خاص بـ«سينماتك»

 

يوسف شعبان.. النجاح بالنقاط وليس بالضربة القاضية

د. شريف صالح/ خاص بـ«سينماتك»

 

 

 

   
 
     
 
 

يوسف شعبان.. النجاح بالنقاط وليس بالضربة القاضية

بقلم: د. شريف صالح/ خاص بـ«سينماتك»

ودع يوسف شعبان الحياة وهو أكبر الممثلين المصريين سنًا عن تسعين عامًا، وهو أيضًا نقيبهم السابق.

قبل أشهر قليلة ظهر شعبان على شاشة تلفزيون الكويت مع ابنته من زوجته الكويتية، وكان في حالة ذهنية لا توحي إطلاقًا أنه في التسعين. بل تحدث عن قيامه بالتسوق بنفسه.

ولولا سوء حظه مع فيروس "كورونا" الذي التقطه خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، ربما كان امتد به العمر أطول.

"سوء الحظ" مفتاح مهم جدًا في قراءة تجربة يوسف شعبان، فعندما انتهى من الثانوية العامة، ضغطت أسرته كي يلتحق بالكلية الحربية ليصبح ضابطًا. وعلى الأرجح كان سيصبح من الضباط الأحرار، ويصبح وزيرًا.

لكنه رسب في "كشف الهيئة" رغم أن صلاح ذو الفقار ـ الضابط آنذاك ـ كان واسطته!

هذا الفشل، دفع الأسرة مرة أخرى للضغط عليه للالتحاق بكلية الحقوق، فهي أيضًا كلية قضاة ووزراء، بما يليق بأسرة متوسطة تنتمي إلى حي شبرا العريق.

المفارقة أن الفشل في تحقيق "أحلام" أسرته، كان هو السبيل لتحقيق حلمه هو. ففي كلية الحقوق في جامعة عين شمس تعرف على رفاق درب من عشاق المسرح والسينما والتمثيل والكتابة منهم: نجيب سرور، كرم مطاوع، سعد أردش، سعيد عبد الغني، وفايز حلاوة.

غالبًا أغراه كرم مطاوع المسرحي الطموح والكبير بالدراسة في معهد الفنون المسرحية، ومع شعوره بالعجز عن التوفيق بين الدراستين، حسم أمره في السنة الثالثة من كلية الحقوق، وتركها ليصبح ممثلًا أكاديميًا.

شعبان المولود في يوليو عام 1931، ينتمي إلى جيل لمع مع ثورة يوليو وشكل عصرها الذهبي، مثل: عبد الحليم حافظ، وشادية، وفاتن حمامة، وعمر الشريف، وصلاح ذو الفقار، وأحمد رمزي، ورشدي أباظة.

لكن لسوء حظه، كان كل أبناء جيله برزوا قبله واحتلوا كل مقاعد الصف الأول. لذلك يظهر شعبان في دور ثانوي في عمل من بطولة اثنين من أبناء جيله هما عمر الشريف ورشدي أباظة في فيلم "في بيتنا رجل".

"سوء الحظ" الثاني هذا، دفعه لأن يعي مبكرًا أنه "ممثل" وليس "نجم شباك". سيذهب الجمهور للفرجة على بطولة فيلم لمجرد أن عليه اسم صديقه "عمر الشريف" لكن لن يذهب أحد لفيلم يحمل اسمه.

بدأ شعبان متأخرًا نسبيًا، وهو في الثلاثين من عمره، وظل على الدوام متأخرًا خطوة عن رفاقه، ومتأخرًا قليلًا في ترتيب الأسماء.

كان في الأمر، قدر كبير من الرضا، والثقة بموهبته. ليس المهم أن تكون "الأول" طالما أن ما تقدمه "جيد".

فشل ثالث تعرض له على يد ابن جيله عبد الحليم حافظ الذي كان نجم النجوم وقتها، عندما اعترض على مشاركة شعبان في فيلمه "معبودة الجماهير" أمام شادية، لولا دفاع المخرج حلمي رفلة عنه، وهو من أوائل المخرجين الكبار الذين تحمسوا لموهبته.

هذا الإحباط كان حافزًا ليقدم مشاهده القليلة بأقصى درجة اجتهاد، وهنا بدأت تتبلور المنطقة المهمة في موهبته ضمن نمط البطل الشرير Villain أو البطل المضاد.

البطل الطيب والمثالي، مزيف، ويجافي منطق الحياة، وأيضًا لا يمنح الممثل مساحة الأداء المركب والمعقد.

كان هذا الإحباط هو ما منحه طرف الخيط، لإدراك مكمن موهبته، وملعبه المفضل. وكي لا يسقط في التنميط والاستسهال، استفاد شعبان من مخزونه الثقافي وحرصه على القراءة، وايضًا وقوفه على خشبة المسرح.

لكن شخصية "الشرير" أيضًا كانت محجوزة لأسماء كبيرة صعب جدًا تجاوزها، بدءًا من استيفان روستي وزكي رستم ثم محمود المليجي وفريد شوقي وتوفيق الدقن وصلاح منصور، وصولًا إلى عادل أدهم الذي ظهر أيضًا في فترة مقاربة لظهور شعبان، وإن بخطوات خافتة.

 
 
 

 

   

 

       
 

للأسف يسقط اسم شعبان عند الإشارة إلى أشرار السينما، رغم أنه أعطى باجتهاد لافت لهذا النمط من الأدوار.

