لا أحد يستطيع أن يجمع بين الكيتش والجمال والرعب النابع من
سواد النفس البشرية مثل ديفيد لينش (1946 – 2025). يبني أفلامه بين السطح
والعمق، بين النصوع والظلام، وهنا جانبه الأكثر قتامة وتعبيريةً في ثنائية
سينمائية بين الشكل والمضمون، وفيلمه الطويل الرابع «مخمل أزرق»
(1986
– Blue velvet)،
خير دليل على ذلك.
تجذبك الدقائق الأولى بشكل مثالي، يُفتتح الشريط بستارة
مخملية زرقاء وحروف بيضاء باروكية، ثم، مثل القصص الفاخرة، نرى تسلسلاً لا
تشوبه شائبة من المشاهد المليئة بالسماء الزرقاء وزقزقة الطيور والأشخاص
ذوي المظهر الودود والمنازل ذات الحدائق. يبدأ الفيلم بشكل ملوّن ومنظم، في
بلدة أميركية نموذجية صغيرة، حيث الزهور الحمراء وصفوف المنازل الصغيرة،
والأطفال الذين يعبرون الشارع بأمان، ورجل يسقي الحديقة، ورجال الإطفاء
يلوّحون لنا، بينما نسمع صوت بوبي فينتون يغني «بلو فيلفيت». تقطع كل هذا،
ضربة غير متوقعة: تتخذ الكاميرا على الفور وضعها المتعرج، وتعرض الأدلة
التي تشكل المشهد وتؤكد على النوبة القلبية التي تعرض لها الرجل الذي يسقي
الحديقة، ومن الخرطوم الملتف، والطفل والكلب، تسحبنا الكاميرا إلى الأرض،
إلى الخنافس التي تلتهم بعضها البعض في العشب، لتخترق الأعماق الأكثر
كثافةً. ومن هنا يبدأ الجنون غير الطبيعي والمقلق الذي نشهده في الساعتين
التاليتين.
إنّ الرجل الذي يرقد على العشب بعد نوبته القلبية، هو والد
جيفري (كايل مكلوكلن). بعد عودته من زيارة روتينية أخرى لوالده في
المستشفى، يجد جيفري أذناً بشرية في وسط غابة بالقرب من منزله. كمواطن صالح
يأخذ هذا الدليل إلى محقق شرطة صديق لوالده، لكن الشاب يشعر بالفضول، فيقرر
التحقيق بما جرى لصاحب هذه الأذن بمساعدة ساندي (لورا ديرن)، ابنة المحقق.
سيزداد فضوله عندما تقوده الأذن الغامضة إلى لقاء المعنية الجميلة دوروثي
(إيزابيلا روسوليني)، امرأة يعذبها أحد أخطر المجرمين في المدينة. بعد
اختطاف ابنها وزوجها على يد فرانك (دينيس هوبر)، تضطر دوروثي إلى إشباع أشد
رغبات هذه الشخصية الشريرة ظلاماً، الأمر الذي يتوج بالكثير من الإثارة
الجنسية والسادية والمازوخية والعقد الأمومية. ومن اللحظة الذي يقرر فيها
جيفري الغوص أكثر في حياة دوروثي، يبدأ الفيلم في التحول إلى قصة مظلمة لا
نهاية لها.
ثيمة الجريمة واحدة من الثيمات المفضّلة للينش، وهنا اتخذ
أكثر أشكاله كلاسيكية، وهو التدرج من دليل إلى دليل. هذه قصة ذات جوهر نوار
(Noir)،
كلاسيكية بالمعنى السردي للحبكة، تؤدي إلى لغز يسعى البطل إلى حلّه،
واكتشاف أشياء لا ينبغي له أن يكتشفها، بسبب موجة الفضول والرغبة والمتعة
التي غمرته. وهي ما بعد حداثية، بسبب المفاجآت والانحرافات المعبّر عنها في
الخط السردي وشكليته العالية، من خلال مسارات بصرية متعرّجة، تؤثر فينا
مثلما أثّرت الحكايات الخرافية فينا عندما كنا صغاراً، حيث زرعت بذوراً
تبدو بسيطة وازدهرت في ظلال لا نهاية له من الليل.
