في فيلم المخرجة التسجيلية عطيات الأبنودي "راوية" نشهد هذه المرأة التي يحمل
الفيلم اسمها والتي استطاعت أن تنحت في صخر حياتها الصعبة قبل أن تشكل الطين
والخزف من أجل صناعة منتجاتها اليدوية التي عرضت في جميع أنحاء العالم. وعلى
الرغم من أنها قد أصبحت امرأة مشهورة وناجحة إلا أنها ما زالت تعيش حياة
البسطاء الشعبيين المهمشين لأنها ببساطة تنتمي إليهم على كل المستويات.
والمشاهد لأفلام عطيات الأبنودي التسجيلية يشهد هذه الفئة باستمرار حيث تتبع
المخرجة في كل أفلامها حياة الطبقة الدنيا في مصر من أقصى شمالها عند بحيرة
البرلس وحتى أقصى جنوبها بالأقصر وأسوان.
عطيات الأبنودي أو عطيات عوض (لقبها نسبة إلى الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي
تزوجته لفترة طويلة) ولدت في محافظة الدقهلية 1939 وتوفيت بشهر أكتوبر الماضي.
تخرجت من كلية الحقوق ثم درست بمعهد السينما ثم مدرسة السينما والتليفزيون
الدولية بلندن. وبدأت حياتها المهنية كموظفة بالسكة الحديد ثم ممثلة مسرح في
المسرح القومي ثم مساعد مخرج ثم مقدمة برامج في الإذاعة لتبدأ بعد ذلك مسيرتها
في اخرجا الأفلام التسجيلية.
ومن أفلامها "حصان الطين" 1971 وأغنية توحة الحزينة" 1972 و"سوق الكانتو"
و"الساندويتش" 1975 و"مناظر من لندن" 1976 و"التقدم إلى العمق" 1979 و"بحار
العطش" 1980 و"الأحلام الممكنة" 1983 و"نساء البترول" و"عام الوزير مايا"
و"إيقاع الحياة" 1988 وحديث الغرقة رقم 8" 1990 و"اللي باع واللي اشتري" 1992
و"يوميات في منفى" 1993 و"نساء مسئولات" 1994 و"مفكرة الهجرة" و"القتلة يحاكمون
الشهيد" و"أحلام البنات" 1995 و"راوية" 1995 و"أيام الديمقراطية" 1996 و"بطلات
مصريات"
و"قطار النوبة" 2002 و"إثيوبيا بعيون مصرية" 2004 و"توشكى" 2004 و"صنع في مصر"
2006.
بالتأكيد لم تكن عطيات الأبنودي أول امرأة مخرجة تسجيلية في مصر فقد سبقها
مخرجات مثل سعدية غنيم ومنى مجاهد. ولكنها هي أشهرهم بلا منازع لأسباب مختلفة
منها أن لها أسلوب وفكر سينمائي خاص بها ارتضته لنفسها منذ أول فيلم لها وحتى
آخر فيلم لها.
من أسرة بسيطة خرجت وعن البسطاء تكلمت هذه المخرجة العظيمة. عن حياة البسطاء
ومشاكلهم وآمالهم وأفكارهم وإحباطهم. سجلت كل شيء عنهم من شمال مصر إلى جنوبها
ومن شرقها إلى غربها لتؤكد أن عبقرية مصر تكمن في هذا الإنسان البسيط الشعبي
العامي من الطبقة الدنيا والذي يعاني يوميا من أجل لقمة العيش بينما هو ينتمي
إلى ملح الأرض أو ملح مصر الذي تبنى على أكتافهم الحضارة المصرية منذ العصور
الفرعونية وحتى يومنا هذا وسيستمر الأمر على هذا المنوال حتى نهاية الزمان.
واهتمت عطيات أيضا بالمهمشين في مصر قبل عقود طويلة من الاهتمام الحالي المزعوم
حيث نشهد الآن أفلاما تتحدث عن المهمشين في مصر ولكن بعيون غربية لا تعرف شيئا
عنهم ولم تعش أبدا بينهم وبالتأكيد لم تخرج منهم لتخرج الأفلام الحديثة عن
المهمشين مشوهة وزائفة.
ناس قاعدة بتتفرج على ناس
بالتأكيد كان المخرجين التسجيليين في مصر السابقين عليها والمعاصرين لها يهتمون
بحياة أصحاب المهن المهضوم حقها في المجتمع المصري من فلاحين وعمال وصيادين.
