الفيلم السينمائي بين التجريب والتأويل
عدنان حسين أحمد
لم يُرِد الناقد والمخرج السينمائي نزار شهيد الفدعم
أن يحْمِل كتابه الجديد الصادر عن دار "العرّاب" في
دمشق و "الصحيفة العربية" في بغداد اسم "الفيلم
السينمائي بين التجريب والتأويل" وإنما كان يفكر
بعنوانٍ آخرَ هو "سحر السينما" القريب إلى قلبه وروحه
لكنه اكتشف في اللحظات الأخيرة أنّ كتاب الناقد
السينمائي المصري الراحل علي أبو شادي ينضوي تحت هذا
العنوان فوقع اختياره على موضوع كتبه قبل عشرين عامًا
يتمحور على "التجريب والتأويل" القائم حتى يوم الناس
هذا خاصة بعد أن شهدت السينما طفرة تقنية لتُصبح رقمية
منذ الشروع بالتصوير حتى لحظة عرض الفيلم على الشاشة
الأمر الذي منحها فرصة التجريب في الأشكال والموضوعات
والتقنيات وما إلى ذلك.
يشتمل الكتاب على أربعة أقسام سنتوقف عندها تباعًا
وأولها "السينما والتشكيل" حيث تُعدّ السينما فنًا
بصريًا وسمعيًا تلعبُ فيه الصورة دورًا كبيرًا
فلاغرابة أن تعتمد على مفردات تقنية وتشكيلية مثل
التكوين، واللون، والضوء، والظل. ويذكِّرنا الناقد
بأنّ السينما جاءت من تظافر الفنون الستة التي عرفتها
الإنسانية من قبل وهي: "العمارة والموسيقى والرسم
والنحت والشعر والرقص" وأُضيفت إليها السينما لاحقًا
لتصبح فنًا سابعًا. تَعرض اللوحة التشكيلية حدثًا
واحدًا يجري في زمن محدد غالبًا ما يكون سرديًا بينما
يمتد زمن اللقطة السينمائية ويعرض متوالية لوحات يسيل
فيها الزمن. ويؤكد البعض بأنّ السينما لون من ألوان
الفنون التشكيلية مثل المخرج الأمريكي ديفيد لينش الذي
يقول:"إنّ فهمي للسينما ينبع من خلفية تشكيلية". وأنّ
السينما التعبيرية الألمانية استوحت أفكارها من
المدرسة التعبيرية ويورد الناقد أمثلة لأفلام عديدة
مثل "الكنز" و "فاوست" و "متروبولس" وغيرها. كما جذبت
السينما فنانين سُرياليين من طراز سلفادور دالي، وماكس
إرنست. وأنّ سيرجي آيزنشتاين كان يرسم شخصيات الفيلم
والمناظر الخاصة به قبل المباشرة بتنفيذه كما في فيلم
"إيفان الرهيب". ودخل فيدريكو فيلّيني إلى السينما من
عالم الرسم. وكان المخرج الياباني يرسم كادرات أفلامه
كلوحات كما في فيلم "ران" الذي شكّل مادة خصبة
للباحثين والدارسين في أسلوب هذا المخرج المبدع الذي
ترك أثرًا في السينما العالمية.
يتوقف الناقد في هذا القسم عند الفنان الهولندي فنسنت
فان كوخ والفرنسي أوغست رودان وأبرز الأفلام التي
أُنجزت عن حياتهم وتجاربهم الفنية التي غيّرت ذائقة
الناس. فقد درس الفدعم أربعة أفلام لفان كوخ وحده وهي
"رغبة في الحياة" 1956م للمخرج فينسنتي ميليني رصد فيه
مرض الفصام الذي كان يعاني منه الفنان. و "فنسنت وثيو"
1990 لروبرت ألتمان الذي شرّح فيه العلاقة بين فنسنت
وشقيقه ثيو، و "فان كوخ" 1991م الذي تناول فيه المخرج
الفرنسي موريس بيالا سيرة فنسنت في أيامه الـ 67
الأخيرة، و "عند بوابة الخلود" للمخرج الأمريكي جوليان
شنابل الذي يتمحور على علاقته بصديقه الرسام غوغان
وهواجسه الأنوية والآخروية. فيما تناول الناقد فيلم
"بوابة الجحيم رودان" للمخرج جان دويلون الذي ركز فيه
كثيرًا على علاقة الفنان بكاميل كلوديل التي أحبّته
إلى حدّ الشغف وأفضى بها هذا الحب إلى مصحة عقلية
فارقت فيها الحياة. ويعتقد بعض النقاد بأن هناك لمسة
فنية لكلوديل في تمثال "القُبلة" ويرى البعض أنّ رودان
قد سرق موهبتها وتركها تواجه مصيرها المحتوم.
