كل فيلم جديد للمخرج داود عبدالسيد، يمثل تظاهرة سينمائية
استثنائية.. ترى لماذا..؟! هل لأنه يقدم فيلماً كل خمس أو أربع
سنوات.. أو لأنه يبقى في بحث دائم ودراسة متأنية لما سيقدمه في
عمله التالي.. أو لنقل بأنه لا يجد المنتج الجريء والمؤمن به كفنان
صاحب رؤية سينمائية وفكرية..؟! كلها أسئلة تنتظر الإجابة، لمن لا
يعرف هذا الفنان المتميز، ولم يتعرف على مجموع أفلامه التي قدمها
على مدى ربع قرن.
* * * *
منذ المشاهدة الأولى لفيلم (الصعاليك ـ 1984) باكورة أعماله
الروائية الطويلة، يتضح جلياً بأننا أمام مخرج فنان ومفكر، يحاول
تقديم فيلم ذو مضمون فكري وفني متميز.. فنان يبحث عن أسلوب مختلف
في الطرح والأسلوب.. وتأكد ذلك مع أفلامه اللاحقة، حيث كان كل فيلم
جديد له، بمثابة بحث متواصل عن العلاقات الإنسانية المتشابكة، بحث
عن مكنون الإنسان النفسي والاجتماعي..!! فالمخرج عبدالسيد، بالرغم
من قلة أعماله (8 أفلام في 25 عام)، إلا أننا نلاحظ هذا التأني
والدقة المتناهية في الاختيار، من أجل تقديم سينما ذات مضمون فني
وفكري متميز.. سينما حملها رؤية وأسلوب خاص.
نحن إذن.. أمام مخرج يحاول دوماً الخروج على السائد والتقليدي،
والتحرر من أسر تلك السينما التقليدية العتيقة.. يصنع السينما التي
يريدها، مهما كلف الأمر، حتى ولو بقى بعيداً عن صناعة السينما التي
يحب أعوام وأعوام.
بدأ عبد السيد حياته العملية بالعمل كمساعد مخرج في بعض الأفلام،
أهمها (الأرض) ليوسف شاهين، (الرجل الذي فقد ظله) لكمال الشيخ،
(أوهام الحب) لممدوح شكري. ثم بعد ذلك توقف عبد السيد عن مزاولة
هذا العمل.. (...لم أحب مهنة المساعد، كنت تعساً جداً وزهقان أوي..
لم أحبها، إنها تتطلب تركيزاً أفتقده.. أنا غير قادر على التركيز
إلا فيما يهمني جداً.. عدا ذلك، ليس لدي أي تركيز...). ولهذا
السبب، قرر أن يحمل الكاميرا وينطلق بها في شوارع القاهرة، يرصد
الحزن والألم في عيون الناس، ويصنع أفلاماً تسجيلية اجتماعية عنهم.
حيث قدم العديد من الأفلام التسجيلية، أهمها (وصية رجل حكيم في
شؤون القرية والتعليم ـ 1976)، (العمل في الحقل ـ 1979)، (عن الناس
والأنبياء والفنانين ـ 1980). وهي بالطبع أفلام قد حققت لعبد السيد
فرصة للاحتكاك المباشر مع الناس، ومعرفة أوسع وأعمق بالمجتمع
المصري بكافة طبقاته، إضافة إلى أنها أكسبته الإحساس بنبض الحياة
المتدفق.
(...لم يكن ضمن طموحي في الطفولة أن أصبح مخرجاً سينمائياً، ربما
أردت أن أكون صحفياً.. إلا أن ما غير حياتي هو ابن خالتي، وكان
يعشق مشاهدة الرسوم المتحركة. وتطور معه الأمر لشراء كاميرا، وعمل
بعض المحاولات في المنزل. وتدريجياً تعددت علاقاته بالعاملين في
مجال السينما. وأذكر، وكنا آنذاك في السادسة عشر، أن أخذني
لأستوديو جلال، وهو القريب من سكننا بمصر الجديدة، وكانوا يصورون
فيلماً من إخراج أحمد ضياء الدين، الذي كنت أعرفه بحكم زمالتي
وابنه في المدرسة. ما حدث يومها أني انبهرت بالسينما بصورة مذهلة.
