ثمة شغف سينمائي ثقافي يمكن معه أن نتجاوز مبدأ الفرجة خصوصا عند
المهتمين بالسينما كعامل عام يساهم في تشكيل وصياغة الوجدان الشعبي
لأنه بالأصل ينبع دوماً من واقع المجتمع الثقافي والاجتماعي نفسه
في كتابه "تعال إلى حيث النكهة" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات
والنشر أخيرا، يحاول الناقد حسن حداد تقديم جملة من الرؤى النقدية في
السينما بعد إقراره سلفا بفقدان التأثير المهم للكلمة المكتوبة على
الجماهير وإيمانه بالمرئي المكون من السينما والتلفزيون تحديدا.
ويرى حداد أن السينما ليست ضمن الفكر أو الفن فحسب، ولكنها بالدرجة
الأولى صناعة وتجارة. ويضيف أن السينما ومنذ بداياتها لم تأخذ على عاتقها
مهمة القيام بتوعية الجماهير ورفع مستواها الفكري والثقافي لأنها كانت ولم
تزل تجارة تدر الكثير من الأرباح.
ويبين حداد أن الإنتاج هو الحجر الأساسي الذي تقوم عليه صناعة
السينما وان المسطر على عملية الإنتاج هو الذي يحدد هوية هذه السينما.
ويلفت حداد إلى وجوب الاعتراف بأن عملية الإنتاج ليست عملية سهلة بل
هي محكومة بشبكة من العلاقات لا تقتصر - كما في الإنتاج الأدبي على ورق
وقلم وتكاليف طباعة، بل هي عملية تمر عبد آلات ومواد ومؤسسات ورساميل هي
التي تكون ما نقول عنه صناعة سينما.
ويقول حداد إن الذي يصنع السينما ليس الفنان كما يعتقد الغالبية بل
هو التاجر صاحب رأس المال القادر على توصيلها للمتفرج.
ويتطرق حداد إلى السينما الأميركية من حيث تألقها، رائيا أنها من
دون منازع وأنها الأولى في العالم.
ويتساءل: لماذا السينما الامريكية؟ وما أسباب انتشارها في العالم؟
ويقول: رغم من أن السينما قد بدأت في فرنسا وبريطانيا وألمانيا
والنمسا في نفس الفترة تقريباً (بين عامي 1895- 1900) إلا أن ذلك لم يمنع
من أن تكون أميركا هي السباقة في مجال فني وشعبي كالسينما. فقد اهتم
الأميركان كثيراً بصالات العرض السينمائي، معتقدين بشكل حازم أنها العنصر
الأساسي لازدهار هذا الجانب الترفيهي والثقافي المهم للناس.
ويشير حداد إلى الوقت الذي كانت فيه فرنسا تملك مائتين إلى ثلاثمائة
صالة عرض في العام 1909، في حين لا يملك العالم بأسره سوى ألفين إلى ثلاثة
آلاف صالة، كان عدد صالات العرض في أميركا في نفس الفترة قد تجاوز عددها في
العالم بأسره. ففي غضون ثلاث سنوات فقط، ارتفع عدد صالات العرض في أميركا
بشكل خرافي، من عشر صالات فقط إلى عشرة آلاف.
ويبين حداد أن هذا الارتفاع المذهل في عدد صالات العرض، جاء نتيجة
لأسباب عديدة ومدروسة، اهمها ثمن تذكرة الدخول البسيط وهو خمس سنتات (نيكل
واحد فقط).
ويرى حداد أن انتشار صالات العرض بهذا الشكل، قد ساهم بشكل واضح في
زيادة الإنتاج السينمائي، وذلك لتلبية حاجة المتفرج (المستهلك)، ودخول
الرأسمال الأميركي هذا المجال من دون أي توجس او خوف.. باعتبار أن إنتاج
فيلم واحد بتكلفة مائتي دولار فقط، قادر على جني أرباح تساوي عشرة أضعاف
هذا المبلغ.
ويركز حداد على هوليوود في فترة الحرب، مشيرا إلى أن الحرب العالمية
الأولى جاءت لتكون في صالح السينما الأميركية وأنه في تلك السنوات انحسرت
السينما الأوروبية لأن أوروبا كانت مشغولة بالحرب وأعبائها، في حين كانت
أميركا تصنع تاريخها السينمائي. حيث بدأت استديوهات هوليوود في إنتاج
الكثير من الأفلام التي حظيت بنجاحات متكررة.
ويشير حداد إلى قيام الأميركي ديفيد جريفيت بتقديم فيلمه الرائد
"مولد أمة" مبينا ان هذا الفيلم الذي أخرجه جريفيت العام 1915 يعتبر بحق
انطلاقة السينما الأميركية التجارية الحقيقية، وتألق صناعتها لأنه أثار ضجة
صاخبة بسبب الاتجاه العنصري والعرقي الذي يتبناه موضوع الفيلم.
ويستعرض حداد ردود الفعل الدموية إبان عرض فيلم "مولد أمة"، إضافة
إلى إيراداته التي كانت تتزايد يوماً بعد يوم. لدرجة أن هذا الفيلم
الذي لم يتكلف إنتاجه سوى سبعمائة دولار، قد فاقت مداخيله التصور، بعد أن
شاهده ما يقارب المائة مليون نسمة في أميركا وحدها.
ويقول حداد إن الأفلام الأميركية قد سيطرت في بقية أنحاء العالم على
60% إلى 90% من برامج العروض، كما وخصصت مائتا مليون دولار سنوياً لإنتاج
سينمائي تجاوز الـ800 فيلم، ما أدى طرح بليون ونصف البليون من الدولارات
للاستثمار إلى تحويل السينما إلى مشروع يشبه، بهذه الرساميل المخصصة له،
اكبر الصناعات الأميركية، كصناعة السيارات والفولاذ والبترول والسجائر.
ويلفت حداد إلى سيطرة بعض الشركات الكبرى على الإنتاج والاستثمار
والتوزيع العالمي أمثال: بارامونت ولوي وفوكس ومتر ويونيفيرسال، وكيف ظهر
نظام النجوم في هوليوود، الذي استحوذ على هوليوود فيما بعد مبقيا المنتج في
الظل، وكيف استقطبت الكثير من أبرز السينمائيين في أوروبا والعالم؛ من
فرنسا، ألمانيا، والنمسا وغيرها.
ويقدم حداد جملة من النتائج التي أدت إلى صناعة السينما منها وجوب
ان تكون السينما عجلات انتاج ومصانع وسوقا، وعرضا وطلبا قبل الاهتمام بقضية
الموضوع او الأفكار، إضافة الى ضرورة وجود صالات العرض وازدهار فن
كتابة السيناريو، رائيا أن المقياس لأي تجربة أو تيار سينمائي في العالم لا
يجب أن يكون عرضة للمقارنة بمثله في السينما الأميركية. فهكذا مقارنة ليست
في صالح الجميع باعتبار أن أدوات التقييم أو المقارنة في كلا الطرفين غير
متوازية.
