عطيات الأبنودي واحدة من المخرجين المصريين القلائل اللذين ظلوا على وفائهم
وإخلاصهم للسينما التسجيلية، وحملوا على عاتقهم عبء شق هذا الطريق الصعب في نوع
سينمائي لا يحصد صانعيه من الشهرة والمال مثل صناع السينما الروائية، وتظل
مشاهدة أفلامهم مقصورة على دوائر صغيرة من النخبة والمثقفين، ولكنها اختارت
وأصرت إلى النهاية أن تكون مخرجة أفلام تسجيلية مع سبق الإصرار والترصد. كما
أنها أحد الرواد الذين غيروا مفهوم السينما التسجيلية في مصر والتي كانت تقتصر
على الدعاية السياحية ومشروعات الدولة فقط، فتحولت بفضلهم إلى سينما تهتم
بالإنسان وهمومه وأحلامه وتترك للصورة السينمائية مهمة الحكي بدلاُ من التعليق
الصوتي.
تنتمي عطيات إلى أسرة بسيطة كثيرة الأبناء لأب مدلل على حسب تصريحها في أحد
الحوارات الصحفية، وأم قوية مكافحة وضعت مصلحة أبناءها نصب عينيها وقبل كل شيء،
ورغم عدم حديثها عن أمها كثيراً فقد ظهرت بشكل أو بآخر في أفلامهما، فكانت
كثيرا ما تميل لنماذج نسائية تشبه أمها، المرأة البسيطة التي تناضل من أجل
أسرتها وتوفير ما يحتاجونه من سبل العيش حتى في وجود الرجل. كما تفتح وعيها
للحياة وللتعليم والفن مع بداية حكم عبد الناصر، هذا العصر الذي بدأ فيه
الترويج لحلم التعليم وخروج المرأة للعمل والمساواة بالرجل، الحلم الذي تملك
عطيات لتحظى بحياة أفضل كامرأة تريد أن يتم تقديرها على أساس عقلها لا جسدها،
وجعلها تنطلق من قريتها إلى القاهرة لتعمل في مهن بسيطة بأجر ضئيل حتى تكمل
تعليمها وتحقق أحلامها.
من هنا بدأت كاميرا عطيات الأبنودي تنحاز للبسطاء المكافحين، الذين ينضالون على
هامش الحياة في المدن والقرى والنجوع من أجل الحصول على لقمة العيش، وانغمست في
الكشف عن حياتهم ومشاكلهم، كما اهتمت بقضايا المرأة والظلم الواقع عليها من
خلال حرمانها من التعليم والحصول على فرصة عمل جيدة وتحقيق أحلامها، والقهر
الذي تتعرض له من الآخر سواء كان أباً أو زوجاً، حتى وصمت بالمخرجة التي تسيء
إلى سمعة مصر وتقلل من قيمة الرجال، وتمت محاربتها حتى لا تعرض لها أفلام أو
تحصل على دعم إنتاجي من الدولة ووصل الأمر إلى حد المطالبة بإسقاط الجنسية
المصرية عنها. وفي خضم سعيها لتصوير حياة هؤلاء ومعاناتهم وافتقارهم لأبسط
حاجات الآدميين اليومية صارت مهمومة بما يحلمون به لأنفسهم وما كانوا يطمحون
لتحقيقه رغم الظروف، وما استطاعوا تحقيقه من أحلام.
منذ أول أفلامها (حصان الطين)، الذي كان مشروع دراستها في عامها الأول بمعهد
السينما وجواز مرورها إلى عالم السينما التسجيلية والمهرجانات الدولية، وهي
تطرح السؤال على أبطالها: "نفسك في إيه؟ / بتحلم بإيه؟"، حتى وإن لم نستمع إليه
صريحاً أحياناً فالإجابة دائماً تشي بوجوده. أصبح البحث عن أحلام البسطاء
الكادحين، خاصة من النساء والفتيات، هو أحد الهموم التي تشغل عطيات وتبحث عن
إجابته وسبل تحققه من خلال أفلامها، حتى صارت تفصح عنه في بعض عناوين أفلامها
(الأحلام الممكنة – أحلام البنات). وربما كانت تبحث فيهم عن عطيات الفتاة التي
قاومت الظروف الصعبة من أجل تحقيق أحلامها، أو تحاول أن تحيي فيهم روح المثابرة
لتحقيق ما يريدونه، وربما أيضاَ كانت تبحث عن تحقيق حلمها الخاص في أن ينال
هؤلاء حياة كريمة تحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، وأن تنال كل النساء فرصة التعليم
وحرية الحلم والحياة.
