كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

مارلون براندو

من الصهيونية الى فلسطين

ومن اليسار الى النرجسية

إبراهيم العريس

عن رحيل العملاق

مارلون براندو

   
 
 
 
 

ترى, حين كان مارلون براندو يتحدث عن الفلسطينيين وانتفاضتهم وعن حقهم في الحصول على دولة لهم, وعن اضطهاد اسرائيل لهذا الشعب المظلوم, هل كان يفكر في دور مسرحي قام به في العام 1946 في مسرحية عنوانها "مولد علم", كتبها بن هشت ولحن موسيقاها كورت فايل؟ الذي يدفعنا الى هذا السؤال هو أن تلك المسرحية الدعائية الفجة والتي لم تلق أي نجاح يذكر حين عرضت, كانت تقف الى جانب "النضال" الصهيوني الساعي الى تأسيس دولة لليهود في فلسطين, بغض النظر عن وجود شعب عربي فيها. كانت المسرحية تتبنى تماماً وجهة نظر اليمين الصهيوني المتطرف. وفي ذلك الحين كان مارلون براندو نفسه من غلاة المناصرين لمنظمة "شتيرن" الإرهابية. فكيف تغير مارلون براندو خلال نصف قرن من الزمن؟ كيف تغير الى درجة انه, وبحسب ما قال هو نفسه, صار هدفاً للوبي الصهيوني المهيمن على هوليوود, والذي راح يحاربه خلال العقدين الأخيرين من السنين؟ 

"نجم النجوم"

من الصعب طبعاً الاجابة عن هذا السؤال... لكن من ينظر بإمعان الى مسيرة هذا الذي صار في نهاية الأمر "نجم النجوم" وواحداً من كبار فناني السينما في طول القرن العشـرين وعرضه, سيجد انه, على الشاشة وخارجها, كان دائماً متمرداً مشاكساً, غاضباً... وهو دائماً ما تبنى قضايا الشعوب المظلومة مروراً بالهنود الحمر والزنوج الأميركيين وغيرهم: دائماً ما وقف عكس التيار. ولم يكن في وسع فنان تربى في وسط مناخ ليبرالي - يساري كان في الأربعينات مهيمناً على المسرح الأميركي الذي كان مقفزه الى الفن والسينما والحياة, لم يكن في وسعه إلا أن يتخذ مثل تلك المواقف. وما حدث في أواسط سنوات الأربعين هو أن اليهود قدموا أنفسهم بعيد الحرب العالمية الثانية بصورة الضحية... وقدموا صراعهم في فلسطين على انه صراع ضد الاستعمار البريطاني لا أكثر ولا أقل. ومن هنا حين وقف براندو مناصراً الصهيونية اليمينية المتطرفة كان مؤمناً بأنه يساند حركة تحرر وطني, خصوصاً أن مناخاً يسارياً أميركياً معيناً كان يقف الموقف نفسه. لاحقاً بعد سنوات طويلة, سيتنبه براندو الى خطيئته وسيعلن ذلك... وسيدفع الثمن طبعاً.

والثمن كان جزءاً منه, ذلك الحقد الذي به تعاملت هوليوود معه دائماً. فهوليوود لم تحب براندو أبداً... حتى وإن كان جمهورها يجّله دائماً واعتبره من البداية الى النهاية أعظم ما عرفه فن التمثيل الرجالي في تاريخ السينما. على مضض كانت هوليوود تتعاقد مع مارلون براندو. وعلى مضض كانت ترضى حين كان يفرضه مخرجون لهم كلمتهم, من أمثال ايليا كازان وفرانسيس فورد كوبولا. أو هذا ما باتت عليه الأمور منذ نهاية الستينات, حين بدأ ذلك الصراع الخفي, ثم العلني, بين مارلون براندو و"المؤسسة الهوليوودية". وقبل ذلك كان براندو نجم هوليوود وفتاها المدلل. لاحقاً سيقول هو انه لولا الدعم الأوروبي الكبير له, ولولا اصرار كوبولا على اعطائه بطولة الجزء الأول من "العراب" لمات من الجوع. وعلى ضوء هذا قد يمكننا فهم ذلك التصعيد الذي جابه به براندو هوليوود, وكان من معالمه عدم حضوره حفلة الأوسكار التي منحته جائزة أفضل تمثيل رجالي في العام 1972 مفضلاً ارسال هندية حمراء ألقت خطاباً باسمه واسمها حول ابادة البيض للهنود الحمر. وفي ذلك الوقت نفسه نعرف ان مارلون براندو كان معارضاً شرساً للحرب الأميركية في فييتنام, كما انه كان مناضلاً من أجل حصول الزنوج على حقوقهم المدنية. ولم يكن, بالطبع, مهتماً, في أن يؤثر ذلك كله سلباً على موقعه الفني. كان يرى انه بنى من المجد ما يمكن أن يوفر له حماية كبرى. لكنه هنا كان مخطئاً تماماً مثلما أخطأ مرات كثيرة في حياته.

والحقيقة ان حياة مارلون براندو كانت سلسلة من الأخطاء والمآسي, الشخصية والعائلية... وحتى الفنية أيضاً, إذ ها هو برناردو برتولوتشي يروي لنا كيف ان براندو بعد أن انتهى من اداء دوره في واحد من آخر أفلامه الكبرى "آخر تانغو في باريس", وشاهد الفيلم في عرض خاص التفت الى برتولوتشي وقال له: "أنا لن أقدم أبداً بعد الآن على العمل في فيلم من هذا النوع, أنا عادة لا أحب أن ألعب دور الممثل... ولكن هذه المرة كان الأمر أسوأ. لقد أحسست انني اغتصبت منذ بداية الفيلم الى نهايته, اغتصبت في حياتي وفي أعمق حميميتي, وحتى في أطفالي... لقد انتزعت مني كل شيء". يومها بعد أن قال هذا غاضباً أعلن لصديقه المخرج انه يود ألا يتحدث اليه بعد ذلك أبداً... وبالفعل ابتعد براندو عن برتولوتشي طوال 12 سنة كاملة.

من داخل الروح

وربما يعود هذا الى انها كانت المرة الأولى التي يجد فيها براندو نفسه أمام مخرج قوي الشخصية لا يسمح له بأن يتدخل في الدور أبداً... قبل ذلك, وأحياناً كثيرة بعد ذلك, كان مارلون براندو اعتاد أن يتدخل في أدواره وفي حواراته, إذ انه في مرات كثيرة كاد يكون المخرج الحقيقي للجزء الذي يمثل فيه في الفيلم. ولقد كان ايليا كازان أول المخرجين الذين أعطوا براندو هذا الحق و... لم يندموا. ونحن نعرف طبعاً ان كازان, على المسرح قبل شاشة السينما, كان هو من أعطى مارلون براندو الفرصة الأولى الكبرى: دور كوفالسكي في مسرحية - ثم فيلم - "عربة اسمها الرغبة". كان ذلك بدءاً من العام 1947, حين أخرج كازان, المبتدئ هو الآخر, مسرحية تينسي ويليامز على مسرح باريمور... وكان براندو العشريني, قد ظهر في مسرحيات قليلة قبل ذلك, معظمها لم يحقق نجاحاً, لكن أداء براندو كان لافتاً فيها, إذ ان الفتى الآتي من "ستديو الممثل" حمل الى فن التمثيل جديداً نابعاً من الروح عبر عنه الناقد هارولد كلارمن بقوله - حول اداء براندو في مسرحية "المقهى" لماكسويل اندرسون (1946): "انا لم يسبق لي منذ اداء جون باريمور ان شاهدت مثل هذا التمثيل. لقد كان رائعاً. كان نابعاً من داخله, وأشبه بانفجار نفسي". والحال ان من يراقب اداء براندو منذ أدائه البطولة السينمائية في فيلمه الأول "الرجال" (فريد زينمان - 1950) ثم فيلمه الثاني "عربة اسمها الرغبة" (ايليا كازان - 1951) وصولاً الى "العراب" (1971) و"القيامة... الآن" (كوبولا - 1979) على الأقل, سيجد ان ما قاله كلارمن ظل صحيحاً... وليس فقط في أفلام براندو الكبيرة.

