20 عاما مرت علي صدور النسخة الأولي والأخيرة لكتاب "أيام لم تكن معه" لرائدة
السينما التسجيلية الراحلة عطيات الأبنودي، هذا الكتاب الذي تعرض لظلم بين بعد
أن اختصره البعض في الخلاف الذي نشب بين الكاتبه وزوجها السابق شاعر العامية
الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي الذي شن هجوما ضاريا وحارب كل من ساند وساهم
في الترويج للكتاب واتهامهم بالتشهير به.
رغم أن الكتاب بغض النظر عن الحسابات الشخصية التي أثيرت من حوله، يعد وثيقة
هامة لفترة زمنية نادرا ما يتم تسليط الضوء عليها، تلك الفترة التي شهدت اعتقال
مجموعة من المثقفين والأدباء ورجال الصحافة بتهمة تكوين منظمات شيوعية في عهد
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، منهم الشاعر سيد حجاب، والكاتب الصحفي صلاح
عيسي، والأديب جمال الغيطاني، والكاتب علي الشوباشي، وأخرون.
مع وضع في الاعتبار إنه عبارة عن يوميات لزوجة أثناء فترة اعتقال زوجها، مما
يغلب عليه الطابع الفردي، فهي المتحدثة الوحيدة ،التي تنقل ما كان يحدث
بعينيها، وتفسر مواقف المحيطين بها وفقا لقناعتها هي، ووجهة نظرها، إلا أن
عطيات الأبنودي نجحت وببساطة شديدة في تسليط الضوء علي الوجه الأخر من معاناة
المعتقلين السياسيين، فمخطيء من يظن أن المعتقل وحده يعاني، فذويه وزوجته
وأصحابه كل يعاني، وربما معاناتهم أكبر، فمن الصعب أن يختفي من تحب فجأة من
حياتك، دون أن تعرف عنه شيئا، فتخوض رحلة غاية في الصعوبة للبحث عن أي معلومة
تبث الطمأنينة في قلبك. أو تخضع للشائعات وللاجتهادت التي تتلاعب بك كيفما
تشاء.
هذا ما فعلته عطيات الأبنودي في كتابها، فلقد قدمت لنا معاناة أسر المعتقلين
سواء النفسية أو المادية وقد كانت واحدة منهم، كما حكت الموقف البطولي لزوجات
المعتقلين في دعم أزواجهن، واستخدام كافة وسائل الضغط علي متخذي القرار للإفراج
عنهم، كل هذا في جو يعمه الحب والمودة من زوجة لزوجها.
ويبقي السؤال ما الذي أغضب عبد الرحمن الأبنودي بهذا الشكل من يوميات زوجته
السابقة والتي لم تحمل له اي إساءة في مذكراتها بل كانت علي النقيض تماما، تحمل
له كل معاني الحب والاحترام؟
قبل الإجابة علي هذا السؤال، لابد أن نبحث عن سبب نشر هذه الأوراق رغم مرور
أكثر من 32 عاما علي كتابتها، فأحداث اليوميات تدور في الفترة ما بين أكتوبر
1965 حتي مارس 1976، إلا أن توقيت نشرها كان في يناير 1999، فلماذا صبرت عطيات
الأبنودي كل هذه السنوات دون نشر المذكرات، ولماذا اختارت هذا التوقيت، بعد ان
أصبح لكلا من الطليقين حياته الخاصة، فتزوج عبد الرحمن الأبنودي وأنجب، وهي
تولت تربية ابنتها بالاختيار أسماء يحيي الطاهر عبدالله، وواصلت عملها كمخرجة
رائدة في فن السينما التسجيلية، وقدمت أعمالا رائعة نحو 25 فيلما تسجيليا
تقريبا، نالت العديد من الجوائز، فلماذا الآن؟
هذا السؤال أجابت عليه عطيات بنفسها في مقدمة كتابها، وكأنها توقعته، فلم تترك
لأحد الخيال، وقالت "لقد قررت أن أخوض التجربة النفسية للعودة الي هذه الأوراق
القديمة، ربما لأني بعد أن بلغت هذا العمر أجدني قد وصلت إلى مواسم الغفران،
الذي يصلها الإنسان مع نفسه بعد أن يشرف علي سنواته الستين وهذا ما جعلني أجد
في نشر هذه المذكرات نوعا من الكشف عن الذات الذي كنت أحتاج إليه منذ فترة
طويلة، أو ربما لأنني وجدت في هذه الأوراق، ما قد يفيد إنسانا ما، في مكان ما،
في وقت ما.