حصان الطين .. أحلام هزمتها الحياة
تم إنتاج هذا الفيلم عام 1971 لتصوير حياة العاملين في صناعة الطوب والتي تقام
بالقرب من ضفاف النيل، وهو مشروع دراستها الأول الذي حاز على أكثر من ثلاثين
جائزة دولية والذي يؤسس لشغف المخرجة بأحلام البسطاء وأمنياتهم. يفتتح الفيلم
بمشاهد لرجال ونساء يقمن بحمل الطَفلَة وتحويل الماء إلى بقعة دائرية كبيرة، ثم
رجل يربط غمامة على عيني الخيول التي ستقوم بخلط هذه المكونات من خلال حركتها
الدائرية لعدة ساعات من أجل مزج العجين الذي يصنع منه الطوب.
ينطلق صوت مجهد لامرأة بلهجة قروية تتحدث عن حلمها الضائع في التعليم الذي كان
تأمل منه أن يوفر لها فرصة عمل كريمة بعيداً عن هذا العمل الشاق الذي بالكاد
يوفر لها الحد الأدنى من حاجاتها الآدمية، بينما تتنقل الكاميرا بين الحركة
الآلية الدؤبة لفتاة تقوم بوضع عجينة الطوب في القوالب ورصها وتنظيفها وبين
الحركة الآلية الدائرية للحصان في دلالة على أنهما في الشقاء معاً. ثم تتنقل
بلقطات قريبة بين وجوه النساء والفتيات وهن يحملن الطوب على رؤوسهم أو يتناولن
الطعام مع أطفالهن ورجالهن أو وهن يحاولن إخفاء وجوههن من عيني الكاميرا
بابتسامة خجولة، وتحاول المخرجة أن تنتصر لهم في النهاية أو بتعبير أدق تعبر عن
رغبتها وحلمها هي في أن يتحرروا من قيود الفاقة والجهل، فتنهي الفيلم بلقطة
لتمرد الحصان على صاحبه وركضه هرباً منه.
الأحلام الممكنة
"بحلم على قد ما معايا" هذه هي العبارة التي تختم بها عزيزة بطلة فيلم الأحلام
الممكنة وتنهي بها المخرجة فيلمها الذي أنتج بتمويل ألماني ضمن مشروع لـ 6
مخرجات من دول مختلفة عام 1983، وكان سببأ للمطالبة بسحب جنسيتها.
عزيزة هي نموذج للفلاحة المصرية التي ربما لم تتغير سماتها كثيراً إلى عصرنا
الحالي، والتي تعاني من الفقر والحرمان من التعليم من أجل العمل في منزل أسرتها
منذ الصغر ثم في منزل زوجها إلى أن يشاء الله. وهي أيضاً أقرب نموذج لشخصية
والدة المخرجة التي تعاني من مشاريع الزوج الخاسرة التي تؤثر على دخل الأسرة،
وتكافح من أجل تربية الأبناء واستقامة أمور البيت. تتابع الكاميرا عزيزة
وبناتها وهن يقمن بأعمال البيت الشاقة وصناعة الخبز وبيع الحليب الذي يوفر
دخلاً للأسرة، بينما نسمعها تحكي عن قدرة عمل الفلاحات مثل ثلاث رجال لكن دون
الحصول على أجر لأنها تعمل في بيتها ومن أجل أبنائها.
عزيزة امرأة واعية ذكية تدير أمور بيتها وأمور زوجها المالية مع جهلها بالقراءة
ووالكتابة، أدركت أهمية التعليم لكنها لم تستطع إلحاق سوى صغرى بناتها به بسبب
اعتراض رجال الأسرة، هذا الوعي الذي يجعلها تدرك ماهية واقعها ولا تنساق وراء
الأوهام مثل زوجها وتقرر أن تكون أحلامها وطموحاتها على قدر ما تمتلك.
أحلام البنات
أصبح اهتمام عطيات الأبنودي منصباً على قضايا المرأة بشكل عام وقضايا تعليم
الفتيات منذ منتصف التسعينات. وهي القضية التي كانت كانت ضمن اهتماماتها منذ
فيلمها الأول حصان الطين، لكنها أصبحت أكثر تركيزاً منذ هذه الفترة، فكانت ترى
أن التعليم وخروج النساء للعمل هو البوابة الوحيدة للانطلاق إلى حياة أرحب
والوسيلة الوحيدة الفعالة لتحقيق الأحلام.
