ملفات خاصة

 
 
 

رجل مختلف”.. صراع بين جسد واحد وهويتين وثلاث شخصيات

أحمد الخطيب

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

يعرّف “سيغموند فرويد” مصطلح الغرابة أو الغربة في مقالته “الغرابة” عام 1919، بأنها شعور مربك أو استجابات عاطفية مزعجة، تنشأ عندما يجمع الشيء بين الألفة والغرابة في الوقت ذاته، وذلك إحساس يتولّد بمواجهة شيء حدوده مطموسة، وكل التنبؤات حوله مشوشة، بحيث يتبدى المألوف غريبا والغريب مألوفا بشكل مزعج وغير مفهوم.

فالألفة التي يفترض أن تنتج عن المعرفة أو الاعتياد، هي ذاتها التي تصدّر شعورا غير مريح؛ لكونها تقع خارج حدود الفهم، فالغريب كما يعرفه “فرويد” هو شيء كان مألوفا في الماضي ولكنه أصبح مستغربا ومزعجا.

الجدير بالذكر أن الكلمة الألمانية “أونهايمليخ” (unheimlich) ومعناها “غريب”، هي نقيض لكلمة “هايمليخ” (heimlich) بمعنى عادي أو مألوف، ولكن من المفارقات أن الكلمتين تتداخلان، فما كان مألوفا (heimlich) قد يصبح أجنبيا أو غريبا (unheimlich).

يمكننا أن نتعاطى مع مقال “فرويد” وتعريفه للغريب أو الغرابة، ونتخذه مدخلا لقراءة فيلم “رجل مختلف” (A Different Man) للمخرج الأمريكي “آرون شيمبرغ” (2024)، فالفيلم في متنه يتمحور حول ذلك الشعور بالألفة والاغتراب في ذات الوقت.

التطور الذي يحدث للبطل داخل الفيلم -سواء على المستوى الجسدي والنفسي- يخلق “بيرسونا” داخلية يعاني منها البطل، و”بيرسونا” أخرى خارجية متجسدة في شخصية “أوزوالد” (الممثل آدم بيرسون)، الذي يعاني من الورم الليفي العصبي، الذي عانى منه البطل طوال حياته.

لذا فإن “أوزوالد” هو التجسيد الحقيقي لماضي “إدوارد” (الممثل سيباستيان ستان)، فيشكلان كلاهما ثنائية الماضي والحاضر، ولكن بمعايير مختلفة عن السائد، فكلاهما يعيش بطريقة مختلفة، ويتعاطى مع إمكانياته الجسدية واختياراته الحياتية ونمطه الاجتماعي تعاطيا مختلفا، يجعل الاثنين في وقت ما متضادين أو نقيضين لبعضهما، وليسا مجرد شخصين يجسدان أزمنة من حياة بعضهما.

الأمر أشبه بأن تضع الجميلة والوحش والأمير في غرفة واحدة، وكما نوّه “فرويد” يتولد عن وجود الثلاثة في غرفة واحدة ذلك الشعور بالغربة، فشيء مألوف تماما أصبح مُستغربا ومزعجا تماما.

مع أن الشخص المحاط بهذه الهالة غير المريحة، لا تبدر عنه أفعال غير مألوفة أو منحرفة عن المسار، بحيث يمكن أن ينتج عنها منطقيا إحساس مربك أو مزعج، ولكنه كما قلنا يقبع خارج حدود الفهم حتى على المستوى الجسدي.

فالمعايير السائدة لا تطبق على أبطال الفيلم بنفس الطريقة، فالشخوص لا يحتقرون “أوزولد” المشوه ولا ينبذونه، بل يتعاطون معه بطريقة اعتيادية ويومية، ومن هنا تحدث المفارقة، أن تجربة “إدوارد” مع المرض كانت مختلفة تماما، على كل المستويات، يمكننا أن نستعير التعبير الإنجليزي الشهير “ليس مرتاحا في جسده” (Not comfortable in his own skin).

عزلة في حياة تتآكل من الداخل

يدور فيلم “رجل مختلف” حول “إدوارد”، وهو مريض بالورم الليفي العصبي، يعيش في عزلة داخل منزل يتهاوى ويتآكل من الداخل. يترك إدوارد دائما مسافة آمنة بينه وبين الناس، مسافة تضمن الحماية الكافية للحفاظ على نفسيته الهشّة وكبريائه الجريح، ولكنه رغم ذلك يكافح للتواصل مع الآخرين بطرق شتى.

يصارع “إدوارد” وحدته، لكنه لا يجد في النهاية إلا الفشل الاجتماعي والهشاشة الذهنية، فيقرر الخضوع لجراحة إعادة بناء تحويلية، على أمل التخلص من ماضيه، أو التخلص من هويّته إذا صحّ الحديث، وأن يبدأ إنسانا جديدا، فيخضع لما يشبه تجربة علمية، ويكتسب تدريجيا مظهرا مختلفا، أكثر جاذبية بمعايير المجتمع السائدة.

ثم ينتهز الفرصة لإيجاد ذاته، فينتقل إلى مدينة جديدة، وينخرط اجتماعيا بهوية جديدة، فيغير مساره المهني، ويخلق دوائر اجتماعية وعلاقات صحية، وتسير الأمور سيرا جيدا، حتى يكتشف أن جارته في السكن القديم “إينغريد” (الممثلة ريناتي رينسفي) تعد لمسرحية تستند إلى حياته قبل الجراحة.

ومن هُنا يبدأ الفيلم بالتعقيد من الناحية الذهنية، لأن اهتمامه بالمسرحية يتناقض مع رغبته الملحة بالانسلاخ الجذري من حياته السابقة.

تحريك الروح من جسد إلى آخر

يبدأ الشعور بالغرابة يتنامى، ففضول “إدوارد” الأوّلي يصبح هوسا يدفعه إلى تقديم نفسه لـ”إنغريد”، على أنه شخصية جديدة مناسبة للعب الدور الرئيسية على المسرح، فيقنعها ويبدأ التحضير للدور، وتتحرك القصة نحو جزئية جديدة كليا، جزئية يتجسد فيها ظهور الغريب (unheimlich) بوضوح.

محاولات “إدوارد” للانسلاخ والانفلات من هويته القديمة تتبعها محاولات جدية باستعادة تلك الهويّة مرة أخرى على المسرح، فالأمر أشبه بأن تتحرك روحك من جسد إلى آخر، حتى على مستوى التجسيد.

