص آخر سأصاب بإحباط. نتشابه جميعاً. نتغذّى من التناقضات: نعمل على فيلم نعتقده الأهم في العالم، ومع ذلك نعلم أنه ليس أكثر من مجرد فيلم آخر في سجلّنا. لكن، رغم ذلك، لا أرى نفسي فناناً محبطاً، بل إني شديد السعادة. أعيش ببهجة، أعشق الحياة. مع التقدّم في السن، بدأتُ أفهم الحياة قليلاً. لاحظ أنني قلتُ «قليلاً».   

 

موقع "فاصلة" السعودي في

19.09.2024

 
 
 
 
 

جيهان الطاهري: حياة الأفلام لا تصنعها السجادة الحمراء

احمد العياد

خلال مسيرتها السينمائية التي بلغت 40 عامًا، تنقلت المخرجة المصرية الفرنسية جيهان الطاهري بين مدن كثيرة، من بيروت حيث بدأت رحلتها إلى برلين حيث حط بها الرحال، ومن تلك المدن وثقت الطاهري وروت حكايا قليلة العدد، بالغة التأثير من خلال أفلام وثائقية ذات خطاب سياسي متسق وواضح، لم تساوم عليه على الرغم من أنه مجاف لما تحبذه دوائر الدعم والإنتاج

فاصلة جلست لتحاور الطاهري حول مسيرتها وأثر اختياراتها على تلك المسيرة

درست العلوم السياسية بشكل متخصص وانتقلت لصناعة أفلام تشكل السياسة مركزها، فكيف تكوَّن لديك هذا الاتجاه؟ 

السياسة كانت دائمًا جزءًا من حياتي منذ الطفولة. لقد نشأت في بيئة مليئة بالسياسة، وكان هذا المجال هو عنصر أساسي وطبيعي؛ ما كان يدفعني لفهمه بشكل أعمق. في البداية حاولت الانضمام إلى المعهد الدبلوماسي (يؤهل الكوادر الساعية للعمل في وزارة الخارجية المصرية) وانضممت إليه فعلاً لفترة قصيرة، لكنني لم أستمر فيه لأنني كنت أطمح لاستكشاف أفق أوسع. وهكذا التحقت بوظيفتي الأولى كمصورة صحفية، حيث عملت في تغطية الحروب لصالح وكالة رويترز

مسيرتك المهنية شهدت تنقلك بين عديد من المدن. فهل تشعرين أنكِ محظوظة بخوض تجربة التنقل بين مدن مختلفة، أم أن هذا خلق لديك شعورًا بعدم الاستقرار أحيانًا؟

لم أشعر يومًا أن التنقل بين المدن له علاقة بالاستقرار. بالنسبة لي، الاستقرار هو شيء داخلي لا يرتبط بالمكان الذي أعيش فيه. يمكنني أن أتنقل بين ثلاث مدن في وقت قصير جدًا واشعر بالاستقرار، وفي أوقات أخرى أظل في مكان واحد وأشعر بعدم الاستقرار. لذا، بالنسبة لي، التنقل لم يكن عائقًا. أتذكر أن أحدهم سألني ذات مرة: «أين منزلك؟» فكرت للحظة ثم أدركت أنني أحمل منزلي معي أينما ذهبت. أنا أعيش بهويتي وأفكاري، وأينما كنت أشعر بالراحة إذا لم يكن هناك ما يسبب لي التوتر أو الخطر النفسي.

الاستقرار بالنسبة لي هو أن أكون متصالحة مع نفسي، ولا يرتبط بالعوامل الخارجية مثل الحروب أو الصراعات. فبعد تجربة العيش في ظل الحروب، تدرك أهمية البقاء (survival) وتتعلم كيفية التعامل مع المخاطر بشكل عقلاني. لذلك، العلاقة بين العالم الخارجي والدواخل النفسية هي ما يهم في النهاية.

هل تلك العوامل النفسية هي ما دفعك لرفض كثير من فرص التمويل؟ وما دور الاستقرار المادي في قدرتك على الرفض؟ 

أعتقد أننا في زمننا هذا نعطي الأمور المادية أهمية أكبر من حقيقتها. بالطبع لدينا احتياجات، وفي بعض الأحيان نواجه مشاكل، لكن إذا كنت تستطيع تلبية احتياجاتك دون أن تخسر نفسك وفرحتك، فأنت في الطريق الصحيح. على سبيل المثال، أنا أعيش حاليًا في برلين، وألغيت العديد من المعارض والالتزامات لأنني لا أستطيع قبول أن يملي عليّ أحد ما يجب أن أقوله أو أرتديه لأسباب سياسية. إذا خُيّرت بين دفع إيجار شقتي والحفاظ على نزاهتي المهنية، أختار النزاهة. يمكنني القيام بمهام أخرى مثل الترجمة أو حتى قيادة سيارات الأجرة إذا لزم الأمر. الماديات لا تقرر ما سأفعله أو لن أفعله.