إذاً منذ بدايته اعتبر براندو مفجر نوع جديد من التمثيل السينمائي. وهو في هذا الاطار كان البداية التي راحت تتسع دائرتها لاحقاً: هارفي كيتل, آل باتشينو, جاك نيكلسون, روبرت دي نيرو. كلهم كانوا من أبناء تلك المدرسة ويمكننا ان نضيف اليهم كلينت ايستوود وشين بن. وكان يمكن لجيمس دين أن يكون منهم لو انه أكمل الطريق. مع براندو, ومع خلفائه هؤلاء, لم يعد الممثل - النجم, دمية في يد المخرج, ولا اسطورة حية تتصرف على هواها لتظل هي نفسها من فيلم الى فيلم ممجدة حضور النجم على حساب الدور وصدقيته. فن براندو السينمائي كان يقوم على تلبس الدور تماماً, وامحاء الممثل أمام الشخصية, بوصف الممثل "شريحة من الطبيعة", بحسب تعبير فرد زينمان, "تتحرك كما تتحرك الطبيعة, في شكل بركاني أحياناً وكالجدول الرقراق في أحيان أخرى...".

الاداء الجواني بامتياز

حضور مارلون براندو في عالم السينما تواصل أكثر من نصف قرن, وكان يمكنه أن يتواصل أكثر لو لم يقض عليه الموت المباغت في الاسبوع الفائت. ولكن هل كان في وسعنا حقاً أن نقول ان مارلون براندو الثمانيني, والذي كان يعيش وحيداً مكتئباً, غارقاً في ديون تقدر بالملايين, مستذكراً بحزن ولوعة مصير أبنائه الدامي ومصير النساء اللواتي أحب وخسر في حياته, كان هو نفسه. ذلك الشاب الرائع الجميل الى حد الدهشة, والذي كانه في الخمسينات يوم راح الجمهور العريض يكتشفه فيلماً بعد فيلم, وفي أدوار رائعة اختاره لها كبار مخرجي تلك الحقبة؟ لقد كان "عربة اسمها الرغبة" العمل الذي نقل براندو الى ساحة النجومية, في الوقت نفسه الذي جعل فيه التمثيل أمراً أكثر خطورة وجدية من ذي قبل. وكان من الطبيعي, اثر نجاح ذلك الفيلم, أن يثنّي كازان في تعاونه مع براندو, فحقق "فيفا زاباتا" (1952) عن حياة ونضال الثائر المكسيكي الكبير... وهنا أيضاً في اداء جواني امتزج فيه العزم بالقلق, ولحظات التردد بلحظات المجد في حياة مناضل كبير, بدا براندو وكأنه يفجر الشاشة, حتى وإن كان ماكياج الدور قلل من جمال قسماته التي سيستعيدها في الفيلم التالي "يوليوس قيصر" (جوزف مالكفتش - 1953), إذ صار هنا معبود النساء, بعدما كان في الأفلام الأولى, موضع تقدير هواة الفن الخالص. أما في الفيلم التالي "المتوحش" (لازلو بينديك) فإنه قام بذلك الدور الذي سيصبح علامة ويؤدي الى خلق جيمس دين, وتصبح سماته شعار الشبيبة المتمردة خلال العقود التالية. فهو هنا بقبضته المشاكسة, وسترته الجلدية وسرواله الضيق أبدع شخصية الأزعر الحنون, التي مهدت للشخصية التبريرية التي سيلعبها في فيلمه التالي (عند البناء) والذي سجل ثالث لقاء له مع ايليا كازان, والأخير لأسباب غامضة قد تكون ذات علاقة بما اعتبره الفيلم من جانب النقاد: تبريراً ذاتياً قام به كازان لخيانته رفاقه الهوليووديين امام اللجنة الماكارثية, متهماً اياهم بالشيوعية متبرءاً منهم. والحال ان براندو كان في ذلك الحين قد بدأ يتغير, ويتفرس أكثر في الأفلام التي يقوم ببطولتها, وليس فقط في دوره فيها. لكن هذا لم يحمل كل الخير له. صحيح ان الفترة التالية ستكون واحدة من أخصب فترات حياته الفنية, إذ راح يمثل فيلماً بعد الآخر, وصارت حصته من النجاح الجماهيري كبيرة... لكن مجده الكبير كفنان حقيقي كان قد صار وراءه. ففي افلام مثل "ديزيريه" (1954) و"صبيان ودمى" (1955) و"مشرب الشاي في ضوء القمر" (1956) و"سايونارا" (1957) كان من الواضح ان براندو صار في خضم العالم التجاري. صحيح ان اياً من هذه الأفلام لم يكن سخيفاً وتجارياً خالصاً, لكن الأدوار التي أُعطيت الى براندو فيها, لم تكن تضاهي, قيمةً, أدواره السابقة. هنا كان كازان قد اضحى بعيداً... وربما كانت اميركا وهوليوود كلها في حال استرخاء تام. لكن ذلك لم يدم اذ في العام 1958, عاد براندو ليقدم جديداً درامياً وقوياً في "الأسود الصغيرة" من اخراج ادوارد دمتريك, الذي كان بدوره, مثل مالكفتش, ومثل كازان (قبل الخيانة) من اقطاب التيار اليساري في هوليوود... في هذا الفيلم عاد براندو سيرته في دور الضابط الألماني, ممهداً من جديد لسلسلة ادوار لا تنسى ("النوع الهارب" حيث لا تزال سترته ذات جلد الأفعى علامة اجتماعية حتى يومنا هذا, ثم "ثورة فوق السفينة بونتي" للويس مايلستون, وصولاً الى "الأميركي القبيح" ذلك الفيلم الغاضب والذي كان اول مساهمة من براندو في نقد الإيديولوجية الأميركية الشعبوية السائدة)... واللافت هنا هو ان براندو وسط عمله على تلك الأدوار التي استعاد فيها مجده القديم, خاض تجربة إخراجية استثنائية في فيلم رعاة بقر لا ينسى هو "جاك ذو العين الواحدة"... ولم يكن توفيقه فيه, كمخرج, موازياً لتوفيقه كممثل, حتى وإن كان كارل مالدن شريكه في الفيلم قد غطى عليه في مشاهد كثيرة.

عند شابلن

منذ اواسط الستينات راحت ادوار مارلون براندو تتنوع اكثر, فمن دور كوميدي رومانطيقي في "حكاية ساعة النوم" (1964), الى دور تجسسي على النمط الهتشكوكي (في "المخرب" لبرنارد فيكي - 1965) بدا واضحاً ان مارلون براندو دخل مرحلة الحيرة والبحث عن ادوار يعيد عبرها تأكيد ذاته. والحال ان "المطاردة" من اخراج آرثر بن, اتاح له ذلك, حتى وإن كان اضطر في هذا الفيلم الى مشاطرة نجاحه مع بطل الفيلم الحقيقي روبرت ردفورد. بعد "المطاردة" عادت فترة الركود عبر افلام مثل "آبالوزا" (1966) ثم خاصته "كونتيسة من هونغ كونغ" - آخر وأسوأ افلام تشارلي شابلن, إذ ادى براندو واحداً من اكثر ادواره سطحية... لكنه ابداً لم يندم على ذلك طالما ان الفرصة اتاحت له ان يدنو من اسطورة السينما شابلن. وأن يمثل الى جانب صوفيا لورين -... وأيضاً طالما ان التعويض سرعان ما جاءه تحت عنوان "انعكاسات في عين ذهبية" من اخراج جون هستون... إذ هنا لعب براندو, في مواجهة اليزابيث تايلور واحداً من ادواره الكبرى: الكولونيل العاجز الذي يعيش مرض حبه المستحيل. فهل كفاه ذلك الدور, فنياً وإنسانياً حتى يرضى بأن يلعب بعده, في افلام عدة, لن يذكر فيها المتفرجون سوى ماكياجه الغريب في بعضها, وإصرار المخرجين على التعامل معه كرمز جنسي في بعضها الآخر ("القادمون ليلاً" لمايكل وينر - 1971)؟ مهما كان الجواب, فإن المجد لن يتخلى في المرحلة التالية عن براندو. إذ ها هو المخرج الإيطالي الأصل مثله يحمل إليه ذلك الدور الذي سيصل به الى الذروة: دور فيتوكور ليوني في الجزء الأول من "العراب". ترى من يمكنه ان ينسى لحظات اداء براندو في ذلك الفيلم لحظة بلحظة... وصولاً الى مشهد موته هادئاً محايداً في حديقته؟ من يمكنه ان ينسى روعة ادائه الصوتي - في تجربة سيكررها لاحقاً في تلك الدقائق الهائلة التي اعطيت له في "القيامة... الآن"؟