وضع “إدوارد” قناعا أخذه من الطبيب للذكرى قبل التحوّل، قناعا يشكل مدخلا للذات القديمة أو نمطا استعاديا، ويبدأ “إدوارد” يتداعى ويتماهى بين جسدين وهويتين، حتى يتحول في المنتصف إلى شيء يحمل من الغُربة اتجاه ذاته أكثر مما يحمل من الألفة.

يؤدي أداء دور “ستيفن” (اسم الشخصية في المسرحية واسم “إدوارد” قبل التحول) إلى إثارة سلسلة من المشاعر المتضاربة لدى “إدوارد”، تتراوح بين الإعجاب والحسد والقلق.

وبدافع من الانبهار وكراهية الذات، يتسلل “إدوارد” إلى حياة “ستيفن” مرة أخرى؛ أي حياته السابقة، تلك الشخصية المحجوبة عن العالم، الذي ظن أنها غير مثيرة للاهتمام وقبيحة وغير جديرة بالعيش أساسا.

ومع تقنية الأداء ومحاولة الاستعادة، نشعر أن الحدود قد تلاشت بين هويته القديمة والجديدة، فيفقد الإحساس بذاته الحالية، وتنفلت الأمور بطريقة عشوائية، ثم يبدأ في مطاردة شبح ما كان عليه ذات يوم، وفي نفس الوقت يحاول إحكام قبضته على الذات حديثة التشكل، حتى يحدث تضارب جوّاني.

تأطير الذات في النموذج المسرحي

تبدأ مرحلة جديدة مع ظهور “أوزوالد”، الذي هو شخصية لها حضور مؤثر على مستويين مهمين، أما الأول فهو شخصية تبدأ منافِسة على الدور المسرحي، ثم تتوغل بطريقة غير مباشرة في حياة “إدوارد” كأنها تسلب حياته. ذلك الحضور المفاجئ يسبب نوعا من الريبة، لأنه يتماس مع رؤيته لنفسه في الأساس.

وأما الثاني فهو الحركة الموازية للمخيال، أي تجسيد حياة “إدوارد” السالفة، وذلك ما يدفعه للجنون، لأن الهوس الذي تخلّفه تلك المنافسة على دور في أحد المسارح المغمورة ينتج نوعا من الاضطراب، فـ”أوزوالد” يعيش حياته بطريقة مختلفة تماما عن ماضي “إدوارد”، وكلاهما يحاول تجسيد شخصية “ستيفن”.

إذن فكلاهما يتجه إلى تأطير ذاته داخل نموذج مسرحي؛ ذلك النموذج هو “إدوارد” حرفيا من سنوات أو ربما شهور، وعلى الجانب الآخر فـ”ستيفن” الشخصية المسرحية هي “أوزوالد” في اللحظة الحالية، لذلك تبدأ الأمور بالتعقد.

وعند التحدث عن “إدوارد”، يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه شخصية حديثة التشكل، يمكن أن نتعاطى معها على أنها نموذج في طور التكوين، ليس له استقرار حقيقي ولا تصور حقيقي للإرادة أو الإشكاليات الوجودية، فسعيه لمحو شخصيته الأولى كليا خلّفت لديه فراغا لا يستهان به.

لذلك نراه يحاول استكشاف الأشياء من جديد، لكن بعين “إدوارد” لا عين “ستيفان”. كل تلك المحاولات الأولية لدفع “ستيفان” للوراء، وإغراقه في اللاوعي؛ أنتجت رد فعل معاكسا مع ظهور “ستيفان” مرة أخرى على السطح.

مركزية الجسد المتجاوز للمادية

لدى الفيلسوف الفرنسي “موريس ميرلو بونتي” نظرية معروفة عن الذات، تتمحور في متنها حول الجسد مركزا للتجربة، وفي ذلك مقاربة لموضوع الفيلم الحقيقي، الذي يتأرجح بين الكوميديا الساخرة ورعب الجسد.

يتحدى “ميرلو بونتي” وجهة النظر التقليدية التي تفصل بين العقل والجسد، وينطلق من الجسد بصفته كيانا متجاوزا لما هو بيولوجي ومادي.

ففي نظره، فإن الذات ليست شيئا “داخل” الجسد أو خارجه؛ بل كلاهما شيء واحد، كُليّة واحدة، فالجسد هو الوسيلة التي ندرك بها العالم ونتصرف على أساسه، ويخبرنا أن الجسد يجمع بين ما هو داخلي وخارجي، ما هو ذاتي ومجرد في دواخلنا، ومادي لدى الآخرين، ويشير إلى ما يسمى الإدراك المتجسد؛ أي أن استيعابنا للعالم متجذر في منظورنا الجسدي، فالحواس ليست منفصلة عن الجسم ولكنها مرتبطة به جوهريا.

ويأخذ الموضوع إلى مستوى آخر بتوضيحه أن الذات لا تنفصل عن العالم ولا عن الآخر، بل تتميز بالسيولة والتغير الذي يجعلها عابرة لحدود القولبة والانفصال، والحقيقة أن من الممكن تأطير شخصية “إدوارد” في إطار فلسفة “ميرلو” عن الجسد، فنموذج البطل الذي يعاني تدريجيا من الاضطراب الهوياتي، النموذج المتغير العابر للشخصية الواحدة، يعيدنا إلى ما هو جسدي في الأساس.

والجسد هنا هو رمز جوهري للتكامل، المتلقي والمستجيب، والقصة هنا ترتكز على الجسد مدخلا لكل ما هو مجرد، فالولادة الثانية التي أنتجت “إدوارد”؛ أنتجت هوية جديدة، وربما نمطا جسديا وشكلانيا أحدث وأكبر قدرة على التعامل، بيد أنها لم تتخلص من بقايا ولادتها الأولى.

وحتى لو حدث انفصام على مستوى الهوية، فما زال الجسد يربط العالمين معا، فالجسد طبقا لـ”ميرلو بونتي” ينطوي على ما هو أكثر من اللحم والدم، لذلك كان سهلا أن يشعر “إدوارد” بالانتماء إلى حياته السابقة، لأن جسده هو شخصيته وذاته.