يظهر في أعمالك السينمائية الأثر الكبير للحروب، كيف أثرت فيكِ خبرتك مع الحروب؟ 

بمجرد التحاقي بالعمل مصورة صحفية، وجدتني أغطي الحرب في لبنان في الثمانينات، تحديدًا في عامي 1982-1983، بعد الاجتياح الإسرائيلي مباشرة. كنت لا أزال في العشرين من عمري، ولم أكن أتوقع أن أجد نفسي وسط هذا الصراع الكبير، ولكن كان هناك مجتمع ودعم وفهم أن علينا كل صباح أن نفهم ما يجري حولنا.

 لم يكن المهم لدي صنع إنجاز صحفي، بل فهم ما يحدث. هذا هو ما كوّن لدي فهمًا الحقيقي لمفهوم «البقاء». خلال الحروب، يصبح الاستماع لإحساسك الداخلي ضروريًا جدًا، لأنك إذا شعرت بأي خطر، يجب أن تكون على استعداد للتحرك فورًا. هذا الرابط بين إحساسك الداخلي وما يحدث حولك هو ما يمنحك الصدق والارتباط بالذات. لذلك، إذا شعرت بعدم الارتياح تجاه شيء ما، فأنا أثق في إحساسي وأبتعد عنه.

كما حضرت حرب لبنان، احتلت حرب الخليج الثانية موقعًا مهمًا في عملك ورؤيتك، وبين الحربين فارق كبير، فثانيتهما كانت بين دولتين عربيتين، هل أثرت تلك الحرب في رؤيتك لفكرة العروبة؟ 

في الحقيقة، عندما نتحدث عن «الوطن العربي»، أصبح من الصعب فهم ما نعنيه تمامًا. هل نقصد اللغة؟ العقيدة؟ أم المستقبل المشترك؟

في رأيي، حرب لبنان كانت حربًا أهلية بين الناس أنفسهم، تفصلهم العقائد، ولكن كان هناك أيضًا صراع على القوة. الفرق الكبير بين حرب لبنان وحرب الخليج بالنسبة لي كان في كيفية تغطيتهما وليس في مضمونهما

الحروب بين الدول العربية ليست جديدة، ولكن الاختلاف الجذري في حرب الخليج كان في التحالفات والطريقة التي تعاملنا بها كصحفيين. كانت تغطية الحرب بمثابة تجربة صادمة بالنسبة لي، إذ بدأت أفقد احترامي لمهنة الصحافة بعد تلك التجربة. شعرت أنني لم أعد قادرة على التعامل مع هذه المهنة بنفس القدر من الالتزام، ولذلك قررت التوجه إلى الأفلام الوثائقية.

من أين بدأت في صناعة الأفلام الوثائقية؟ وكيف جاءت محطة أفريقيا؟

أول فيلم وثائقي لي كان في غزة عام 1987، خلال الانتفاضة. الفيلم كان بعنوان «هل يشعرون

بظلّي Do They Feel My Shadow» وركز على أطفال الانتفاضة. حصل الفيلم على جائزة بافتا، وبعد ذلك عملت على عدة مشاريع في الجزائر، منها فيلم عن الشباب خلال العشرية السوداء

عملت أيضًا مع البي بي سي على فيلم مدته ست ساعات بعنوان «إسرائيل والعرب: خمسون سنة من الصراع»، والذي تم ترجمته إلى 26 لغة. بعد حرب الخليج، شعرت أنني قلت كل ما أريد قوله في هذا الصراع، وقررت بعدها التوجه نحو الجنوب، وتحديدًا إفريقيا

بالنسبة لي، إفريقيا كانت نقطة مهمة في تفكيرنا كشعوب الجنوب. تجربة إطلاق سراح نيلسون مانديلا والإبادة الجماعية في رواندا في نفس السنة جعلتني أركز على إفريقيا بشكل أكبر. كما أدركت أن مستقبلنا لا يعتمد فقط على الشمال، بل على علاقتنا بالجنوب أيضًا، وأن العمق الاستراتيجي والتاريخي الحقيقي لنا يكمن هناك.