وهذا الأمر أفشل تماماً في تفسيره حتى الآن، المؤكد إنه ليس النجوم
وليس الإخراج وليس التكنولوجيا، بل شيء آخر غامض حقاً.. قررت بعدها
دخول معهد السينما...).
* * * *
على مدى خمسة عشر عاماً، ظل داود عبد السيد يصنع بأفلامه حواراً من
طرف واحد.. حواراً مفرداته الصورة لا الكلمة، يصنع الحوار الصامت
بالكاميرا. لكن عبد السيد لم يستطع الاستمرار في هذا الصمت.. شعر
بضياع جهده، حيث لا يصل إلى جمهوره الحقيقي. فكان قراره بأن يكتب
ويخرج فيلماً روائياً، ليخرج من دائرة الأفلام التسجيلية المغلقة،
ويلتقي بالطرف الآخر.. الجمهور.. (...عشت أحلم بهذه اللحظة، وللأسف
رحلتي مع الأفلام التسجيلية لم تحقق أي شيء، لأنه لا يوجد من يهتم
بها.. وطالما نادينا بعرضها في دور السينما فبل الفيلم الروائي. من
هنا وجدت أنه لا يمكن الوصول لعقل المشاهد إلا من خلال الفيلم
الروائي الطويل...).
(...الفيلم التسجيلي يتيح لك حرية التجريب بدون خوف من الخسارة
المادية مثلاً.. أقصد بالتجريب هو أن تعبر عن المضمون الذي لديك
بصورة متحررة .. وحين تعبر فقد صار في إمكانك التجريب ، ولو نجح
التجريب فستكسب الثقة فيه وتجد القدرة على المزيد منه...).
ولا ننسى الإشارة إلى أن جانباً من أسباب تأخر تجربة عبد السيد في
مجال الفيلم الروائي الطويل، تعود إلى أنه قد رفض الاستمرار بالعمل
كمساعد مخرج، وكان دخوله المجال الروائي من ميدان خارجي، ومظلوم
إعلامياً، هو مجال الفيلم التسجيلي، الذي هيئه حقيقة لخوض المجال
الآخر.. (...تخلصت من بعض الخوف من الكاميرا، وشعرت أنني قادر على
تجسيد فكرة في شكل سينمائي.. هذا أعطاني ثقة في أني قادر على تجسيد
فكرة، لا تكون مجرد ورق.. والجزء الأساسي في التعليم هو من كتابة
السيناريو. فلا أرى أن هناك إخراجاً وهناك كتابة سيناريو.. عندما
تتعلم كتابة سيناريو تتعلم الإخراج.. والأساسي الذي تتعلمه كيفية
أن توصل فكرة...).
وخلال هذه الرحلة مع الفيلم التسجيلي لم ينسى حلمه، وهو إخراج فيلم
روائي. لهذا كان يكتب القصص والسيناريوهات، حيث بدأ في كتابة أول
سيناريو له بعد بضعة أشهر فقط من تخرجه من معهد السينما. البدايات
كانت محاولات غير ناضجة، حتى كتب سيناريوهات (كفاح رجال الأعمال +
الوباء + الصعاليك + بيت الست حياة).
ويقول عبد السيد: (...إن المحاولات الأولى لم تكن ناضجة بما يكفي،
لكي تقنعني بمحاولة إخراجها للنور.. ولكن بمجرد انتهائي من أول
أعمالي الناضجة (كفاح رجال الأعمال)، لم أتردد لحظة واحدة (...)
وبالفعل تعاقدت على إخراج هذا العمل سنة 1980.. ولكن للأسف ولأسباب
تخص المنتج، لم أتمكن من تنفيذ الفكرة...).
* * * *
هنا لابد لنا من الحديث عن مجموعة من المميزات والخصائص التي اتسم
بها أسلوب داود عبدالسيد، باعتباره واحداً من الفنانين المتمردون
على السائد، في بحثهم عن سينما مختلفة ذات أسلوب خاص يحمل رؤيته
الفنية والفكرية، ومصراً على صنع السينما التي يريدها.. السينما
الذاتية والخاصة به..!!
