من المؤكد أن السياسة كانت تشغل حيزا كبيرا فى فكر المخرجة الراحلة عطيات
الابنودى "1939 – 2018" لأن كتابها السينمائى الوحيد "السينما الثالثة" كتاب فى
علاقة السينما بالسياسة فى العالم .. الكتاب صدر عن المجلس الأعلى للثقافة عام
2012 ويقع فى 470 صفحة بمقدمة للناقد الكبير كمال رمزى، كان المفترض أن يقدم
الكتاب رؤية عطيات للسينما كمخرجة تنتمى للفكر اليسارى من خلال الحديث عن
أفلامها وقت تصويرها وبعد عرضها - هكذا يفعل غالبية المخرجين - ولكنها أرادت أن
تكتب شيئا مختلفا عن دور السينما فى العالم كأحدى وسائل النضال السياسى .
يقول الناقد كمال رمزى فى مقدمته: "عطيات الأبنودى مخرجة منحازة وهى فى كتابها
"كاتبة" منحازة أيضا، تعلن بقوة عن مواقفها وانتماءاتها مثل ما كشفت عن ذلك فى
فيلم "حصان الطين" 1971 بأسلوب مختلف عن السائد والمألوف .. ويضيف: "أفلام
عطيات وكتاباتها وحدة واحدة بمثابة إضافة إبداعية منسوجة على غرار حصان الطين،
لذا كان من المنطقى أن تقدم كتاب "السينما الثالثة" الذى يعد أنشودة تبجيل عذبة
لتاريخ السينما بموجاته الفكرية وتطوراته الصناعية المعتملة فى الواقع، منذ
السينما الأولى فى هوليود والسينما الثانية فى أوروبا بعد الحرب العالمية، وهى
ترصد بداية ومنابع التيارات الجديدة، وتتابع نضجها وتبلورها وتحدد ملامحها
فكريا وفنيا وتحدد أهم ابداعاتها ومبدعيها ثم تتعقب ما آلت اليه."
ويرى كمال رمزى أن قيمة الكتاب تكمن فى بحث عطيات الأبنودى عن إجابات، إنها
تدرك أن لا شئ يأتى من العدم ولا شئ يضيع فى الفراغ، فالأحداث الكبرى فى
التاريخ لابد أن يصاحبها ويعقبها تغيرات ذات شأن فى توجهات الإبداع السينمائى،
وهى تثبت صحة هذا القانون حين تتابع بدقة مراحل تطور السينما فى العالم.
وتحت عنوان "محاولات الخروج من عباءة السينما الأولى" كتبت عطيات الأبنودى: "لم
يستسلم السينمائيون لشروط الإنتاج ولا للشكل التقليدى المرسوم للنموذج
الهوليودى، وظهرت موجات من الأفلام المختلفة فى كثير من أنحاء العالم، وبخاصة
من قبل السينمائيين الأوربيين أو المخرجين المستقلين الذين يعملون خارج شركات
الإنتاج الضخمة، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مثل "الواقعية
الإيطالية الجديدة" وتجربة روبرتو روسيللينى وفيتوريو دى سيكا وبيير باولو
بازولينى.
وفى فرنسا ظهرت أفلام الموجة الجديدة أو "سينما المؤلف" أو "أفلام الفن
الأوربية" وبدأت مع رئاسة تحرير أندريه بازان لمجلة "كراسات السينما" فى باريس،
وقد أعطت الأمل لجيل جديد من الفنانين السينمائيين لكى يتحرروا من السينما
التقليدية التى عاشوا فى ظلها أعواما طويلة، ومن هؤلاء الذين لمعوا فرانسوا
تريفو وآلان رينيه وجاك ريفيت وايريك رومير وكلود شابرول وجان لوك جودار، وفى
بريطانيا ظهرت أفلام "السينما الحرة".. وفى الولايات المتحدة ظهرت سينما هوليود
الجديدة بداية من فيلم "بونى وكلايد" لأرثر بن عام 1967، وظهور ميلوش فورمان
ورومان بولانسكى ودينيس هوبر، ثم فى السبعينيات فرنسيس فورد كوبولا ومارتن
سكورسيزى وبيتر بوجدانوفيتش، وفى ألمانيا يظهر مانيفستو اوبرهاوزن عام 1962
يعقبه موجة جديدة وتظهر أسماء فيرنر هيرتزوج ورينيه فاسبندر.