ذكرتِ أنك كنتِ مهتمة بالأرشيف من البداية. كيف كان لهذا الاهتمام دور في عملك، خاصةً وأن الأرشيف في العالم العربي ليس دائمًا محل تقدير، بل يُهمل غالبًا؟

بدأت اهتمامي بالأرشيف بدافع من الشغف، حتى قبل أن أفهم قيمته الحقيقية. عندما كنت صغيرة، كنت أجمع الأفلام وأحتفظ بها، رغم أنني لم أكن أعلم كيف أشاهدها. كان لدي إحساس غريزي بأهمية الحفاظ على هذه المواد. مع الوقت، تطور اهتمامي بالأرشيف من مجرد البحث والتنقيب إلى محاولة فهم السياق الكامل وراء الصور والمقاطع التي كنت أكتشفها. أصبحت أبحث عن القصص التي تدور حول هذه الصور، من صورها ولماذا، وما الأحداث التي كانت تحدث حينها.

أما الآن، فإنني أستخدم الأرشيف ليس فقط لإشباع الحنين إلى الماضي، بل ولأنه أداة لفهم الحاضر وفهم المآلات في المستقبل. الأرشيف بالنسبة لي ليس مجرد شيء من الماضي، بل هو وسيلة تساعدني في تشكيل رؤيتي للمستقبل. إذا لم يكن للأرشيف قيمة في المستقبل، فأنا لا أهتم به.

عندما أشاهد وثائقياتك، أجد أن معظمها يتمحور حول السياسة. هل من الممكن أن تقومي بعمل وثائقي بسيط جدًا، بعيدًا عن السياسة، مثل فيلم عن عائلة أو طفلة، أم أن القضايا السياسية الكبرى ستظل محور أعمالك؟

عملت فيلم في أيرلندا يتناول مشكلة الصدام بين المجتمعات هناك وتأثير ذلك على الشباب والشابات. هذا موضوع مختلف تمامًا عما أقدمه عادةً. كما عملت فيلم عن الموسيقى الريفية في إنجلترا، وأيضًا قمت بإنتاج أفلام غريبة جدًا

لكن في العالم العربي.. هل تشعرين أن السياسة جزء لا يتجزأ من أعمالك؟

بصراحة، لا أستطيع الاقتراب من العالم العربي دون أن أشعر بالقلق. ليس على نفسي، بل على من حولي. أخشى أن يقول لي أحدهم شيئًا لا أدرك خطورته، لأني لا أرغب في وضع أحد في موقف صعب. نحن نصنع الأفلام لجعل العالم مكانًا أفضل، لذا من المستحيل أن أقدم فيلمًا أورط أحد من خلاله.

في فيلم «Do They Feel My Shadow»، تناولت قصة ثلاثة أطفال. لكن كما قلت، بدأت في الأفلام التجريبية ثم انتقلت إلى الأفلام الملاحظة. لدي العديد من الأفلام الصغيرة التي تتناول القضايا الاجتماعية، وهذا هو ما كان يهمني في البداية. لكن اكتشفت أن كل القضايا الاجتماعية التي نحاول معالجتها مرتبطة بقرارات سياسية.

الأمور التي تتغير سياسيًا تؤثر على المجتمع بشكل كبير، لذا يجب أن أفهم ما يحدث على المستوى السياسي حتى أتمكن من التحدث عن القضايا الاجتماعية. المجتمع ليس لديه القدرة أو القوة لتحديد مصيره، فمصيره يُحدد من الأعلى. لهذا السبب، تحولت من التركيز على القضايا الاجتماعية والفنية إلى التركيز على القضايا السياسية.

كيف ترين وضع الوثائقيات العربية؟ وما الذي تعدينه أكبر الصعوبات التي يواجهها المخرجون العرب في هذا المجال؟

حاليًا أرى أن هناك إمكانيات ومواهب رائعة بين الشباب والشابات العرب. هذا شيء مشجع جدًا، ولكن ما يقلقني هو أن هؤلاء المخرجين يعتقدون أن التمويل هو ما يصنع الفيلم. نتيجة لذلك، نجد أنفسنا نصنع أفلامًا ترضي من يقدم التمويل، وهم الذين يقررون ما هو المهم وما هو غير المهم

ما يخيفني أكثر هو أن هذه الأفلام تُنتج بأيادٍ عربية، ولكن من منظور يمليه الممولون، وليس من منظورنا

لكن المخرجين العرب خاصة مخرجي الأفلام الوثائقية والمستقلة يحتاجون إلى التمويل لمواصلة العمل، فهم مضطرون للتعامل مع الجهات الممولة وأجنداتها.

