بترجمة من
الكاتب أمين صالح وإصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر يصدر كتاب (النحت
في الزمن) الذي كتبه خلال خمسة عشر عاماً المخرج السينمائي الروسي (أندريه
تاركوفسكي) ومثّل نشر هذا الكتاب في العام ٦٨٩١ في ألمانيا حدثاً فنياً
لمخرج مهمّ ابتكر لغة خاصة للسينما، ووعياً مغايراً لدور السينما، يختلف عن
الوعي الحكومي القائم في السينما.
وأمين
صالح الذي تكرّمه هذا العام أسرة أدباء وكتاب البحرين،
يقدّم لنا هذا الكتاب المهم ، والجميل والمميّز في السينما ليفتح لنا أفق
السينما الذي ظل موارباً دائماً إن لم يكن مسدوداً عن مستويات التلقّي في
البحرين.
يتساءل
شاعر السينما المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي في مدخل كتابه (النحت في
الزمن) عن جدوى كتابة هذا الكتاب، وهو بذلك يحيلنا إلى النظر بعمق حول
أهمية تدوين الفكر في مقابل الإشتغال العملي،
ويتساءل تاركوفسكي ما إذا كانت الممارسة الفعلية لإيجاد الحلول العملية
لأية معضلة نظرية تنشأ أثناء صناعة الفيلم أجدى من الجلوس لتدوين هذه
الملاحظات والأفكار والمناقشات حول العملية السينمائية.
ثم بعد ذلك يحاول في كافة فصول الكتاب أن يفسّر أو يحلّل هذه المعضلات،
مستعيضاً عن إيجاد الحلول العملية بعملية استبدالية تستبدل بالآتي فهماً مغايراً للماضي، مستغرقاً في سؤال التجربة ، وواضعاً
أعماله الفنية في
مقابل الإستفهامات الخاصة،
مبتعداً شيئاً فشيئاً عن التناول الواضح للمعضلات النظرية، وداخلاً في
استنطاق علاقات السينما والصورة البصرية بالأعمق الإنساني، سواء عبر أسئلة الأجدى
، والأفضل، أو تلك الأسئلة الوجودية لطبيعة الفن أو السينما أو الإنسان
عموماً.
والكتاب
الذي اشتغل عليه تاركوفسكي طوال خمسة عشر عاماً من حياته، والذي يقول عنه
الكاتب نفسه أنه تعوزه الوحدة نظراً
لطول الفترة التي اشتغل فيها الكاتب على الكتاب،
تميّزه هذه اللاوحدة في
كونه لا يخرج عن ذهن الباحث الذي يذهب جهة الإجابات المباشرة والحلول
المنطقية الواضحة،
بقدر ما يذهب جهة استثارة النفس الخلاّقة لاستيعاب وفهم ما
تشتغل به وعليه،
وبذلك فإن ميزة هذا الكتاب تكمن في أنه رصد حقيقي للتغيّر اللامستقر في فهم
الفنان لأدواته الفنية، وللأسئلة التي يتعامل معها طوال حياته الفنية.
ينقسم
الكتاب إلى تسعة فصول يتناول فيها الكاتب جوانب يتعلّق بعضها بالسينما
كأنموذج لطبيعة العملية الذهنية التي
تعتمل في فكر المبدع الخلاّق واللانمطي،
فمخرج مثل تاركوفسكي صنع سبعة أفلام طوال خمسة وعشرين عاماً، كوّنت كلها
علامات في السينما وثبّتت فهم (السينما الشعرية) أو ما عرف (بالتيار الشعري
للسينما الذاتية)، لابد أن تكون أسئلته بطبيعة السينما التي
يشتغل عليها، وهي سينما تنظر للإنسان لا من نواحي شكلية أو مظهرية، بطبيعة
السينما السردية الحكواتية ، ولا من نواحي مضامينية أو مفاهيمية بطبيعة
السينما الواقعية أو الأشكال المؤدلجة من السينما، بل إنها تنظر للإنسان من
الناحية الكونية والفلسفية،
وهي بذلك لا تنمّطه في جنس أو لون، بل تفتح الأسئلة البشرية حول الجدوى
والكيفية لما يتعلّق بالنفس البشرية
، وسينما من هذا النوع، ( ذاتية ) لدرجة الشعر ، بطبيعته التأملية لا
الوصفية ، ومخرج من هذا النوع، يجنح في أعماله لتناول اللاسائد، ويثير غضب
واستياء، بقدر ما يثير ارتباك وحيرة، لابد أن يكون تفكيره ليس سينمائياً
بالقدر الذي يُعدّ إنسانياً بشكل عام.