الحقيقة ان براندو ولو انه في حياته لم يمثل سوى دور العراب في ذلك الفيلم, لكان هذا كافياً لسنوات طويلة من المجد. صحيح ان دوره التالي سيكون في اتجاه آخر تماماً. بل في اتجاه متناقض كلياً, وفي فيلم سيقول براندو انه واحد من افلام قليلة حطمته تماماً: "آخر تانغو في باريس". ومع هذا, وعلى رغم كل ما قاله براندو وقاله آخرون حول هذا الفيلم, يمكننا ان نقول انه ضخ فيه كل خبرته الفنية والإنسانية وأدى دوراً لا سابق ولا لاحق له في تاريخ الفن السينمائي. صحيح انه, هو, ادى الدور, كمزحة في اول الأمر, نظر إليه ككارثة بعد ذلك, ولكن بين المزحة والكارثة كان هناك ذلك الحضور المتألق, وذلك الشباب الباهر الذي اخفى وصول بطلنا الى الخمسين. هنا, وعلى رغم قوة المخرج برناردو برتولوتشي وقوة موضوعه, يمكننا ان نقول انه لم يكن ثمة, في الفيلم, شيء آخر سوى براندو نفسه... كل ما عداه بدا اكسسواراً يحيط به. ترى أفلا يمكننا قول الشيء نفسه عن الدور الذي سيعود ويلعبه بعد ذلك بسنوات عدة في فيلم "القيامة... الآن" لفرانسيس فورد كوبولا (1979)؟

ربع ساعة فقط

بين "آخر تانغو" و"القيامة" كانت هناك افلام قليلة وأدوار متنوعة قبل بها براندو من اجل لقمة العيش, هو الذي كانت حياته في ذلك الحين قد تلخبطت تماماً: مآس عائلية, صراعات مع هوليوود, تقلبات سياسية, وشيخوخة تقترب بقوة متلازمة مع زيادة في الوزن مرضية. ومن تلك الأوار ظهوره العابر في "سوبرمان" (حيث نال اول مليون دولار اعطيت لممثل في تاريخ هوليوود عن دور قصير الى ذلك الحد) وبطولته فيلم "ميسوري بريكز" لآرثر بن (1976). اما في "القيامة... الآن" فإنه هيمن على الفيلم تماماً: هيمن عليه في غيابه كما في حضوره. ذلك ان هذا الفيلم - الذي يعتبر من اعظم الأفلام الحربية في تاريخ السينما, كما من اكثر أفلام "فييتنام" التباساً - لم يكن عن الحرب ولا عن فييتنام, بقدر ما كان عن الشرط الإنساني, عن السلطة والجبروت, عن الطبيعة وانتقامها. وهذا كله كان يمثله مارلون براندو الذي لعب دور الكولونيل كورتز (المنتزع كما الفيلم من رواية جوزف كونراد "قلب الظلمات"). والفيلم كله مبني من خلال مهمة يقوم بها الضابط الأميركي ويلارد للعثور على كورتز الذي كان تمرد على الجيش الأميركي في فييتنام وأقام لنفسه مملكة خاصة به عند الحدود مع الأدغال. لم يظهر براندو في هذا الفيلم سوى خلال ربع ساعة... وإلا في لقطات مكبرة. وهو ظهر لكي يُقتل على يدي ويلارد... ولكن اي ربع ساعة؟! وأي لقطات مكبرة؟! وأي قتل؟!

هنا في هذا الدور لخص براندو فنه التمثيلي كله... لخص الفن السينمائي وعظمة الإنسان... لخص الحياة والموت... الى درجة انه لم يعد في حاجة من بعد الى لعب اي ادوار جديدة. كان ذلك الدور من نوع تلك التي يختتم بها الفنان حياته ويفتح الباب لخلود اسطورته.

وبالفعل ما مثله براندو بعد ذلك كان مجرد ظهور عارض -للقمة العيش - في افلام راح يتعامل معها كمزحة, فارضاً على المخرجين والمتفرجين ان يتعاملوا مع الدور على انه دور لمارلون براندو, مهما ابتعدت الشخصية عن شخصيته. وهذا ما جعل حضوره في افلام مثل "المعادلة" (1980) و"فصل ابيض وجاف" (1989), و"الخريج الثانوي" (1990) و"دون جوان دي ماركو (1990) وحتى "كريستوف كولومبوس - الاكتشاف" (1992), يبدو كحضور ضيف شرف لا اكثر.

وفي يقيننا ان مارلون براندو, حين وافق قبل اسابيع على اداء دور في مشروع المخرج التونسي رضا الباهي وعنوانه "براندو وبراندو" وافق لأسباب سياسية ("احب ان اقول للعرب والفلسطينيين عبر هذا الفيلم كم انني احبهم" قال للباهي), لكنه وافق ايضاً لأسباب شخصية: لقد وجد في لعب دور براندو في فيلم يتحدث عن ممثل تونسي شاب يشبهه تماماً الى درجة انه لقب نفسه ببراندو, فرصة لتكريم نفسه وفنه مرة اخيرة, ولاختصار مجمل الأدوار التي لعبها في الآونة الأخيرة والتي كان همها الإفادة من اسطورته اكثر من فنه التمثيلي ("الصولجان" مثلاً)... هنا, في فيلم براندو كان يمكن للفنان ان يوصل نرجسيته - المشروعة على اي حال - الى ذروتها... لكن القدر لم يمهله: القدر جاءه على شكل موت مفاجئ غدر به.

جريدة الحياة في

09.07.2004

 
 

رحيل مارلون براندو "الممثل الأعظم" في القرن العشرين

صورة معاصرة للأميركي المتمرد والهامشي والحر

ريما المسمار

تخيَّلت دائماً أن خبر موت مارلون براندو سيأتيني مشهداً سينمائياً من فيلمه "العراب". تصورته وقتذاك، في هذا الفيلم، يقوم بـ"بروفه" مبكرة لموت رجل عظيم. وأحسب أنني حسدت الممثلين دائماً على ما ظننته "تآلفاً" مع الموت. فهم، فكرت، إذ يلعبون ميتات كثيرة في السينما إنما يضاعفون من احتمالات لقاء وجه مألوف للموت الحقيقي. تخيلت براندو في آخر أيامه، جالساً في باحة منزله، يراقب حفيداً صغيراً له يلهو بمسدس مائي، داعياً جده الى مشاركته اللعب. وإذ يضعف العظيم أمام رغبة حفيده، ينهض بتثاقل راكضاً خلفه بين أشجار البرتقال، خاتماً حياته هناك عند كعب إحدى الشجرات. ولكن الحق أن فرانسيس فورد كوبولا، لم يستسلم لرومنسية المشهد عند كتابته، كأنه يقول إن ثمة وجهاً آخر للموت مهما أتاك هادئاً. والمشهد بدلالاته البصرية (أرض شاسعة قاحلة، وحده دون كورليوني، جسده المنحني.. مقابل الحفيد رمز التجدد والأشجار رمز الحياة..) احتمل الوجهين: الرومنسي والواقعي الخشن. مهما يكن من أمر، الموت نهاية وكل نهاية محزنة فكيف بنهاية رجل اختزل معنى العظمة؟

لم يمت براندو في حديقة منزله بل في مستشفى. ولم يسلم الروح بين أيدٍ أحبها أو أحبته، وإن تكن يدي طفل. فالرجل عانى مع أولاده (محاكمة ابنه بتهمة قتل صديق اخته أي ابنة براندو وإقدام الأخيرة على الانتحار) قبل أن نسمع بأحفاده. ولم تحبِه الحياة فرصة الذهاب بعيداً بمبدأ "دون كورليوني" الأول: "أمضيت حياتي كلها محاولاً إلا أكون غير مبالٍ. يمكن النساء والأطفال أن يكونوا غير مبالين. ولكن ليس الرجال."