«اضطرار» هو كلمة يجب أن نتوقف عندها. يجب أن نتذكر أن الفنون والجوائز والتمويلات لم تكن دائمًا موجودة، ومع ذلك، صنعنا أفلامًا. عطيات الأبنودي مثلًا صنعت أفلامًا قبل أن يكون هناك شيء يسمى «تمويل». أفلامي الأولى كانت بدون منتج أو تمويل كبير، كنت أعمل بجهودي الشخصية، وأدبر الحصول على كاميرا، وأتحالف مع آخرين أعرفهم لنجمع تمويل الفيلم ذاتيا

لا يمكننا أن ننسى أن الظروف العامة التي نمر بها تشعرنا أننا ليست لدينا قدرة على تغيير الوضع، ولكن إذا استمررنا في الاعتقاد بأن المال هو ما يصنع الأفلام، فسوف نبقى عالقين في نفس السردية التي لا وجود لنا فيها. لدينا القدرة على تغيير ذلك، فنحن نملك أفضل الشباب والتكنولوجيا والفهم. لكن فكرة النجاح، إذا كانت تعتمد فقط على الجوائز والتمويلات، فهي ليست النجاح الحقيقي. نجاحنا يجب أن يُقاس بما نحققه نحن، وليس بما يقوله الآخرون.

ولكن ألا يعد عرضك لأفلامك في مهرجانات كبرى مثل مهرجان كان نجاحًا؟

لا.. إذا لم يكن للفيلم مصداقية مع الجمهور الذي يشكل أساسه، فإن ذلك يعني أنك تفصل المخرج عن بيئته، مما يجعله يفقد القدرة على التواصل الحقيقي مع جمهوره. بالنسبة لي، الفوز في مهرجان كان يُعتبر أمرًا جيدًا، لكن هل هو المعيار الحقيقي للنجاح؟ لا أعتقد ذلك. الأفلام التي تحقق نجاحًا كبيرًا في مهرجان كان، إذا عُرضت في أي قرية أو ضاحية لدينا، قد لا يفهم الناس شيئًا منها. أين هو النجاح في هذا؟

ما هي أبرز الأخطاء التي يقع فيها مخرجو الأفلام الوثائقية؟

النقطة هي أن تقييم الأفلام يعتمد على قرارات أشخاص معينين يحددون ما يعتبر فيلمًا حقيقيًا وما لا يعتبر كذلك. المشكلة أنهم يريدون أن تكون الأفلام الحقيقية مشابهة لأفلامهم. لكن قد لا تكون أفلامنا بحاجة إلى أن تشبه الأفلام الغربية. الغرب متعود على السرد الخطي المباشر، حيث يجب أن ينتقل الفيلم من نقطة إلى أخرى بطريقة متسلسلة. أما نحن، فنحكي قصصنا بطريقة مختلفة، نبدأ القصة من منتصفها، ثم نعود وندور حولها. أفلامي كلها تبدأ وتنتهي في نفس النقطة، لأنها تعكس طريقة السرد الدائري التي تربيت عليها.

لماذا يجب عليّ أن أتبع السرد الخطي؟ بالطبع، هناك نوع من التسلسل في السرد، لكن طريقة سرد القصة يجب أن تنبع من ثقافتنا. لدينا مواهب وأساليب مختلفة في رواية القصص، مثل حلقات الحكي في المغرب، وهذه الأشكال المتنوعة من السرد يجب أن نحافظ عليها. فنحن قادمون من خلفية عربية تُعتبر فيها الكلمة «حكاية». فنحن أحرار في تقديم طريقتنا.

إلى الآن فيلمي «كوبا» و«ناصر» يشاهدهما الملايين، بالنسبة لي هذا هو النجاح، لأن الأفلام حية، وممكن أن يأتي غيري ويستكمل على عملي. ما أعنيه أن فيلمك يظل حيًا حتى لو لم تمر باسمه على السجادة الحمراء.

ما هي مشاريعك المقبلة؟

كان هناك مشروع أعمل على البحث عليه منذ 4 سنوات، لكنني قررت منذ 9 أشهر ألا أقدمه، لأنني لم أفهم ما يحدث في مساحة الرؤية الحالية في العالم عموما.. كان ما بين العالم العربي وأفريقيا تحديدا ليبيا وجنوب أفريقيا.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

18.09.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004