أسئلة وجودية حول الحقيقة والأقنعة

يتبدى ذلك التحول -ذو الطبيعة الجمالية- سمة لرعب الجسد أكثر من كونها نزوعا نحو الاستقامة والجمال الروحاني، لأن “إدوارد” لا يستطيع التخلص من شخصيته السابقة، ولا يستطيع الموازنة، خصوصا مع ظهور “أوزوالد” الذي يشكل “البيرسونا”، فهو شخصية مستقلة بذاتها.

ولكن في عقل “إدوارد” هو القرين الذي بعث ليدمر حياته، شبح يطارده، ويتفوق عليه بوجهٍ مشوه، مع كل التطور الوظيفي والاجتماعي والجمالي الذي صحب تحوله، مما يطرح أسئلة وجودية حول الأصالة والأقنعة التي نضعها في المجتمع، سيولة الذات، والقوالب والنماذج المخادعة في منظورنا نحن.

يلعب الفيلم على أوتار الهوية والجسد ومراوغتهما بعضهما، ويعيدان استكشاف الذات في مواقع وأشكال شتى، بطرق جديدة صحية وأخرى مدمرة، فالهوية ليست قالبا ثابتا، بل بنية متغيرة وسائلة، تتشكل من خلال النظرة الخارجية والصراع الداخلي.

 

الجزيرة الوثائقية في

19.01.2025

 
 
 
 
 

غلادياتر 2: عودة الملحمة في أبهى صورها

سليم البيك

يهوى المخرج الإنكليزي ريدلي سكوت الملاحم، المعارك التي يصورها بتوظيف عالٍ، لهوسه بتفاصيلها أولاً، ولتقنيات مدهشة ثانياً، مع ابتكار خيالي وجدناه في فيلمه الأخير، فانتازي مستمد، غالباً، من أفلام سابقة له، الفضاء والحروب وما جاورهما.

هذا المخرج الذي يسابق سنّه المتقدمة بالمزيد من الأفلام، وبمستويات مختلفة لكنها، جميعها، إنتاجات ضخمة، ترافقها دائماً جدالات بات يعتقد أحدنا أنها مقصودة وهي، ضمن حملة تسويق خاصة. لا يتعلق ذلك بالضرورة بجودة الأفلام، فمعظم ما أخرجه سكوت كان عادياً، فيلماً ضخم الإنتاج، هوليوودياً نمطياً، يجول بين الحروب والتشويق والحركة والفضاء والفانتازيا، بعدما انحرف، متطرفاً، بعيداً عن واحد من أوائل أعماله، ومن بين الأجمل في موضوعه، «تيلما ولويز» (1991)، في قصة صديقتين تهربان من الشرطة، بكوميديا إنسانية وواقعية، واحدة من مآسي هوليوود أن مخرجين بإمكانيات كالتي لريدلي سكوت، يتركون هذا النوع السينمائي الفني للانغماس في ما يهواه صانعو الإنتاجات الضخمة ومستهلكوها.

في كل الأحوال، لم يخرج سكوت عن نوعه السينمائي الذي عرف به في السنوات الثلاثين الأخيرة، لكنه ارتقى بفيلمه الأخير «غلادياتر 2» (Gladiator II) إلى قمة عمله السينمائي الحربيّ، فبعد عمل متعثّر العام الماضي هو «نابليون»، اتّكأ سكوت على عمل سابق له وكان ممتازاً هو «غلادياتر» (2000)، ليعود بجزء ثانٍ كان امتيازاً سيستحق عدّة ترشيحات أوسكار، من أفضل فيلم إلى الإخراج والسيناريو، مروراً بالتأثيرات والممثلين.

الفيلم ملحمي تماماً، ساعتان ونصف الساعة من التوتّر، من الترقّب، لم تفلت من المخرج خمس دقائق من دون تصاعد في الأحداث أو تحضير لها. حمل الفيلم عوالم روما القديمة وحروب المصارعين والعبيد فيها، في المدرجات التاريخية، حملها إلى عوالم جديدة لم يتوقعها أحدنا في شروط واقعية الحدث الروماني، زماناً ومكاناً، جعل الفيلم من السياق واقعاً لإمكانات أخرى، فلا يواجه المصارعون في الحلبة نموراً وأسوداً، بل وحيد القرن، وقرودا متوحشة أشبه بكائنات فضائية، وفي ابتعاد تام عن واقعية السياق، ستصير الحلبة بحراً هائجاً امتلأ بأسماك القرش. لم يتكئ بذلك سكوت على الجزء الأول من الفيلم ونجاحه آنذاك وحسب، بل كذلك على تجاربه في أفلامه الأخرى. فكانت روما مسرحاً سينمائياً كل ما فيه متاح. أما الامتياز المضاعف للفيلم فكان بالضرورة لكل من بول ميسكال ودينزل واشنطن وبيدرو باسكال.

سيشن الرومان حرباً على شمالي افريقيا، سيؤخذ ميسكال أسيراً ليكون مصارعاً بفضل جسارته وقوته، سنعرف أنه الطفل الذي كان في الجزء الأول، ابناً للمصارع البطل آنذاك. سيحاول قتل الجنرال الروماني قبل أن بعرف أنه صديق سابق لأبيه، وأنه زوج أمه، تتطور المجريات سريعاً نحو تراجيديا تتطلبها أفلام ملحمية كهذه، في ما بدا أقرب إلى حكاية إغريقية عن الخير والشر، مسرحها يبدأ من الحلبة ويمتد إلى الامبراطورية، في تمهيد إلى جزء ثالث من الفيلم الذي يتحول إلى سلسلة.

للإنتاجات الضخمة، حيث الضجيج يملأ القاعة على طول الفيلم، وهو حال هذا الفيلم، لهذه الإنتاجات اعتماد ثقيل على المؤثرات، على مهارات التقنيين، على مصادر إلهاء المُشاهد، وجعله مستهلكاً ملاحقاً لتتالي المؤثرات وأساليب الإدهاش البصرية. هنا، لم يخلُ الفيلم من ذلك، وكاد أن يقع في أسر هذه المبْهِرات المبَهِّرات، إلا أنه اعتمد كذلك على كتابة ماهرة، فلم يخبُ السيناريو، بحواراته البديعة، مقابل ضخامة التقنيات، أضواء وأصواتا، بل صفّ إلى جانبها ليَخرج الفيلم التجاري، غير المكترث بالمهرجانات الكبرى لتقديمه، بجانب فنّي، ضمنيّ، وإن لم يكن رائعاً، لم يكن خافتاً مستحياً من ولع التقنيات وهلعها.