على الرغم من أن الموت يوازي الإنسان بالعادية، إلا أنه في حالات نادرة، كما هي مع براندو، يعمّق اللغز ويضاعف الغموض. لا مكان للإجابات القاطعة في حياة الرجل أو الأحكام الجاهزة. أفلم نقل بعد إنه عصي على التحليلات وأكبر من مجرد "فأر" في مصيدة التجارب والتكهنات؟

لقد امتلك مارلون براندو خلال مسيرة سينمائية امتدت لنصف قرن ما يجمع كثيرون على أنه "العظمة". ولئن يتلكأ بعضهم في نعته "الممثل الأعظم" في تاريخ السينما مراعاةً للموضوعية النقدية أمام تاريخ ما زال يُكتب، إلا أنه في العمق يحتل تلك المكانة بدون منازع حتى لدى منتقديه من مناصري "الأحكام الأخلاقية". فالرجل اثر في كل من أتى بعده أو عاصره وجسّد نموذج المراهق الأميركي المتمرد لجيل كامل، يُعتقَد أنه كان أحد العناصر المكونة لثقافته. هو من تلك الطينة الإنسانية المتفردة التي تفوق وصفها بـ"الكاريزماتية" وتتعداه الى "الملهمة" أو "الطاقة الشاحنة"، كحقل مغناطيسي واسع التأثير. أرسى براندو مقومات جديدة للممثل ولأدائه، تظهر آثارها اليوم في أمثال روبرت دي نيرو وآل باتشينو وجاك نيكلسون الذي ردد قائلاً: "لقد حرَّرَنا". بينما يكتسب هذا التأثير هيئة "الظاهرة البراندونية"، إذا جاز التعبير، مع الجيل الحالي من الممثلين الشباب من طراز راسل كرو وبراد بيت، حيث يتجسد براندو "حالة" شكلية وتعبيرية متكاملة. برغم ذلك، تقوم حياته على درجة عالية من التناقضات. فهو الممثل الأوحد ربما الذي يتجاوز أفلامه وأدواره أهمية بينما يسطع كل دور من أدواره القليلة نسبياً حياةً كاملة. إذ تكمن المفارقة في قيام إرثه السينمائي على حفنة قليلة من الأدوار المتميزة والكثير الكثير من الأفلام العادية ودون العادية التي قاومت السقوط في ذاكرة النسيان بفضل ظهوره فيها.

الملاك ـ الوحش

كان ظهوره الأول في العام 1947 على مسرح برودواي في مسرحية تينيسي ويليامز "عربة اسمها الرغبة". مع إقفال الستارة على العرض الأول في الثالث من كانون الأول وقف الجمهور تحيةً للعمل وممثليه طالت الى نصف ساعة. نالت جيسيكا تاندي دور "بلانش دو بوا" تقديراً عالمياً. أما براندو ابن الثالثة والعشرين فبدّل الى الأبد مفاهيم التمثيل ومواصفات البطل. هناك ظهر في شخصية "ستانلي" بقميصه القطني الممزق، تفوح من جسده رائحة الرجولة والجنس، ومن نظراته الثقة والازدراء، ومن حديثه الجهل واللامبالاة ومن ملامحه جمالاً غير مألوف عند ممثلي تلك المرحلة، يضرب عرض الحائط بملامح الرجولة التقليدية المتجسدة في أمثال غاري كوبر وهمفري بوغارت وكاري غرانت وآخرين. باختصار، كان "ستانلي" براندو تعبيراً عن صورة الرجل العادي بكل ما تشكله هذه الصورة من تهديد لكل مفاهيم التهذيب واللطف والتأنق التي تحاول السينما السائدة حتى يومنا هذا تصديرها عن مجتمعاتها. برغم ذلك، لم يكن براندو خيار المنتجين الأول. لقد فكرت المنتجة ايرين سيلزنيك وقتذاك بجون غارفيلد أو بورت لانكاستر لدور "ستانلي"، على الرغم من تأثرها ببراندو لدى رؤيته. ولكن الشاب كان من خارج النظم المكرسة. غير أن إصرار المخرج ايليا كازان عليه معتبراً أن أحداً غيره لن يتمكن من "حمل شخصية ستانلي الى أبعد من شرير" ومعلقاً لاحقاً بعد العرض على قدرته الفريدة على جمع "الوحش والملاك" في أدائه، استوجب تدخل رأي ثالث من الطبيعي أن يكون للكاتب ويليامز. عندما وصل الشاب الى موعده في بيت الأخير، كان هناك عطل في الكهرباء كما في مواسير المياه، قام بإصلاحه قبل أن يقرأ أمام الكاتب مقاطع من المسرحية. لقد كان ذلك بمثابة عرض مسرحي حي لمواصفات الرجل العادي الآتي من الشارع والذي يشبه ستانلي الى حد بعيد.

لاحقاً، كتب ويليامز: "لم يخطر في بالي من قبل أي قيمة عالية سيأتي بها اختيار ممثل شاب للدور. إن ذلك يؤنسن ستانلي إذ يجعل عنفه وقسوته متجذرين في صباه وليس في متاهة الرجولة... قيمة فورية خرجت من قراءة براندو للدور، بدا كأنه يخلق للتو شخصية متعددة الأبعاد من النوع الذي أفرزته الحرب بين الشباب." أبعد من ذلك، وبما يمكن وصفه بـ"السيناريو" الخفي للحكاية، جمع براندو في شكله وأدائه ميول المخرج والكاتب معاً. بين مثلية تينيسي ويليامز الجنسية وجنسانية كازان للجنس المغاير، بدا براندو النموذج الصاهر. في مكان ما، ذكر كازان ثنائية الفتى ـ الرجل التي جسدها براندو وألمح الى "الجانب الانثوي الرقيق" فيه المتجسد بأوضح ما يكون ربما في صوته وبدرجة أقل بملامحه الجمالية. ويعتقد بعضهم أن هذا التناقض بين "انثويته" و"الحيوانية" التي جسدها في أدوار كثيرة هو أحد العوامل الذي حال دون أسره في صورة الشرير ودون رفض الجمهور له بل قربه من الإنسان الحقيقي. منذ تلك اللحظة، بدا العالم متأهباً لاستقبال موهبة بحجم أسطورة. لقد بدا واضحاً أن براندو يأتي من خارج عباءة المصنفين كبار الممثلين وقتذاك. فهو ليس الصورة الرومنسية للبطل "المتمرد" الذي يعيش بموجب نظامه الخاص إنما من دون الخروج على النظم الأخلاقية السائدة. حتى تلك معادلة من نوع آخر. أما براندو فلم يعمل بموجب أي معادلة، حتى انه يصعب القول إنه أوجد معادلته الخاصة. فهو متبدل باستمرار، يعمل وفقاً لغرائزه ولحالاته النفسية وانطلاقاً من عدم اكتفاء وشك ذاتيين. من هنا كان قول نيكلسون إنه حرر الممثل رامزاً الى أسلوب تمثيلي من ملامحه تخطي التشخيص الى قراءة ذاتية وشخصية، تضفي على الدور طزاجة وعفوية وتردداً بدلاً من الثبات والثقة السائدة وقتذاك. بذلك اعتُبر براندو متمرداً وخطراً ومجازفاً، يحمل المشاهد الى تجربة حسية وعاطفية غير محسوبة النتائج. وفي شكل ما، اعتُبرت تلك المواصفات تسير في عكس المزاج العام الذي ساد بداية النصف الثاني من القرن العشرين قبيل الحرب العالمية الثانية، أي المزاج لكل ما هو آمن ومؤكد، ولعله المزاج القائم الى يومنا هذا والمتمثل في انتاجات هوليوود السائدة. في أدواره السينمائية اللاحقة، عمق براندو الفجوة بينه وبين النظم السائدة مؤسساً لصورة بطل جديد، وصفها كازان بالقول إن براندو بأسلوب أدائه "يتحدى نظام التهذيب والطبيعة الإنسانية الطيبة والأخلاق وكل ما هو سائد."