ذاتية الفيلم
:
يؤكد عبد السيد في أحد تصريحاته الصحفية، بأن السينما الجديدة هي
نتاج للسينما القديمة وتراثها. وأن السينما الجديدة ليست سينما
مختلفة، وإنما لها طابعاً شخصياً. فذاتية المخرج تظهر في العمل
بشكل واضح.. إنه يؤكد دائماً على السينما الذاتية.. (...أنا أقدم
الموضوعات التي أشعر بها وأتفاعل معها، دون النظر لأي ظروف أخرى.
والحمد لله فقد استطعت أن أقدم جزءاً يسيراً من أحلامي، وأتمنى بأن
أوفق في تقديم الكثير من هذه الطموحات...).
كاميرا القلم
:
ولتحقيق عبد السيد طموحاته في السينما التي يصنعها، فهو يكتب بنفسه
سيناريوهات أفلامه.. أي أنه يتبنى مفهوم "سينما المؤلف". وهذا
بالطبع يجعله في حرية فنية، يستطيع بها تجسيد ما يريده هو من رؤى
فنية وفكرية، يصبح مسئولاً عنها مسئولية كاملة.. (...أنا أكتب
لأنني أريد أن أخرج أفلامي. والحقيقة أنني أحب الكتابة، فهي مهنة
صعبة ومتعبة، ولكني في الأساس مخرج أحاول أن أبحث عن كاتب يجسد
رؤيتي على الورق، فلا أجده بسهولة...).
والكتابة ـ كما يقول عبد السيد ـ مهمة صعبة، باعتبار أن الكاتب
يعمل على ورق أبيض، أي على فراغ، أما المخرج فعنده جسم يحققه. لذلك
فتحقيق الرؤية في الكتابة، بالنسبة لعبد السيد، أصعب من تحقيقها في
الإخراج. فعبد السيد لا يمانع في إخراج سيناريو لكاتب آخر، ولكن
المشكلة كما يقول هي أنه لا يجد الكاتب الذي يشاركه نفس الهدف في
العمل. لذلك فهو لا يرحب بإخراج سيناريوهات الآخرين.. (...أنا أقوم
بكتابة أفلامي لأنني مؤمن بأنه يجب أن يكون هناك تفاهم كامل بين
كاتب السيناريو والمخرج. ومن هنا فأنا لا أفكر لحظة واحدة في إخراج
أعمال من تأليف الآخرين، مهما استهوتني الأفكار التي تطرحها...).
الحائط الرابع
:
هناك خاصية أخرى لسينما عبد السيد، تتعلق بأماكن التصوير. فهو يفضل
التصوير في الأستوديو على الأماكن الطبيعية، حيث يقول: (...لا أكره
التصوير في الأستوديو، بالعكس أفضله، وهذه هي السينما. أن تكون لك
الحرية في فتح الحائط الرابع للديكور، وأن تعيد الواقع في شكل قد
يكون أقوى اكتمالا من الواقع...). وهو بذلك مقتنع بأن الأستوديو
والديكورات هي ما يوفر الإمكانيات المثلى للتصوير. وهذا بالطبع لا
يمنعه من اللجوء أحياناً إلى الواقع والأماكن الطبيعية إذا لزم
الأمر.. (...لو كان في إمكاني بناء الميناء في الصعاليك، لما
ترددت...).
من الواضح جداً بأن عبد السيد دقيق وحذر في اختياره لأماكن التصوير
والديكور والإكسسوارات، وحريص أكثر على مطابقتها للواقع.. وذلك
لإضفاء مصداقية وواقعية على كادراته، لتكون أكثر قرباً وإقناعاً
للمتفرج. وعبد السيد، كما سبق وأشرنا، قد صور في الأستوديو وفي
الأماكن الطبيعية، ولكن لا أحد يستطيع التفريق بين الإثنين، ولا
يمكن أن ننسى ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ بأنه قد توصل إلى أعلى
درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع في فيلم (الكيت كات).
التواصل والتوصيل:
بالنسبة لقضية التوصيل والتواصل مع الجمهور، فهي قضية هامة تشغل
عبد السيد، هذا لأنه فنان تهمه قضايا ومشاكل واقعه، بل وحريص على
مخاطبة أكبر عدد من الناس. كما أنه في نفس الوقت يريد أن يكون
راضياً عن عمله، ويحقق من خلال العملية الإبداعية نضجاً فنياً.