الفيلم الملحمي هذا، متكامل، مبهر، ممتع، يتملّك الحواسَ من أول دقائقه إلى آخرها.

 

القدس العربي اللندنية في

20.01.2025

 
 
 
 
 

بيدرو ألمودوفار”.. راعي النساء الحزينات في السينما الإسبانية

أسامة صفار

جاء تجمّع نساء العائلة في مطبخ “باولا” بدلا من غرفة المعيشة، مع أن الزيارة لم تكن عادية، فقد كان اجتماعا لكل أعضاء الأسرة، في محاولة يائسة لترميم العلاقات المتصدعة بين الجميع.

كانت “رايموندا” (الممثلة بينيلوبي كروث) قد اكتشفت أن والدتها “أيرين” (الممثلة كارمين ماورا) ليست ميتة كما حسبت، بل هربت بعد حدث مأساوي قديم، وأنها تشعر بالذنب تجاه خطايا الماضي، وترغب بالتكفير عنها بالتواصل مع بناتها.

جلست النسوة في مطبخ ريفي خافت الإضاءة بمنزل العمة، وانخرطن في محادثة عاطفية، تمزج بين الحنان والتسامح والتوتر، وكان الاجتماع العائلي هو الفرصة الباقية لتعترف “إيرين” بخطاياها، وتعلن اسم والد ابنتها.

تقول “رايموندا”: لا أعرف كيف عشت كل هذه السنوات بدونك.

فترد الأم “إيرين”: كنت تعيشين يا ابنتي، فهذا هو الأهم.

فتقول “رايموندا” وعيناها تلمعان من أثر الدموع: أنا بحاجة إليك يا أمي.

فترد: وأنا هنا الآن.

هذا هو المشهد الأخير من فيلم “العودة” (Volver) للمخرج الإسباني الأشهر “بيدرو ألمودوفار” (2006)، وقد استطاع أن ينقل فيه حالة فيض عاطفي، تغلبت على سنوات من الحرمان والعناد، فاكتملت المصالحة وعادت الروابط الأسرية كأنها لم تنقطع أبدا.

طفل لا يجد قوت يومه تختطفه السينما

أخرج “بيدرو ألمودوفار” وكتب 43 فيلما، تدور جميعا في فضاءات خاصة بالنساء، وهو حالة فريدة على المستوى الإنساني والفني، لكنه ذو قصة لا تشير مقدماتها إلى المقام الذي بلغه.

وقد نال 175 جائزة عالمية، منها الأوسكار عن فيلم “تحدث إليها” (Hable con ella) عام 1999، والأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي عن فيلم “الغرفة المجاورة” (The Room Next Door) عام 2024.

لم يكن “بيدرو” يملك ما يسد رمقه حين هجر منزل والديه، فسعى وراء السينما، ليكون صوت مشاعر المرأة وصورتها على الشاشة، ويتوحد مع أفلامه، ويكتسب ملامح رقيقة للغاية.

وربما تكون كلمة السر في حياة “بيدرو” -إنسانا وفنانا- هي والدته “فرانثيسكا”، فلم تكن مجرد أم بل مصدر إلهام، وقد أثرت على أسلوبه السردي أثرا عميقا، وذلك بروايتها للقصص، وقدرتها على الصمود، وارتباطها بالتقاليد والتراث الإسباني.

ولم يتردد في اختيار والدته ممثلة بأدوار ثانوية في أفلامه المبكرة، ولكن الأثر الأكثر وضوحا يتجلى في شخصيتها الملموسة، وفي تصويره لشخصية الأم القوية والمعقدة، لا سيما أنه يحتفي بالأمهات، ويظهرهن شخصيات محورية للقوة والتضحية، ويسرد ويحلل تعقيدات علاقته بوالدته في طيات قصصه.

بيدرو ألمودوفار”.. الفتى الذي أصابته حمى السينما

وُلد “بيدرو ألمودوفار” يوم 25 سبتمبر/ أيلول عام 1949 في “كالثادا دي كالاترافا”، وهي بلدة صغيرة بمنطقة “لا مانشا” الإسبانية، وتأثرت طفولته تأثرا عميقا بالمجتمع الإسباني الريفي المحافظ، في حقبة ما بعد الحرب الأهلية (1936-1939)، وكانت تجاربه فيما بعد مصدرا للقصص النابضة والاستفزازية والثرية عاطفيا، فأصبحت تلك السمات مميزة لأفلامه.

نشأ “بيدرو” في عائلة فقيرة ولكنها متماسكة، وقد عمل والده صانع نبيذ، وعملت والدته أعمالا عدة، منها نسخ الرسائل للجيران الأميين.

ثم التحق بمدرسة داخلية كاثوليكية، وهي تجربة وصفها لاحقا بأنها قمعية، وقد استطاع أن يلاحظ تناقضات العاملين في الكنيسة ونفاقهم، وهي عناصر ظهرت في أعماله بلمسة نقدية أو ساخرة غالبا. ومع أنه عاش في هذه البيئة المقيدة، فقد اكتشف شغفه بالسينما في تلك المدة، والتهم الأفلام في المسارح المحلية.

أصيب “بيدرو” بحمى السينما في وقت مبكر، وانتقل إلى مدريد وهو ابن 16 عاما، وكان وحيدا خالي الجيوب، فعمل في وظائف غريبة، حتى جمع مالا كافيا لشراء أول كاميرا 8 ملم.

دراسة السينما في عصر الجنرال المستبد

كان الدكتاتور الإسباني الجنرال “فرانثيسكو فرانكو” يومئذ قد أغلق المدرسة الرسمية للفنون السينمائية في مدريد، لذلك تعلم “بيدرو” أساسيات الكتابة والأداء المسرحي والسينما بنفسه.

وبعد وفاة الجنرال “فرانكو” عام 1975، أصبح “بيدرو” أحد رواد الحركة الشبابية الإسبانية في سنوات ما بعد الدكتاتورية، وقد تجلت تلك الحركة أساسا في الثقافات البديلة.

عمل “بيدرو” يومئذ بدأب في الكتابة والتمثيل والإخراج، حتى أصبحت أفلامه القصيرة معروفة في مدريد، وكان يعرضها في الحانات، وكان “ألمودوفار” يؤدّي أصوات أفلامه على الهواء مباشرة، فقد كانت إضافة الصوت إليها عصية في وقت التسجيل.

