في سياق
هذا الملف، تأتي هذه القراءة في كتاب أمين صالح
''الوجه والظل في التمثيل السينمائي'' كونه من أهم الكتب في الفن
السينمائي، وفي الوقت نفسه فمنذ صدوره لم
يلق الاهتمام الكافي، وهو عموماً
يعد دالاً شاهداً على وجه/ وجوه من عمل أمين المضني
والممتع والمفيد.
تزخر
المكتبة العربية بالكثير من الإصدارات السينمائية المؤلفة، أو المنقولة
إليها من لغات أخرى، وتتراوح هذه المؤلفات ما بين قراءة تجارب محددة، بفحص
مختلف الأبعاد التي ترتكز عليها تقنياً وفنياً وفكرياً، أو تنصب لمصلحة
معالجة جماليات هذا الفن.
ويسير مع هذين التصورين في خط مواز، البعد الذي
يستهدف المتلقي،
وذلك بتقديم أدلة تساعده على استبطان المفهومات،
ولترشده من
ثم لإعادة استثمارها في
أثناء مشاهدة الفيلم، تماماً كما هي الخارطة
الدالة، أو المفاتيح الأساسية التي
تفتح ما قد يغلق على المتلقي، أو تسهم
في توسيع مداركه لهضم التعقيدات التي
تشتملها الصورة السينمائية في تلاحقها
وتتابعها لتصبح في
المحصلة النهائية فيلماً.
وبالمقابل
نجد ندرة في
المؤلفات تسعى لاستنطاق مختلف القضايا في
الفن السينمائي من منظور وفهم
العاملين في الفيلم من ممثلين بشكل أساس.
وبالتحديد في القضايا التي
تصادفهم قبل وفي
أثناء، ومن خلال العمل على تحقيق فيلم معين،
أو من خلال
رؤيتهم أنفسهم للتمثيل بوصفهم مجموعة من الحالات المتحولة. وكتاب أمين صالح
''الوجه
والظل في التمثيل السينمائي'' ينحاز بأكمله إلى هذه النوعية من
المؤلفات، الذي يمثل بحق إضافة تثري وتعزز، تضيف وتؤسس لطرائق نظر مختلفة.
فالكتاب
بمجمله لا يصدر من منطلق يسعى إلى بسط مفهومات التمثيل السينمائي
وجعلها في أطر وقوالب محددة، بقدر ما يروم تشييد حوارية مترامية الأطراف،
تستلهم مادتها من فهم وتجسيد طائفة واسعة من الممثلين الغربيين تحديداً في
كيفية نظرهم لهذا الفن، وفي كيفية إحساسهم به، وتجسيدهم له، ثم في كيفية
قراءتهم للتمثيل في
علاقته الطبيعية أو المتوترة مع مختلف العناصر الأخرى المشكلة
للفيلم السينمائي،
منذ اللحظة الابتدائية،
لحظة قراءة السيناريو، مروراً
بلحظة الإنجاز النهائي،
وصولاً إلى لحظة الخبرة بعد مراكمة التجارب الواحدة
تلو
الأخرى. وأمين صالح صاحب أول سيناريو فيلم بحريني ''الحاجز''، يواصل
عمله الدؤوب، ومحاولاته الجادة في تقديم جرعات سينمائية. وسط ثقافة تعتمد
أكثر ما تعمد على جهود واجتهادات فردية في
سياق يتطلب رساميل ضخمة، وفرق
عمل، وإمكانات هائلة.
ونجده لايزال متمسكاً
ومتشبثاً بخيط أحلامه، يكتب
ويترجم ويؤلف. وقد صدرت له ترجمة لكتاب
''السينما التدميرية'' لـ ''عاموس
فوغل'' العام ٥٩٩١. إضافة إلى ترجمته ليوميات عملاق السينما
الروسية أندريه
تاركوفسكي٦٠٠٢. فضلاً عن عشرات المقالات الصحافية التي
قرأ من خلالها كثيرا
من الأفلام السينمائية المنتمية لمختلف المدارس والثقافات
والاتجاهات.
ويتواصل
هذا الحب بهذا السفر الضخم الذي
يحرك ذاكرتنا صوب نمط تأليف محدد، يعتمد إثارة
ومضات تمهيدية معينة،
ثم لا يلبث أن يترك شخصيات كتابه/ ممثليه تتحاور فيما
بينها. ولمثل هذه الطريقة جذورها التي
يعرفها المهتم والمتابع، وهي معروفة
منذ أزمان متباعدة إلى القراء،
وذلك في القواميس أو المختارات التي تأتي
بمصطلح أو فكرة ما،
ثم تشرحها من خلال اقتباسات مأخوذة من أقوال وتصريحات
ولقاءات الممثلين أو المخرجين حولها.
