“بيدرو
ألمودوفار”.. راعي النساء الحزينات في السينما الإسبانية
أسامة صفار
جاء تجمّع نساء العائلة في مطبخ “باولا” بدلا من غرفة
المعيشة، مع أن الزيارة لم تكن عادية، فقد كان اجتماعا لكل أعضاء الأسرة،
في محاولة يائسة لترميم العلاقات المتصدعة بين الجميع.
كانت “رايموندا” (الممثلة بينيلوبي كروث) قد اكتشفت أن
والدتها “أيرين” (الممثلة كارمين ماورا) ليست ميتة كما حسبت، بل هربت بعد
حدث مأساوي قديم، وأنها تشعر بالذنب تجاه خطايا الماضي، وترغب بالتكفير
عنها بالتواصل مع بناتها.
جلست النسوة في مطبخ ريفي خافت الإضاءة بمنزل العمة،
وانخرطن في محادثة عاطفية، تمزج بين الحنان والتسامح والتوتر، وكان
الاجتماع العائلي هو الفرصة الباقية لتعترف “إيرين” بخطاياها، وتعلن اسم
والد ابنتها.
تقول “رايموندا”: لا أعرف كيف عشت كل هذه السنوات بدونك.
فترد الأم “إيرين”: كنت تعيشين يا ابنتي، فهذا هو الأهم.
فتقول “رايموندا” وعيناها تلمعان من أثر الدموع: أنا بحاجة
إليك يا أمي.
فترد: وأنا هنا الآن.
هذا هو المشهد الأخير من فيلم “العودة”
(Volver)
للمخرج الإسباني الأشهر “بيدرو ألمودوفار” (2006)، وقد استطاع أن ينقل فيه
حالة فيض عاطفي، تغلبت على سنوات من الحرمان والعناد، فاكتملت المصالحة
وعادت الروابط الأسرية كأنها لم تنقطع أبدا.
طفل لا يجد قوت يومه تختطفه السينما
أخرج “بيدرو ألمودوفار” وكتب 43 فيلما، تدور جميعا في
فضاءات خاصة بالنساء، وهو حالة فريدة على المستوى الإنساني والفني، لكنه ذو
قصة لا تشير مقدماتها إلى المقام الذي بلغه.
وقد نال 175 جائزة عالمية، منها الأوسكار عن فيلم “تحدث
إليها” (Hable
con ella)
عام 1999، والأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي عن فيلم “الغرفة
المجاورة” (The
Room Next Door)
عام 2024.
لم يكن “بيدرو” يملك ما يسد رمقه حين هجر منزل والديه، فسعى
وراء السينما، ليكون صوت مشاعر المرأة وصورتها على الشاشة، ويتوحد مع
أفلامه، ويكتسب ملامح رقيقة للغاية.
وربما تكون كلمة السر في حياة “بيدرو” -إنسانا وفنانا- هي
والدته “فرانثيسكا”، فلم تكن مجرد أم بل مصدر إلهام، وقد أثرت على أسلوبه
السردي أثرا عميقا، وذلك بروايتها للقصص، وقدرتها على الصمود، وارتباطها
بالتقاليد والتراث الإسباني.
ولم يتردد في اختيار والدته ممثلة بأدوار ثانوية في أفلامه
المبكرة، ولكن الأثر الأكثر وضوحا يتجلى في شخصيتها الملموسة، وفي تصويره
لشخصية الأم القوية والمعقدة، لا سيما أنه يحتفي بالأمهات، ويظهرهن شخصيات
محورية للقوة والتضحية، ويسرد ويحلل تعقيدات علاقته بوالدته في طيات قصصه.