في عام 1980، ظهر أول فيلم تجاري له، وهو “بيبي ولوثي وبوم وفتيات أخريات عاديات” (Pepi, Luci, Bom y otras chicas del montón)، وكان بمنزلة صاروخ لا يزال يدفع مسيرة “ألمودوفار” المهنية. وقد ناقش الفيلم علاقات الصداقة وما تعنيها لدى أبطاله، وهو موضوع سيتكرر كثيرا طوال عمله.

لم يكن التصوير بأفضل شكل، وكانت به مشكلات فنية عدة، لكن “ألمودوفار” لم يستطع تحمل تكلفة إعادة التصوير. ومع ذلك، فقد لامس العمل جوهر اللحظة التي يعيشها المجتمع الإسباني.

قضايا خطيرة في ثوب فكاهي.. سيرة إسبانيا الذاتية

أصبح “بيدرو ألمودوفار” مخرجا بارزا في أفلام الحركة الإسبانية بالثمانينيات، وأثبتت أفلامه وأفكاره أنها بعيدة كل البعد عن القوالب الجاهزة والمبتذلة، التي تقلد الإنتاج الهوليودي أو الفرنسي.

وربما تكون أهم سمات أفلامه هي عمله المستمر من خلال السيرة الذاتية، وتنبع أفكاره مباشرة من المجتمع الإسباني، وتجاربه الحياتية الخاصة، فقد ركز في عمله على السخرية من الحكومة والكنيسة الكاثوليكية، وهي مفاهيم أُخفيت ببراعة خلال عهد الدكتاتورية الإسبانية، التي استمرت 50 عاما.

لم يتردد “بيدرو” في التركيز على مواضيع كانت محظورة وخاضعة للرقابة، منها رجال الشرطة الفاسدون، وتعاطي المخدرات، وقضايا النوع الاجتماعي، وفيروس نقص المناعة البشرية، والدعارة.

تنتقد تلك الأفلام مشاكل خطيرة تعاني منها المجتمعات، لكن “بيدرو” كان حريصا على البعد عن الغرق في الميلودراما، وأضفى عليها حسا فكاهيا، من دون أن يجعلها أفلاما كوميدية بحتة.

وقد وفرت له الطبقة المتوسطة والمنبوذون ثروة من الشخصيات التي لا تُنسى، فكثير من أبطاله هن ربات بيوت مجهولات يعانين من الأزمات، ولكنهن يتقدمن ويثبتن أنفسهن، ويصبحن قويات في مواجهة الشدائد الملحة، كما تظهر شخصيات هامشية مأزومة، بين مدمن مخدرات ومتحول.

نساء على حافة الانهيار” يمهدن الطريق للعالمية

وضع “بيدرو ألمودوفار” قدمه على أولى خطوات طريق الشهرة العالمية، من خلال فيلمه الشهير “نساء على حافة انهيار عصبي” (Mujeres al borde de un ataque de nervios) الذي أخرجه عام 1988.

وكان قد أثبت وجوده في بلاده بوصفه مخرجا جريئا ومبتكر في عدة أفلام، منها:

بيبي ولوثي وبوم وفتيات أخريات عاديات” (Pepi, Luci, Bom y otras chicas del montón) عام 1980.

ماذا فعلت لأستحق هذا؟” (Qué he hecho yo para merecer esto) عام 1984، وقد أكسبه شهرة واسعة في إسبانيا، بسبب روح الدعابة الجريئة، ورواية القصص الفريدة من نوعها.

ومع ذلك، كانت أعماله لا تزال غير معروفة إلى حد كبير خارج بلده الأم.

 

ألمودوفار” وجائزة الأوسكار عن فيلمه “تحدث معها

تدور أحداث فيلم “نساء على حافة انهيار عصبي” حول امرأة تعيش في حالة حزن وندم وحسرة، وتصيبها سلسلة من الأحداث الفوضوية. وقد عرض الفيلم أسلوب “بيدرو” المميز بألوان نابضة بالحياة، وشخصيات غريبة الأطوار، ومزيج من العبثية والعمق العاطفي.

ومع أن الفيلم غارق في الثقافة الإسبانية، فإنه يتناول معاني كونية، مثل الحب والخيانة والاضطرابات العاطفية، وقد حظي بإعجاب النقاد والجمهور في العالم، نظرا لجرأته.

كما رشّح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية، وذلك ما لفت أنظار هوليود إلى “بيدرو” أول مرة. ثم فاز بجوائز عدة في مهرجانات سينمائية دولية، منها مهرجان البندقية، وحقق نجاحا تجاريا في الولايات المتحدة وأوروبا.

لكن “نساء على حافة انهيار عصبي” لم يكن إلا بداية، فتحت الأبواب على مصراعيها للمخرج الذي عُد وريثا لتراث مخرجين إسبان عظماء، مثل “لويس بونويل” و”كارلوس ساورا”.

نساء “بيدرو ألمودوفار”.. نبش في قضايا المرأة وصراعاتها وقوتها

ينتمي “بيدرو ألمودوفار” إلى السينمائيين الذين يحبون شخصياتهم الدرامية، ولا يقبلون -بأي شكل- فرض مقولاتهم على أبطالهم، وهي شخصيات تنتمي لعالم المهمشين والمحطمين عاطفيا، وهو يمنحهم الكرامة التي يسلبها منهم المجتمع.

يقدم “بيدرو” شخصيات نسائية معقدة ومتعددة الأبعاد، ويحتفي في أفلامه بمرونة المرأة وشغفها وعيوبها، مما يجعلها من أكثر الشخصيات الأيقونية في السينما المعاصرة.

وقد طرقت العالمية بابه مع أول نماذجه النسائية وهي “بيبا ماركوس” بطلة “نساء على حافة انهيار عصبي” التي جسدتها الممثلة “كارمن مورا”، فقد قدمت دور ممثلة صوتية ناجحة، تمر بأزمة عاطفية بعد أن يهجرها حبيبها “إيفان”، وطوال الفيلم تدخل في دوامة من الفوضى، وتلقى سلسلة من الشخصيات الغريبة والمواقف السخيفة.

تعد “بيبا” النموذج الأكثر وضوحا من حيث صفاته لنساء “ألمودوفار”، فهي عاطفية وواسعة الحيلة ومصممة على السيطرة على حياتها، مع ما أصابها من ألم.

