·
في العالم العربي صدور كتاب بعنوان “أندريه
تاركوفسكي: النحت في الزمن”.
·
في الولايات المتحدة، وحول العالم، خروج
أسطوانة جديدة لتحفة هذا المخرج الروسي “المقتفي”.
·
في الدراسات الأكاديمية يُطرح اسمه كواحد من
أهم سينمائيي القرن.
·
في المجلات المتخصصة، يعودون إليه في مقالات ودراسات، وفي مهنة الإخراج
هناك دوماً مخرجون جدد من أصقاع مختلفة يحاولون تقليده مختارين سينما قائمة
على التأمّلات الوجدانية واللقطات الطويلة ذات المنحى الشعري.
ولد
تاركوفسكي في 4/4/1932 وتوفي في 29/12/1986 وكان فنّاناً رائعاً أنجز في
حياته المهنية، التي بدأت سنة 1958 وانتهت سنة وفاته، أربعة عشر فيلما
من بينها سبعة طويلة من إخراجه هي “اسمي إيفان” (2196) و”أندريه روبلوف”
(1969)، و”سولاريس” (1972)، و”المرآة” (1975)، و”المقتفي” (1979)، و”نوستالجيا”
(1983) و”القربان” (1986).
كل واحد
من هذه الأفلام السبعة يكتنز قدراً رائعاً من الشعر والفن والروحانيات.
والسُلطة، ممثلّة بالحزب الشيوعي الحاكم آنذاك، لم تلتق وأياً من هذه
الأفلام. فقط وصول تاركوفسكي إلى قدر كبير من الشهرة خلال السبعينات
والثمانينات هو الذي منع سجنه أو حبس أفلامه في الخزائن المنسية.
“أندريه
روبلوف” مميّز بين أفلام المخرج بأنه الرؤية الفنية الروحانية الكبيرة التي
عكست الوضع الاجتماعي السائد في روسيا القرون الغابرة بعد المسيح وموقف
السلطة من الدين. بذلك أمكن للمخرج التعبير عن موقف السلطة الروسية تحت
الحكم الشيوعي من الدين. لكن الفيلم أكثر من لمز وإيعاز او إيحاء، إنه
يعتبر قالباً فنياً ذاتياً خالصاً لا يخشى أن يأتي أكبر حجماً مما اعتادت
الأفلام الذاتية أن تأتي به. فوق ذلك، هو فيلم يحمل كل تلك المفردات التي
عمل عليها تاركوفسكي فيما بعد: الماء (نهر وبحر ومطر) واللقطات الطويلة
المتأمّلة وتلك البواعث النفسية التي تملاً الصورة بأقل قدر من الكلام.
قبله، في
“اسمي إيفان” هناك وجود لهذه العناصر لكنها لم تكتمل وتتلألأ وتسبح في
جوّها الخاص (أو تطير كما مشهد ذلك البالون المتهادي طويلاً) إلا مع
“أندريه روبلوف”. “سولاريس” من ناحية أخرى، كان فيلمه الخيالي العلمي الذي
قيل فيه إنه الرد الروسي على “أوديسا الفضاء: 2001”، لكن الحقيقة أنه فيلم
قائم بحد ذاته وإن كان يلتقي وفيلم ستانلي كوبريك على إدانة العلم الزاحف
على الروح كما هو الوضع حالياً.
“المرآة”
و”المقتفي” حملا ذلك السعي لإثبات حق الروحانيات في البقاء. صراعها مع
المادة والتفكير المادي. التأثير الديني (حتى الإسلامي وتاركوفسكي درسه)
بارز في تلك الأفلام وبقي بارزاً، بل طاغياً، حتى فيلميه الأخيرين اللذين
حققهما خارج وطنه “نوستالجيا” و”القربان” لم يتخليا عن تلك الحرب ضد
المادّة.
الكتاب
الذي بين يدينا “أندريه تاركوفسكي: النحت في الزمن” من تأليف المخرج نفسه،
لكن النسخة ذاتها مترجمة عن الإنجليزية بقلم الناقد أمين صالح وصادر عن
المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
لقد خلف
تاركوفسكي إلى جانب أفلامه الرائعة هذا العمل الوجداني النيّر. لكن هذا
الكتاب أيضاً هو الأفضل بين كل الكتب التي تشرح نظريات العمل السينمائي من
وجهة نظر مخرج محترف التي قرأها هذا الناقد او يذكرها.
ولا ينصرف
“النحت في الزمن” إلى تأكيد أو دحض نظريات الآخرين، بل كان المخرج وضعه
كانعكاس لنفسه ولسينماه ولمفهومه، وقرأته حين صدر في مطلع الثمانينات بشغف
كبير ثم أتاح لي الناقد الزميل أمين صالح إعادة قراءته مترجماً بالشغف
ذاته.
إنها
مهمّة صعبة تلك التي تصدّى لها الزميل: كيف تنقل إلى أي لغة أخرى، وخصوصاً
إلى العربية، تلك الرقّة التي صاحبت كتابات المخرج وهو يشرح سينماه؟ كيف
تنقل تلك الأحاسيس وتفسّر تلك الرؤى؟ لكن الزميل فعل ونقل ترجمة ناجحة.
الكتاب ذاته ضرورة للهاوي سواء حظى بمشاهدة بعض أفلام تاركوفسكي أو لم يحظ
بعد (وعليه أن يفعل وإلا فإن ثروته الثقافية في السينما ستبقى ناقصة).