“بيدرو
ألمودوفار”.. الفتى الذي أصابته حمى السينما
وُلد “بيدرو ألمودوفار” يوم 25 سبتمبر/ أيلول عام 1949 في
“كالثادا دي كالاترافا”، وهي بلدة صغيرة بمنطقة “لا مانشا” الإسبانية،
وتأثرت طفولته تأثرا عميقا بالمجتمع الإسباني الريفي المحافظ، في حقبة ما
بعد الحرب الأهلية (1936-1939)، وكانت تجاربه فيما بعد مصدرا للقصص النابضة
والاستفزازية والثرية عاطفيا، فأصبحت تلك السمات مميزة لأفلامه.
نشأ “بيدرو” في عائلة فقيرة ولكنها متماسكة، وقد عمل والده
صانع نبيذ، وعملت والدته أعمالا عدة، منها نسخ الرسائل للجيران الأميين.
ثم التحق بمدرسة داخلية كاثوليكية، وهي تجربة وصفها لاحقا
بأنها قمعية، وقد استطاع أن يلاحظ تناقضات العاملين في الكنيسة ونفاقهم،
وهي عناصر ظهرت في أعماله بلمسة نقدية أو ساخرة غالبا. ومع أنه عاش في هذه
البيئة المقيدة، فقد اكتشف شغفه بالسينما في تلك المدة، والتهم الأفلام في
المسارح المحلية.
أصيب “بيدرو” بحمى السينما في وقت مبكر، وانتقل إلى مدريد
وهو ابن 16 عاما، وكان وحيدا خالي الجيوب، فعمل في وظائف غريبة، حتى جمع
مالا كافيا لشراء أول كاميرا 8 ملم.
دراسة السينما في عصر الجنرال المستبد
كان الدكتاتور الإسباني الجنرال “فرانثيسكو فرانكو” يومئذ
قد أغلق المدرسة الرسمية للفنون السينمائية في مدريد، لذلك تعلم “بيدرو”
أساسيات الكتابة والأداء المسرحي والسينما بنفسه.
وبعد وفاة الجنرال “فرانكو” عام 1975، أصبح “بيدرو” أحد
رواد الحركة الشبابية الإسبانية في سنوات ما بعد الدكتاتورية، وقد تجلت تلك
الحركة أساسا في الثقافات البديلة.
عمل “بيدرو” يومئذ بدأب في الكتابة والتمثيل والإخراج، حتى
أصبحت أفلامه القصيرة معروفة في مدريد، وكان يعرضها في الحانات، وكان
“ألمودوفار” يؤدّي أصوات أفلامه على الهواء مباشرة، فقد كانت إضافة الصوت
إليها عصية في وقت التسجيل.
في عام 1980، ظهر أول فيلم تجاري له، وهو “بيبي ولوثي وبوم
وفتيات أخريات عاديات”
(Pepi, Luci, Bom y otras chicas del montón)،
وكان بمنزلة صاروخ لا يزال يدفع مسيرة “ألمودوفار” المهنية. وقد ناقش
الفيلم علاقات الصداقة وما تعنيها لدى أبطاله، وهو موضوع سيتكرر كثيرا طوال
عمله.
لم يكن التصوير بأفضل شكل، وكانت به مشكلات فنية عدة، لكن
“ألمودوفار” لم يستطع تحمل تكلفة إعادة التصوير. ومع ذلك، فقد لامس العمل
جوهر اللحظة التي يعيشها المجتمع الإسباني.
قضايا خطيرة في ثوب فكاهي.. سيرة إسبانيا الذاتية
أصبح “بيدرو ألمودوفار” مخرجا بارزا في أفلام الحركة
الإسبانية بالثمانينيات، وأثبتت أفلامه وأفكاره أنها بعيدة كل البعد عن
القوالب الجاهزة والمبتذلة، التي تقلد الإنتاج الهوليودي أو الفرنسي.
وربما تكون أهم سمات أفلامه هي عمله المستمر من خلال السيرة
الذاتية، وتنبع أفكاره مباشرة من المجتمع الإسباني، وتجاربه الحياتية
الخاصة، فقد ركز في عمله على السخرية من الحكومة والكنيسة الكاثوليكية، وهي
مفاهيم أُخفيت ببراعة خلال عهد الدكتاتورية الإسبانية، التي استمرت 50 عاما.
