أول ما يستوقف المرء في الفنان الراحل أحمد زكي ثلاثة أشياء : لون بشرته
السمراء الداكنة، شعره المفلفل الكثيف، وأخيرا تقاطيع وجهه الدقيقة التي
توحي بالحزن والذكاء والغضب الداخلي. يبدو الفنان أحمد زكي من خارج الكون
السينمائي العربي ... هذا الكون الذي ظلّ يبحث في نجوم السينما عن أشباه
وشبيهات لنجوم وفاتنات هوليوود والغرب. وقد تبدو للبعض ملاحظتنا هذه عرضية
او حتى سطحية، لكن من يتتبع تاريخ السينما المصرية يدرك مدى اهتمام هذه
السينما بالشكل الخارجي وملامح الوسامة والجمال التقليدي في أبطال ونجوم
الشاشة البيضاء. حتى الشخصيات "السوداء" البارزة في التاريخ العربي مثل
"عنترة" و"بلال الحبشي" كانت تسند الى ممثلين بيض، يطلون وجوههم بدهانات
الماكياج. الممثلون والممثلات "السود" في السينما المصرية، احتلوا أدوار
الخدم والبوّابين و"الدادات" بامتياز كما في هوليوود بالضبط.
نسوق هذا الكلام فقط لتذكير القراء وشد انتباههم لصعوبة الطريق الذي شقّه
الفنان الراحل أحمد زكي في سنوات عمره التي لم تتجاوز الستين. وبين نجوم
التمثيل السينمائي في مصر المتميّزين بوسامتهم الملحوظة وأناقتهم الدائمة،
يبدو الفنان أحمد زكي وكأنه واحد من "أولاد الشوارع" – عذراً على هذا
التشبيه. ان ما كرّس هذا الانطباع الأولي هو دوره المتميز في مسرحية "مدرسة
المشاغبين" البرجوازيين، دور اليتيم الفقير الذي يعيّره ناظر المدرسة بفقره
المدقع، وفي نفس المسرحية يردد أحمد زكي عبارة "وضعي مختلف" القاسية
والواقعية أيضا، ربما في اشارة غير متعمّدة لوضعه الواقعي أيضا. لاحقا، في
مسرحية "العيال كبرت"، انتقل الى مرتبة الابن الأكبر العاقل/ المتمرد الذي
يعشق سيدة أرملة أكبر منه سنا، وسط أخوة مجانين مدللين، المهم انه أصبح
فرداً من العائلة. ان تمكّنه من حرفة التمثيل مبكراً، وملامحه الشكلية
المختلفة، قاداه الى أدوار عديدة ومختلفة في السينما والتلفزيون أيضا.
وخلال ثلاثين عاما من عمله في حرفة التمثيل، كرّس أحمد زكي ملامح "فحولة"
مختلفة، خشنة، محسودة، بوقوفه الى جانب أهم فاتنات السينما المصرية ... كما
لو أنه "عطيل" الذي يقود أساطيل مدينة السينما المصرية، ويحظى بأجمل
حسناواتها. لكنه بين جيله من نجوم السينما العربية، كان الأكثر عشقا
والأكثر إخلاصا للفن وللسينما بالتحديد، ولم يتصوّر لنفسه طريقا آخر في
الحياة سوى فن التمثيل.
في سنواته الأخيرة استهوته سينما السيرة الذاتية الى ابعد الحدود وكرّس
نفسه لتجسيد شخصيات مهمة ومثيرة للجدل، مثل الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور
السادات، وأخيرا الفنان عبد الحليم حافظ. لم يتوقف أحمد زكي او يستكين
لشروط مظهره الخارجي في لعب الشخصيات المختلفة، في بعض الأحيان كان يلجا
الى التفسير الداخلي للشخصية، في أحيان أخرى اعتمد على التطابق الشكلي
الخارجي مع الشخصية، وفي معظم الأحيان كان يلجأ الى تقمّص الشخصية التي
يلعبها … لكن من دون ان يستسلم لهذا التقمّص او يسقط في التكرار. في ذهني
كنت أطلق عليه أحيانا اسم "أحمد زكي رستم" رابطاً بينه وبين الفنان العظيم
"زكي رستم"، أحد عمالقة التقمّص في السينما العربية والعالمية أيضا، لكن
أحمد زكي كان أكثر ذكاءاً .... كان يحاول دائما ان يعطي من روحه وذاته
للشخصيات المتنوّعة التي يلعبها على الشاشة. وربما كان أهم ما كان يميّز
أداؤه هو الذكاء والحساسية اللتين يفتقر اليهما معظم نجوم السينما العرب في
عملهم، وليس في حياتهم الشخصية بالطبع. لقد لعب دور تاجر المخدرات، المصور
الفوتوغرافي، مفتش المباحث، بواب العمارة، الصحفي، المعاق بدنيا، الملاكم،
المشعوذ الدجال، ابن الصعيد، ابن المدينة، طالب الجامعة الفقير، مجند الأمن
المركزي الساذج، الوزير الفاسد، السائق، الطبال، المحامي، الجندي، رئيس
الجمهورية، رائد التنوير العربي طه حسين .... كان مهووساً بلعب جميع
الأدوار المختلفة، مندمجا في عمله الفني كأنه في رسالة او عبادة.