إنها طبعاً معادلة صعبة، لكنه مصر على تحقيقها، بل ونجح فعلاً في
تحقيقها، وأفلامه تشهد له بذلك. فهو يتحدث في هذا الصدد، ويقول:
(...أريد فيلمي فيه الحد الأدنى من الجاذبية.. أحد أهدافي المهمة
جداً هو الاتصال، وداخل هذا الإطار في الوصول، يقف الواحد ويقول:
عايز أعمل اللي أنا عايزه، داخل إطار أن هناك مبدئياً جسراً بينك
وبين الناس...).
سينما الشخصيات:
يهتم عبد السيد كثيراً بشخصياته أكثر من اهتمامه بالقضية المطروحة
كقضية، مقتنعاً تماماً بأن أية قضية إنما تبرز عندما تتألق الشخصية
وتعبر عن أحلامها وطموحاتها بصدق. وهو بذلك لا يبحث إطلاقاً عن
حكاية تقليدية، وإنما يبحث عن نماذج وحالات نمطية تعيشها شخصياته.
ثم أنه يقدم هذه الشخصيات ويتركها تعيش واقعها وتتصرف بتلقائية حتى
ولو أدى ذلك إلى تصرفات لا أخلاقية.. إنه يتابعها فقط، ويقدمها كما
هي.. لا يدينها بل ينظر إليها برحمة ويتلمس لها الأعذار والدوافع،
ويتفهم حاجات النفس والجسد.. (...عندما أكتب أفلامي أكون في حالة
خاصة ولا أتدخل في تطور الشخصيات، بل أتركها كما هي، تأخذ امتدادها
الطبيعي...).
نهايات متعددة:
ويتميز عبد السيد بتقديم نهايات مختلفة عن التقليد في أفلامه.
فبناء النهاية عنده يشكل أسلوباً خاصاً، حيث تبدو الأفلام متعددة
النهايات. ففي مشهد من (الكيت كات)، عندما يظهر الشيخ حسني متوجهاً
إلى عمق الكادر وهو يجر العربة التي تحكل جثمان عم مجاهد، يعتقد
المتفرج بأن هذا المشهد، المؤثر والمليء بالحزن والأسى، هو
النهاية.. إلا أن عبد السيد يتجاوز كل هذا الحزن، ليدفع بنا إلى
أكثر مشاهد الفيلم مرارة وسخرية، وهو مشهد حديث الشيخ حسني في
الميكروفون.. وبالرغم من عبثية هذا المشهد وجماليته كنهاية طبيعية
للفيلم، إلا أنه لا يحقق لعبد السيد هدفه ورؤيته، ليعود إلى يوسف ـ
بعد أن تخلص من عجزه ـ وهو منطلق مع والده في شوارع القاهرة في
مغامرة مجنونة على الدراجة، لينتهي بهما المطاف في نهر النيل، مع
إشراقة الصباح الرائعة، ليخرجان بثياب مبللة تجمعهما ضحكات صافية
وساخرة، معلنة انهزام اليأس والإحباط والعجز. هذا ما أراد عبد
السيد الوصول إليه في فيلم (الكيت كات).
الفرسان الجدد والسينما المختلفة:
يحاول مخرجنا داود عبد السيد ـ مع قلة من زملائه المخرجين ـ
المغامرة بأفلام مختلفة، والخروج على التقاليد السائدة للسينما
المصرية. ويجمع هؤلاء المغامرين شيء رئيسي واحد، وهو أن السينما
بالنسبة لهم ليست وسيلة لأكل العيش فقط.. يقول عبد السيد:
(...الترفيه جزء مهم لا ينكره أحد، والأهم هو كون السينما وسيلة
تعبير، وهو ما لا نجده في السينما التقليدية. إن السينما من وجهة
نظري شخصية.. وأعتقد بأن هذا هو ما يجمعني بمحمد خان وخيري بشارة
وعلي بدر خان، مع اختلاف كبير جداً في الأساليب وفي الأفكار الفنية
والسياسية وغيرها.. إننا مهتمون بالسينما كفن...).