لم يتردد “بيدرو” في التركيز على مواضيع كانت محظورة وخاضعة
للرقابة، منها رجال الشرطة الفاسدون، وتعاطي المخدرات، وقضايا النوع
الاجتماعي، وفيروس نقص المناعة البشرية، والدعارة.
تنتقد تلك الأفلام مشاكل خطيرة تعاني منها المجتمعات، لكن
“بيدرو” كان حريصا على البعد عن الغرق في الميلودراما، وأضفى عليها حسا
فكاهيا، من دون أن يجعلها أفلاما كوميدية بحتة.
وقد وفرت له الطبقة المتوسطة والمنبوذون ثروة من الشخصيات
التي لا تُنسى، فكثير من أبطاله هن ربات بيوت مجهولات يعانين من الأزمات،
ولكنهن يتقدمن ويثبتن أنفسهن، ويصبحن قويات في مواجهة الشدائد الملحة، كما
تظهر شخصيات هامشية مأزومة، بين مدمن مخدرات ومتحول.
“نساء
على حافة الانهيار” يمهدن الطريق للعالمية
وضع “بيدرو ألمودوفار” قدمه على أولى خطوات طريق الشهرة
العالمية، من خلال فيلمه الشهير “نساء على حافة انهيار عصبي”
(Mujeres al borde de un ataque de nervios)
الذي أخرجه عام 1988.
وكان قد أثبت وجوده في بلاده بوصفه مخرجا جريئا ومبتكر في
عدة أفلام، منها:
“بيبي
ولوثي وبوم وفتيات أخريات عاديات”
(Pepi, Luci, Bom y otras chicas del montón)
عام 1980.
“ماذا
فعلت لأستحق هذا؟”
(Qué he hecho yo para merecer esto)
عام 1984، وقد أكسبه شهرة واسعة في إسبانيا، بسبب روح الدعابة الجريئة،
ورواية القصص الفريدة من نوعها.
ومع ذلك، كانت أعماله لا تزال غير معروفة إلى حد كبير خارج
بلده الأم.
“ألمودوفار”
وجائزة الأوسكار عن فيلمه “تحدث معها”
تدور أحداث فيلم “نساء على حافة انهيار عصبي” حول امرأة
تعيش في حالة حزن وندم وحسرة، وتصيبها سلسلة من الأحداث الفوضوية. وقد عرض
الفيلم أسلوب “بيدرو” المميز بألوان نابضة بالحياة، وشخصيات غريبة الأطوار،
ومزيج من العبثية والعمق العاطفي.
ومع أن الفيلم غارق في الثقافة الإسبانية، فإنه يتناول
معاني كونية، مثل الحب والخيانة والاضطرابات العاطفية، وقد حظي بإعجاب
النقاد والجمهور في العالم، نظرا لجرأته.
كما رشّح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية،
وذلك ما لفت أنظار هوليود إلى “بيدرو” أول مرة. ثم فاز بجوائز عدة في
مهرجانات سينمائية دولية، منها مهرجان البندقية، وحقق نجاحا تجاريا في
الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن “نساء على حافة انهيار عصبي” لم يكن إلا بداية، فتحت
الأبواب على مصراعيها للمخرج الذي عُد وريثا لتراث مخرجين إسبان عظماء، مثل
“لويس بونويل” و”كارلوس ساورا”.
نساء “بيدرو ألمودوفار”.. نبش في قضايا المرأة وصراعاتها
وقوتها
ينتمي “بيدرو ألمودوفار” إلى السينمائيين الذين يحبون
شخصياتهم الدرامية، ولا يقبلون -بأي شكل- فرض مقولاتهم على أبطالهم، وهي
شخصيات تنتمي لعالم المهمشين والمحطمين عاطفيا، وهو يمنحهم الكرامة التي
يسلبها منهم المجتمع.
