|
هل يمكن أن تكون الحياة العادية مادة لفيلم؟ حياة ليست فيها جريمة أو
اغتصاب أو عنف وشذوذ ومخدرات، حياة مثل حياتك وحياتي، فيها بعض المتاعب
والمعاناة، وفيها أيضاً لحظات الصفاء والسعادة، وفيها ما هو أهم: المشاعر
الإنسانية الحميمة، من شوق وحب وألم وانتظار. مثل هذه الحياة البسيطة التي
يعيشها ملايين البشر في جميع أنحاء العالم، هل تصلح لأن يقدمها فيلم
سينمائي؟
يبدو السؤال غريباً، لكن الممثل والمخرج الأميركي المخضرم كلينت
إيستوود، أجاب عليه في فيلمه الجديد «غران تورينو» والذي يعرض حالياً في
دور السينما المحلية، مؤكداً بأن الفن مادته الإنسان، ولابد أن يعود
للإنسان، حباً وأملاً في حياة ومستقبل أكثر نبلاً وإنسانية «غران تورينو»
هو الفيلم الثاني الذي يخرجه كلينت إيستوود خلال عام واحد بعد «التبديل»
للممثلة أنجلينا جولي. موضوع يليق به بعد أن تقدم عمره الآن (78 عاماً) كما
يليق بممثل ومخرج، أصبح يميل أكثر إلى التأمل في معنى الحياة والموت، بينما
يتأهب يتقدم العمر به.
من السطح، يبدو هذا العمل كما لو كانت فكرته تدور أساساً حول
العنصرية، اختلاف الأجناس والاحتكاك، الذي ينشأ نتيجة التلاصق والتلاحم،
خاصة عندما يكون المحور رجل عجوز (وولتر كوالسكي) يؤدي دوره كلينت إيستوود،
كان مقاتلاً سابقاً في الحرب الكورية في أوائل الخمسينات، وعاملاً في مصنع
سيارات فورد، ويظل مرتبطاً بذكراه من خلال الشيء الوحيد العزيز على قلبه،
وهو سيارة الغراند تورينو من إنتاج عام 1972 هذا الرجل يصبح وحيداً تماماً
في الحياة بعد وفاة زوجته (التي تقام جنازتها في المشهد الأول من الفيلم)،
ولم يجد من يفهمه ويتواءم مع طباعه الغليظة، حتى أبنائه وأحفاده وزوجاتهم
بدأوا يتحاشونه، لأنهم لم ينجحوا أو بالأحرى لم يبذلوا مجهوداً بسيطاً
لتفهمه، وبالتالي فشلوا بإهمالهم في الوصول إلى قلبه الطيب، وتفهم أسباب
جموده وغلظته.
لكن وولتر كوالسكي ليس ضحية عاجزة، بل رجل يمتلئ بمشاعر عنيفة في
داخله، ولا يخفي عنصريته تجاه جيرانه من الصينيين، الذين وفدوا إلى تلك
البلدة الأميركية الهادئة، وتنبع نظرته الرافضة لهم من ماضيه، حيث قتل
الكثير من الكوريين في الحرب، ولا يزال يحتفظ بمسدس ضخم وبندقية، ولا يكف
عن تعليقاته العنصرية هو يرفض الكنيسة ومحاولات القس الكاثوليكي دفعه
للعودة إلى الكنيسة والاعتراف، بل إنه يرد على القس الشاب، حين يحدثه عن
الحياة والموت متسائلاً بحدة: ماذا تعرف أنت عن الحياة والموت. ويروي له
جانبا مما خبره خلال الحرب من مآس مازال تأثيرها قائماً عليه. وعندما يسأله
القس: وماذا عن الحياة؟ لا يعرف كيف يجيب، بل إنه يوافق القس على أنه عاش
حياة فارغة.
في المقابل تمكنت الفتاة الفقيرة «سوو» وهي من شعب الأقلية الهمونغ ـ
المعروفين بتوجههم الاشتراكي، والذين ينحدرون من تايلاند وقليل منهم من
الصين، وقد فروا من حرب الإبادة التي كان يخوضها الشيوعيون ضدهم، بعد
مناصرتهم جيش الاحتلال الأميركي في فيتنام ـ من كسر جمود ذلك العجوز، ونجحت
في الولوج إلى حياته.
وتغيير النمط الذي اعتاد العيش عليه، وتحملت كلماته القاسية، وتكرار
تحاشيه لها، ذلك أنها كانت تشعر بالحزن حيال حياته، وانعزاله عن المجتمع من
حوله، ونجحت في بلورة تلك العاطفة الجياشة الأبوية الحانية على أرض الواقع،
بعد أن أنقذها وأخوها أكثر من مرة.
وبالفعل، يقوم كوالسكي بتأديب أخاها «ثاو» الذي تسيطر عليه مشاعر
الخوف والخجل، ويسهم بفاعلية في تغيير حياته، بعد أن ضبطه يسرق سيارته
الغراند تورينو، ويبعده عن ابن عمه وبقية أفراد عصابته التي تحاصره، وتحاول
إجباره علي أن يكون واحداً منهم، وفي ظل منع كوالسكي لهم، يعتدون على
الفتاة «سوو»، ويصل الأمر أيضاً إلى اغتصابها.
ويتصدى كوالسكي لعصابة الأشقياء في نهاية دامية، من دون سلاح لكي
يورطهم في قتله بالرصاص، وبالتالي يتم تدمير حياتهم بطريقة قانونية تماماً،
فهو يفقد حياته التي عرف أنها منتهية بمرض سرطان الرئة، ويقضون هم حياتهم
خلف القضبان، ويفوز الجار الصيني الشاب بسيارة الغراند تورينو، بعد أن تعلم
من كوالسكي، كيف يصبح رجلاً يواجه الحياة.
عرف المخرج إيستوود كيف ينسق ما بين المشهد الكوميدي البسيط والمشهد
الدرامي الحزين، بحيث لا تتأثر الفكرة الدرامية البحتة بشكل سلبي، ولكنه
جعلها منظمه بطريقة موحية لخبرته الواسعة. أما إيستوود الممثل، الذي أعلن
أن هذا الفيلم سيكون الأخير له كممثل، يمكن اعتباره أفضل دور قدمه في
السنوات العشر الأخيرة، هذا الأداء السهل البسيط المعبر الواثق، الذي يبدو
فيه كالأستاذ الذي يعلم الممثلين الآخرين في الفيلم، كيف يتعاملون معه من
دون خوف أو ارتباك.
اسم الفيلم: غران تورينو
تصنيفه: أكشن / دراما
سنة الانتاج: 2008
تاريخ العرض: 9/1/2009
البلد المنتجة: الولايات المتحدة
مدة العرض: 116 دقيقة
بطولة وإخراج: كلينت إيستوود
البيان الإماراتية في
15/03/2009 |