مثلما يسقط اسمه من قائمة ال "جان بريميير" رغم أنه لا يقل وسامة عن رشدي أباظة أو صلاح ذو الفقار أو شكري سرحان.

مع ذلك، صنع يوسف شعبان "قمته" لنفسه، لم يتراجع بداخله منسوب الثقة، وإن لم يأته الحظ على طبق من ذهب، وإن لم يدرك النجومية المطلقة. بل سنراه ومنذ مرحلة مبكرة ندًا لغيلان التمثيل كما في فيلم "ميرامار" أمام يوسف وهبي وشادية وعبد المنعم إبراهيم وعماد حمدي.

كان من الواضح أن مسيرته لا تسير بمنطق "الضربة القاضية" بل بمنطق عرق الجبين، والنقاط البطيئة جدًا. لكنها لم تعرف التراجع.

حتى عندما توجه مثل غيره إلى الشاشة الصغيرة، كان من الصعب أن يفرض اسمه بطلًا مطلقًا في ظل أساطين مثل حمدي وعبد الله غيث، مع ذلك كان ندًا لهم.

ولأنه يمارس التمثيل بالمنطق الوظيفي، هذا عملي وهذا "أكل عيشي" قدم شعبان قرابة 300 عمل في ستين عامًا، وهو رقم ليس بسيطًا، لكنه أيضًا يشمل أدوارًا ثانوية، وشرفية، وعشرات الأعمال التجارية التي لا قيمة لها.

كان يعلم أنها أعمال مقابل أجر، مثلما كان يعلم طبيعة العمل الذي يتطلب منه شحذ موهبته وخبراته، فمسلسل "الوتد" أو "رأفت الهجان" أو "المال والبنون" أو "الشهد والدموع" أو "عيلة الدوغري" ليس مثل مسلسل "ابن ليل" و "الحقيقة والسراب".

هناك أدوار كثيرة كررها، وأدوار يستغرب المشاهد لماذا وافق عليها مثل "هولاكو" في مسلسل "على باب مصر". وربما يكتفي فقط بصوته الجهوري الغليظ للتعبير عن الشخصية.

ظلت المنطقة العميقة في موهبته تتمثل في دور "الشرير"، وفي ظني أنه قريب جدًا في أدائه من الراحل توفيق الدقن، هناك براعة في نحت الشخصية وبروزة حوافها، إن جاز التعبير. بالصوت المميز، والنظرات، وومضة المبالغة المسرحية. وإن كان أداء الدقن فيه "لسعة" كوميديا، وأداء شعبان فيه انضباط التراجيديا.

ولعله يُنسى كشرير، لأنه لم يرغب في أن يسجن خلف جدران هذا "الكاراكتر". فمع تراكم خبراته تحول اسمه لعملة ذهبية، صالحة للمشاركة في مسرحيات باللغة العربية الفصحى، أو مسلسلات إسلامية. وفي أي دور سيكون جيدًا، أو على الأقل سيؤدي المطلوب تماما.

النجاح بالتراكم دفعه دائمًا، لتجريب حظه في البطولة المطلقة كما في المسلسل البدوي "وضحة وابن عجلان" (بداية موضة المسلسلات البدوية التي استثمرها السوريون لاحقًا)، وكما في أفلام كثيرة لم يبق شيء منها في الذاكرة مثل "امرأة من نار" و"العذراء والعقرب".

لكنه في الغالب استمر في لعب دور "الرجل الثاني" أو "البطل الثاني" مثلما في "رأفت الهجان" أمام محمود عبد العزيز أو "ليلة القبض على فاطمة" أمام فرودس عبد الحميد.

وبرغم وعيه برجولته، لا أتذكر أنه تنازل عن شاربه في أي دور، وافق على لعب دور "الفنان المثلي" في حمام الملاطيلي. وربما كان أول ممثل في تاريخ الشاشة العربية يلعب هذا الدور صراحة. وهذا يكشف عن حس المغامرة والتجريب أيضًا.

إنسانيًا، يوسف شعبان الشبراوي "المديني" كان شابًا رياضيًا، أبيقوريًا، لديه ذوق رفيع في النساء، حيث تزوج نادية إسماعيل شيرين حفيدة الملك فؤاد وابنة أخت الملك فاروق، ورغم اعتراض العائلة المالكة على الزواج لكن العروس نفسها هددت بالانتحار، كما تزوج من ممثلتين حسناوين هما ليلى طاهر وسهام فتحي قبل أن يختم بزوجة رابعة من سيدة كويتية تصغره بسنوات.

وأعنى بالأبيقورية، حبه للحياة واللذة ـ حتى آخر لحظة ـ دون أن يتخلى عن الفضيلة واحترامه لذاته، ولا أذكر أن إحدى زوجاته السابقات قالت شيئًا مسيئًا بحقه. فهو في الواقع أقرب إلى "الدنجوان الجنتلمان" وليس الوغد.

عندما ولد يوسف شعبان لم يكن بيتهم بعيدًا عن شريط القطار، وأظن حياته تشبه ذلك القطار كثيرًا، حافظ فيها على الشغف العاطفي والإنساني والفني. مهما كانت محطات الفشل والطلاق وسوء الحظ. وهذا أمر ليس سهلًا على رجل في التسعين، ظل يأتي متأخرًا بعض الشيء.

سينماتك في ـ  02 مارس 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004