وتفرد عطيات فصلا بعنوان: "تجربتان فى مصر .. جماعة السينما الجديدة وشادى عبد
السلام" وتحدثت عن فيلمى الجماعة "أغنية على الممر" لعلى عبد الخالق و"الظلال
على الجانب الآخر" للمخرج الفلسطينى غالب شعث، وكتبت أيضا عن فيلم "المومياء"
لشادى عبد السلام بالإضافة إلى الفيلم الروائى القصير "شكاوى الفلاح الفصيح"
وأفلام شادى الأخرى.
وتحت عنوان "السينما غير الروائية" تتحدث المؤلفة عن التطور الذى حدث للسينما
التسجيلية وتستعرض حياة وأعمال أهم مخرجى هذه السينما فى العالم، وقد استفادت
عطيات فى هذا الفصل من دراستها لنيل درجة الزمالة فى مدرسة الفيلم والتليفزيون
الدولية فى بريطانيا عام 1976.. فقد أتاحت لها الدراسة "مشاهدة أفلام المخرج
همفرى جيننجز، الذى اهتم برجل الشارع وقدرته على مواجهة الظروف الصعبة التى مرت
بها بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وعبر عن روح الشعب البريطانى وساهم
فى توثيق سلوك البريطانيين أثناء الأزمة، فقد كان يرغب فى حماية جزء مهم من
الثقافة الشعبية البريطانية وجعلها ثقافة ضرورية للباقين على قيد الحياة من
الشعب البريطانى".
وتستعرض عطيات مجموعة من الأفلام التسجيلية التى شاهدتها أثناء الدراسة فى لندن
مثل فيلم "كل يوم ماعدا الكريسماس" للمخرج ليندساى اندرسون عن السوق الأسبوعى
فى حى كوفنت جاردن بلندن .. كيف يبدأ تجهيز الخضروات والفاكهة والورود منذ
منتصف الليل حتى الصباح الباكر.
كذلك نتعرف على ذكاء المخرجين البريطانيين فى اظهار حياة الرخاء التى يعيشها
العمال، فى رسالة واضحة أن العامل البريطانى فى دولة رأسمالية كبرى يعيش فى
مستوى معيشة أفضل من أى مكان فى العالم، وكان ذلك فى عز الحرب الباردة بين
المعسكرين الراسمالى والشيوعى، ورغم ذلك لم تهاجم عطيات هذه الأفلام التى تروج
لفكر عكس قناعاتها.. بل اعتبرتها من علامات السينما التسجيلية البريطانية مثل
فيلم "نحن أولاد لامبث" إخراج كارل رايز عن أعضاء نادى عمالى ترفيهى، وفيلم
"رجال يوم السبت" للمخرج جون فليشر عن كيف تقضى الطبقة العاملة إجازتها فى لعب
كرة القدم.
كذلك تحدثت عن المخرج كريس ماركر وسينما المقالة، وقد كون فريقا من النساء
والرجال من عمال مصنع بيجو للسيارات، وتعاونوا لعمل أفلاما تسجيلية عن الحياة
الشخصية للكثير من العمال .. وقدموا طوال 7 سنوات 1967- 1974 تفاصيل حياتهم
بما فيهم الحياة الخاصة لمخرج الفيلم .. وتحدثت أيضا عن جان روش وسينما الحقيقة
وهو حاصل على بكالويوس فى الهندسة المدنية ودكتوراه فى الآداب من السوربون
ومؤسس لجنة الافلام فى متحف الانسان بباريس.
كما تحدثت عن المخرج الأمريكى روبرت درو مؤسس تيار السينما المباشرة، التى
تعتمد على التصوير المباشر بدون إعداد مسبق أو سكريبت .. وأثناء التصوير يكتشف
المخرج موضوعه وهو ما فعله مع الرئيس الأمريكى جون كيندى فى فترة محاولاته
لإقناع الحزب الديمقراطى بترشيحه لانتخابات الرئاسة 1961 .. ثم فيلما آخر بعد
انتخابه رئيسا وكيفية تعامله مع الأزمات وكل ذلك كان جديدا تماما على السينما
التسجيلية فى ذلك الوقت .. ويصور درو فيلما عن جنازة كيندى بعد اغتياله المفاجئ
ويحصل به على الجائزة الكبرى لمهرجان فينيسيا 1964.