وهكذا تعاملت عطيات مع مذكراتها علي أنها تجربة ذاتية خاصة، دون الالتفات أن
هناك شخصيات قد تتأثر بنشر هذه الأوراق القديمة، وهنا تأتي الإجابة علي السؤال
الأول لماذا غصب الأبنودي؟
وقبل الاجتهاد في كتابة إجابة من وحي قراءة المذكرات، نجد أن عطيات نفسها توقعت
هذا الأمر في أكثر من مناسبة داخل يومياتها، فكتبت إنه جاء لزيارتها صديق
لزوجها السابق اسمه محمد الشريق يعمل مدرسا في العريش، فوجيء بخبر اعتقال
الأبنودي، وإذ به يبدي انزعاجه من تصرفاتها وحديثها ببساطه عن اعتقال زوجها
ونبهها إلى أن الزوجات في الصعيد لا يتكلمن ببساطة هكذا، وانصرف متعجبا من
موقفها.
وفي موضع آخر كتبت عطيات الأبنودي إنها ذهبت لمقابلة فريدة زوجة الكاتب صلاح
عيسي لمشاركتها أزمة اعتقال زوجها هي أيضا، فإذ بها تنصحها ألا تتحرك كثيرا
وألا تقابل ناس كثيرا وقالت لها "سمعتنا كزوجات للمعتقلين لابد وأن نحافظ عليها
بأي شكل".
لكن هل استجابت عطيات للنصيحة، لقد كتبت إنها خرجت من هذه المقابلة وكلام فريدة
"يرن في أذني" لكن في الواقع لم تستجب، فامتلأت يوميات عطيات الأبنودي بكثير من
النشاط أثناء اعتقال زوجها، فلقد كانت تستقبل أصدقاءه علي مدار اليوم في شقة
الزوجية ، الذين يأتون للسؤال علي "الأبنودي" وتقديم الدعم لها، وكانت تمارس
حياتها بشكل طبيعي، فتذهب للكوافير، وتشتري قمصان النوم، وملابس جديدة، وتذهب
بصحبة أصدقائها للحفلات ولدور العرض السينمائي، وكانت تكتب من كان معها وهي
تشاهد الفيلم الفلاني وتفاصيل الفيلم ومدي تأثرها به، وعن عودتها لمنزلها بعد
منتصف الليل أكثر من مرة، وإقامتها لعزومات عديدة في منزلها للأصدقاء لمشاهدة
مباراة كرة القدم، أو سهرة ، أو برنامجا، ونشاطات عديدة لا تناسب من وجهة نظر
الرجل الصعيدي تصرفات امراة تم اعتقال زوجها، حتي أنها كتبت إنها أحيانا تتمني
أن يبقي زوجها في الاعتقال بعض الوقت حتي تنتهي من أمور تشغلها.
كما تضمنت اليوميات مشاعر زوجة لزوجها البعيد عنها، الذي تعشقه وتهيم به،
فتفكره بأيامها ولياليها معه، وتعده إنها في انتظاره متلهفة وهي بأبهى صورة له
مرتدية قميص نوم يحبه، دون أن تدرك أن هناك زوجة أخري في حياة طليقها قد تتأثر
بهذا الكلام.
وجاء في اليوميات هجوم عطيات علي بعض من أصدقاء عبد الرحمن الأبنودي الذي كان
يتعاون معهم، فكتبت في أكثر من مناسبة عن الموقف المتخاذل للمطرب محمد رشدي من
اعتقال زوجها، بعد ان أبدى خوفه من الغناء له مرة أخرى باعتبار الأبنودي
"شيوعي" وكيف كانت تهاجمه بضراوة، وشجارها مع المطرب محرم فؤاد بعد أن وصف
الأبنودي بـ"الزيبق" وانتقادها للمخرج نور الدمرداش وسردها لقصة محاولة تهرب
مجدي العمروسي من دفع مستحقاته وموقف رؤساء التحرير في هذا الوقت المتخاذل من
قضية المعتقلين، مما قد يؤثر علي علاقة عبد الرحمن الأبنودي بهم أو بذويهم.
وبعيدا عن البحث عن أسباب غضب "الأبنودي" سواء كان محقا أم لا، لكن لا يمكن
لأحد أن يغفل أهمية هذا العمل، الذي قدم لنا نموذجا لامراة مستقلة، وواعية،
ومكافحة، وهي ابنة اسرة كبيرة العدد، وهي الوحيدة بين أشقائها التي التحقت
بالتعليم الجامعي، وكانت تعمل بجانب دراستها، حتي تساند أمها العائل الوحيد
لأسرتها، بعد أن باع الأب كل ما يملك للانفاق علي هوايته وعشقه للترحال.