يركز الناقد في القسم الثاني على "فيلم الحرب" ويقدّم
رؤية تحليلية لقوى الإنتاج التي توزعت بين المعسكرين
الرأسمالي والاشتراكي حيث تُمثّل الأول هوليوود
والشركات الأوروبية الكبرى. أمّا الثاني فيشمل الاتحاد
السوفييني والأنظمة الدكتاتورية التي تُدار من قبل حزب
واحد أو حاكم واحد. ويقدّم الباحث 65 فيلمًا قدّمت
تصوراتها ورؤيتها للحرب في أمريكا والاتحاد السوفيتي
وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا نذكر منها "معركة سان بيترو"
لجون هيوستن، و "صائد الغزلان" لمايكل تشيمنو، و "جسر
على نهر كواي" لديفيد لين، و "روما مدينة مفتوحة"
لروسلّيني، و "معركة السكك الحديدية" لرينوار.
يتناول الباحث الحرب الفيتنامية من خلال الإنتاج
الأمريكي الذي أنجز قرابة 500 فيلم قامت بالترويج
للتدخل الأمريكي في فيتنام بحجة تطبيق الديمقراطية
وإنقاذ الفيتناميين من الشيوعية. وقد رصد الباحث عشرة
أفلام مهمة لكنه ركز على فيلمين أساسيين وهما "العودة
إلى الوطن" لهال آشبي، و "القيامة الآن" لكوبولا. ويرى
أن أفلام الحرب مهمة جدًا لأنها توثّق وتحلل الدوافع
التي تقف خلف الأحداث، وتعبّر عن الهموم الإنسانية في
أثناء الحرب وبعدها. كما تناول الباحث فيلمين مهمين
وهما "دنكيرك" لكريستوفر نولان، و "أحلك ساعة" لجو
رايت اللذين يعتبران من أكثر المخرجين المعاصرين
ابتكارًا وتقدّمًا. ينتقد الباحث مخرج "دنكيرك" الذي
قدّم الحرب من وجهة نظره الأحادية القاصرة التي همّش
فيها سيرة المدافعين الفرنسيين عن المنطقة، مثلما قدّم
كلينت إيستوود "القنّاص" من طرف واحد وغيّب العراقيين
تمامًا.
يتمحور القسم الثالث من الكتاب على الشخصية السينمائية
ويعتقد الباحث أنّ هناك ممثلين نمّطوا شخصياتهم بكلمات
أو عبارات خاصة مثل صادق علي شاهين بكلمة "تحياتي" أو
عزيز كريم بعلارة "نارك عيني نارك" بينما أفاد آخرون
حتى من الشخصية الهامشية والضعيفة ليلفتوا أنظار الناس
إليهم مثل الفنان طعمة التميمي بأدائه الصادق والمُقنع
وكذلك حاتم سلمان وكاظم القريشي. ويورد الباحث أمثلة
لفنانين أجانب تقمصوا أدوارهم بعناية كبيرة مثل نيكول
كيدمان في "حفرة أرنب" وبن كنغسلي في "غاندي"، وأنتوني
كوين في دور عمر المختار في فيلم "الرسالة" وعلقوا في
ذاكرة الجمهور لأنهم وصلوا إلى أعماق الشخصية بالأداء
المُقنع والصادق معًا.