بطل أميركي

في السينما وفي عقد الخمسينات، قدم براندو تنويعات على شخصية واحدة هي المتمرد في: "الرجال" The Men (1950)، النسخة السينمائية من "عربة اسمها الرغبة"A Streetcar Named Desire (1951) مع كازان وفيفان لاي في دور "بلانش"، Viva Zapata (1952)، "يوليوس قيصر" Julius Caesar (1953)، "الشرس" The Wild One (1953) حيث نعثر على جملته الشهيرة­ رداً على سؤال "على ماذا تتمرد؟"­ "ماذا لديك؟"، On The Waterfront (1954) الذي جلب له الاوسكار الأول بعد أربعة ترشيحات متتالية الى أفلام أخرى في تلك المرحلة لم تكن عالية الجودة. في تلك الأفلام، برز براندو بطلاً من طراز خاص. إنه البطل المنفي اجتماعياً لأنه يرفض زيف هذا المجتمع. بهذا المعنى، كان بطلاً للجيل الجديد من موقع رفضه للنظم السائدة لا تماثله معها. وكم من مراهق وجد في أفلامه قصته ولمس فيها وحدته إزاء المجتمع وضغط نظم الأخير على حريته. في دراسة نشرتها العام 1966 مجلة "اتلانتيك الشهرية"، كتبت بولين كايل محللة تأثير براندو: "...لم يهتم بمركز اجتماعي أو بمهنة أو باكتساب احترام الآخرين. ولأنه لم يهتم، كان رجلاً كبيراً. إذ ما الذي يجعل الرجل أقل جاذبية وتأثيراً سوى هواجسه المادية؟ قدم براندو، بهذا المعنى، صورة معاصرة للأميركي الحر."

لقد كان براندو الشاب الغاضب المتحدث بلسان كثيرين من أبناء جيله والمدرك حقيقته كما يأتي على لسان تيري مالوي، الشخصية التي جسدها في On The Waterfront: "تشارلي، تشارلي أنت لا تفهم. كان يمكنني الحصول على درجة اجتماعية. كان يمكن أن أكون مناضلاً. كان يمكن أن أكون إنساناً آخر غير هذا السكير المعربد الذي هو أنا الآن."

منذ بداية الستينات، بدأ التحول في حياة براندو وبدأت التكهنات المستمرة الى يومنا هذا حول أسبابها. وغالب الظن أن أحداً لن يتمكن من فك لغز حياته بعد مماته بعد أن فشل في حياته. معظمهم ما زال يعتبر مزاجه وسلوكه الاجتماعي النافر ـ هما في حقيقة الأمر ما اعتُبرا في البداية مصدر تميزه ـ مسؤولين عن تدهور حياته المهنية. ويعلل أولئك حكمهم بمقابلات براندو القليلة وتعليقاته العلنية منذ بداية الستينات المثيرة للجدل من تعبيره في غير مناسبة عن احتقاره مهنة التمثيل واعتبارها عمل الذين لا عمل لهم الى الاعتراف بأنه يفضل مسح البلاط على التمثيل إذا وفر له المال نفسه. في المقابل، يسقط أولئك أقوالاً أخرى للممثل، ربما تقود الى زاوية تحليلية أخرى. فهو يكمل كلامه النقدي على التمثيل متسائلاً: "التصفيق والإطراء؟ من يهتم بهما؟ هل أنا بحاجة اليهما لأشعر بالرضى عن نفسي؟" وفي مكانٍ آخر يصف هوليوود بالقول: "هذا المكان يحكمه الخوف وحب المال. ولكنه لا يستطيع أن يحكمني لأنني لست خائفاً من شيء ولا أحب المال". هناك بالطبع من سيعلق على الكلام الأخير بالتذكير بطلب براندو ثلاثة ملايين دولار مقابل ظهوره في "سوبرمان" لمدة عشر دقائق. ولكن ثمة إمكانية لوضع هذه التناقضات في سياق يمكن استنتاجه من مصدرين أساسيين: دراسة كايل آنفة الذكر وكتاب ريتشارد شيكل "براندو: حياة في أوقاتنا". يوفر كل مصدر رؤية خاصة، الأول من زاوية تاريخ السينما الأميركية والثاني من منظار مخالفة براندو للتوقعات وحياده عن لعب الدور المرسوم له. وكلاهما يشكل مصدراً لحكاية أخرى.

السائد والتوقعات

مع تألق براندو في الخمسينات، كانت هوليوود قد انزلقت الى مفاهيمها الجديدة من الدخول في منافسة مع التلفزيون وإدخال الألوان الى الأفلام واحتضان قيمة جديدة في الأفلام هي الاستعراض... في سبيل ذلك، كانت تبحث عن بطل شجاع، غير معقد ليملأ فراغ مساحاتها الكبرى، أي عن نقيض براندو الذي كان تناقضه الداخلي وشكه الدائم وعدم اكتفائه بالعادي يحوله باستمرار متمرداً حتى على نفسه، إذ أن الارتكان الى صيغة البطل المتمرد كانت ستتحول بدورها معادلة سائدة. بهذا المعنى، كان براندو يصبح عصياً أكثر فأكثر على نظام الاستديوات. وترى كايل في دراستها أن من العادات المتبعة في هذه الصناعة أن يعمل الاستديو على تدمير الموهبة التي صنعها إذا كبرت عن حاجتهم واستبدالها بأخرى، ممهدين لذلك بشائعات يطلقها موظفوهم في الصحف حول تراجع جماهيريتهم والإعراض عن نصائح متنفذي الاستديوات العالمين بأمور المهنة وشجونها. هكذا، تقول كايل، استُبدلت ليليان غيش بغريتا غاربو. وبالمعنى عينه، يشير بعضهم الى الرمزية في تزامن تراجع براندو مع ظهور جايمس دين على الساحة بالفيلم الذي كان يُفترض ببراندو تمثيله اي East of Eden. هكذا مع بداية الستينات، علت حدة الهجوم على براندو، تنتقده على ما اعتبرته في البداية أسباب تميزه وتتهمه بحب المال والاستلشاء بمهنته وموهبته بدليل ابتعاده من المسرح. تتساءل كايل: ألم يكن براندو محقاً في احساسه بأن السينما أقرب الى حياتنا من المسرح؟ ألم يكن باستطاعته بدلاً من نقد نفسه وعمله الانتقال من فيلم سخيف الى آخر أسخف لو أنه كان محباً بالفعل للمال؟ ألم يكن يمكنه الادعاء وإقناع كثيرين بأن ما يقوم به تمرد ونضال لو لم يكن ساخراً ومراجعاً نفسه باستمرار؟

