ملفات خاصة

 
 
 

رحيل ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة

ناهضته هوليوود ونقادها ثم أحبوه

بالم سبرينغز كاليفورنيامحمد رُضا

عن رحيل المخرج العبقري

ديفيد لينش

   
 
 
 
 
 
 

قبل نحو أسبوع من وفاته، اضطر المخرج ديڤيد لينش إلى مغادرة منزله الواقع على أحد مشارف «هوليوود هيلز» في لوس أنجليس. أُمِر، كآخرين، بمغادرة منزله قبل وصول النيران إليها التي ما أن وصلت حتى حرقت الأثاث والحاجيات و... الذاكرة.

هل مات حسرة على ما احترق من أرشيفات وأفلام ولوحات ونوتات موسيقية كتبها؟ أم أن جسمه لم يتحمّل معاناة الحياة بسبب تعرضه لـ«كورونا» قبل سنوات، ويُقال إنها تركت آثارها عليه؟ ربما الناحيتان، لكن بالتأكيد لم يكن سعيداً وهو يهجر بيتاً هادئاً معبّق بأعماله ويقع وسط غابة من الأشجار العالية اعتاد لينش أن يجول فيها حباً بالطبيعة.

انتقل لينش إلى جبال هوليوود هيلز قبل نحو 20 سنة عندما قرر أنه يريد العزلة عن مدينة لوس أنجليس الصاخبة. لم يكن من المخرجين الذين ينتقلون من استديو إلى آخر ليقبل ما يعرض عليه ولا بحثاً عن عمل. أفلامه في هذا الزمن المليء بأفلام الفصول والأجزاء لم تعد مقبولة ولا كان في وارد البحث عمن ينتجها له. ليس إنه الوحيد بين المخرجين المستقلين الفعليين الذين أنجزوا أعمالهم البديعة في فترة سابقة كانت أكثر ترحيباً بأعمالهم، لكنه من أكثرهم انفراداً فنياً وكأسلوب كتابة وعمل.

تبرهن أفلامه على ذلك منذ أول عمل له وهو «إرازرهَد» (Eraserhead) في 1977 وحتى آخر فيلم طويل له وهو «إمبراطورية داخلية» (Inland Empire) في 2006. ما بينهما ثمانية أفلام أخرى فقط عكست موهبة نادرة ورؤية فنية خاصة.

رحلات

وُلد لينش في بلدة في ولاية مونتانا اسمها ميسولا سنة 1946، لكنه ترعرع حيثما استقر والداه للعمل. عاش في ولايات فرجينيا وأيداهو ونورث كارولاينا وواشنطن قبل أن ينتقل للعمل والعيش في لوس أنجليس سنة 1970.

في عام 1967 أنجز فيلمه القصير الأول Six Men Getting Sick. ذلك الفيلم، لمن تتاح له مشاهدته اليوم، فيه كل بذور وجذور الأسلوب الفني للمخرج لينش. تبع ذلك بعدد كبير من الأفلام القصيرة وصولاً، سنة 1977، إلى أول فيلم طويل له وهو Eraserhead.

هذا الفيلم وضعه، ولو بعد سنوات من عروضه الأولى، على قائمة أهم المواهب الجديدة في تلك الفترة. دراما من الهواجس التي تحمل سمة أفلام الرعب، لكنها تنحو إلى ما وراءها. إلى التجريب من ناحية وإنتاج عمل غير سهل التوصيف من ناحية أخرى من حيث إنه يحمل هاجساً هائماً من الصعب التعبير عنه. «إرازرهَد»: شخص يعمل في منطقة صناعية ملوّثة ويؤم بيت صديقته القشيب وهي أم طفل يصرخ، بلا توقف، من ألم مبرح أو حاجة غير معروفة. من المحتمل أن يكون هذا الطفل وُلد مشوّهاً أو ربما هو ليس بشراً في الأصل. تنتقل الأم مع طفلها إلى منزل صديقها، لكنها ستغادره بسبب غرابة تصرّفاته وهواجسه.