في مرضه العضال الأخير ضرب مثلاً رائعا في صموده واستمراره في العمل، وكأنه
في سباق مع الموت القادم لا محالة هذه المرة. انه يعرف الموت جيدا، التقاه
وراوغه سابقا، تحدث عنه كثيرا حتى في وسائل الإعلام. لقد صادفه الموت مبكرا
في بداية السبعينات اثر إصابته بمرض عضال، بينما كان في رعاية الشاعر
الكبير والرسام "صلاح جاهين" عند بداية مشواره الفني في القاهرة. ان موته،
يحيلنا الى موت زوجته السابقة المبكر، الفنانة الرقيقة الجميلة "هالة
فؤاد". وعندما كنت أفكر بالتناقض الظاهري الكبير بينه وبينها على مختلف
المستويات، هالة بجمالها الرقيق الهادىء ... هو بعنفه وحساسيته المفرطة.
تصورت ان الحب سينتصر على كل الاختلافات والتناقضات، لكن هذا الحب،
وبالتالي هذا الزواج، لم يستمر طويلاًً. ان موتها المبكر قبل أكثر من عشرة
أعوام كان صدمة كبيرة له، شوّشت الكثير من مساراته وخططه ومشاريعه في
الحياة والفن.
من مناقب أحمد زكي المهمة، هي احترامه الكبير لنفسه ولفنه ولحياته الشخصية،
قد حاول جاهدا ان يبعد حياته الشخصية عن الأضواء والإعلام وتحمّل الكثير من
سوء الفهم والنقد الجارح جراء ذلك. بالنسبة له، الفنان إنسان عادي في معظم
الأوقات، وما يستحق التغطية الإعلامية والشهرة هي أعمال الفنان وإنجازاته
ليس إلاّ. والمدهش انه لم يكن عنيفا حتى في الدفاع عن أعماله وأدواره
المختلفة، وكان يتقبّل النقد والملاحظات المختلفة ببساطة وأريحية، وهو
المليء بالغضب او العنف الذي كان يتغذّى على جسمه النحيل. بالطبع، ان
ابتعاد أحمد زكي المنهجي عن الأضواء وعن وسائل الإعلام، قد أضر بمكانته بين
الجماهير أحياناً. وفي استفتاء بسيط أجريته بين نساء العائلة وبعض
الصديقات، اكتشفت ان الثلاثي المفضل بين عموم النساء : هم "حسين فهمي، نور
الشريف، محمود ياسين"، ثم يعقبه الثنائي "محمود عبد العزيز وفاروق
الفيشاوي"، وأخيرا، وخارج هذه التقسيمات، هناك "الزعيم الأوحد" عادل إمام
الذي يتربّع على عرش جميع القلوب. إذن، لم يكن أحمد زكي من بين كل هؤلاء
النجوم "المحبوبين" .... وجوده كان استفزازيا، متطلّباً، وهو لم يسعَ لأن
يحبه الناس عن طريق الانتشار الفني والإثارة الاعلامية والمسائل الشخصية
وتوسّل العواطف المجانية ..... ربما كان يريد ان يقول : لا أريد ان تحبوني،
بل ان تحترموني، وتحبوا أعمالي الفنية، وربما كان يحس بالغربة حتى داخل
الوسط الفني.
مثل هذه المواقف، ربما أضرّت حتى بفرص عمله في السنوات الأخيرة، سنوات
أفلام "الكوميديانات" الشباب والسينما التجارية السهلة.... لكنه في هذه
الأوقات بالذات جاهد ليصنع سينماه الخاصة، ونقصد إحياؤه لسيرة شخصيات مهمة
في مصر من رؤساء وفنانين. في فلمه قبل الأخير "معالي الوزير"، قدّم أحمد
زكي أداءً متنوعاً وذكياً الى أبعد الحدود، عن سياسي فاسد يدخل الوزارة
بالصدفة المحضة، لـ "يعشعش" فيها طويلا، ثم تداهمه الكوابيس المؤرقة. اما
فلمه الأخير "حليم"، فقد أصبح إشارة الى تصادم التراجيديات الشخصية لفنانين
عربيين كبيرين، ونقصد حليم وزكي، اللذين كان القدر بالمرصاد لهما وهما في
أوج عظمتهما وعطائهما الفني.
لقد آلمني شخصياً ان لا تلتفت الصحافة والميديا العالمية الى وفاة فناننا
الكبير،.بينما كنت أبحث عن الأخبار والأحداث السينمائية البارزة في المواقع
الالكترونية المهمة. نحن الذين نكتب في السينما في العالم العربي، قلّما
يفوتنا أي حدث سينمائي عالمي بارز. أحمد زكي، لم يكن فنانا مصريا او عربيا
فحسب، انه مُلْكٌ للفن السينمائي في العالم أجمع، وعلينا ان نعرّف العالم
بهذا الفنان وأعماله وموهبته الفذّة، والظروف الصعبة التي واجهها وهو يشقّ
طريقه في السينما العربية. ان ظهوره ونجاحه في السينما المصرية، قد يكون
معادلاً لظهور ونجاح الفنان "سيدني بواتييه" في السينما الأمريكية أواسط
الخمسينات من القرن الماضي.
بغداد
leoman572001@yahoo.com
خاص كيكا
موقع "كيكا"
في 16 أبريل 2006