أما شخصية “مانويلا” في فيلم “كل شيء عن أمي” (Todo sobre mi madre) الذي أخرجه عام 1999، فقد جسدتها “سيسيليا روث”، وهي أم حزينة تفقد ابنها في حادث مأساوي، وتشرع في رحلة لإعادة التواصل مع والده المنفصل عنها.

وما يميز الأم في هذا الفيلم هو تعاطفها غير المحدود ومرونتها، وهي تمثل موضوع الأمومة، بوصفها قوة للشفاء والحب.

وفي الفيلم نفسه، يقدم “بيدرو” شخصية “أغرادو” التي تجسدها “أنتونيا سان خوان”، وهي امرأة متحولة جنسيا وصديقة مقربة لـ”مانويلا”، معروفة بخفة دمها وصدقها وشخصيتها المتوهجة، وتقدم “أغرادو” واحدا من أشهر مونولوغات “بيدرو” التي تحتفي بالأصالة وقبول الذات.

وفي فيلم ” العودة” (Volver) الذي أخرجه عام 2006، تجسد “بينيلوبي كروث” دور “رايموندا” المرأة التي تنتمي إلى الطبقة العاملة، وهي تواجه آثار وفاة زوجها الذي كان يسيء معاملتها، في حين تعيد التواصل مع والدتها التي يفترض أنها متوفاة.

ويختار “بيدرو” نموذجا غريبا لممثلة تدعى “مارينا”، جسدتها الممثلة “فيكتوريا أبريل” في فيلم “اربطوني” (Átame) الذي أخرجه عام 1989، وقد اختطفها رجل غير مستقر عقليا يأمل إقناعها بحبه. وتجسد “مارينا” التوتر والتردد بين الضعف والقدرة على التصرف، في مواجهة قصة حب غير تقليدية ومزعجة.

أما شخصية “لينا”، فهي ممثلة أخرى يقدمها في فيلم “الأحضان الكسيرة” (Los abrazos rotos)، وهي طموحة لكنها تتورط في علاقة سامة مع رجل متسلط، في حين تسعى لإقامة علاقة عاطفية مع مخرجها.

وتجسدها الممثلة “بينيلوبي كروث” هي شخصية تراجيدية يجعلها جمالها وطموحها واضطرابها العاطفي واحدة من أكثر شخصيات “ألمودوفار” تعقيدا.

وفي فيلم “خولييتا” 2016 (Julieta)، يعرض شخصية “خولييتا” التي تجسدها “إيما سواريث” في الكبر، وتجسدها “أدريانا أوغارتي” في الشباب. وهي امرأة يطاردها الشعور بالذنب وتبتعد عن ابنتها، ويوثق الفيلم حياتها والخيارات التي أدت إلى انفصالهما، وتعكس قصتها مواضيع الذاكرة والندم والمصالحة.

 

الجزيرة الوثائقية في

20.01.2025

 
 
 
 
 

المصارع 2”.. هوية بصرية قوية وأحداث تاريخية مغلوطة

عبد الكريم قادري

انتهت الإمبراطورية الرومانية منذ أكثر من 15 قرنا، لكن هذه الحضارة ما زالت تشحن العقل الغربي المعاصر، بعقليتها الاستعمارية والعنصرية، ورفضها للآخر بكل مكوناته، بمحو تاريخه وثقافته واهتماماته، وقد تجلّى هذا التأثر في إعادة تجسيد تلك “الأمجاد” بصيغ فنية شتى، لا سيما في السينما.

فمنذ تأسيسها إلى اليوم، أنجزت هذه الصناعة مئات الأفلام والمسلسلات التي تناولت تلك الحقبة، مع أن كثيرا منها يحتوي مغالطات تاريخية شنيعة، وأسوأ من ذلك مزج الخيال ببعض الحقائق التاريخية، ثم تقديمها للجمهور الواسع على أنها حقائق تاريخية يجب تصديقها.

وأدهى وأمرّ من كل هذا إعادة تجسيد أحداث الترفيه والتسلية المشهورة، تلك التي جعلت حياة الإنسان غير الروماني لا تساوي شيئا، فهو أداة تسلية وترفيه فحسب، يرمى في المسرح ليواجه الوحوش الضارية والمفترسة، ثم تصبح تلك المناظر الوحشية والدماء المتطايرة مصدر بهجة للرومان، فيطلقون صيحات الفرح والرضا.

وأشنع من ذلك كله، أن هؤلاء الضحايا هم أسرى حروب، كل ذنبهم أنهم دافعوا عن أرضهم وعرضهم، فأصبحت أجسادهم فيما بعد طعاما للوحوش، ووسيلة ترفيه لحكّام روما وشعبها.

هذه الصور وأخرى، أعاد تجسيدها المخرج البريطاني “ريدلي سكوت”، في أحدث أفلامه “المصارع 2” (Gladiator 2)، وهو جزء ثانٍ وتتمة لفيلمه الأول الذي أُنتج سنة 2000، ولقد حافظ فيه على نفس العنوان مع إضافة أحداث مختلفة، لكنها مترابطة ومتشابكة ومتشابهة وتحمل نفس السمات.

تطابق الجزأين.. ضعف الإبداع واستغلال النجاح

تفصل بين الفيلمين 24 سنة، لكن مع ذلك فقد حافظ المخرج “ريدلي سكوت” على نفس الأجواء تقريبا، لا سيما من ناحية البناء أو الشكل الهندسي الكلي، وحتى في تقديم الموضوع، وكذلك التوزيع وطريقة بسط شتى عناصر الفيلم، وهي معطيات متقاطعة ومتشابهة.

فمن ذلك أحداث تقديم المصارع “ماكسيموس ديميسوس” (الممثل راسل كرو) في الجزء الأول، ونقله في العربة، والمرور به في شوارع روما، ودهاليز حلبات المصارعة، وخلق أعداء له في الحلبات، وهي نفس المنطلقات التي مر عليها المصارع “لوسيوس” (الممثل بول ميسكال) في الجزء الثاني.

كما تطابق تشييد الحبكة، بحكم أن المصارِعَين من ورثة الطبقة السياسية الشرعية أو حماتها، وكل واحد منهما لديه الحق في تخليص الإمبراطورية الرومانية من أيادي العابثين، أولئك الذين أذهبوا مجد روما.