في الواقع كل شيء في هذا الفيلم الذي صوّره بالأبيض والأسود عبارة عن هواجس وكوابيس في رحلة رجل ربما كان يبحث عن معنى لحياته التي تشابه الأماكن المعتمة والفقيرة الحالكة التي نراه فيها. هذا فيلم رعب في الأساس مع مشاهد سوريالية. لكن لينش يمتنع عن اختيار مشاهد دون أخرى لإحداث صدمة. على العكس يحقق هذا الفيلم صدمة واحدة طويلة. التصوير بالأبيض والأسود يتناغم مع كل معطيات الفيلم وغاياته مساهماً في خلق صورة موحشة. على ذلك هناك فن في كل ما نراه. إنه ليس مجرد فيلم قاتم وكابوسي لأجل أن يكون كذلك، بل هو تفعيل خاص لرؤية سوريالية كما قد يعمد إليها رسّام ينتمي لعصر ما بعد الحداثة.

تكلّف الفيلم 100 ألف دولار وجلب من عروضه الليلية (إذ لم يتم اعتباره عملاً يستقطب جمهور الحفلات العادية) 7 ملايين دولار. السمعة التي ساعدت انتشاره هي غرابته، لكن هذه الغرابة لم تقنع كثيرين من نقاد ذلك الحين بأنها تشاهد فيلماً يعلن ولادة موهبة.

كتبت عنه صحيفة «النيويورك تايمز» (بعد ثلاث سنوات من عرضه!) بأنه ليس فيلم رعب، بل «فيلم مُطوّل». مجلة «ڤارايتي» وجدته «تجربة ذات ذوق مريض». لعل ناقد «ذَ هوليوود ريبورتر» جوردَن مينتزر أصاب الهدف قبل يومين عندما كتب في رثاء لينش: «إنه كما لو أن لينش لمس شيئاً أراد الجمهور مشاهدته بما فيه من غرائب».

المؤكد، والذي فات معظم النقاد حينها، أنه لم يعمد إلى منوال قصّة يستطيع كثيرون استخدامها لشرح الفيلم.

موعد مع النجاح

لم تعترف هوليوود بنجاح «إرازرهَد» ولم تكترث لإيراد تصرفه في أسبوع تصوير واحد لأحد أفلامها المتوسطة الحجم. ما أنقذ وضعه هو أن أحد منتجي شركة «مل بروكس» المستقلة، واسمه ستيوَرت كورنفلد كان شاهد «إرازرهَد» وخرج منه متيّماً. عُرض على لينش بضعة مشاريع اختار المخرج منها «رجل الفيل» (The Elephant Man) الذي تناول حكاية حقيقية وقعت في لندن عند مطلع القرن التاسع عشر مفادها حالة رجل مشوّه الوجه بفم يتدلى منه ما يشبه خرطوماً صغيراً اسمه ميريك (جون هْرْت). وجده جرّاح شاب (أنطوني هوبكنز) في إعلان نشره سيرك يدعو الناس لمشاهدة «الرجل الفيل». يأخذ الجراح ذلك الرجل ويضعه في مستشفى خاص لمعالجته، لكن أحد الممرضين يجد طريقة لجني بعض المال عن طريق عرض المريض على من يدفع مقابل زيارته. هذا يسيء حالة المريض فيهرب من المستشفى إلى السيرك، حيث يتحول أحد أنجح استعراضاته.

نال «رجل الفيل» ترشيحاً لأوسكار أفضل فيلم ونال لينش ترشيحاً آخر كأفضل مخرج وحظي الممثل البريطاني جون هَرْت بالترشح أفضل ممثل (ذهبت جائزة أفضل فيلم إلى «أناس عاديون» لروبرت ردفورد الذي نال كذلك أوسكار أفضل مخرج، بينما استلم روبرت دِ نيرو أوسكار أفضل ممثل عن «ثور هائج»، Raging Bull).

خط مستقيم

تغيّر الوضع بالنسبة للينش فأسندت هوليوود إليه تحقيق Dune عن رواية فرانك هربرت الضخمة سنة 1984. لكن قبل ذلك اقترح جورج لوكاس على لينش إخراج الجزء الثالث من «ستار وورز»، لكن لينش اعتذر.