فيلم
" البحث
عن سيد مرزوق"
(نموذجاً)
خمس سنوات، هي الفترة التي أمضاها عبد السيد حتى يقدم فيلمه التالي
بعد باكورة أعماله (الصعاليك - 1984). وهي بالطبع ليست فترة قصيرة
بالنسبة لإخراج فيلم آخر. لكن البحث عن منتج يقتنع به وبأفكاره،
كان أمراً صعباً، في ظل سينما يهيمن عليها التيار التجاري. إلى أن
اتفق مع الفنانة سميرة أحمد على إنتاج فيلم له، وكان فيلم (البحث
عن سيد مرزوق ـ 1990). إذ يتحدث عبد السيد عن تجربته في هذا
الفيلم، فيقول: (...لن أسمح لنفسي بتنازلات في النوعية، والى اليوم
أشعر أنني لم أتنازل والحمد لله. في تصوير سيد مرزوق شعرت في أكثر
من يوم أنني أتساهل، أنني أتنازل، لأنه لا وقت لدي لشيء من
التفكير، لشيء من التأمل. جزء من الاستمتاع بالعمل أن تتأمله، أن
تكون مطمئناً أن كل مشهد صورته تناولته بطريقة صحيحة. أما أن ترجع
البيت ولديك شكوك فيما صورته، فهذا هو الأمر المتعب، وقد عانيت منه
في سيد مرزوق...).
وفيلم (البحث عن سيد مرزوق) عمل فني مختلف ومتميز، ليس فقط عن
الأفلام المصرية السائدة، بل أنه يتميز أيضاً عن أفلام رفاق عبد
السيد الذين وصفناهم بالفرسان، في مقدمة موضوعنا هذا. فقد حطم عبد
السيد كل تقاليد الفيلم المصري البالية، بل وتجاوز الواقعية
الجديدة التي صنعها الفرسان. وانطلق إلى آفاق فنية رحبة، وقدم
أسلوب تعبيري أقرب إلى السريالي أو الفنتازي، على نحو لا مثيل له
في السينما المصرية. هذا بالرغم من أن الفيلم لا يبتعد عن الواقع،
بل ويعبر عنه بجرأة وصدق.
يتناول الفيلم، وبأسلوب جديد، يوماً حافلاً في حياة بطله يوسف كمال
(نور الشريف)، وهو موظف يعيش ما بين عمله وبيته، في عزلة عن العالم
منذ عشرين عاماً. نراه يستيقظ صباحاً كعادته ليذهب للعمل، لكنه
يكتشف بعد خروجه من المنزل، بأن اليوم هو الجمعة وأجازة. هنا يقرر
في أن يخرج من عزلته الطويلة هذه، ولو ليوم واحد، يقضيه خارج
المنزل. وبالتالي يبدأ رحلة مليئة بالأحداث الغريبة عليه، ويلتقي
بشخصيات عدة، أيضاً غريبة عن عالمه. ومع تطور استيعابه ـ تدريجياً
ـ لهذا العالم، يشعر بخطئه بعزلته الطويلة تلك. ولكي يتطور
استيعابه وينمو وعيه، بخروجه من هذه العزلة، عليه أن يصطدم مع
الآخرين ومع السلطة أيضاً. فهو يلتقي بشخصيات غامضة تظهر وتختفي..
شخصيات تبدوا وكأنها متصلة ببعضها في لعبة ضحيتها هو، ومخططها
وقائدها شخص يدعى سيد مرزوق.
والفيلم في تناوله وتشخيصه للمجتمع المصري في مطلع التسعينات،
يتحدث عن أربعة عوالم يتكون منها الواقع الراهن. عالم السادة الذين
يملكون كل شيء ويحميهم القانون، وعالم المطاريد الخارجين على
السادة وقوانينهم، وعالم الغلابة القابعين في منازلهم، وأخيراً
عالم المتمردين المشاغبين الذين يواجهون ويجابهون بقوة وشجاعة.