في كتابه،
حدد تاركوفسكي رؤيته لأشياء كثيرة من بينها وعلى سبيل المثال فقط مواضيع
تتعلّق بالسيناريو وبالمونتاج (تجارب أيزنشتاين) وكيفية خلق الإيقاع (يقول
بصواب: “الإيقاع ليس هو التعاقب القياسي، الموزون للأجزاء. إن حركة الزمن
ضمن الكادرات هي التي تخلق الإيقاع، وأنا متأكد أن الإيقاع وليس المونتاج،
كما يعتقد البعض، هو العنصر المكوّن الرئيسي للسينما”). ترجمة هذا الكتاب
كانت خدمة من المترجم، كما من الناشر، لجمهور يجب أن يعلم.
هذه
الناحية وحدها تفتح العين على معطيات آمن بها وصدّقها كثيرون واعتبروها شبه
منزّلة: المونتاج هو سر الإيقاع. لكن تاركوفسكي يلفت النظر إلى أنه في حين
أن ذلك صحيح في جانب من جانب العمل، إلا أنه يخلو من النبض الواقعي الناتج
عن مضمون الصورة، ومضمون الصورة لا يمكن تجسيده إلا بالاعتراف بالحركة
الزمنية التي على المخرج الاعتماد عليها وتجسيدها.
والكتاب
في النهاية مليء بالاكتشافات من الطينة نفسها: يقول مثلاً: “الإخراج في
السينما يعني ببساطة أن تكون قادراً على عزل الضوء عن الظلام”. يا له من
تعبير.
أحد
أفلامه، إذاً، “المقتفي” بات متوفّراً على اسطوانات كما كان متوفراً في
البداية على أشرطة فيديو. وإذا كان لديك قريب أو صديق يسألك: ماذا تريد أن
أجلب لك معي من أمريكا او من فرنسا لا تفكّر بتي شيرت سيهترئ أو لن يعجبك
أو بحذاء قد يكون ضيّقاً على قدمك، بل قل له: اشتر لي فيلم “نوستالجيا.
صدّقني ليست هناك تجربة سينمائية مماثلة كتجربة هذا الفيلم التي تلد تجربة
رائعة موازية هي مشاهدة هذا الفيلم من حيث المحتويات الإنسانية التي تخرج
بها.
عنوانه
بالإنجليزية:
Stalker،
وبطله سجين سابق يسمّيه الفيلم “المرشد” أو “الدلال” (يقوم به أندريه
كايدانوفسكي) يعيش مع زوجته وابنته الصغيرة على حدود “المنطقة”. إنها منطقة
غامضة تكوّنت بفعل كارثة نيزيكية خلفت مساحة كبيرة من الدمار والحكومة فرضت
حصراً عليها. هناك عالم (نيقولاي غرينكو) وكاتب (أناتولي سولنستين) يريدان
الوصول إلى الغرفة التي يُقال إنها تحوي كل الأسرار والقابعة على سفر بعيد
في داخل الأرض المحرّمة. الدلاّل سيكون دليلهم إلى هناك والفيلم من هنا
يتألّف من مواقف متعارضة بينه المؤمن بوجود الله وبأهمية الروحانيات
وبالعالم المؤمن بالماديات والذي لا يؤمن بوجود الله، سبحانه وتعالى،
والمثقف الذي يرفض، معظم الوقت، لعب دوره الفاصل والتخلي عن حياده المصطنع.
يتحدث
تاركوفسكي عن بطله فيقول: “يكابد لحظات من اليأس حين يتزعزع إيمانه، لكن في
كل مرة يصل إلى إدراك متجدد لمهمته: أن يخدم أولئك الذين فقدوا آمالهم
وأوهامهم. شعرت بأنه من المهم جداً أن يرصد الفيلم الوحدات الثلاث للزمن
والمكان والفعل”.
هذه
الحركة الثلاثية في الزمان والمكان والفعل تمنح الفيلم صيانة لأبعاده
جميعاً. الرحلة تمتد بمجازية الكلمة فهي رحلة في الزمن (المنطقة كئيبة،
مدمّرة تعكس حياة انتهت فعلياً على الأرض) وفي المكان (من وإلى) ثم في فعل
وتصرف تلك الشخصيات حيال ما تبحث عنه. النهاية تجعلهم يبدون كثلة من الجنود
خاضوا حرباً ثم جلسوا يلتقطون أنفاسهم، لكنها أنفاس بائسة. لعبت فيها
تيارات مختلفة وضعيفة. قبيل النهاية بقليل يتحدّث السجين السابق، ذلك الرجل
البسيط المؤمن بالمعجزات: “إنكما (لشريكيه في الرحلة) لا تؤمنان بالله، كيف
لكما أن تؤمنا بأي شيء آخر؟”.
اما الفعل
فهو مركّب. الحركة الجسدية ثم الحركة الكونية. حين يجلس الثلاثة فوق أنقاض
وهناك بركة ماء آسنة قريبة، وتبدأ السماء بالمطر... نقطة، ثم نقطتان ثم
أكثر وأكثر حتى ينهمر المطر.... قبح المكان تزيّنه جمالية الطبيعة حتى في
دكانتها.
الخليج الإماراتية
في 12 نوفمبر 2006