وقد أُسر البطلان في سياقات ما، ووُسم كل واحد منهما بسمة العبيد، لهذا يحولان إلى حلبات المصارعة، بحكم القوة الجسدية والمهارة التي لديهما، وحين يثبتان قوتهما يرسلان إلى حلبة “الكولوسيوم” بعد مراحل شتى من المصارعة.

وهناك في تلك الحلبة المبهرة، يبدآن صناعة مجد المصارعة أو المجالدة في قلب روما، أمام الأباطرة والقناصلة، وأعضاء مجلس الشيوخ، وقادة الجيوش والشعب، ثم يُربط كل فرد منهما بالصيغة التاريخية.

وفي حالة فيلم “المصارع 2″، نرى “لوسيوس” يتلو على الإمبراطورين الأخوين “كاراكلا” (الممثل فريد هيكينغر) و”جيتا” (الممثل جوزيف كوين) مقولة أو جملة شعرية، لكن تلك الجملة لها أبعاد كان يقولها جده.

من هنا تعرف “لوسيلا” (الممثلة كوني نيلسن) أن ابنها ما زال حيا، وكانت قد أبعدته من بيتها عندما كان يبلغ 11 سنة، وذلك بعد موت المصارع “لوسيوس” في الجزء الأول، وهو الحفيد الوحيد الذي لديه الحق في كرسي الحكم، ولذلك كان عُرضة للقتل والتصفية، ثم استقر بعدها ناجيا في صفوف جيش “نوميديا”، وتواجه مع جيش روما، ثم أصبح مصارعا في روما.

حاول المخرج “ريدلي سكوت” خلق روابط فنية وتاريخية ودرامية كثيفة ومنوعة، كي لا يشعر الجمهور بغربة ما، وتركهم يلتحمون التحاما كبيرا مع الجزء الأول، ليضمن لهم الإثارة والنجاح الذي حققه بالجزء الأول.

روما القديمة.. ثنائية الجمال والقبح

لم يكتف المخرج “ريدلي سكوت” بالمنطلقات ولا ظروف التطابق الفني التي رسمها في فيلمه “المصارع 2″، بل حاول اللعب أيضا على الثنائيات الضدية في الفيلم، وأبرزها ثنائية الجمال والقبح، لهذا قدّم صورا بانورامية من مدينة روما المترامية، من مراكزها المتقدمة وشوارعها النظيفة وعمرانها المتفرد، وأسقف بناياتها المغطاة بالقرميد الأحمر، ومبنى “الكولوسيوم” الذي يُعد من العجائب العمرانية والهندسية المهمة.

وفي نفس الوقت يظهر مداخل المدينة وضواحيها، حيث المتسولون في كل جهة، يبحثون عن الرغيف أو ما يملأ بطونهم الخاوية، كما انعكس ذلك في ثيابهم الرثة ووجوههم المتعبة.

تلك الثنائيات تعكس الظرف السياسي الذي تعيشه روما، والمفارقة الكبيرة بين طبقة النبلاء وطبقة الكادحين، فهناك من يمارس السلطة بأكمل صورها، ويحاول أن يسلب أراضي ومستعمرات جديدة لروما، لخدمة مجد الإمبراطورين، وفي المقابل هناك من يتلوى جوعا ولا يجد ما يسد به رمقه.

كما انعكست ثنائية الخير والشر في بناء الشخصيات وتقديمها، فنرى جانب الخير الذي يميز الجنرال “أكاسيوس” (الممثل بيدرو باسكال) فاتح “نوميديا”، وهو قائد لا يهتم بمجده الحربي بقدر اهتمامه بجوع الناس ومجد روما. وفي المقابل نرى “ماكرينوس” (الممثل دينزل واشنطن)، الذي يدير ألعاب المصارعة والمراهنة، وفي نفس الوقت يتآمر ويستغل كل فرصة، ليتمكن سياسيا وينال من كل خصومه.

والأمثلة التي تجسد هذه الضدية متعددة، وهي خاصية تستعمل بكثرة في السينما، للوصول إلى نتيجة أن الخير هو من ينتصر، وذلك تلاعب فني يولّد الدراما المناسبة، بما يتخللها من عناصر الإثارة والتشويق والترقب والانتظار، وكلها معطيات تخدم فعل المشاهدة عموما.

تزوير التاريخ.. بين صناعة الدراما وتمجيد روما القديمة

استند “ديفيد سكاربا” كاتب سيناريو الفيلم إلى قصة كتبها الروائي “بيتر كريغ”، وكان “سكاربا” قد تعاون مع “ريدلي سكوت” قبل هذا الفيلم، في فيلمه “نابليون” (Napoleon) الذي صدر سنة 2023.

ومع أن الفيلم اعتمد على “كريغ” و”سكاربا” وهما اسمان بارزان في مجال الكتابة السينمائية، فإنه مليء بالأخطاء التاريخية، وهي ليست صغيرة، ولا من النوع الذي يمكن التغاضي عنه، ولا من الأخطاء التي تُغفل بسبب الضغط الهائل.

فمن ذلك مثلا مشهد المقهى في شوارع روما، ففيه رجل يقرأ جريدة مطوية، ولم تكن الجرائد في تلك الحقبة موجودة، وإنما كانت تُنحت نشريات على صفائح صخرية.

كما أن هناك مشهدا محوريا صنع فرجة مهمة، لكنه لم يثبت تاريخا بعد الاطلاع على عدة مصادر، وقد جسّد تعويم ساحة الكولوسيوم بالمياه، مع إعادة تجسيد معركة روما ونوميديا من خلال سفينتين، ووجود عدد من أسماء القرش.

ثم إنه لم يثبت توظيف وحيد القرن، بوصفه حيوانا مصارعا يمتطيه الفارس، ناهيك عن أخطاء توظيف الأسماء والأحداث، وحتى سلوك الإمبراطورين “كاركلا” و”جيتا” وصفاتهما.

يوغرطة.. أخطاء في قصة الملك الذي حارب روما

الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الفيلم، هو تزوير بعض الوقائع التاريخية المثبتة في المراجع التاريخية الصريحة والمهمة والمنتشرة، وهي من وقائع حرب روما ونوميديا.

كانت نوميديا مملكة أمازيغية ضمت الجزائر وتونس وليبيا، وكانت عاصمتها سيرتا (قسنطينة حاليا)، ولقد تداول عليها عدد من الملوك، أهمهم وأقواهم الملك “يوغرطة”، وقد وُلد سنة 160 ق.م، وتوفي سنة 104 ق.م، وخاض حربا مع روما، وكبّدها خسائر فادحة ومتتالية.