ولكن جاءت عطيات الأبنودي لتهتم أكثر بمن هم في الظل أكثر من هؤلاء الذي صنعت
عن مخرجين آخرين أفلام عنهم من قبل. فجاء فيلمها الشهير "أغنية توحة الحزينة"
ليحتفى بمن يعملون في الموالد والسيرك المتنقل والفنون الشعبية الأخرى من كبار
وأطفال ليعكس مدى البؤس الذي يعيشون فيه على الرغم من أنهم مصدر البهجة
والترفيه لقطاع كبير من المجتمع المصري وهو قطاع الطبقة الدنيا التي لا تملك ما
يكفي من الأموال فتكتفي بهذه الفنون الشعبية البسيطة التي لها تاريخ طويل من
إبهاج الشعب المصري والترفيه عنه في أوقات فراغه بعد الانتهاء من عمله اليومي
المجهد.
في هذا الفيلم نشهد وجوه المصريين السمراء من أثر الشمس أثناء العمل المستمر
والطويل تحت أشعتها الحارقة. نرى هذه الوجوه وهي تسلي وتتسلى حيث الراقصة
الحزينة ولاعبي السيرك الذين يتفرج عليهم البسطاء. بسطاء يتفرجون على بسطاء
مثلهم يسلونهم بينما يتفرج المشاهد على أناس يتفرجون على أناس في مركب تريد
المخرجة فيه أن تبين أن المشاهد لا يختلف كثيرا عن هؤلاء الناس الذي يتفرجون
على فناني الفنون الشعبية الذين يمثلون المخرجة نفسها.
فمفهوم الفرجة هنا هو مفهوم عابر للزمان والمكان والشاشة نفسها التي يعرض عليها
الفيلم فعلى رغم كل هذه الفواصل الزمنية والمكانية بالإضافة إلى شاشة العرض
نفسها التي تفصل المشاهد عن الفيلم إلا أن المشاهد يجد نفسه كواحد من ضمن هؤلاء
الناس الذين يتفرج عليهم والذين بدورهم يرون أنفسهم في الفنانين الشعبيين الذي
يسلونهم بألعابهم ورقصهم وفنهم. أو مثلما يقول الراوي الشاعر في الفيلم:
"الدنيا كورة
والكورة فيها ناس
قاعدة بتتفرج على ناس
...
الهنا له ناس
والهم له ناس
وناس بتتفرج على ناس
والدنيا كورة
...
الدنيا كورة نطاطة
ضحكت وأنا مش عايز أضحك
والدنيا حلوة لولا الناس
والدنيا وحشة لولا الناس
وناس بتتفرج على ناس
قاعدة بتتفرج على ناس".
هذه القصيدة التي كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي تؤكد فلسفة المشاهدة لدى
صانعة الفيلم حيث العالم مسرح كبير – نلاحظ هنا أن اهتمام عطيات الأبنودي بالفن
بدأ من خلال المسرح حينما عملت في البداية كممثلة ثم مخرج مساعد في المسرح
القومي مع كرم مطاوع في مسرحية "الفرافير" كمثال – حيث يمثل أناس مسرحية تحكي
عن مشاكل الناس الذين يتفرجون على المسرحية.
مخرجة وشاعر تجمعهما قضية
جاء هذا الميل من قبل المخرجة إلى هذه الطبقة في كل أفلامها بشكل أو بآخر حتى
أفلام السيرة مثل فيلم "حديث الغرفة رقم 8" حيث اختارت عطيات الأبنودي شاعرا
يميل كثيرا إلى هذه الطبقة ويدافع عنها ويتمسك بقيمها وأفكارها الاجتماعية
والسياسية. فأمل دنقل شاعر متمرد على أقرانه من الشعراء الذين يخاطبون الصفوة
حيث كان يهدف إلى مخاطبة الطبقة الشعبية الدنيا. فعلى الرغم من أنه يكتب شعرا
فصيحا إلا أنه لم يكن يحبذ استخدام مفردات مهجورة وأيضا كان يكتب شعرا حرا غير
مكبل بقواعد الشعر العمودي الذي هجره الناس قبل الشعراء. فكان يتحرر من الشعر
العمودي وأيضا يخاطب الناس بشعر يميلون إليه أكثر من غيره عبر الشكل وأيضا
مضمون الأفكار والمواضيع التي يناقشها.
هو أيضا شاعر مهمش مثل المخرجة نفسها ومثل كل فناني الشارع التي سجلتهم المخرجة
بكاميراتها. فهو شاعر من الصعيد من محافظة قنا وليس من العاصمة بالقاهرة التي
يستحوذ فنانيها على الشهرة الأكبر دائما. ولذلك نجد الشاعر والمخرجة يتفقان في
فكرة اهتمامهما بأفكار وقضايا الإنسان المهمش من الطبقة الدنيا التي ينتمون
إليها.