وبهذا التقسيم للمجتمع، يدين الفيلم ـ وبعنف ـ تلك السلبية التي
تكمن في أمثال بطله يوسف كمال، والذين سمحوا لبعض الطفيليين بأن
يتبوؤوا مراكزهم في حاضرنا، وإنهم بسلبيتهم وعجزهم عن المواجهة، قد
أتاحوا الفرصة لأمثال سيد مرزوق أن يفرضوا وجودهم وسلوكياتهم على
واقع الحياة في مصر. فبطل الفيلم يوسف قد آثر العزلة، وأحجم عن
الخروج إلى الحياة والمشاركة فيها، خوفاً وهلعاً وامتثالا لصوت
قاهر أمره بالرجوع إلى بيته. ولأن الفيلم يرفض حالة الإذعان
والامتثال والسلبية التي يعيش فيها يوسف، فهو بالتالي يقدم تحليلاً
دقيقاً ـ عبر بناء درامي محكم ومتماسك ـ عن نقل بطله من حالة
الهزيمة الداخلية إلى حافة الفعل المجهض والتمرد الأخرس.
في بداية الفيلم، ومنذ اللحظات الأولى، يكتشف يوسف عالم سيد مرزوق
ويقع أسيراً له.. بل ويعلن بصراحة وبراءة «أنا بحب سيد مرزوق.. أنا
عايز سيد مرزوق». إلا أنه يدرك، وعبر رحلة يوم واحد فقط، مدى زيف
هذا العالم الذي انبهر به، ومدى توحشه وكذبه. فسيد مرزوق هو نموذج
لعالم السادة المتحكمين في كل شيء.. عالم بدأ يزحف ليستعيد مواقعه
السابقة.. عالم نجح تماماً في أن يتسيد عن طريق ثروته ونفوذه. هذا
بالرغم من أنه عالم يتصف بالسوقية والابتذال والخواء الروحي،
والمستند أساساً على تاريخ مزيف، ساعياً نحو لذائذ الحياة بتطرف،
حتى ولوكان ذلك على حساب العوالم الأخرى. ومع ذلك النمو المتواصل
لوعي يوسف كمال، نتيجة توالي الأحداث وتأثيرها عليه، يقرر مواجهة
سيد مرزوق والتمرد عليه. فهو يشعر برغبة في التحرر والتحدي، إذ
يعلن في ثقة «ح أقتلك يا سيد مرزوق»، وبذلك يعتبر من عالم المطاريد
في نظر السلطة، التي تحمي سيد مرزوق.
وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى أن الفيلم يقدم هجائية متواصلة للسلطة/
الشرطة، ممثلة في رجلها المقدم عمر وبقية رجال الأمن والمباحث،
وذلك من خلال عشرات المشاهد المشحونة بالتفاصيل الصغيرة الموحية.
فنحن مثلاً نفهم بأن الذي أمر يوسف بالرجوع إلى منزله، هو مخبر..
والذي يطارد شابلن المصري ويقاسمه في رزقه هو عسكري أو ضابط.. ويد
المقدم عمر هي التي تضغط على جرح يوسف وتؤلمه، حين يدعي بأنه يربت
عليه ويعتذر منه.. ورجال عمر هم الذين يقتحمون الحضّانه.. وكلابه
هي التي تسعى لنهش جسد يوسف وحماية جسد سيد مرزوق. إن السلطة/
الشرطة، كما قدمها عبد السيد في فيلمه هذا، مشغولة بحماية حرية
السيد، وتكبيل حرية المسود.
وفي مشهد موحي ومؤثر، يعلِّم عبد السيد يطله درساً بليغاً، حين
يقول بأن الحرية أقرب إلينا مما نتصور، وإن القيد الحديدي، أو أي
قيد آخر يكبلنا، من السهل التحرر منه إذا امتلكنا الإرادة. جسد عبد
السيد هذا المعنى في مشهد يظهر المقدم عمر وهو يحرر قيد يوسف، حيث
نرى كيف أن القيد يخرج بسهولة من معصم يوسف، وهو الذي ظل يربط يوسف
بالكرسي، وجعله يحمله على كاهله أينما ذهب، متوسلاً عمر كي يفكه.
وتركيز الكاميرا على الكرسي، والقيد يتدلى منه، لهو تأكيد بالصورة
على أن الحرية أقرب إلينا من حبل الوريد، إذا شئنا أن نراها وفكرنا
في انتزاعها.