استمرت تلك الحرب نحو 6 أعوام، ما بين عامي 111-105 ق.م، ثم انتهت بأسر الملك “يوغرطة” وبعض أبنائه، بعد خيانة صهره حاكم موريطانيا، فسُجن في روما حتى مات جوعا وكمدا في السجن، وكان ذلك في عهد الجمهورية الرمانية، وفي تلك الحقبة كان نظام الحكم بيد مجلس الشيوخ الروماني، الذي ينتخب قناصل سنويا هم من يتولون الحكم.

لكن الفيلم تجاوز هذا التفصيل المهم، بتصويره معركة حربية ضارية بين جيشي روما ونوميديا، أُسر فيها الملك “يوغرطة”، وهذا في عهد الإمبراطورين التوأمين “كاركلا” و”جيتا”، بمعنى أن الفرق الزمني بين أسر “يوغرطة” وحكم الإمبراطورين كان أكثر من 300 سنة.

كما صوّر المخرج “ريدلي سكوت” بأن روما وضعت الملك “يوغرطة” الأسير في حلبة مصارعة، وأُطلقت القرود المتوحشة عليه وقتل، لكن الحقيقة التاريخية أنه مات جوعا في الأسر.

ثم إنه وُظف لأداء دوره الممثل الأسود “بيتر مينساه”، لكن الحقائق الميدانية تقول إن لون بشرته بين القمحية والسمراء، والغالب الأرجح أنها بيضاء، ولا يُعلم من أين استقى المخرج تلك المعلومة الخطأ التي جعلته يصوره أسود البشرة.

كما أن هناك أخطاء كثيرة، رصدها الخبراء والمختصون في التاريخ القديم، منها طريقة حكم الإمبراطورين “كاركلا” و”جيتا” وموتهما أيضا.

جمالية الإبهار.. قوة الصورة السينمائية تصنع التأثير

استطاع المخرج “ريدلي سكوت” أن يطوّع التكنولوجيا الحديثة لصالحه، فولّد بها جماليات بصرية غير محدودة، منها المناظر البانورامية التي نقل بها معالم وشكل مدينة روما، وتجسيد بحيرة حلبة الكولوسيوم التي تسبح فيها القروش، وتلك معطيات جسّدت عملية الإبهار، واستحوذت على انتباه المتلقي، وأدخلته في تفاصيل الفيلم.

وكان تصوير قتال المصارعين مع المفترسات واقعيا لحد التطابق تقريبا، مثل القرود المفترسة وشراستها، ووحيد القرن، وتلك معطيات تولد شحنة من المتعة واللذة لدى المشاهد الذي يحب هذه الأجواء، وقد ساعد الذكاء الصناعي في تجسيدها، لخلق هذه الأجواء واختزال الوقت وتصحيح الألوان، لهذا كانت الأخطاء البصرية -لا التاريخية- قليلة، لا سيما في تدرج الألوان ومنطلقات الإبهار.

يعكس فيلم “المصارع 2” الحداثة السينمائية من جانبها البصري، أما باقي التفاصيل فقد جاءت تقليدية، لكنها مثيرة ومشوقة ومهمة، استطاعت أن تستحوذ على فعل المشاهدة.

ومن جهة ثانية كشف “ريدلي سكوت” أحد وجوه روما الوحشية، تلك التي كانت تجرد الإنسان من إنسانيته، وتجعله أداة للتسلية والترفيه والعقاب، وقد تجسد ذلك في مشاهد العنف والدم الكثيرة التي جاء بها الفيلم.

لكن لا يمكن التغاضي عن الأخطاء التاريخية الجسيمة التي جاءت في الفيلم، ولا يمكن التأكيد ولا النفي حول مدى تعمدها، أو إن كانت عن طريق التسرع والأخطاء وعدم التمحيص، لكن الأكيد هو أن المعلومة الصحيحة يمكن الوصول لها بسرعة وبكبسة زر.

 

الجزيرة الوثائقية في

20.01.2025

 
 
 
 
 

هل كان بوب ديلان على علاقة بـ جوان بايز؟ فيلم A Complete Unknown يجيب

لميس محمد

يركز جزء كبير من فيلم A Complete Unknown على العلاقة الرومانسية الناشئة بين النجمان بوب ديلان وجوان بايز، والتي بدأت بعد وقت قصير من وصول الأول إلى قرية جرينتش في مدينة نيويورك عام 1961.

التقيا الثنائى بوب ديلان وجوان بايز لأول مرة في Gerde's Folk City في أبريل من ذلك العام، وبحلول ذلك الوقت كانت بايز قد ترسخت بالفعل باعتبارها "ملكة الفولكلور" بعد إصدار ألبومها الأول الذي يحمل اسمها في العام السابق.

وأشارت التقارير إلى أنها لم تكن معجبة بـ ديلان في البداية، لكنها أعجبت بأغنية "Song To Woody"، التي طرحت في ألبومه الأول الذي يحمل اسمه عام 1962.

استمرت علاقتهما بشكل متقطع على مدى السنوات الثلاث التالية، حيث دعت بايز ديلان للعب معها في مهرجان نيوبورت الشعبي عام 1963، وكان ذلك بمثابة أول سلسلة من الثنائيات البارزة بين الاثنين خلال تلك الفترة.

بحلول وقت جولة ديلان في المملكة المتحدة عام 1965، بدأت العلاقة في الانهيار، كما تم تصويرها في الفيلم الوثائقي الشهير Don't Look Back للمخرج D.A. Pennebaker، ووصفت بايز النهاية المفاجئة للعلاقة الرومانسية بأنها "مفجعة".

على الرغم من انتهاء علاقتهما، استمر الاثنان في التعاون، بما في ذلك خلال جولة ديلان Rolling Thunder Revue في عامي 1975 و1976، والتي تم تصوير جزء منها فى الفيديو وتم تضمينه لاحقًا في الفيلم الوثائقي للمخرج العالمى مارتن سكورسيزي عام 2019.

أما في فيلم وثائقي عام 2023، أشارت بايز إلى علاقتها الرومانسية مع ديلان بأنها "محبطة تمامًا"، مشيرة إلى أنه على الرغم من أنها سامحتهما، إلا أنهما لم يعودا على اتصال.

 

اليوم السابع المصرية في

20.01.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004