«مخمل
أزرق» فريد، منحرف وجريء، يلتقط أبعاد العالم بين الواقع الظاهر والواقع
الجوفي. تتخطى لوحة الألوان المكثفة ونوتات الأوكسترا الهوليوودية القديمة
بارتعاشاتها السمفونية المورقة (موسيقى أنجيلو بادالامنتي)، والزخارف
البصرية، حدود الواقعية إلى فضاء بلا علامات إرشادية يزيدنا إرباكاً كلما
طالت مدة بقائنا فيه. يفتح لنا الفيلم جميع الأبواب النفسية والرمزية
لقبوله كقطعة حنين، مع تفاصيل من فيلم «ساحر أوز»
(1936 – The Wizard of Oz)،
متشابكة مع الجنس والأحلام والميلودراما والصدمة، ولغة سينمائية تحرّضنا
على كسر ما هو جليّ، لدخول عالم من الألغاز والغرابة. تكرار أغنية «بلو
فيلفيت»، بالإضافة إلى حضور أغنية روي أوربيسون «إن دريمز»
(In Dreams)،
وظهور أنجيلو بادالامانتي في الفيلم كإحدى الشخصيات تؤكد على أن كل شيء
عبارة عن مهزلة داخل مهزلة، مغلقة مثل دائرة، سواء في تكرار اللقطات التي
شوهدت في البداية أو في عودة الستار الأزرق المخملي، الذي غمره الزيف
واليأس الآن.
استطاع لينش أن يطّبق الرموز التي يُسهل تأويلها، على أسلوب
درامي أكثر استهلاكاً وأكثر تقليدية. يتناسب الجو المشؤوم والكئيب تماماً
مع الرفاهية السطحية والفكاهة السوداء اللافتة أحياناً. مزح لينش السخرية
والرومانسية والجنس والرعب والإثارة، مهما بدت هذه منفصلة وغير متجانسة.
نجد القليل من كلّ منها، لكن لا أحد يطغى على الآخر، فهي تتلاءم بجانب
بعضها البعض بشكل متناقض. كما يظهر منطق الحلم هنا أيضاً، وإن لفترة قصيرة،
في شكل لا يزال قابلاً للتحديد.
يصور ليش كل هذا بهدوء شديد وسلاسة، حيث ينقل مزاج المشهد،
في كلمتين أو ثلاث فقط. لاءم لينش ايضاً أفلاماً ومخرجين بشكل متناقض، يأتي
ألفريد هيتشكوك في القمّة، وهو المخرج الذي يُعجب به لينش، وخاصة فيلم
«النافذة الخلفية»
(1954 – Rear Window)،
الذي يتردد صداه في موضوع التلصص، أو فيلم «فيرتيغو»
(1958 – Vertigo)،
بهواجسه وانكسارات الهوية والغموض. كما كان لويس بونويل، والسوريالية، مصدر
إلهام بطبيعة الحال، من الأذن المقطوعة المغطاة بالنمل، والعين المشروطة
واليد المغطاة بالنمل أيضًا في فيلم «كلب أندلسي»
(1929 – Un Chien Andalou)…
كلها جزء من نفس الكون النبضي والعضوي. كما كان كينيث أنغر بدوره أول من
استخدم أغنية «بلو فيلفيت» في فيلم
«Scorpio Rising» (1964)،
الذي يحتوي على عالم رمزي يتكشف وفقًا لمنطق الأحلام والاثارة الجنسية.
يتوازن «مخمل أزرق» في عالم غير مستقر، ويطل من خلال
الستائر والخزائن، وينفتح على الجانب المظلم من البشر، ويبلغ ذروة العنف
والرومانسية، ويزيد حجم المشاعر. تتجول الشموع المشتعلة، والآذان، وأصداء
الأشباح، والتشوهات، والأصوات (أصوات لا تنسى لمصمم الصوت آلان سبليت، الذي
يُهدى إليه الفيلم)، عبر ذاكرة الفيلم والمشاهد، ويعيش بين الكابوس والحلم.
وبين الواقع المغطى بالمخمل الأزرق، والأبيض الساطع، والأسود الخانق،
والأحمر العنيف، والبني الغامق، والأخضر اللاذع، يبدو الوقت كأنه يتجمد مع
مرور الألوان. |