كان هذا أوج تعامل لينش مع المؤسسة الهوليوودية. ليس إنها لم تعمد لتوزيع بعض أفلامه اللاحقة، إلا أن «كثبان» انتمى (كالسلسلة الحالية) إلى الإنتاجات الضخمة ولو بأسلوب وطريقة تنفيذ لينش.

كان من المفترض أن ينجز لينش جزءاً ثانياً من هذا الفيلم، لكن ذلك لم يتحقق لأن الفيلم لم يحقق نجاحاً. عوض ذلك أمّ لينش أحد أعماله التي تنتمي إلى عالمه بشكل كامل وهو فيلم «مخمل أزرق» (Blue Velvet): هناك عنف وقسوة في مشاهد هذا الفيلم، لكن ضمن معالجة لحكاية تسيطر عليها الشخصيات المتناقضة. قام بالبطولة كايل مكلاكلن (الذي ظهر في أفلام لينش السابقة) ودنيس هوبر ولورا ديرن وإيزابيللا روسيلليني.

مع هذا الفيلم لم يعد هناك من نقد معارض بالحجم السابق. من تلك النقطة وما بعد سبحت أعماله في مياه عذبة واعتبر النقاد حول العالم لينش أحد أفضل عباقرة السينما في الثمانينات وما بعد.

لم يتخلّف لينش عن تحقيق المزيد من الانتصارات الفنية، فأخرج «متوحش في القلب» (Wild At Heart) و«توين بيكس: النار امشي بجانبي» Me)و«الطريق المفقودة» و«حكايةسترايت» ثم «مولهولاند درايف» Mulholand Drive (2001) وهو أحد أهم إنجازاته. حكاية لغزية أخرى تقع أحداثها ليس بعيداً عن تلال هوليوود التي عاش فيها من بطولة ناوومي ووتس ولورا هارينغ في تعارف غير متوقع ورحلتين مختلفتين.

أفلام لينش ليست لمحبي السرد السريع أو التقليدي. لجانب ما يتخلل حكاياتها من مفارقات غير متوقعة وما تتضمنه من شخصيات غريبة، هناك الرؤية الخاصة به التي يمارسها كما يرغب وهو الذي يؤمن بأن على المخرج تحقيق ما في ذاته من رؤى وأفكار بالطريقة التي يشعر بها.

فيلم واحد له خرج من هذا التقليد، لكن من دون أن يتخلى لينش عن رؤاه وهو «قصة سترايت» (The Straight Story) بطل الفيلم (العجوز ربتشارد فارنسوورث) الذي يركب «تراكتور» زراعياً لينقله من ولاية إلى أخرى لزيارة شقيقه المريض. المسافة تبلغ 300 كلم متر وسرعة التراكتور 2 كلم في الساعة.

الرجل اسمه سترايت، لكن الكلمة تعني أيضاً «مستقيم» و«أمين» والفيلم كذلك يُشاهد مثل كحكاية مستقيمة بلا اعوجاج، لكنها تنتمي «بأمانة» إلى فن مخرجها.

 

الشرق الأوسط في

17.01.2025

 
 
 
 
 

"المعلم" ديفيد لينتش صنع سينما جديدة بالأحلام والكوابيس

صاحب "الرجل الفيل" عاش على كوكبه الخاص وصنع 10 أفلام تجمع بين التجريب والتمرد والإرباك

هوفيك حبشيان 

ملخص

مع رحيل المخرج الأميركي ديفيد لينتش عن 79 سنة، تودع الشاشة أحد الذين أدخلوها في حقبة ما بعد الحداثة. إنه من الذين قدموا حفنة من الأعمال السينمائية (10 أفلام روائية طويلة في المحصلة)، ولكن كانت كافية لتغيير قواعد اللعبة.