ولكن المختلف في هذا الكتاب أن موضوعه
تحدد في التمثيل. يقر أمين صالح،
بداية، في مفتتح كتابه أنه لا يرنو
إلى تقديم دراسة نظرية،
بقدر ما ينحو نحو سبر آفاق التمثيل من خلال إدلاءات
الفنانين
أنفسهم. ومسوغ ذلك فقر المؤلفات عموماً من وجود مؤلفات تكشف
الشهادات والخلاصات المتعلقة بالفنانين حول قضايا ذات سمة
فنية،
وذات سمت
إبداعي. إذ تتمحور معظم المؤلفات الموضوعة عن فنانين معينين
حول جوانب شخصية
حياتية،
مع إغفال لرؤية ونظر هذا الفنان، واكتفائها بتتبع الهامشي، وملاحقة
اليومي عديم القيمة. وفي التمهيد نفسه يحدد منهج بحثه ذاكراً
أنه لا
يسعى لفض الاشتباكات والاختلافات بين مختلف الآراء حول أية قضية متصلة
بالتمثيل،
فهو إذ ينجو بنفسه من المفاضلات والترجيحات والموازنات،
فإنه يترك للقارئ
هذه العملية واضعاً
أمامه مائدة عامرة بالتعريفات والتشخصيات،
ومن ثم عليه أن
يختار ما يشاء، دون فرض قسري، بل إن كل الخيارات مفتوحة وفي
متناوله.
وفي الوقت نفسه قد تؤشر هذه العملية - حال كل الفنون - على إدراك مسبق
بصعوبة الجزم، واستحالة الحد والحصر،
فالتحول والتغير، في مقابل الثبات
والاستمرار، شرعة لا يمكن المضي فيها قدماً من دون التسليم بها،
أو
بنتائجها حد اليقين الذي لا مراء فيه. يتألف الكتاب من ''٠٣'' باباً، وكل
باب يبحث في قضية فنية معينة، بدءاً من تعريف الممثلين أنفسهم للتمثيل،
وحتى سائر
الموضوعات الفنية المرتبطة بالتمثيل، ومنها على سبيل المثال، الممثل
والسيناريو، الممثل والحوار،
الممثل والشخصية،
الممثل ومصادره،
العلاقة بين
الممثل والمخرج، الممثل والكاميرا، الممثل والإضاءة، الممثل والموسيقى،
الممثل والمونتاج،
الممثل والموقع،
الممثل والجوائز،
الممثل والدراسة..
بالإضافة إلى تناول بعض الموضوعات ذات الصلة مثل: اختيار الممثلين،
البروفات،
الارتجال، فترات الانتظار بين اللقطات، اختيار الأدوار، الممثل الثانوي،
النجومية، وغير ذلك مما ينطوي عليه عمل الممثل،
أو في علاقته بمختلف
العناصر والأشياء التي لا يمكن الاستعاضة عنها لإنجاز المطلوب. ولإيضاح
الفكرة بشكل أكبر نتناول أحد أبواب الكتاب لتقديم بعض
مفصلياته،
وقد وقع الاختيار
على الباب الخاص بعلاقة الممثل بالشخصية التي
يؤديها، لأكثر من سبب، الأول
أنه من أطول فصول الكتاب إذ
يقع في ''٧٦'' صفحة، الثاني أن معد ومترجم
الكتاب رفده بآراء العديد من الممثلين من ثقافات مختلفة، ومن مدارس
سينمائية
متعددة، تتوافق أحياناً،
وتتضارب في أحايين أخر، كما أن هذا الموضوع من
الموضوعات الشيقة التي تهم القراء المتتبعين للفن السابع عموماً، ولنجوم
معينين. بالإضافة إلى أنه يعكس الجهد الكبير المبذول لسبر هذا الموضوع من
مختلف
النواحي. ويقدم في الوقت نفسه لمحات وافية عن هذه الطريقة في
الإعداد.
يبدأ هذا الباب بمقدمة على هيئة تساؤلات:
ما الذي يحكم اختيار الممثل للدور؟
وما الأسس
التي يرتكز عليها في الاختيار؟ وما العناصر أو المكونات التي تكون
مصدر جذب وافتتان؟ وما الشروط التي
لابد من توافرها في الشخصية كي يتفاعل
معها الممثل، أي إلى مدى يتحقق الانسجام أو التوافق بين الممثل
والشخصية؟ وما
الذي يرغب الممثل في
التعبير عنه من خلال هذه الشخصية أو تلك؟ وانطلاقاً
من
التساؤلات السابقة يبدأ الكتاب بتقديم وجهات نظر طائفة واسعة من الممثلين.