تعتبر كايل أن براندو، كغيره من الفنانين الكبار، عانى، إنما بدرجة أعلى، من سياسة تفريغ المعنى من السينما في هوليوود. بمعنى آخر، يثبت تاريخ السينما الهوليوودية حقيقة واحدة هي أن أي فكرة أو موهبة جديدة تنعش الوسط تُستَنسخ وتُتستَهلك سريعاً قبل أن تتمكن من أن تطور نفسها. براندو، حاول ببساطة الحؤول دون استهلاكه ولكنه لم ينجُ في نهاية المطاف من السقوط في الباروديا الذاتية، أي التحول صورة ساخرة أو هزلية عن ذاته. نلمس ذلك التحول في الستينات بدايةً بفيلم Mutiny On The Bounty (1963) الذي يبدو فيه براندو في دور الارستقراطي أقرب الى نكتة ويبدو أداؤه محاكاة ساخرة لمدرسة التمثيل المنهجي. إنه يصطنع التمثيل ويعيه تماماً بدلاً من أن يبدو تعبيراً عن استحضار دواخله وتجاربه الإنسانية كما في أفلامه الأولى. ولكن كايل تشير الى اختلاف جذري بين براندو والآخرين يكمن في وعي الجمهور التام لحقيقة أن براندو هو أكبر من الأدوار التافهة التي جسدها. من هنا، لم تنشأ علاقة التملق أو الوهم بينه وبين الجمهور، بل كانت أقرب الى مزحة، كلاهما طرف فيها. كذلك يختلف براندو، بحسب كايل، عن غيره من المتمردين بمقاومته منظومة هوليوود حتى النهاية. ففي حين تحاول الأخيرة "ترويض" الشخصيات ـ النجوم وتحويلها نموذجاً سائداً، تحوّل براندو عوض ذلك شخصية غريبة الأطوار: "حين يكون (أي براندو) أكبر من الحياة، يصعب إنزاله الى مستوى العادية ويصبح أسهل تحوله كاريكاتوراً أو مجنوناً". كملت المرحلة بأدوار من نفس النمط في The Ugly American، Bedtime Story، A Countess from Hong kong وسواها.

أما شيكل، فيشير الى قيام هالة براندو وقت ظهوره على شيءٍ من مواصفات "المسيح المنتظر" لا سيما بالنسبة الى الثائرين ضد التمثيل المسرحي والمناصرين لمنهج ستانيسلافسكي. يقول الممثل ريدفيلد عن براندو: "آمنّا به ليس كممثل فقط وإنما كقائد فني وروحي أميركي". ولكن براندو كان بعيداً من هذا الدور لأنه كان ببساطة ضد التصنيف. وكما قال شيكل: "كان يملك ما يكفي من التناقضات والأسئلة الداخلية والشغف المناقضة لدور القائد أو البطل الثقافي" الذي حدده له كثيرون. الى أنه كان، كما وصفه أحدهم، "مراقباً دقيقاً للحياة وللآخرين أكثر مما كان مستكشفاً لأعماقه". كان ذلك الدور "القيادي" بالنسبة الى براندو يعني تحول حياته الى دور واحد: إظهار عظمة التمثيل كأنه الممثل المطلق. كثيرون ما زالوا يأخذون عليه عدم تجسيده للشخصيات التراجيدية الشهيرة مثل هاملت وتساؤلهم صادق لأنه بالنسبة اليهم، قدم مثالاً صغيراً على عظمة الممثل واكتفى به. بينما هو كان في حقيقة الأمر يقامر في كل دور يجسده على حياته وأحاسيسه. "التانغو الأخير في باريس" (1972) الذي يعتبره بعضهم أحد أفضل أدواره وأفضل فيلم لمخرجه برتولوتشي على الاطلاق، شكل، الى "العراب" و"القيامة الآن"، عودته السينمائية في السبعينات وجلب له أوسكاره الثاني (رفضه على لسان إمرأة ما حملت رسالته حول سوء معاملة الأميركيين للأميركيين الأصليين). بعده، يعترف براندو بأنه كان تجربة مدمرة عاطفياً. إذ أن الدور قام على ارتجالات حوارية لبراندو حول الجنس وعلاقته بالمرأة، مستحضراً طفولته بين أبوين سكيرين، ومظهراً عن الطبيعة الإنسانية ما لم تلمح اليه السينما من قبل. ينسجم ذلك مع تحليل بعضهم لطريقة التمثيل المنهجي (method acting) كوسيلة لإخراج الشياطين الداخلية عند الممثل. في مكان ما، يُسجل قول براندو: "حين تكون طفلاً غير مرغوب أو مرحب به، وتشعر بأن حقيقتك غير مقبولة، فإنك ستبحث عن هوية أخرى تلقى القبول."

في المحصلة، كان ذنب براندو أنه لم يذعن لنظام هوليوود ولم يرتضِ التحول "نبياً" أو رسولاً كما أراده مجايلوه لأنه ببساطة غير مؤمن بالفضائل المطلقة. كان في حقيقة الأمر متمرداً أكثر من "ستانلي" ومن "جوني" ومن كل الشخصيات التي لعبها. ولعل ذلك ما جعله إنساناً بالدرجة الأولى بكل ما تقوم عليه الإنسانية من قلق وشك وشغف. يقول أحد المقربين منه إن الحياة بغموضها كانت تشغله أكثر من الأفلام والسينما. ربما يفسر ذلك ازدراءه لبعض المخرجين النابعة أحياناً من مرارة الحاجة ـ المادية ـ اليهم. لا أحد ينسى "استعراضه" الشهير خلال تصوير فيلم THE SCORE للمخرج فرانك اوز عندما رفض أخذ التعليمات من المخرج وطرده من الاستديو، طالباً من روبرت دي نيرو شريكه في التمثيل أن يديره في المشهد! تلك من الحالات القصوى التي تعبر بشكل أو بآخر عن شخصية حدية متطرفة من دون شك. ولكن تطرفها ذاك هو جزء من سحرها.

بداية ونهاية

في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، ظهر براندو في مجموعة أفلام أبرزها اثنان: The Freshman (1990) وDon Juan De Marco (1995) الذي بدا فيه يجسد دوره الحقيقي قبالة جوني ديب الذي يدعي أنه "دون جوان" كأنه يحاكي شخصية براندو في شبابها. كذلك أصدر العام 1994 مذكراته بعنوان "براندو"، يقدم فيها نظرة طازجة وغامضة الى طفولته حيث وُلد في "نيبراسكا" عام 1924 وعلاقته بمعلمته ستيللا آدلر التي اكتشفت موهبته الاستثنائية مبكراً وتنبأت بعلاقته بالتمثيل حين وصفتها بالقول "إلمس وإمضِ" (touch and go) كأنها فعل سريع إنما ساحر. ولو أن الحياة أمهلته قليلاً، كان سيظهر في مشروع سينمائي للمخرج التونسي رضا الباهي في عنوان "براندو براندو"، حيث كان سيلعب دوره الحقيقي للمرة للمرة الأولى على الشاشة أو ربما للمرة المئة.

المستقبل اللبنانية في

09.07.2004

 
 

رحيل مارلون براندو قبل آخر فيلم له

ومات العراب‏..‏

هوليوود/ محمد رضا

أنت شقيقي الكبير‏...‏ دائما ما نظرت إليك كمثل أعلي‏...‏ كان عليك أن ترعاني‏...‏ عوض أن أتحول إلي صعلوك‏.‏

هكذا نطق براندو في لقطة من علي رصيف الميناء لإيليا كازان قبل أكثر من‏55‏ سنة‏.‏ كان براندو شابا وكان في ذلك المشهد يجلس في المقعد الخلفي شاكيا لأخيه كما أداه رود شتايغر‏.‏ الأخ الأصغر يطلب معونة أخيه الذي شق طريقه‏,‏ لا يهم كيف ومع من‏,‏ بل شق طريقه إلي الوجاهة‏.‏ صار لديه سيارة وسائق بينما الشقيق الأصغر لايزال عاملا في الميناء يواجه عصبة المنتفعين علي ظهر العمال كما في أحد أفضل أفلام المخرج كازان‏.‏

سألت نفسي‏:‏ ماذا لو أنني استخدمت ذلك المشهد بطريقة مختلفة‏.‏ ماذا لو أن الشاب التونسي الذي حط رحاله في هوليوود هو الذي يجلس مكان براندو في الفيلم الجديد وبراندو مكان رود شتايغر والشاب التونسي يقول له‏:‏ لقد نظرت إليك دائما كمثل أعلي‏...‏ كنت أتوقع أن ترعاني عوض أن تتركني بائسا‏.‏