خلال العقدين الأخيرين انسحب ديفيد لينتش من المشهد السينمائي، مكتفياً بالظهور على الإنترنت وبعض التكريمات هنا وهناك، ما عدا عودته إلى مهرجان "كان" بمسلسل "توين بيكس" قبل سبعة أعوام، وكأنما كان يراقب العالم من بعيد، منتظراً اللحظة المناسبة للعودة. قيل إنه واجه صعوبات لتمويل الفيلم الذي كان ينوي إنجازه، ولكن في الواقع هل كان ينوي العودة فعلاً؟ ربما خاب ظنه أيضاً بعدما كان تنبأ أن البشر سيكونون في وضع أفضل بعد جائحة كورونا والدروس المستخلصة منها، وهو ما لم يحدث في طبيعة الحال.

كان لينتش من معلمي الصورة والصوت، العنصرين اللذين يتشكل منهما فن الشاشة الذي أعاده أحياناً إلى ينبوعه متسائلاً عن احتمالاته. كأي فنان كبير، ترك إرثاً يحثنا على رؤية العالم بعيون مختلفة. عاش على كوكبه الخاص، كوكب صنعه من الأحلام والكوابيس، حيث الجمال والقبح يرقصان يداً بيد في انسجام غريب. أفلامه دعوة إلى الإقامة على هذا الكوكب، حيث الغرائز والخيال والرموز تقود المشاهد في رحلة تفكيك أسرار الوجود بلغة بصرية شكلت علامة هذا الفنان الطليعي. 

صحيح أنه ذاع صيته كمخرج أفلام استثنائية، لكنه كان فناناً متعدداً: كاتباً ومنتجاً ومصوراً، وحتى موسيقياً ونحاتاً. لم يكتف بالسينما التقليدية، بل تجاوزها ليخلق عوالم متكاملة معتمداً على مخيلة لا تنضب. تعامل مع الفيلم كما يتعامل النحات مع الحجر، يشكله ويعيد صياغته حتى يشبه جسماً غريباً لا نألفه. يمكن القول إنه عاش على حافة الواقع، ملتقطاً منه ما يخدم رؤيته. غيابه لم يترك فراغاً فحسب، بل طرح سؤالاً: من يجرؤ على السير في الظلال التي تركها خلفه؟

متاهة البساطة

كل واحدة من تجاربه السينمائية حملته إلى بقعة معينة، حيث البساطة تحولت إلى متاهة، أما الزمن والحقيقة فمواد خام يعمل عليها. لم ينشغل كثيراً بالتفسيرات أو الرموز الواضحة، كل ما أراده هو خلق تجربة حسية بصرية تربك وتستفز. ما يميزه قدرته على استدعاء النفس البشرية في حالاتها الأكثر اضطراباً. شخصياته لم تكن تسعى إلى الشرح أو التبرير، إنما تمثل انعكاساً للإنسان في لحظات التناقض والتدمير الذاتي. كانت أفلامه حقل تجارب متواصلة. 

في البدء، لم تكن السينما خياره الأول، بل أراد أن يكون رساماً. بينما كان أبناء جيله يعيشون في شغف السينما الكلاسيكية، فضل هو الانشغال بمراقبة العالم الطبيعي حوله. علاقته بالسينما تعززت لاحقاً، عندما درس في معهد الفنون، وهناك وقع تحت سحر "ساعة الذئب" لإنغمار برغمان. وسرعان ما اكتشف أن الرسم وحده لا يكفي لنقل تجربة الحياة بكامل حواسها. هذا الإدراك دفعه إلى السينما التي تتيح مزج الصور بالأصوات في تجربة متكاملة. 

في عام 1976 قدم أول أفلامه الروائية الطويلة في عنوان "رأس ممحاة"، الذي لم تتجاوز موازنته آنذاك 10 آلاف دولار، وكان في جوهره عملاً فنياً انقلابياً. لم يكن مجرد فيلم عادي، بل وثيقة تعبيرية عن لجوء فنان إلى الغرابة، بحثاً عن المعنى في عالم يشوبه التشويه والاضطراب. حتى لو افترضنا أنه لم ينجز سواه، فهذا العمل يكفيه ليضعه في مصاف كبار السينمائيين. القصة: رجل عادي يتحول عالمه إلى كابوس بعد ولادة طفل مشوه له، مما يعكس نظرة لينتش العميقة إلى مفهوم الحياة وحقيقة ما يجري في دواخلنا من قلق وتهتك. في لحظة ما نرى مشهد تحلل جثة الجنين بطريقة واقعية مروعة، وهو ما يعكس أسلوب لينتش في تجسيد أقصى درجات الهلع بدم بارد. إذا أردنا أن نفهم تأثير لينتش، فيجب أن ننظر إلى "رأس ممحاة" باعتباره نقطة انطلاقته الفنية المدوية، إذ جمع بين التجريب والتمرد على السرد التقليدي، ليخلق عالمه الخاص الذي لا يشبه أي شيء آخر في تاريخ الفن السابع.