وكانت النتائج الختامية أن بعضهم انحاز إلى الأدوار التي تعكس شيئاً من السيرة
الذاتية، وبعضهم كان ميالاً لاختيار الأدوار المركبة والمعقدة، وبعضهم
الآخر
كانت اختياراته تتم على أساس عاطفي،
وفريق رابع كان يضع التناقض شرطاً
أساسياً، وهناك ما كان يفضل الشخصيات التي
تختلف بشكل كلي
عن شخصيته
الحقيقية، وهكذا اختلاف مستمر يحدد طبيعة هذه العلاقة. ثم يأتي
أمين صالح
بمقدمة نظرية أخرى، يتحدث فيها عن الأساسيات التي
ينبغي على الممثلين العمل
في إطارها لسبر الشخصية،
وفهمها، وخلق ماض لها، واستيعابها في إطار
المعطيات الاجتماعية وما إلى ذلك،
حتى لو كان السيناريو مقتصداً في هذا
المجال، بالإضافة لاستعراض الأدوات الفنية والثقافية والتخيلية اللازمة عند
الممثل - وأحياناً بعض النصائح - وبعد هذا التمهيد يترك أمين الحديث
للممثلين والمخرجين حول موضوع خلق الشخصية ذهنياً،
بالاعتماد على المخيلة
والتجربة الحياتية والثقافية،
وملء الفراغات في السيناريو حول هذه الجزئية،
ثم في
الكيفية التي يبني بها الممثلون الشخصيات داخلياً وخارجياً،
والأدوات التي يستخدمها الممثلون في
قراءة الشخصيات التي سيجسدونها أو
جسدوها بالفعل،
مثل الحدس والغريزة أو البحث والتحضير،
وغير ذلك. وينتقل
الحديث في هذا الباب بعد ذلك لمعالجة موضوع التحول في الشخصية، والفروق
الفردية بين ممثل وآخر من ناحية تأدية تشكيلة واسعة من الشخصيات،
في مقابل أن
تصبح طبيعة أدوار هذا الممثل نمطية ومتكررة، إلى الممثلين الذين
يؤدون شخصيات
كاملة بعيدة عن ذواتهم في كل التفاصيل، من الإيماءة إلى الصوت إلى أكثر
التفاصيل
تعقيداً، بما يفضي ذلك إلى قيام بعض الممثلين بمعايشة لصيقة
بالتجارب التي تشبه الشخصية التي سيؤدونها، بقراءة كل ما يتعلق بها إن كانت
شخصية حقيقية، والالتقاء بها إن أمكن،
وتعلم الفنون والمهارات والسلوكيات
الخاصة بنمط محدد من الشخصيات بالمعايشة،
وبالمراقبة والمتابعة، إلى درجة
التماهي التام مع هذه الشخصية ذهنياً
ووجدانياً ونفسياً وحتى جسمانياً،
أو
بقراءة دقيقة وشاملة حول الفئة التي تمثلها هذه الشخصية،
والطبقة التي
تنتمي إليها من جميع النواحي. ومن هذه المسألة يعالج الباب هذه القضية من
زاوية
الضغط الذي تمارسه على الممثل من عدمه، في حال، كان أداء بعض هذه
الشخصيات يتطلب تقمصاً تاماً، ومعايشة كلية، بحسب الممثل،
وطبيعة عمله.
كما يتناول هذا الباب بعض القضايا المتصلة بالتمثيل: مثل الفروقات بين الممثل
الخلاق والممثل الدمية،
وما إلى ذلك من قضايا متصلة. عارضاً في الوقت نفسه
لوجهة نظر عشرات الممثلين والمخرجين والنقاد في
القضايا المشار إليها. ومما
سبق يتبين - وهذا ينسحب على جميع أبواب الكتاب - أن هذا الباب/ الكتاب
يتجه إلى ثلاث وجهات هي:
التعريف. بيان الفروقات في طبيعة العمل والفهم من
فنان أو مخرج لآخر.
تقديم نوع من الدليل للقارئ إلى بعض الأفلام ذات المستوى
الفني الرفيع من خلال الممثلين والأفلام التي جرى الاتفاق عليها من قبل
النقاد
أنها متميزة - وهذه المسألة ألمح إليها أمين صالح، كون اقتباساته
واستشهاداته
كانت مدروسة، ولا تضع في اعتبارها المتهافتين على التمثيل من باب الارتزاق
أو
ما
شابه. ولعل أهمية هذا الكتاب الضخم (٩٦٤ صفحة) أنه يتحدث في الأغلب
الأعم عن أفلام سينمائية متوافرة بسهولة،
وأنه يمنح المهتم معلومات وفيرة حول
مختلف
الظروف الإنتاجية لعدد كبير من الأفلام التي شكلت علامات متميزة في تاريخ
الفن السينمائي.
إن الكتاب، يمثل جهداً كبيراً، يستحق الالتفات والعناية،
على رغم صدوره قبل فترة.
الوقت
البحرينية
في 13 أبريل 2006