ويتناول
الفصل الأول وهو فصل البداية عن تلك المرحلة التي
خاض خلالها تاركوفسكي
تجربة فيلم (طفولة إيفان) وهو الفيلم الذي منحه ثقة السينمائيين في بلده
(الإتحاد السوفيتي سابقاً) وفي العالم، وفي هذا الفصل نرى تاركوفسكي
سينمائي يتحدث عن تجربته السينمائية، عن السيناريو وما جذبه وما أخذه فيه، عن موقع التصوير،
عن اختيار الأبطال،
وهو الأمر الذي
سيتخلّص منه تاركوفسكي
بعد ذلك شيئاً فشيئاً ليتجه إلى الحديث عن الفيلم ككل ، أو عن السينما ككل،
أو ربما عن الفن ككل.. والإنسان ككل.
بعد ذلك
ينطلق تاركوفسكي في الكتاب لتحديد فهمه للهدف الجوهري للفن، ويطلق أسئلته
التي سيظل طوال الكتاب يجيب عليها، من خلال السينما وأدواتها وآلاتها، وهو
من خلال فهمه لطبيعة اختلاف الفهم لكل إنسان لطبيعة وهدف الفن إلا أنه يجد
في هذا التوحد صوب المعرفة كهدف أساسي للفن ركيزة يرتكز عليها في استيعاب
هذا التنوّع الإنساني في فهم الفن (كل فرد يختبر لنفسه عملية معرفة الذات
فيما هو يتوصل إلى معرفة الحياة ونفسه وأهدافه. بالطبع، كل شخص يستفيد من خلاصة المعرفة المتراكمة من قبل
الجنس البشري،
لكن مع ذلك فإن تجربة معرفة الذات الأخلاقية والمعنوية هي
الغاية الوحيدة في
الحياة لكل فرد.
وذاتيا، هي مختبرة في كل مرة بوصفها شيئا جديدا.
إن الإنسان يقيم، المرة تلو الأخرى، علاقة متبادلة بين نفسه والعالم،
ويرهقه التوق الى إحراز، والتوحد مع، المثال الذي
يكمن
خارجه، والذي يفهمه كضرب من المبدأ الأول المدرك بالحدس.
إن استحالة إحراز أو تحقيق ذلك التوحد، وعدم كفاية »أناه« الخاصة، هو المصدر الدائم لشعور الإنسان بالألم وعدم
الإشباع)،
ومن هنا يجد بوابة للتصالح مع المفاهيم الأخرى للفن ،
سواء كان هذا الهدف (نبوءة) أو (متعة ذاتية) لاعلاقة لها بالآخر.
ومن هذا
البحث في معنى الفن يدخل إلى فصله الثالث في الكتاب الذي يتناول فيه فكرة
الزمن تلك الفكرة التي
تمتزج بالذاكرة، ولكنها تنفصل عنها أيضاً، وكذلك تفعل مع كل ما يقاربها.
وفي الفصل
الرابع من الكتاب (الدور المقدّر للسينما) يتحدث حول طبيعة التغيّر الذي
طرأ على فهمه لما تمثله السينما من دور في
مقابل الفنون الأخرى، أو بالأحرى فيما يجعل من السينما صورة بعيدة عن القصة
أو الرواية، أو حتى الصورة نفسها كفن حيث
يقول (إن مسألة ما يؤلف لغة السينما هي ليست بسيطة، كما إنها ليست واضحة
حتى بالنسبة للمحترفين.
في كل مرة نتحدث عن لغة السينما، الحديثة أو غيرها، ننزع إلى إحلال مجموعة
من المناهج أو الطرائق الدارجة اليوم، والمستعارة من الفنون المجاورة.
نحن بالتالي نقع أسرى الافتراضات الزائلة والتصادفية التي
تخترعها اللحظة أو المرحلة الراهنة.
الأيام
البحرينية في
19 مارس 2006