القبح الجميل

في "الرجل الفيل" (1980) تجاوز لينتش الآفاق التي وضعها في باكورته، علماً أنه لم يتبع المسار نفسه. لم يكن امتداداً لفيلمه السابق، بل قفزة في اتجاه جديد تماماً. معالجة قصة الرجل المشوه، جون ميريك، كانت تتطلب مخرجاً من قماشته يملك القدرة على استكشاف تلك الأعماق، وبدا لينتش الأقدر على أفلمة قضية هذا المسخ الذي صدم الرأي العام في إنجلترا الفيكتورية. الفيلم مليء بالتيمات التي أصبحت تعرف عن لينتش، مثل الهوية والتشويش، وقد ظهرت هذه المواضيع بأبهى صورها من خلال مشهدية مدير التصوير فريدي فرنسيس الذي أضفى أجواء معتمة تعزز من شعور الضيق والاضطراب.

هذا النجاح دفعه إلى تحد جديد مع اقتباس واحد من أشهر أعمال الخيال العلمي، "كثيب" لفرانك هربرت. لكن النتيجة كانت كارثية: فشل جماهيري ذريع واستقبال نقدي غير جيد، على رغم الموازنة الضخمة التي وظفت في نقله إلى الشاشة. لكن، مع فيلمه التالي، "مخمل أزرق" (1986)، عاد ليبرز من جديد. هذا الفيلم لم يكن مجرد استعادة للثقة، بل بوصلة توجه جديد له. أثناء رحلة إلى كارولاينا الجنوبية، يكتشف بطل الفيلم جفري أمراً يغير مجرى حياته، ليدخل في عالم مليء بالغموض. الأجواء التي كثيراً ما ميزت أفلامه كانت حاضرة بقوة هنا: التلاعب بالنفوس، الميول الغريبة والغموض المحيط بالشخصيات. حمل الفيلم إشارة واضحة إلى سينما الأربعينيات، لا سيما ما يعرف بـ"الفيلم النوار"، إذ قدم تحية خاصة لهذه الحقبة، بما فيها من غموض وإثارة.

في بداية التسعينيات قرر لينتش خوض غمار التلفزيون بمسلسل "توين بيكس"، الذي أعاد صياغة مفهوم الجريمة والغموض. تدور القصة على قضية مقتل لورا بالمر وملابساتها، لكن مع تطور الحبكة، تحول المسلسل إلى ظاهرة تتجاوز حدود الشاشة الصغيرة. أصبح "توين بيكس" ابتكاراً فنياً غير مسبوق على مستوى سرد الزمن. وعلى رغم تعقيد الحبكة وتشابك الأحداث، حمله الجمهور على الراحات، حتى قرر لينتش تحويله إلى فيلم سينمائي في عام 1992، مستلهماً أسلوب كبار المخرجين مثل هيتشكوك.

صخب وتمرد

في عام 1990 أهدى لينتش السينما "وايلد أت هارت"، فيلم كله صخب وتمرد، ظفر بـ"السعفة الذهبية" في مهرجان "كان"، من دون أن يحقق أي إجماع نقدي. يمزج الفيلم بين المخدرات والموسيقى الصاخبة والجنس ليخلق تجربة سينمائية متطرفة. هذا المزيج بين الحياة والموت ينطوي على تصورات عميقة عن الوجود ويحمل بصمة فنية تستحق إعادة التقييم.