يقدم “بيدرو” شخصيات نسائية معقدة ومتعددة الأبعاد، ويحتفي
في أفلامه بمرونة المرأة وشغفها وعيوبها، مما يجعلها من أكثر الشخصيات
الأيقونية في السينما المعاصرة.
وقد طرقت العالمية بابه مع أول نماذجه النسائية وهي “بيبا
ماركوس” بطلة “نساء على حافة انهيار عصبي” التي جسدتها الممثلة “كارمن
مورا”، فقد قدمت دور ممثلة صوتية ناجحة، تمر بأزمة عاطفية بعد أن يهجرها
حبيبها “إيفان”، وطوال الفيلم تدخل في دوامة من الفوضى، وتلقى سلسلة من
الشخصيات الغريبة والمواقف السخيفة.
تعد “بيبا” النموذج الأكثر وضوحا من حيث صفاته لنساء
“ألمودوفار”، فهي عاطفية وواسعة الحيلة ومصممة على السيطرة على حياتها، مع
ما أصابها من ألم.
أما شخصية “مانويلا” في فيلم “كل شيء عن أمي”
(Todo sobre mi madre)
الذي أخرجه عام 1999، فقد جسدتها “سيسيليا روث”، وهي أم حزينة تفقد ابنها
في حادث مأساوي، وتشرع في رحلة لإعادة التواصل مع والده المنفصل عنها.
وما يميز الأم في هذا الفيلم هو تعاطفها غير المحدود
ومرونتها، وهي تمثل موضوع الأمومة، بوصفها قوة للشفاء والحب.
وفي الفيلم نفسه، يقدم “بيدرو” شخصية “أغرادو” التي تجسدها
“أنتونيا سان خوان”، وهي امرأة متحولة جنسيا وصديقة مقربة لـ”مانويلا”،
معروفة بخفة دمها وصدقها وشخصيتها المتوهجة، وتقدم “أغرادو” واحدا من أشهر
مونولوغات “بيدرو” التي تحتفي بالأصالة وقبول الذات.
وفي فيلم ” العودة” (Volver)
الذي أخرجه عام 2006، تجسد “بينيلوبي كروث” دور “رايموندا” المرأة التي
تنتمي إلى الطبقة العاملة، وهي تواجه آثار وفاة زوجها الذي كان يسيء
معاملتها، في حين تعيد التواصل مع والدتها التي يفترض أنها متوفاة.
ويختار “بيدرو” نموذجا غريبا لممثلة تدعى “مارينا”، جسدتها
الممثلة “فيكتوريا أبريل” في فيلم “اربطوني” (Átame)
الذي أخرجه عام 1989، وقد اختطفها رجل غير مستقر عقليا يأمل إقناعها بحبه.
وتجسد “مارينا” التوتر والتردد بين الضعف والقدرة على التصرف، في مواجهة
قصة حب غير تقليدية ومزعجة.
أما شخصية “لينا”، فهي ممثلة أخرى يقدمها في فيلم “الأحضان
الكسيرة”
(Los abrazos rotos)،
وهي طموحة لكنها تتورط في علاقة سامة مع رجل متسلط، في حين تسعى لإقامة
علاقة عاطفية مع مخرجها.
وتجسدها الممثلة “بينيلوبي كروث” هي شخصية تراجيدية يجعلها
جمالها وطموحها واضطرابها العاطفي واحدة من أكثر شخصيات “ألمودوفار” تعقيدا.
وفي فيلم “خولييتا” 2016
(Julieta)،
يعرض شخصية “خولييتا” التي تجسدها “إيما سواريث” في الكبر، وتجسدها
“أدريانا أوغارتي” في الشباب. وهي امرأة يطاردها الشعور بالذنب وتبتعد عن
ابنتها، ويوثق الفيلم حياتها والخيارات التي أدت إلى انفصالهما، وتعكس
قصتها مواضيع الذاكرة والندم والمصالحة. |