وكان ذلك مشهدا من فيلم جديد بعنوان براندو وبراندو جيء بي لإصلاحه‏.‏ وكان هذا الفيلم متوقعا له أن يكون آخر فيلم لمارلون براندو‏.‏ كتبه وانطلق لتمويله المخرج التونسي رضا الباهي ويقص حكاية شاب تونسي كان يعيش هنيئا في بلدته الصغيرة في تونس عندما وصل فريق تصوير أمريكي ولاحظ بعضهم التشابه الكبير بين وجه هذا الشاب وبين براندو في صباه وأوحي إلي الشاب بدخول التمثيل والمجيء الي هوليوود لأن هناك مستقبلا كبيرا بانتظارك‏.‏ صوب هذا الهدف يترك الشاب حياته الهانئة ويقبل علي أميركا ما بعد‏11/9‏ حيث يجد نفسه وقد انتهي إلي مطعم يطبخ فيه صحنا تونسيا‏.‏ إلي المطعم يدخل براندو بعدما أرسله أحد الممثلين الأمريكيين في الفيلم الذي تم تصويره في تونس لعله يستطيع مساعدة الشاب‏.‏ وما يحدث بعد ذلك بين الشاب الذي يعيش علي ريح الحلم وبين الممثل الخبير الذي عرف كل شيء وعايش كل شيء يلخص وضعا تصطدم فيه الأحلام بالحقائق والوقائع علي الأرض‏.‏

براندو كان متحمسا جدا للفكرة‏.‏ استقبل المخرج التونسي ثلاث مرات‏.‏ أول مرة لأربع ساعات ثم لساعتين ونصف الساعة في كل مرة لاحقة‏.‏ تحادثا طويلا في ربيع هذا العام عن المشروع ثم دلف الممثل إلي حياته وأفكاره‏.‏ قال لرضا الباهي‏:‏

كنت في المغرب ذات مرة أيام شبابي‏.‏ أمضيت ليلة منهكة‏.‏ في الفجر صعدت إلي سطح الفندق الذي كنت أنزل فيه وفجأة صعد آذان من هنا وآذان من هناك وعم صوت الآذان من كل جانب وشعرت بالرهبة‏.‏ لم أشعر بمثلها لا قبل ذلك ولا بعد‏.‏

وقال له‏:‏

تأتي إلي هوليوود من بلد عربي ومن دون مساعدة من منتج أمريكي‏...‏ هذه شجاعة وأريد أن أعمل معك بسببها‏.‏

وقال له أيضا‏:‏

عندما زرت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت في مطلع الستينيات أدركت خطأ مساهماتي في التبرعات الإسرائيلية‏...‏ قلت يا إلهي ماذا كنت أفعل؟‏.‏ وانقطعت عن تقديم تلك المساعدات‏.‏ أدركت من الضحية واعتبرت نفسي أحد المسئولين عن نكبة الفلسطينيين‏.‏

قناعة

هكذا كان مارلون براندو الذي رحل يوم الخميس قبل الماضي وهو في الثمانين من العمر‏.‏ رضا الباهي استقبل النبأ بصدمة ذلك لأنه كان وصل إلي لندن في نفس اليوم لإبرام الإتفاق مع شركة الإنتاج البريطانية‏.‏ أول ما دخل وجد وجوما‏.‏ اعتقد أن رئيسة الشركة‏(‏ نورما هايمان‏)‏ مريضة‏,‏ لكن النبأ وصله فلم يصدق ما سمعه‏.‏ يقول‏:‏ بعد ذلك أغمي علي‏.‏

براندو كان متحمسا للفيلم لأنه عمل يناصر الضعيف‏,‏ وهو كان دائما مشغولا بمناصرة الضعفاء‏.‏ والمشهد الذي لا يزال يتراءي لنا وهو يرسل فتاة من الهنود الحمر لكي تأخذ الأوسكار عنه‏.‏ إنه أحد أوسكارين نالهما في حياته كممثل‏.‏ لكن حياته السينمائية زاخرة بما يكفي لعشرين أوسكارا‏.‏ مارلون براندو كان عميد الممثلين بلا أي تردد او جدال‏.‏

من الخمسينيات حول الممثل براندو التمثيل إلي تجسيد فني بارع وطوال‏50‏ سنة مارس كل دور له بتلك القناعة والإجادة‏.‏ ينتمي إلي مدرسة النظام وهي مدرسة تعني بالتجسيد عبر جذب الشخصية إلي واقع الممثل ومعايشته‏.‏ طريقة تركت أثرها في السينما عبر براندو ومونتغمري كليفت وروبرت دي نيرو وداستين هوفمان من بين آخرين‏.‏ أول فيلم له ورد سنة‏1950‏ عندما طلبه المخرج ستانلي كرامر لبطولة الرجال لكن الخمسينيات بالنسبة إلي هذا الممثل الكبير كانت ملكا لفيلمين من أعمال إيليا كازان هما عربة اسمها الرغبة وعلي رصيف الميناء‏.‏ راقب براندو فيهما وتمعن كيف يمضي إلي آخر نقطة علي حدود المعايشة العميقة مع الدور لاغيا تذكرة العودة‏.‏

من المسرح إلي السينما

ولد مارلون براندو في‏1924/4/3‏ في مدينة أوماها‏,‏ ولاية نبرساكا ابنا لموظف مبيعات في شركة أعلاف كيماوية وممثلة مسرحية في المدينة الصغيرة ذاتها‏.‏ متاعبه مع السلطة والنظام ورموزهما بدأت حين أرسله والده الي مدرسة عسكرية فطردته هذه بعد أشهر بسبب روحه المتمردة‏.‏ قلب براندو وروحه لم يكونا هناك بل في التمثيل فانتقل إلي نيويورك ودخل التمثيل وهو لا يزال في التاسعة عشر من العمر‏.‏ ما إن بدأ العام‏1947‏ حتي وجد نفسه وقد أصبح نجما مسرحيا مجسدا شخصية بطل أحداث الكاتب تنيسي ويليامز في عربة اسمها الرغبة‏,‏ شخصية كان من المفترض أن يمثلها قبله جون غارفيلد لكنه انسحب وآلت إلي براندو الأكثر شبابا حينها‏.‏ وهذه هي المسرحية التي انتقلت بعد ذلك إلي السينما‏.‏

موهبته ممثلا وشخصيته المتمردة ساعدتاه علي أن ينتقل إلي الشاشة بنجاح أيضا‏.‏ بعد الرجال وعربة اسمها الرغبة وجد نفسه في بطولة فيفا زاباتا وجوليوس سيزر والمتوحش وكلها تشترك في تطعيم ذهن المشاهد بصورة رجل خارج عن المألوف لدرجة التمرد‏.‏ لكن لا شيء أكثر تمردا مما كان بانتظاره سنة‏1954‏ عندما مثل علي رصيف الميناء‏....‏ شاب فقير يعمل علي رصيف ميناء نيويورك ويدعو العاملين إلي التضامن ضد مستغلي النقابة الذين يودون الإثراء علي حسابهم‏.‏

صور خاصة

سريعا إذن طبع براندو في ذهن المشاهد شخصية غير مألوفة‏.‏ إذا قارنتها بممثلي تلك الفترة من كلارك غايبل الي غاري غرانت‏,‏ جون واين‏,‏ راندولف سكوت‏,‏ جيمس ستيوارت‏,‏ آلان لاد‏,‏ همفري بوغارت‏,‏ هنري فوندا وسواهم الكثيرين وجدته مختلفا عنهم ليس فقط بأدائه بل باختياراته من الأفلام‏.‏