ثم شاهدنا له "الأوتوستراد الضائع" (1996)، الذي يعد قمة من قمم سينما لينتش المعقدة والغامضة. كان هذا الفيلم بمنزلة رحلة ذهنية متشابكة. تجنب المخرج كل ما هو تقليدي، فقدم نوعاً من التحليل النفسي المكثف للمشاعر الإنسانية، وذلك من خلال قصة زوجين يتلقيان شرائط غامضة ترصد حياتهما الخاصة، مما يشكل نقطة انطلاق لتساؤلات أعمق. 

أما فيلم "قصة مستقيمة" (1999)، فأدخل لينتش في مزاج مختلف. تميز هذا العمل ببساطته النسبية مقارنة بأعماله السابقة، غير أنه تضمن طبقات من التعقيد في مستواه الأعمق. يرينا الفيلم رحلة رجل مسن لزيارة شقيقه بعد خصام طويل، فيكشف عن مشاعر مختلطة من الحب والندم. وعلى رغم كونه أكثر أعماله رقة ونبذاً للغموض، فقد اعتبره لينتش تحدياً فنياً صارخاً. اعتمد الأسلوب البسيط ليرتكب ما يعد واحدة من أروع لحظات السينما المشغولة بالأحاسيس.

في عام 2001 أعاد ديفيد لينتش التعريف عن نفسه مع "مولهولند درايف"، تحفته المشبعة بالغموض التي لا يمكن تجاهلها. يبدأ الفيلم بمشهد امرأة تنجو من حادثة مروعة تعصف بحياتها، وسط جو من الضياع التام. بدلاً من تقديم المدينة كمكان مثالي، حول لينتش لوس أنجليس إلى مشهد مشوش وغريب، كاشفاً عن وجهها الآخر الذي خلف الأضواء. الفيلم لا يحكي قصة تقليدية، بل هو دعوة إلى الدخول إلى عالم مليء بالقراءات المجنونة والمفاجآت، حيث لا توجد أجوبة واضحة وصريحة. وضع هذا العمل لينتش في أعلى نقطة من السينما المعاصرة. 

أخيراً في 2006 أطلق لينتش "إمبراطورية إينلاند"، الذي يمكن النظر إليه اليوم كخاتمة مسيرته السينمائية، حتى وإن عاد بعدها بـ18 حلقة جديدة من "توين بيكس". هنا قرر لينتش أن يعيد اكتشاف السينما في ضوء عصر التكنولوجيا والرقمية، ولكن مع لمسته الآثرة التي تمزج الواقع بالخيال وتخترق الحواجز.

مرة جديدة اختار لينتش الابتعاد عن السرد التقليدي، ضارباً عرض الحائط، بالأصول المعمول بها، ومطلقاً العنان لمخيلة رجل لا يزال له كثير من الكلام عن العالم الذي يعيش فيه، ومتوجهاً إلى أسلوب غير خطي، يتنقل بحرية بين لحظات الواقع واللاوعي، ليخلص إلى تجربة سينمائية تستحق الاهتمام.

 

الـ The Independent  في

18.01.2025

 
 
 
 
 

هكذا أفضل يا ديفيد!

محمد الظاهري

الرثاء هو تأبين من لا إرث له ولا أثر. والعظماء ترحل أجسادهم وتبقى أثارهم تحكي مآثرهم. مضى ما يزيد على العقدين منذ آخر مقالة كتبتها بمناسبة رحيل أحد أرباب السينما وأقطابها. كان ذلك بمناسبة رحيل المخرج الأمريكي العظيم روبرت التمان. وقبل يومين غادرنا وبشكل مفاجئ ودون سابق إنذار الأمريكي الآخر ديفيد لينش عن عمر ناهز الثامنة والسبعين.  وما يجمع بين الأسطورتين أكثر مما يفرقهما

قبل رحيل الأول بسنوات معدودة تقابل الاثنان لأول مرة في حفل مسابقة الأوسكار، حيث رُشحا لجائزة أفضل مخرج لعام 2002: التمان عن فيلمه «حديقة جوسفورد» Gosford Park، ولينش عن فيلمه «طريق مولهولاند» Mulholland Drive. تحفتان سينمائيتان جسدتا بزهو وتسامي نضج تجربتين سينمائيتين احتفظت كل منهما بخصوصية متفردة وانبثقت عنهما مدرستان متعاليتان ستبقى محل الدراسة والتأمل والإحالة والاتباع من قبل محبي السينما والمريدين ما بقيت السينما. وكما هو المعتاد لم ينل الجائزة أيا منهما، وعوضًا عن ذلك منحت لمخرج دونهما من حيث المستوى والتأثير وفيلم أقل جدارة من فيلميهما. ابتسم حينها التمان وقام من مقعده وتقدم نحو لينش الذي كان يصغره بعشرين سنة محتضنًا إياه وهمس في أذنيه «هكذا أفضل، يا ديفيد

