يدقُّ جرس المحطة ليعلن عن تحرك القطار، تمتدُّ الأيادي ملوَّحة للمسافرين،
الدموع لا تستقر في العيون، ثمة فسحة لها لتنطلق معبرة عما يجيش في القلب من
حنينٍ للوطن، تسقط الدموع على أرضية محطة مصر بالإسكندرية، أرض الغربة والرحيل،
أرض السفر البعيد عن النوبة حيث الطين طيب، معجون بمحبة وعرق الأنقياء، والقلوب
– هناك - أنعم من الحرير.
في عام 2002 أخرجتْ الراحلة عطيات الأبنودي فيلمًا تسجيليًا عن أهل النوبة،
المقيمين في الإسكندرية والقاهرة، الذين يقوم بعضهم برحلة عودة سنوية في عيد
الأضحى إلى قراهم في النوبة، عبر قطار مخصص لهم، يُقلِّهم إلى موطنهم، ثماني
عشرة ساعة من السفر، قد تزيد لو تعطَّل القطار، في القلوب لهفة للوصول إلى
البلد التي أُبعد أهلها عنها جريًا وراء لقمة العيش، عاشوا في غربتهم يعانون من
ألم الحنين الذي لا دواء له.
مع السلامة يا حبيبي مع السلامة .. يا تاخدني وما تسبنيش.. يا تقول مع السلامة
وتودعني..
بينما تسقط الشمس في الغياب تنوحُ الأغاني في حناجر المسافرين والمودِّعين،
الرحلة طويلة ولا يهوِّنها سوى الغناء، لا يلجأ للنوم إلا المتعبون، لكن لن
ينعموا بقسطٍ من الراحة طالما الغناء يتسرَّب للقلب حيث تنام الذكريات، يُوقظها
فتسبق القطار وتحط هناك جنوبًا حيث ينام طائر الحنين في سلام.
ليه يا دموع عيني متخلصيش .. دا يرجع تاني وما يمشيش..
عاشت مخرجةُ الأفلام التسجيلية عطيات الأبنودي من أجل هؤلاء المهمشين التي
عبَّرت عنهم في أفلامها التسجيلية والروائية، بعيدة عن الأضواء، لم تلحقها شهرة
الشاعر عبد الرحمن الأبنودي رحمه الله الذي أخذت منه لقبها بعد زيجةٍ استمرت
اثني عشر عامًا، بعدها بدأت الأضواء تتسلط عليه متمركزة في الفترة التي تلت
زواجه من الإعلامية نهال كمال وإنجابه منها ابنتين، في حين ظلتْ عطيات الأبنودي
مُخلصة لعُملة فنها النادر، تعمل في صمتٍ، اختارت مجالا غير جماهيري "الأفلام
التسجيلية"، لا يحمل ذلك الفن صوت الشعر العامي والغنائي الذي صدح في عالمه
ومَلَكَهُ زوجُها السابق.
سابْ لي النار .. وأخَدْ الجنة والأمان .. ساب لي البلد فاضية ومالي سواه
يصل القطار إلى الصعيد فتلوح على الجانبين البيوت قصيرة القامة، كان ذلك قبل
توغل الأبراج، والعمارات السامقة التي نبتت في صعيدنا فجأة. كان للريف وللصعيد
خصوصيةٌ وطابعٌ بعيد عن تعالي المدن، لكن اختلطت الأوراق، وذابت الخطوط
الفاصلة، لو قُدر للراحلة عطيات الأبنودي أن تُخرج فيلما آخر تسجيليا عن
العمارة وشكلها المشوَّه في صعيد مصر وريفها لرصدت مآسي العمران وزوال جمالياته
على أيدي سماسرة القبح.
ولولا أكل العيش، الفراق ما كان .. اصبر شوية يا وابور مستعجل ليه .. واخد
وليفي بعيد ورايح فين؟
هاجمتْ الشيخوخة ذاكرة عطيات الأبنودي فواجهتها بالكتابة، هزمتها في المعركة
الأولى، وخرجت منتصرة بكتابها "أيام ليست معه .. عبد الرحمن الأبنودي في
السجن"، الذي نُشر منه جزءٌ في مجلة نصف الدنيا عام 1998 بعنوان "مواسم الغفران
.. رسائل عطيات إلى زوجها السجين عبد الرحمن" حكت فيه بعضا من سيرتها مع
الأبنودي وفترة اعتقاله في نهاية ستينيات القرن الماضي، حكتْ عن حياته أكثر مما
روت عن سجنه، أيامها المريرة، وهي تنتظر خروجه من السجن، وحيدة تترقب مثل كل
الرائين هزيمة يونيو المُنكرة. تحملت سنوات العتمة، وانطفاء السراج، وحيرة
السائرين في طريق مجهول. لم تنل من ذلك النور الذي بزغ في مسيرة الأبنودي بعد
انفصالهما، أخلصت لصناعة أفلامٍ يصفها الكاتب سيد محمود بأنها "تبدو بلا
جمهورٍ، لكنها تساهم في تأكيد المسار المستقل لصناع الثقافة الوطنية إلى جانب
المساهمة في تغيير وعي الناس، وهو هدف لازمها طوال حياتها"
يا سايق الوابر استنى ما تمشيش .. على مهلك وخُدْنا معاك احنا الاتنين ..
توقفت الأغاني في قطار النوبة، لتلد الألسنة مئات الزغاريد على ألسنة المنتظرين
على محطات القطار في إسنا والكلابشة وكوم امبو، ها قد عاد الأحبةُ لأحضان
أحبتهم؛ ليصير العيدُ عيدين، وتتضاعف فرحته في قلوبهم، يهدأ القطار، ويدخل في
سكينة، راحة يطلبها بعد سفر مئات الكيلو مترات، قبل أن يعاود الرحلة مرة أخرى
للشمال حيث ينقل آخرين، لتتجدد لعبة الحنين والاغتراب من جديد، وتنبت في القلوب
أشواق جديدة.
مع السلامة يا حبيبي مع السلامة .. سافر حبيبي وأخد الدنيا معاه ..
أبى عام 2018 أن يرحل إلا ويأخذ في سِكته عطيات الأبنودي بعد أن عانت كثيرًا مع
المرض، قررت الاستراحة ووضع نقطة ختام لحياةٍ امتدت قرابة التسعة والسبعين
عامًا، بدأتها من إحدى قرى الدلتا ثم تخرجت في كلية الحقوق لتصير مضروبة بالفن،
في العام 1971 تخرجت في المعهد العالي للسينما، قامت بتأسيس شركة إنتاج باسم
"أبنود فيلم" لتصير واحدة من أهم صناع الأفلام التسجيلية في مصر، تلقت عدة
تكريمات من تونس وسوريا وفرنسا، درست السينما خارج مصر، وسجلت رحلتها في كتابها
"أيام السفر"، انحازت الراحلة للكادحين والمهمشين، الذين يعيشون في الظلال، دون
أن يشعر بآلامهم أحد أو يذكرهم في كتبه وأفلامه ذاكر.
*المقاطع الغنائية الموجودة في المقال من كلمات الأغنية النوبية المصاحبة لرحلة
المسافرين في الفيلم التسجيلي "قطار النوبة عن سفر النوبيين من الإسكندرية إلى
قراهم بمدن التهجير في عيد الأضحى" من إخراج الراحلة عطيات الأبنودي.
https://www.youtube.com/watch?v=C57TcVOqjFE |