وهو نفسه ما نجده في فيلمها الأول "حصان الطين" والذي يتناول فئة لم تتناولها
السينما التسجيلية من قبل وقليلا ما تناولتها بعد ذلك وهي فئة العاملين في
صناعة الطوب الطيني. فهي تتناول هؤلاء المهمشين من الطبقة الدنيا. هؤلاء الحفاة
الذين يعملون بكد رجالا ونساء من أجل لقمة العيش. يعملون بسرعة وهمة وإتقان حيث
نرى النساء وهم يحملون عشرات الكيلوجرامات من الطوب ويهرولون بها حتى يستطعن أن
يعدن إلى بيوتهن وأبنائهن بما يكفيهن من قوت ليستمروا على قيد الحياة. كل
الكائنات في هذا الفيلم تعمل جاهدة حتى الحصان الذي لا يرى بسبب هذه الغمامة
التي تغطي عيناه والذي يعود إليه اسم الفيلم يعمل بهمة شديدة في الطين وهو يدور
في دائرة لا تنتهي كحياة هؤلاء البسطاء. ولكنه في نهاية الفيلم يبدو متمردا على
صاحبه وعلى هذه الحياة فيتركه هاربا لتنهي المخرجة فيلمها والحصان الطليق يركض
نحو عمق الكادر متحررا من العمل الشاق واللانهائي والذي تحمله طويلا صابرا وغير
قادر على الاعتراض. فهذا الحصان مثله مثل الشاعر أمل دنقل متمرد بسبب ضغوط
الحياة المستمرة عليه رغم انتمائه مثل بني البشر إلى طبقة المهمشين الساكنين
الراضين بحالهم.
صوت من لا صوت لهم
بينما في فيلمها "بحار العطش" نجد أنها تركز على حياة عالم الصيادين في بلدة
صغيرة تطل على بحيرة البرلس والتي على الرغم من البحر الكبير المالح الذي تطل
عليه وعلى الرغم من أنها مصدر أساسي للسمك لكل المناطق التي حولها إلا أن أهلها
لا يجدون قطرة ماء يشربونها أو يستعملونها في أغراضهم اليومية.
فتكشف لنا عين كاميرا عطيات الأبنودي الحياة البائسة التي يعيش فيها أهل هذه
البلدة والحكومة الغائبة التي لا تقدم لهم أي مساعدة على أي مستوى وعلى رأسها
مصدر الحياة نفسها وأصلها وهو الماء ما يؤدي بنساء هذه البلدة الصغيرة أن
يدوروا ويموروا في أرجاء البلدة وما حولها باحثين عن نقطة ماء تروي عطشهم وعطش
أبناءهم الرضع. في حنفيات الحكومة العمومية التي تعمل ساعات معدودة كل أسبوع
بينما رجل ميري يقف ينهرن ويسيطر على الموقف ضاربا تلك ومانعا الأخرى من
الاقتراب أو في الآبار الجافة أو حتى في حفر بئر من أجل كمية صغيرة من الماء
الملطخ بالطين والرمل أو حتى بين الصخور التي جعلت الماء آسن. بينما تغسل
النساء حاجياتهن وحاجيات أسرهن في ماء البحر المالح الذي لا يبخل عليهن مثلما
تبخل الحكومة الغائبة عليهن بقطرة ماء.
أما في فيلمها "إيقاع الحياة" فلقد حاولت عطيات الأبنودي في أربع أجزاء وهم
"شئون
الحياة" و"من يحافظ على التراث؟" و"بين ضفتي النهر" و"الميلاد/ الموت/ الفرح"
أن تتبع وترصد وتحلل وتتغنى بهؤلاء المهمشين في الأقصر وأسيوط. في هذا الفيلم
حاولت عطيات أن تكون هي صوت من لا صوت لهم عبر تسجيل حياتهم وعرضها في شريطها
السينمائي الطويل والمحمل بالمشكلات المختلفة واليومية التي يعيشونها منذ بداية
مولدهم وحتى وفاتهم. في هذا الشريط تؤكد المخرجة أنهم جميعا متشابهين مهما
اختلف نوعهم أو دينهم أو مكانهم الجغرافي. فجميعهم لهم نفس العادات والتقاليد
ونفس المشكلات التي لم يحاول أحدا من المسئولين أن يعرفها فما بالك بأن يحلها
ليضمن لهم حياة أفضل.
وبالتأكيد لا يمكن ألا تسجل عطيات الأبنودي في مشوارها الفني حياة مجموعة من
أكثر المهمشين في مصر وهم أهل النوبة حينما صنعت فيلمها "قطار النوبة" عنهم وعن
عودتهم السنوية لأرضهم كل عيد أضحى كعودة آدم إلى الجنة التي خرج منها حيث
يأخذهم القطار في رحلة طويلة تستغرق يوما بأكمله حتى يصلوا إلى مبتغاهم.