ثم لا ننسى الإشارة إلى وجود ذلك الشيء الوحيد الذي كان يهون على
يوسف رحلته ومشواره اليومي ذاك.. ألا وهو وجود تلك الشخصية،
والغامضة أيضاً، في ثنايا يومه الصعب. فمنى أو عبلة أو رضا أو
نجوى، كلها أسماء للشخصية التي تلعبها الفنانة آثار الحكيم.. شخصية
تحلم بالسفر والانسحاب من هذا الواقع غير المتعاطفة معه، والذي
يحاول امتلاكها دون أن يكون مؤهلاً لذلك.. شخصية ترمز إلى ذلك
الشوق الغامض للحب، وتبدي بعض التعاطف نحو يوسف، الذي يهيم بها دون
أن يعرفها. حيث تبدو، كلما ظهرت في مشهد أو في لقطة، كقطرة ماء في
صحرائه المجدبة. ولا يستطيع الإمساك بها إلا في اللحظة التي يقرر
فيها أن يكون إيجابياً. وفعلاً أصبحت هذه الشخصية بمثابة القوة
الدافعة ليوسف للخلاص من سيد مرزوق وعالمه.
نحن في (البحث عن سيد مرزوق)، أمام سيناريو خلاق يتصف بالدقة
والحذر، ويبلغ درجة عالية من الحرفية والإحكام، هذا إضافة إلى
اهتمامه بكافة التفاصيل الكبيرة والصغيرة. وربما نلاحظ، ويلاحظ
المتفرج أيضاً، ذلك الانقطاع واللاتتابع في العلاقة بين كل مشهد
وآخر. هذا لأن عبد السيد، في كتابته للسيناريو، اعتمد على منطق
اللاوعي، وعبر عن منطق الحلم أو الكابوس، في بنائه السردي، دون أن
يجعلنا نفقد الصلة بالواقع. وبحكم تعدد مستويات الفيلم، فهو لا
يفصح عن نفسه بسهولة، بالرغم من إيغاله في الواقعية. وذلك بسبب
عملية الترميز التي بدت مكثفة وشديدة التركيز.
وهذا هو المنطق الخاص لأسلوب السرد الفيلمي في (البحث عن سيد
مرزوق)، وعلينا نحن كمتفرجين ـ قبلنا هذا أو رفضناه ـ مشاهدة
الفيلم بمنطقه الخاص، وليس لنا فرض منطق آخر دخيل عليه. علماً بأن
عبد السيد قد نجح، إلى حد كبير، في دعوتنا للتعامل مع منطق فيلمه
هذا منذ البداية. كما يبرز أيضاً، ذلك الاعتماد من عبد السيد على
منطق الصدفة في أحيان كثيرة، إلا أن هناك ما يبرر هذا. وهو أن
السيناريو، في تناوله لمشوار أربعاً وعشرون ساعة متواصلة، قد اهتم
أساساً بشخصياته. وهذا ـ بالطبع ـ لا يعني الفوضى في السرد الدرامي
والتنامي الحدثي، فالسيناريو يراعي وحدات الزمان والمكان والموضوع
الكلاسيكية، بل ويلتزم بها بشكل واضح. فالزمان: أربعاً وعشرون ساعة
من حياة موظف في وقتنا الحاضر. والمكان: مدينة القاهرة. أما
الموضوع: فهو عن حيرة مثقف الطبقة المتوسطة وأزماته الفكرية
والروحية، وبحثه الدائم عن العدالة والحرية. يتحدث عبد السيد في
هذا الصدد، فيقول: (...وجهة نظر المتخصصين درامياً، ترى أن يكون
لكل شيء يقدم نتائج حتمية وواضحة جداً. ولكني أرى أن الحياة ليس
فيها ذلك، فليس شرطاً أن يبدأ الفيلم بالبداية وينتهي بالنهاية
المتوقعة كالزواج أو الموت. أنا لا أحب الدراما المغلقة بين قوسي
البداية والنهاية، وأرى ضرورة وجود توازن بين الضرورة والتلقائية..