في فيلم (نساء مسئولات – 1994) تقدم المخرجة نماذج لنساء يقمن بإعالة أسرهن،
نظراً لغياب الأب أو الزوج أو بسبب الفقر وضيق الحال ويدورون مع طاحونة الحياة
من أجل سد حاجات أسرهن، فهل يتوفر لهؤلاء قسط من الأحلام؟
حينما تطرح المخرجة سؤالها على صباح الفتاة القاهرية التي تعمل كوافيرة في حي
شعبي، وتعول أسرتها المكونة من أبيها وأمها وأخوتها بالإضافة إلى أخت مطلقة
ولديها أبناء، تجيبها بحدة "ماعنديش وقت أحلم" فكل حياتها منصبة على حل مشاكل
الأسرة وتوفير المال اللازم لهم.
بينما في فيلم (راوية – 1995) تقدم المخرجة نموذج مغاير لصباح، فراوية فتاة
قروية بسيطة تعيش بقرية تونس في الفيوم، كانت مثل بنات قريتها تعمل في المنزل
وخارج المنزل وتحلم بزوج وبيت بعيد عن والدها الرجل الضال الفاسد الذي يضربهم
وينهب القروش القليلة التي يكسبوها. جعلها الألم تكتشف في نفسها شغفاً بفن
صناعة الفخار، الذي وجدت فيه مهرباً من حياتها البائسة في بيتها بعد أن أشعل
والدها النار بها، وفتح لها سماوات أحلام جديدة كبيرة نحو السفر إلى خارج مصر
من أجل التوسع في تعلم هذا الفن والعمل به، وجعلها تتحلل من فكرة الزواج حتى
تظل حرة من أجل فنها.
في (أحلام البنات – 1995) تحاور المخرجة عدة فتيات من جميع أنحاء مصر، من قرى
الصعيد ووجه بحري ومن القاهرة أيضاً، ممن أجبروا على ترك التعليم من أجل الزواج
أو العمل لسد حاجات الأسرة. هنا يظهر السؤال صريحاً واضحاً (نفسك في إيه؟ /
بتحلمي بإيه) تطوف به المخرجة على جميع بطلاتها اللاتي يسعين إلى التعليم من
أجل مساعدة الأبناء أو القدرة على قضاء حواجئهن، ومن هم من أصبح لهن أحلام
كبيرة.
سناء فتاة عشرينية تعيش في منشية ناصر بالقاهرة، شبت من صغرها على جمع القمامة
مع والدها وأخواتها ولم تتح له فرصة التعليم، حينما انضمت إلى أحد الجمعيات
التي تهتم بتعليم الفتيات تفوقت في القراءة والكتابة والعمل على الآلة الكاتبة
بالعربية والإنجليزية ولاح لها أيضاً حلم السفر وتعلم أشياء جديدة. ومحبات
الفتاة القروية في أوائل عقدها الثاني والتي لم تسنح لها فرصة التعليم مثل
أخوتها الذكور، حينما بدأت تتعلم القراءة والكتابة في فصول محو الأمية أصبحت
تطمح لاستئناف تعليمها لتكون طبيبة أو مهندسة.
يتكرر نفس السؤال ونفس الفكرة في فيلم (بطلات مصريات – 1997) الذي يتناول أيضاً
فتيات ونساء مصريات لم يسمحن للظروف بقهرهن، واتجهن إلى التعليم في فصول محو
الأمية، كلهن أصبح لديهم أحلام وطموحات لتغيير حياتهن لأفضل.
الحلم هو ضوء الحياة ودليل على الرغبة في الاستمرار والمضي قدماً، وعلى مدار
أكثر من ثلاثين عاماً هي عمر عطيات الأبنودي السينمائي، صنعت خلالها أكثر من
عشرين فيلماً تسجيلياً، ينصب معظمها حول هموم المستضعفين قليلي الحيلة، الذين
يرزحون تحت نير الحاجة والفقر، ولا يجدون من يوفر لهم أبسط حاجاتهم الآدمية،
كانت تبحث بين آلامهم ومعاناتهم عن الحلم، ربما لتكشفه لهم حتى ينير لهم طريق
الخلاص، أو لتعلن لمن بيدهم الأمر أن هؤلاء على قيد الحياة ويحلمون مثلكم فهل
لنا أن نفسح لهم الطريق. |