نعم! هكذا أفضل. فالإرث السينمائي الذي نحته لينش بتأني طوال نصف قرن، كإرث من سبقوه من الأباطرة غير المتوجين كألفريد هتشكوك وأورسن ويلز، وستانلي كوبريك، وسيدني لوميت، لا تختزله أكاليل الذهب اللامعة ولا خطب المحافل الرنانة ولا مقالة كهذه المقالة. كما أن صيغ المفاضلة والتفضيل التي نركن لها للإفصاح عن إعجابنا بسينما لينش لا تعكس الثراء المعرفي والفني والبعد الفلسفي لهذا الإرث. فهناك لينش السينما والصورة التي نتماهى معها على الشاشة وتنقلنا إلى عالم من الغرائبيات والعجائبيات، وهناك لينش الفنان الذي يوجه وينظر، ويحتد ويستكين، ويفصح ويكتم، ويلقى بين فينة وأخرى سرًا من أسرار تعاليمه على مريديه ومحبيه، وهناك لينش الإنسان الذي خاض تجربه روحانية عرفانية منذ فترة مبكرة من شبابه كان لها التأثير الأكبر على عالم الأحلام والخيال التي ابتدعته مخيلته.

توصف سينما لينش بأنها سينما سريالية، ويشار إلى لينش نفسه بأنه فنان سريالي ملتزم. ولكن في ذلك أيضًا تحجيم للأثر الذي تركه لينش على هذا اللون. فلينش لم يكن فنانًا بارعًا وحسب، وإنما صاحب رؤية تجديدية ومؤسس لمدرسة استطاعت أن تنقل السريالية إلى مساحات فلسفية وتعبيرية جديدة. مما لا شك فيه أن لويس بونويل (توفي عام ١٩٨٣) هو الأب الروحي والمرجعية الأولى للسريالية في السينما، ولا ريب أن بونويل ورفاق جيله كجان كوكتو ومايا ديرين وجوزيف كورنيل تبنوا بإخلاص المبادئ السريالية التي أسس لها ونادى بها أندريه برتون مطلع القرن العشرين، والتي تمحورت حول مركزية عالم الأحلام واللاوعي، وقدرة الفنون، لا العلوم، في الكشف عن جوهر الواقع اللاعقلانية وعبثية الحياة وغياب المعنى

وتمكن أولئك الطليعيون ببراعة من الكشف عن الإمكانات التعبيرية الهائلة للفيلم والصور المتحركة ومنح المفهوم السريالي حركة وديناميكية كانت تفتقر لها الفنون الأخرى كالأدب والتشكيل والنحت. إلا أن السريالية، كواحدة من أبرز مظاهر المشروع الحداثي، بدأت تفقد رونقها وتأثيرها وجاذبيتها في مواجه مفاهيم ونظريات ما بعد الحداثة والثقافة المضادة التي اتخذت موقفا سلبيا تجاه الفنون. إلى أن جاء ديفيد لينش وانتشلها وبث فيها روحًا جديدة نقلتها إلى مناطق جديدة بعيدًا عن جدليات الحداثة.