وترى عطيات أن السينما الثالثة ليس بالضرورة أن تكون تسجيلية أو روائية، وليس
بالضرورة أن تناصر اليمين أو اليسار، والسؤال الأهم: كيف ترى هذه السينما
العالم؟ إنها سينما ضد الخرافة وضد التمييز العنصرى وهى سلاحا جديدا يهدف إلى
تحرير العقول قبل أى شئ.
وفى الفصل الرابع تقترب عطيات الأبنودى من الفكرة الأساسية التى قامت ببناء
كتابها عليها وهى الدور المأمول للسينما فى دول العالم الثالث، وهذه الدول كانت
قد بدأت منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين فى بناء استوديوهات وامتلاك دور
عرض مثل: الهند ومصر والصين والفلبين وكوريا وبورما وباكستان وتركيا والبرازيل
والأرجنتين وكوبا وغيرهم، وعرضوا أفلام هوليود وبدأوا فى إنتاج أفلام ناطقة
باللغات المحلية .. وفى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أصبحت السينما
المصرية الناطقة باللغة العربية تعرض ليس فقط على الجمهور المصرى، بل امتد
توزيعها إلى غيرها من البلاد العربية مما حقق المزيد من المكاسب لرواد تلك
الصناعة.
وتكرر المؤلفة فى هذا الفصل إفراطها فى الحديث عن التاريخ السياسى لدول العالم
الثالث، ويبدو أن سبب ذلك هو رغبتها أن يخاطب كتاب "السينما الثالثة" الأجيال
الجديدة من السينمائيين الشباب، وهم بحكم حداثة السن يجهلون تفاصيل التاريخ
السياسى للعالم خاصة فى ستينات القرن العشرين، وهى المرحلة التى عاشت فيها
عطيات شبابها وفترة التكوين الفكرى لشخصيتها ما بين انتهاء دراستها للقانون فى
كلية الحقوق عام 1963 وحتى التحاقها بمعهد السينما عام 1968 وتتلمذها على يد
المخرج الكبير بول وارين وانتمائها للفكر اليسارى واتجاهها للسينما التسجيلية
وبالتحديد إلى نوع معين من تلك السينما .. حيث تقدم الإنسان المصرى وهو يقاوم
عوامل الهزيمة بعد 1967، وتمسكه بالمقاومة واسترداد أرضه وتطلعه للحرية
والعدالة ومساواة المرأة والرجل وهى القيم التى دافعت عنها فى أفلامها ..
وفى هذا الفصل توقفت المؤلفة عند تجارب العديد من المخرجين مثل خوليو جارسيا
سبينوزا وفيرناندو سولاناس واوكتافيو خيتينو من الأرجنتين .. وتشير عطيات إلى
أهمية سولاناس وخيتينو الذين تعاونا عام 1968 فى كتابة وإخراج الفيلم
الأرجنتينى التسجيلى الطويل "زمن توهج الأفران"- مدة عرضه حوالى 5 ساعات -
وعلى أساس هذا الفيلم نشأت فكرة "السينما الثالثة" كنوع جديد من أنواع السينما
.. وعنوان الفيلم مأخوذ من جملة جاءت على لسان جيفارا فى إحدى خطبه: "إننا نعيش
زمن توهج الأفران والنور فقط هو الذى سوف نراه "يؤكد الفيلم بشكل واضح على
الخطاب الثورى للمقاومة وترى المؤلفة انه يؤسس لفكرة السينما الثالثة التى
هدفها تثوير الجماهير والتحرر الكامل من القوالب ولتحقيق هذه الأهداف خرج
المانفستو أو الوصفة التى تضع قواعد تحقيق ذلك.