المهمشون هنا بلا وطن أصلي. مشردون في كل مكان في أرجاء البلاد وخارجها.
يغادرون من أقصى الشمال أي من مدينة الإسكندرية حتى يعودوا إلى موطنهم الأصلي
بأقصى جنوب مصر في محاولة منهم لتثبيت أقدامهم ولو لبضعة أيام في هذه الأرض
التي ينتمون إليها مثلهم في هذا مثل كل إنسان مصري متشبث بأرضه. وهو أمر
بالتأكيد من السمات الرئيسية في الإنسان المصري منذ نزوله إلى الوادي والعيش
على ضفتيه. فالإنسان المصري هو إنسان طالب للاستقرار باستمرار. هو إنسان لا
يحبذ الخروج من أرضه أو السفر أو الهجرة إلى أي مكان آخر إلا لو كان مضطرا. فهو
يتحمل كل المعاناة والمشكلات التي تواجهه ولا يترك بلده وأرضه.
وهذه الأرض الخصبة تعطيه كثيرا وبكل الأشكال على الرغم من أنها أحيانا تبخل
عليه لظرف أو آخر. هذه الأرض أيضا هي التي تعطي الطين إلى راوية في فيلم عطيات
الأبنودي الجميل الذي يحمل نفس الاسم وهو "راوية" حيث تقدم لنا المخرجة في هذا
الفيلم نموذجا للمرأة العاملة التي تعمل في صناعة الفخار والتي استطاعت عبر
عملها هذا منافسة الرجال جميعهم وأن تقدم عروضا لمنتجاتها في العالم كله.
وراوية ليست النموذج الوحيد الناجح في أفلام عطيات الأبنودي من النساء بل كل
نساء عطيات الأبنودي هن نساء ناجحات حتى ولو لم يكن في شكل نجاح راوية وشهرتها.
فكاميرا عطيات تقدم جميع النساء في كل أفلامهما كبطلات أسطوريات قادرات على فعل
ما لا يستطيع فعله الرجال. فهن يعملن بيد ويعتنين بالأطفال باليد الأخرى بينما
القدم تقوم بعمل آخر والرأس تحمل شيئا ما ثقيل الحمل. نساء صغيرات ونساء عجائز
يعملن جميعا منذ الصباح الباكر وحتى الليل. نساء يغيب أزواجهن ورجالهن لأسباب
مختلفة منها العمل أو الطلاق أو الهجرة أو ألعاب اللهو. نساء يحفرن الأرض
بأيديهن وأظافرهن من أجل قطرة ماء تروي عطش بيوتهن.
المرأة في أفلام عطيات الأبنودي هي مؤسسة كاملة لا فرد واحد بل هي الدولة في حد
ذاتها في غياب تام للدولة ودورها لعقود وعقود مستمرة بلا أمل في تغيير هذا
الوضع المؤسف. فالمرأة منذ أول فيلم لعطيات الأبنودي في بداية السبعينيات وهي
تحاول جاهدة أن تعيش وأن تحيي بيتها وأفراده بلا عون أو مساعدة من الدولة
ومؤسساتها المختلفة وهو نفسه ما تفعله المرأة المعاصرة في أرجاء مصر المختلفة.
ورغم أهمية ذلك من حيث أن أفلام عطيات الأبنودي لم تنفصل عن الواقع المعاصر
بسبب القدم وأنها مازالت حية وصالحة للمشاهدة حتى اليوم لطزاجة أفكارها ومسها
لحياة الإنسان المصري المعاصر إلا أن هذا الأمر هو أمر مؤسف بالتأكيد لأنه يعني
أيضا أن الحال لم يتغير كثيرا بل هو لم يتغير البتة وأن الإنسان المصري ما زال
يعيش في وضع بائس يحتاج إلى تغيير عاجل وجذري ومستمر.
كانت عطيات الأبنودي مخرجة وفنانة مهمومة كلية بهؤلاء البسطاء وحكاياتهم ولذا
كانت هي صوتهم حينما استعملت كاميراتها لتسجيل حكاياتهم ومشكلاتهم. إلا أنها لم
تكن تريد أن تتخلص تماما من همومهم عبر طرحها في بحر الفن عبر عين الكاميرا وهو
ما يؤكده استمرارها في عمل أفلاما عنهم طوال حياتها. بل حاولت جاهدة عبر
الكاميرا وعبر القلم أن تساعدهم في التعبير عن أنفسهم عبر عرض حياتهم ومشكلاتهم
للعالم كله أملا منها في أن يتغير حالهم إلى الأفضل وإيمانا منها بأن الصورة
والكلمة لهما دور هام في تغيير الأفراد والشعوب. بالإضافة إلى أن صورة وصوت
الفن هما بالفعل الماء الذي يروي عطش الإنسان الروحي. |