نشأ ديفيد لينش الفنان وبدأت تتشكل رؤيته الفنية في تلك الحقبة المتوترة في الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي، وتأثر كما تأثر أبناء جيله بالمدارس الصوفية الروحية الشرقية الهندية، التي استطاعت أن تقدم أنظمة فلسفية وفكرية بدلية حول الوعي والعقل، وتوفير سلوكيات تأملية تتجاوز ثنائيات العقل والنفس، والروح والجسد، والحداثة والتراث، والظاهر والباطن، والحقيقة والخيال. ولم يخف لينش تأثره تحديدًا بمدرسة حركة التأمل المتعالي للمعلم العرفاني الهندي مهاريشي يوغي التي كتب عنها كثيرا ولم يتخل عن تعاليمه حتى رحيله. مشروع لينش السينمائي ما هو إلا مشروع مستمر ومترابط للكشف عن مفاهيم فلسفية تجاوزيه جديدة حول الوعي والذات والأنا والغيرية من خلال التطويع والتسخير الممنهج والواعي والمدروس لأدوات سردية تمتاز بها السينما عن سائر الفنون. وهو لأجل ذلك لم يخجل من خوض التجارب والانتقال بين الأجناس والوسائط الفنية والاستعارة والإحالة من هذا وذاك، من الفيلم القصير والوثائقي والتحريك إلى التلفزيون والأغاني المصورة، وذلك لخلق مفهوم أو حالة يستحيل التعبير عنها إلا من خلال السينما.

ويمكن أن نطرح على سبيل المثال لا التحديد توظيفه لتلك العلاقة الغربية والكامنة والخاصة في الفيلم السينمائي بين الشخصية الخيالية في الفيلم وبين شخوص الممثلين والممثلات الحقيقية التي تقوم بتأدية هذه الأدوار وخلق خطٍ موازٍ بين أعماله تتجاوز الحكاية والنص. كما حدث مثلًا في تعاونه مع الممثل الأمريكي كايل ماكلاسلان للعب أدوار متنوعة ومختلفة ظاهريًا في أفلام وأعمال ذات حكايات ونصوص مختلفة شكلًا ونوعا ولكنها تتقاطع في مستويات معنوية خبيئة ومستترة، مثلا المحقق دايل كوبر مثلا في مسلسل «Twin Peaks»، أو جيفري بومونت في فيلم «Blue Velvet»، أو بول آتريديز في فيلم  «Dune». أو في الظهور العابر (كاميو) لشخصيات حقيقة في أفلامه السينمائية وظهورها في أكثر من عمل تفصل بينها سنوات طويلة،  لا تلعب دورًا دلاليًا مباشرا أو مؤثرًا في أحداث الفيلم أو حبكته، وإنما تعمل كنصر ربط وإحالة إلى فيلم آخر ونص سينمائي آخر، كما حدث حينما استعان بالمغنية الأمريكية ريبيكاه ديل ريو لتغني أمام شخصيتي الفيلم الرئيسيتين في فيلم «Mulholland Drive» مرة، وظهرت مرة أخرى لتغني  في نهاية الحلقة 13 في الموسم الأخير من «Twin Peaks» وذلك بعد عشر سنوات من ظهورها في الفيلم.

شخصيات لينش السينمائية وموضعتها في عوالمه وحكاياته لا تبدأ من شارة بداية أفلامه وتنتهي بنهاياتها، أو بعلاقاتها المباشرة مع شخصيات الفيلم، إنما هي شخصيات متصلة وتجاوزيه في ذات الوقت. تجاوزيه بتعاليها على النص والحكاية والحبكة والزمن وثنائيات الأنا والآخر، ومتصلة في علاقتها وأنواتها وذواتها المتوازية والمتداخلة مع شخوص الممثلين الحقيقة من جانب، ومع تقاطعات الشخصيات التي يؤدونها من جانب أخر، والإسقاطات السينمائية الصورية التي تحيل الى أعماله الفنية الأخرى من جانب آخر. هذا هو العالم البيني المتعالي والخلاق الذي تميزت به سريالية لينش عن سريالية السينمائيين الأوائل.

في عام 2006، وبعد أربع سنوات من لقاء المخرجين العظيمين روبرت ألتمان وديفيد لينش منحت الأكاديمية الأمريكية روبرت ألتمان جائزة الأوسكار الفخرية عن مجمل أعماله، وذلك قبل أشهر من رحيل المخرج العظيم.  أما لينش فقد امتثل لحكمة معلمه ورحل دون تكريم … «فهكذا أفضل يا ديفيد».

 

موقع "فاصلة" السعودي في

19.01.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004