عطيات الأبنودي نموذجا للزوجة "الجدعة" التي لم تكتفي بدعم قضية زوجها المعتقل
فحسب، بل كانت تمد يد العون لكل أسر المعتقلين، كانت تخوض معارك للحصول علي
مستحقاتها هي و زوجها، ثم تنفقها عن طيب خاطر لإعالة كل من تضرر من اعتقال ابنا
له، أو زوجا لها، هي الزوجة التي حاربت للدفاع عن اسم زوجها من أي محاولة للنيل
منه، ولم تدخر جهدا لتتواصل مع كل من تشعر أنه قادر علي مساعدتها لإخراج زوجها
وغيره من السجن، قدمت عطيات الأبنودي نموذجا للزوجة المؤمنة بموهبة زوجها، فها
هي تبذل كل ما أوتيت من قوة لنسخ أعماله الإبداعية بعد أن حدثت غارة من رجال
الأمن علي أوراقه وقت مداهمتهم لبيت الزوجية.
المذكرات تدور أحداثها في نحو 540 يوما أو أقل قليلا، يقدم لنا رحلة إنسانية
ممتعه، بصياغة رائعة تكشف عن موهبه أدبية لعطيات الأبنودي لا تقل عن موهبتها
الفنية كمخرجة واعدة.
وبالبحث عن أطراف المعركة التي نشبت بسبب بدء عطيات الأبنودي بنشر هذه اليوميات
على حلقات في مجلة نصف الدنيا، ورئيسة تحريرها في ذلك الوقت كانت الأستاذة
سناء البيسي التي بسؤالها صرّحت لنا أن:
عطيات الأبنودي سيدة عظيمة.. ولم أستكمل نشر مذكراتها استجابة لبكاء شخص عزيز.
كشفت الكاتبة الصحفية سناء البيسي رئيس تحرير مجلة "نصف الدنيا" الأسبق، في
تصريحات خاصة لـ "عالم الكتاب" عن كواليس نشرها حلقات كتاب "أيام لم تكن معه"
علي صفحات المجلة علي مدار أربع حلقات، وأسباب قرار وقف النشر بطريقة مفاجأة
وبدون سابق إنذار أو إعتذار للقاريء.
وقالت في بداية حديثها: كل ما أثير حول تهديد الشاعر الراحل عبد الرحمن
الأبنودي لي لوقف نشر المذكرات كذب وافتراء، فالقصة بدأت حينما جاءتني الراحلة
عطيات الأبنودي لمكتبي بمجلة "نصف الدنيا" تلك المجلة التي كانت تساهم وتدعم
قضايا المرأة، وعرضت عليّ فكرة نشر اليوميات، وطاوعتها حينها، فأنا من أشد
المعجبين بها، وأري إنها سيدة عظيمة، ومخرجة واعدة، وقمت بالفعل بنشر المذكرات
علي مدار 4 حلقات إلى أن جاءني شخص قريب يرجوني لأوقف النشر، مشيرا إلى وجود
بيت وأسرة سوف تتضرر مما تحويه هذه اليوميات، وكان هذا الشخصي يقصد بين
عبدالرحمن الأبنودي وزوجته وبناته.
وتابعت: بعد هذا اللقاء وجدتني في موقف حرج،خاصة إن هذا الشخص العزيز حينما كان
يتحدث معي بكي بشدة، وحينما علمت بنية عطيات الأبنودي في نشر اليوميات بكتاب،
قررت وقف النشر والاكتفاء بالأربع حلقات، حفاظا علي بيت ربما يحدث به مشاكل لا
يعلم أحد مداها.
وأضافت: قرأت الحلقات الأربع، ولم أجد فيها أي إساءة لشخص عبد الرحمن، بل وجدت
إنني أمام تجربة إنسانية لا مثيل لها، فهي تحكي قصة حب جميلة، لسيدة قدمت كل
الدعم لزوجها المعتقل، وخلت اليوميات من أي تجريح أو مساس بزوجها السابق، لكننا
نتحدث ونحن طرف محايد، لسنا الطرف المتضرر، فربما انزعجت الزوجة الثانية
للأبنودي مما جاء في الكتاب، أو أن اليوميات تضمنت أشياء لم يكن يريد الافصاح
عنها، وفي النهاية اتخذت القرار بضمير مرتاح، فلن أكون معاول لهدم بيت ثاني.
ونفت سناء البيسي إنها نشرت اليوميات كمحاولة لزيادة مبيعات المجلة خاصة أن
بطلي اليوميات نجمين كبيرين في عالم الفن والإبداع وقالت: ولدت المجلة عملاقة،
وكان يكتب فيها كبار المثقفين من الأدباء والفنانين والاعلاميين أمثال نجيب
محفوظ وأحمد بهاء الدين،ويوسف إدريس وإبراهيم نافع، وكنا نوزع نحو 20 ألف نسخه
والمرتجع كان صفرا، فأي كلام حول استغلال نشر هذه اليوميات لزيادة المبيعات،
كلام غير منطقي، ولو كان صحيحا كنا استمرينا في نشر باقي المذكرات. |