وتنشر عطيات فى كتابها نص المانفيستو على 40 صفحة ويحمل عنوان "نحو سينما ثالثة
.. ملاحظات وتجارب من أجل تطوير سينما التحرر فى العالم الثالث .. علينا أن
نناقش علينا أن نبدع" .. وفى اعتقادى إن المشكلة الأساسية فى هذا المانفيستو
أنه يتحدث عن عالم غير الذى نعيشه اليوم، فهو يتحدث عن عالم منقسم بين معسكر
رأسمالى وآخر شيوعى، وهذا العالم سقط مع سقوط جدار برلين عام 1989 وتأكد سقوطه
مع انهيار الاتحاد السوفيتى آخر أيام 1991 .. لذلك ممكن النظر للمانفيستو
باعتباره "وثيقة تاريخية" تكشف الطريقة التى كان يفكر بها السينمائيون
المناضلون ضد الحكم الديكتاتورى فى بعض دول امريكا اللاتينية، ولا نعرف تاريخ
اعلان المانفيستو إلا من إشارته لمرور 10 سنوات على ثورة كوبا أى عام 1969.
ويمتلئ المانفيستو بعبارات سياسية انشائية رنانة لا علاقة لها بالسينما، بل
ينظر للسينما كأداة سياسية وليست وسيلة للتعبير الفنى عن الإنسان وتخاطب مشاهد
يعيش حياة طبيعية، بل نجده يخلط تماما بين السينما ووسائل الاعلام، كما أنه
يرفض نمط الفيلم الهوليودى ولا يطرح البديل إلا نموذج فيلم "زمن توهج الافران"
فهل يصلح فيلما واحدا ليصبح الأساس النظرى للسينما المناضلة؟
وتضع عطيات الأبنودى خلاصة رأيها فى تعقيب بعنوان: "لماذا لم تستمر السينما
الثالثة؟" .. وتجيب بأن جميع الثورات التى رفعت شعار المقاومة المسلحة ضد
الاستعمار لم تنجح سوى الثورة الكوبية عام 1959.. وخلال الستينيات والسبعينيات
نالت معظم دول أفريقيا وآسيا استقلالها السياسى واتجه بعضها للديمقراطية وإجراء
الانتخابات، بالتالى فقد الشيوعيون قاعدتهم الجماهيرية وسقطت الوسائل التى كان
من المفترض أن تقودهم للسلطة. وترى عطيات أن الجماهير لم تعد ترغب فى خطابات
سياسية تقسم العالم ومشاهدوا السينما يبحثون عن الترفيه .. وأصبح الموقف أكثر
تعقيدا بعد تزايد هجرة العمالة الماهرة والمثقفين من العالم الثالث إلى أوروبا
وأمريكا.
وتختتم المؤلفة كتابها بفصل بعنوان "السينما فى عصر الديجيتال" تحاول فيه
الإجابة على السؤال الذى طرحته تحت عنوان كتابها وهو: هل تصبح السينما الفن
الشعبى للجماهير فى القرن الواحد والعشرين؟ واستعرضت التطور الهائل لوسائل
الاتصال وتأثير الكمبيوتر والانترنت على وصول السينما إلى كل إنسان حتى على
شاشة الموبايل الذى يحمله فى جيبه، كذلك أشارت إلى الطفرة التى حدثت فى تعليم
السينما خاصة عن طريق الانترنت، مثل المدرسة العربية للسينما والتليفزيون على
شبكة الانترنت - فكرة د.منى الصبان - التى تحولت إلى حقيقة بدعم صندوق التنمية
الثقافية. وتؤكد عطيات الأبنودى إن السينما أصبحت بالفعل الفن الشعبى للجمهور
اليوم بفضل التطور التكنولوجى وإن جميع أنواع السينما سوف تزدهر .. السينما
الأولى فى هوليود سوف تبقى وتستفيد من التكنولوجيا وتحقق المكاسب الخيالية ..
وسينما الفن الأوربية سوف يولد لها المئات مثل جودار. وسوف يظهر آلاف المخرجين
فى السينما التسجيلية للتعبير عن واقعهم مثل الدنماركى يوريس ايفانز .. وسوف
يولد المئات الذين يصنعون سينما الحقيقة مثل الفرنسى جان روش .. ولن يتوقف
إبداع السينما الحرة وسوف تزدهر مدارس السينما المباشرة وسوف تتحقق نبوءة
المخرج الأمريكى فريدريك وايزمان ولن يحتاج المهمشون إلى من يمنحهم صوتا لأنهم
سوف يمتلكون وسائل التعبير عن أنفسهم .. وسوف تصبح السينما الثالثة حقيقة بعد
أن أصبحت السينما فنا شعبيا فى القرن الحادى والعشرين. |