كل شيء لا بد أن تكون له ضرورة، ولكن في نفس الوقت لا بد أن تكون
هناك تلقائية الحياة.. أنا أحب ذلك، ويجب أن تكون التلقائية
ضرورية...).
أما بالنسبة للإخراج، فقد كان عبد السيد أيضاً دقيقاً جداً، إذ
يقدم أسلوباً خاصاً للإخراج يتناسب وذلك السيناريو الخاص. فلكي
يقنعنا عبد السيد بذلك المنطق السردي اللاواعي للسيناريو ـ مع
إصراره على تقديم الأماكن والشخصيات بشكل واقعي ـ يصبح عليه كمخرج
اختيار زوايا خاصة للتصوير، وأحجام خاصة للقطات، وإيجاد علاقات
خاصة بين الصوت والصورة وبين الضوء والظل والألوان. وهذا ـ بالضبط
ـ ما نجح عبد السيد في تجسيده، بجهوده وجهود فريقه الفني، الذي
أدرك بالفعل تلك الخصوصية للإخراج، وهي خصوصية تقوم على التناقض
بين الواقعي واللاواقعي. فبالرغم من مراعات الإضاءة لحركة الزمن
الطبيعية، إلا أنها تتجاوز الواقع في مشاهد كثيرة.. كمشهد المقابر
مثلاً. كما أن المونتاج كان دقيقاً في ضبط حركة الانتقال بين مشهد
وآخر.. من انتقال بالقطع الحاد إلى غيره، كالإظلام التدريجي، هذا
إضافة إلى خلق إيقاع تراجيدي متناغم بين لقطات الفيلم ومشاهده. ثم
لا ننسى دور الموسيقى التي عبرت بصدق عن ذلك الواقع الفكري والروحي
للفيلم. وفي صدد حديثه عن (البحث عن سيد مرزوق)، يقول عبد السيد:
(...كان فيلماً مرهقاً بالنسبة لي، وطيلة التصوير كنت أشعر بقلق..
بخوف من أن تأتي النتيجة غير جيدة. لأنني كنت مرهقاً، أعمل حوالي
أربع عشرة ساعة في اليوم. إنما عندما بدأت في تركيب الفيلم، شعرت
بقيمته. لا أقول إنه خالٍ من نقاط الضعف، مؤكد أنه كان من الممكن
الاعتناء به أكثر من ذلك، ولكن النتيجة تبدو معقولة.. أراها
جيدة...).
و(البحث عن سيد مرزوق) فيلم مثير للاهتمام على أكثر من مستوى.
فالفكرة والأسلوب جديدان على منهج السينما المصرية، وإسقاطاته
الرمزية على الواقع متعددة. هذا إضافة إلى منهج الأسلوب الفنتازي
السريالي، الذي حاول عبد السيد ونجح ـ إلى حد كبير ـ في إضفائه على
الفيلم، وذلك رغم الفقر التكنولوجي الذي تعاني منه السينما
المصرية. وبالتالي افتقار المخرج لبعض أدوات التعبير المناسبة لمثل
هذا الأسلوب في الإنتاج. إلا أن الفيلم قد أثار جدلاً كبيراً عند
عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي، وحصل على جائزة الهرم الفضي من
لجنة التحكيم في المهرجان. كما حصل على ثلاث جوائز في مهرجان جمعية
الفيلم السنوي، وهي: أفضل ممثل ثانٍ، أفضل صوت، أفضل تصوير.
وبالرغم من كل هذا الاحتفاء الفني بالفيلم، إلا أنه لم ينل ذلك
النجاح الذي يستحقه في عرضه الجماهيري، حيث لم يستمر عرضه سوى
أسبوعين.. إلا أن عبد السيد يبرر ذلك، فيقول: (...عدم استمرار
الفيلم في دور العرض كان لأسباب خاصة بظروف عرضه، فالفنانة سميرة
أحمد (منتجة الفيلم) لم تقم بعمل الدعاية المناسبة له. كما أن موعد
عرضه جاء عقب انتهاء مهرجان القاهرة السينمائي، وهو موعد غير ملائم
للأفلام المعروضة بعد المهرجان، بعدما يكون جمهور السينما قد حصل
على جرعة سينمائية كبيرة من الأفلام...). |