وفيق غريزي
المخرج اليوناني ثيو انجيلوبولوس، من المخرجين الذين يستمدون من
ذواتهم، من حياتهم الخاصة، من تجاربهم الشخصية، المواد والموضوعات
لأفلامهم، بحيث تبدو هذه الأفلام سيرة ذاتية لجوانب ومراحل معينة من
حياتهم، هكذا هي أعمال فلليني، وتاركوفسكي، ومخرجين آخرين قدّموا في
أفلامهم صوراً ولوحات سياسية عن زمنهم ثم صاروا يركزون على البورتريهات
الشخصية أكثر من البانوراما التاريخية، كما عند فرانشسكو روزي والأخوين
تافياني، أفلام ثيو انجيلوبولوس تبدو ذاتية جداً لأنها تتحدث عن نفسه،
أبطاله انعكاس لذاته وهي مسلطة في سياق درامي، قريبة تماماً من أوجه معينة
من حياته· التماثلات بينه وبين أبطاله قريبة وعديدة، سواء في التجربة
المهنية والحياتية أو في علاقاته مع عائلته ومحطيه·
الحفر في الذات
يؤكد انجيلوبولوس أن كل أفلامه هي جزء منه، وتعبير عن سيرته الذاتية
وعن حياته، والتجارب التي عاشها والأحلام التي حلم بها، بعض أفلامه أقرب
إلى إهتماماته الفكرية، والأخرى أقرب إلى أحداث في حياته الواقعية· ربما
يكون المظهر المتصل بالسيرة الذاتية أكثر جلاء وبروزاً لأن كل أفلامه
الأخيرة تتعامل مع فنانين والأزمات التي يمّرون بها في تحقيق العملية
الإبداعية، ونستطيع القول أن كل ما حققه بعد فيلم <الإسكندر
الأعظم>
يدخل في خانة السيرة الذاتية إلى مدى معين·
ويقول انجيلوبولوس في هذا الصدد:
<الحقيقة أن شخصيات أفلامي هي صور مركبّة، هناك جزء صغير أو كبير من
ذاتك في كل شخصية، لكن هناك أفراداً آخرين كنت تعرفهم، هي ليست أنت، لكن
يقيناً يوجد هناك دوماً بعضاً منك في تلك الشخوص أيضاً· وكلما ذهبت إلى مدى
أعمق في هذه الشخصيات، اقتربت أكثر من ذاتك، ولدى هذا المخرج إحساس بأنه
على الدوام يغرق في خزان ذكرياته، ويُعيد إحياء أجزاء معينة أختبرها في
الحياة الواقعية· أفلامه حافلة بكل تلك اللحظات الخاصة والإستثنائية من
طفولته ومراهقته، مواطنه وأحلامه في ذلك الحين· ويعتقد أن منبع أو مصدر كل
ما يفعله يوجد هناك
·
الرؤية: الأبعاد ذاتها
ثمة سؤال تطرح على أنفسنا: ما هو مفهوم انجيلوبولوس للشخصية الدرامية؟
لماذا تتكرر ثيمات معينة في كل أو أغلب أفلامه؟ أكثر من أي مخرج معاصر آخر،
نجد التماسك والتواصلية عبر أفلام تشكل عناصر عالم محدد وخاص بأنجيلوبولوس،
قد يعرض رؤاه ويُبدع صوره· المترجم أمين صالح يرى
أن في أفلام هذا المخرج نجد ذلك التزامن والتداخل بين الواقعي والتخييلي،
بين الواقعي والمسرحي (السينمائي) فيلم الممثلون الجوالون، يبدأ بستارة
مسرح مغلقة وعندما تفتح ندخل في السرد وفي الحياة الحقيقية للممثلين>·
إن أفلامه تسعى بجسارة إلى عبور عدد من الحدود والتخوم: بين الأمم،
بين التاريخ والأسطورة، بين الماضي والحاضر، بين السفر والإستقرار، بين
الخيانة والإنتماء، بين الصدفة ومصير الفرد، بين الواقعية والسوريالية،
أفلامه من وجهة نظر المترجم تجعل المتفرج ينفتح علىسؤال كبير، والذي يصبح
شخصياً بالنسبة إلى كل فرد: كيف نرى العام من حولنا وداخل أنفسنا؟
وحول هذه الإشكالية يقول انجيلوبولوس:
<كل هواجسي تدخل أفلامي وتغادرها، مثلما تفعل الآلات الموسيقية التي
تعزفها الأوركسترا في حفل موسيقي· إنها تدخل وتخرج· وتصمت فقط لكي تعاود
الظهور في ما بعد، نحن محكومون بأن نعمل مع هواجسنا· نحن في الواقع نحقق
فيلماً واحداً فقط، نكتب كتاباً واحداً فقط· الباقي مجرد تنويعاً وأشكال
خارجية تعكس الثيمة ذاتها>·
التأثرات
إن إحساس هذا المخرج الدقيق بالتكوين البصري متأثر بعمق بالتقليد
البيزنطي في رسم الإيقونات، بقدر تأث4ره بمنجزات السينما الحداثية
أنتونيوني تحديداً، خصوصاً في ما يتصل بإظهار وفهم الحيّز والزمن والشخصية،
كما يشير الى استلهامه من سينما الألماني مورنو، والياتيين كينجي ميزوجوشي
وياسوجيرو أوزو، والدانمركي دراير، والأميركي أورسون ويلز· وهؤلاء جميعاً
يميلون إلى اللقطات الطويلة الأمد، التي هو يفضلها·
كما تأثر بالأفلام الإستعراضية الأميركية التي حققها فنسنت منيللي
وستانلي دونان، كذلك تأثر بسينما الفرنسيين جان رينوار وروبير بريسون التي
كانت تستكشف <واقعية
الصورة>
وتؤكد على الصورة المتواصلة بدلاً من المونتاج السريع (المفاجئ) الذي يشظي
العالم، كما تأثر بسينما جون فورد في تركيزه على علاقة الفرد بما يحيط به
من مناظر شاسعة غير مأهولة·
ويكشف المترجم النقاب عن أن انجيلوبولوس كان يعشق الشعر، وكان
مفتوناً، بوجه خاص، بأعمال الشاعر اليوناني جورج سيفيريس وأعمال الشاعر ت·
س إليوت، أما الشاعر الذي لعب دوراً أعظم في مسيرته فهو هوميروس·
إن أنجيلوبولوس صوت فريد في عالم السينما، ويُعد واحداً من رموز
السينما الفنية الحديثة·
عالم ثيو انجيلوبولوس السينمائي
-
ترجمة وإعداد: أمين صالح
-
المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2009
اللواء اللبنانية في
10 يوليو 2009