يراهن نزار شهيد على نظرية أرسطو القائمة على "الفكرة،
الشخصية، الحدث، الحبكة، والذروة" وأي خروج عنها فهو
يقع في إطار "التجريب والتغريب" لأن السينما تعتمد على
الشخصية في تجسيد الدور والتأثير على المُشاهد بواسطة
الأداء والحوار والحركة. فالمُشاهد لا يستطيع أن
يتخيّل شخصية ويلارد في فيلم "القيامة الآن" من دون أن
يتذكر أداء مارتن شين، ولا يمكن أن يذكر فيلم "الشيخ
والبحر" من دون أن يستعيد أداء سبنسر تراسي. يشير
الباحث إلى أنّ الشخصية تُقسّم من خلال منظور نفسي
واجتماعي إلى خمسة أنواع وهي: "الشخصية البسيطة،
والمركّبة، والمسطّحة، والدائرية، والشخصية الخلفية".
فالشخصية البسيطة لها وجه واحد ويمكن التنبؤ بسلوكها
مثل شخصية القروي في الأفلام المصرية. أمّا الشخصية
الدائرية فهي متعددة الأوجه وسلوكها غير متوقع مثل
سلوك كلايد في فيلم "بوني كلايد" لآرثر بِن.
يتوقف الباحث في القسم الرابع والأخير من الكتاب عند
سياسة الغلاسنوست التي تطرق أبواب السينما السوفيتية
قبل أن يعرّج على مقاربتيّ "التأويل والتجريب". فلقد
عانت السينما السوفيتيية من الإيديولوجيا المنغلقة على
نفسها رغم أنها قدّمت أفلامًا كبيرة مثل "المدرّعة
بوتمكن"، و "الحرب والسلام" و "أنشودة الحياة" لكنها
مَنعت أفلامًا مهمة من قبيل "القومسيار"
و "وداعات طويلة"و
"عشرون يومًا بدون حُب" التي لم تكن بخطورة فيلم
"أندريه روبلوف" لتاركوفسكي و "حبّات الرمّان"
لبارداجانوف. فالسينما فن وصناعة وتجارة ويجب أن تتوفر
على حيّز كبير من الحرية لا يسمح بهيمنة مقص الرقيب
إلاّ في حالات نادرة جدًا.
يرى الباحث أنّ العديد من الأفلام العراقية هي مجرد
حوادث مرئية انعدمت فيها روح التجريب والمغامرة إلاّ
باستثناءات محدودة جدًا. يخلص الباحث إلى القول:" بأنّ
خيال السينمائي الخصب هو الذي جعل السينما أم الفنون،
وهي تمرّ في مرحلة تجريب دائمة، وعليهم أن يحطِّموا
الرتابة في إنتاجهم السينمائي". ثم يمضي قائلاً:"بأنّ
سينما الشعر، وسينما الفن الخالص، وسينما الواقعية
الجديدة هي محاولات تجريبية في الأشكال والأفكار وسوف
تفرز في المستقبل سينما عراقية تحمل طابعًا أصيلاً سوف
يُشار إليه بالبنان". فكثير من المخرجين العالميين
انتظروا سنواتٍ طوالاً لكي يحصلوا على الدعم أو يقنعوا
المؤسسات الحكومية للمشاركة في الإنتاج مثل برناردو
برتولوتشي صاحب "الإمبراطور الأخير" وريتشارد أنتبوره
الذي يقترن اسمه بغاندي، ويلماز غونَي الذي تألق في
فيلم "الحائط" وآخرين كثر لا يسع المجال لذكرهم جميعًا.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن نزار شهيد من
مواليد بغداد 1953م. تخرج في المعهد العالي للسينما في
القاهرة. عمل في ليبيا وعُمان. أنجز عددًا من الأفلام
الروائية والوثائقية مثل "العملية 911"، "المياه
الدافئة"، "قطار"، "الباب"، "أغنية الطين"، "الجزاء"،
وعدد من المسلسلات والسهرات التلفازية من بينها "آلام
وآمال"، "الشطرنج"، "أزاهير"، و "حذار من اليأس". |