في الخمسينيات لم يكن هناك شبيه ببراندو‏.‏ كان هناك نوعان من الرجال علي الشاشة الأمريكية‏:‏ القوي والمتكبر كما يعكسه جون واين أفضل انعكاس‏,‏ والرجل المنفتح دون رغبته‏,‏ وبسبب ضعفه‏,‏ علي أي عارض قد يصيبه بأذي‏.‏ براندو كان الجامع الوحيد بين الشخصيتين وأكثر من ذلك‏,‏ كان الممثل الوحيد‏,‏ من أيام فالانتينو في السينما الصامتة‏,‏ الذي جسد الصورة الفحولية للممثل من دون أي خلاعة أو إباحية‏.‏ دوره‏,‏ شخصيته‏,‏ وسامته الداكنة كان كل ما يحتاج إليه لتجسيد هذه الصورة‏.‏ طوال الخمسينيات ملء الشاشة بحضوره في أدوار متعددة في أفلام متباينة المواضيع والأنواع‏.‏ كان نابليون في نابليون وكان الجندي الأمريكي الواقع في حب وداعة اليابانيات في سايونارا‏(‏ علي عكس ما امتلأت به تلك الحقبة من أفلام كره حربية تصور معارك الأمريكيين ضد اليابانيين في الأربعينات‏).‏

في العام‏1961‏ أقدم علي إخراج أول أفلامه جاك ذو العين الواحدة‏,‏ قصة أمريكي من الغرب البعيد يصل إلي بلدة يرأسها شريف كان في شبابه عضوا في عصابة وبراندو سيكشفه‏.‏ المشاهد التي يتعرض فيها براندو للتعذيب قيل عنها آنذاك إنها كانت حقيقية‏.‏ شيء قريب مما ورد في فيلم آلام المسيح حين انهالت السياط علي الممثل جون كافاييزل في دور المسيح‏.‏ بعد ذلك‏,‏ حين قام براندو ببطولة المطاردة للمخرج الرائع آرثر بن تعامل الممثل مع جسده بواقعية‏.‏ اللكمات التي انهالت علي وجهه‏,‏ وهو يقوم بدور شريف بلدة يحاول منع أبنائها من التعرض لشاب هارب من السجن‏(‏ روبرت ردفورد في أحد أدواره الأولي‏)‏ كانت حقيقية‏.‏

كانت لبراندو سقطاته بالطبع‏.‏ هو نفسه يؤكد أن أسوأ فيلم مثله ويتمني لو أنه يمحي من الوجود فيلم عاطفي فانتازي عنوانه كاندي‏.‏ لكن الحال هي أن براندو في زمن كاندي‏(‏ النصف الثاني من الستينيات‏)‏ كان قد أصبح في نضج كامل ما جعل الأدوار التي تستطيع استيعاب قدراته أقل عددا مما كانت عليه في السابق‏.‏ بعد كاندي شوهد في فيلم عادي آخر هو ليلة اليوم التالي‏(1969)‏ ثم في فيلم بريطاني غير ذي شأن عنوانه زوار الليل‏(1971).‏

مواقف سياسية

لكن الحال لم يستمر طويلا ولم يكن حتي متواصلا‏.‏ ففي العام‏1969‏ انتبه براندو إلي أهمية الرسالة السياسية التي فيلم جيلو بونتوكورفيو أحرق‏,‏ فهو فيلم يساري النبرة‏(‏ من مخرج إيطالي معروف‏)‏ يدور حول القمع العنصري الذي ساد القارة الأفريقية في مطلع القرن الماضي‏(‏ العشرون‏).‏ وبونتوكورفيو هو الذي أخرج واحدا من أفضل الأفلام التي تم إنجازها عن الثورة الجزائرية وهو معركة الجزائر‏.‏

الفيلم الكبير التالي لبراندو كان العراب‏.‏ ويا له من فيلم مذهل تتحسس كل دقيقة فيه إخراجا وتمثيلا وكتابة وتصميم مناظر إلي اليوم‏.

العراب‏,‏ كما أخرجه سنة‏1972‏ الفذ فرنسيس فورد كوبولا كان ملحمة أولي من نوعها‏.‏ أفلام العصابات قبل ذلك إما تعاطفت مع البوليس أو مع المجرمين ضمن شروط‏(‏ العشرينيات والثلاثينيات امتلأت بها‏),‏ لكن العراب كان الأول الذي عايشها وجسدها وصور الخارجين علي القانون بضوئين واحد متعاطف وآخر مضاد‏.‏ في العام‏1972‏ فاز بالأوسكار عن دوره في هذا الفيلم لكنه استهان بقيمتها وما ترمز إليه هوليووديا مفضلا استغلال المناسبة لسوء معاملة الهنود الحمر‏.‏

في العام‏1973‏ ظهر براندو في فيلم برناردو برتولوتشي آخر تانغو في باريس ورشح للأوسكار عنه‏.‏ براندو في الفيلم قدم أداء جديرا‏(‏ أفضل ما في العمل بأسره‏)‏ لكن أعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية‏,‏ مانحة الأوسكار‏,‏ لم يرغبوا في المخاطرة مرة أخري بإيداع الأوسكار ممثلا كان قبل سنة واحدة قد ردهم خائبين‏.‏

في العام‏1979‏ ظهر فيما يمكن تسميته بـآخر دور رائع له وذلك في سفر الرؤيا الآن مرة أخري تحت إدارة فرنسيس فورد كوبولا مثل براندو شخصية الجنرال الأمريكي الذي أصابه جنون العظمة فحول حاميته في عمق فيتنام‏(‏ خلال الحرب هناك‏)‏ الي مستعمرة تحكم بأمرها تقتل الفيتناميين والأمريكيين إذا ما حاولوا إيقافه‏.‏ دور داكن في فيلم داكن ورائع عن رواية جوزيف كونراد الصعبة والممتعة معا قلب الظلام‏.‏ براندو كان ممثلا شامخا ومثيرا للاهتمام بصرف النظر عما يؤديه‏.‏ وذلك جلي في فيلمه الأخير الضربة‏.‏

يقول براندو لرضا الباهي في واحد من مقابلتهما‏:‏

أنا الذي أدرت إضاءة المشهد الذي يجمعني ودي نيرو في المسبح‏(‏ وهو واحد من أفضل مشاهد الفيلم‏)‏ وأنا الذي أدرت إضاءة المشهد الذي أظهر فيه لأول مرة في فيلم سفر الرؤيا الآن‏.‏ فرنسيس‏(‏ كوبولا‏)‏ استاء من تدخلي‏,‏ لكني لم أرد عليه‏.‏

المشروع يستمر

براندو الكبير في كل شيء‏,‏ قيمة وتاريخا وجسدا‏,‏ لم يعش لكي يحقق فيلما تحمس إليه لدرجة مطاردته له‏.‏

لكن مشروع براندو وبراندو لرضا الباهي لا ينوي التوقف بموت ركنه‏:‏

نفكر الآن في تغييرات بحيث نستعيض عن ظهور براندو ونحافظ علي تحية الفيلم إليه في كل الأحوال‏.‏

شخصيا‏,‏ حزنت علي رحيل هذا العملاق أكثر حينما علمت بموقفه المؤيد للفلسطينيين‏.‏ ليس لأنه موقف غير منتشر بين عدد متزايد من الفنانين الأمريكيين‏,‏ لكن براندو كان الوحيد الذي جاهر به إذ وضعه في كتابه عن قصة حياته‏*

####

لماذا رفض الوحش المهيب جائزة الأوسكار؟‏! 

رحل مارلون براندو عن عمر يناهز الثمانين عاما‏,‏ ورفض مدير أعماله الإدلاء بأي تفاصيل عن ظروف وفاته‏,‏ بعد قضائه لفترة في المركز الطبي في جامعة كاليفورنيا‏,‏ بعد حياة صاخبة‏,‏ حافلة بالمباهج والمآسي‏!‏

اجتهد البعض في تشخيص مرضه‏,‏ علي أنه أزمة صدرية لأنه عاني قبل ذلك من مشاكل في الرئة‏.‏ وتباري الجميع في رثائه‏,‏ خاصة الذين عملوا معه‏.‏ ويعتبر النقاد مارلون براندو علي رأس قائمة نجوم هوليوود العباقرة الذين يحملون لقب الوحوش المهيبة‏,‏ وغالبيتهم ممن تأثروا به مثل روبرت ديفال وهارفي كيتل وروبرت دي نيرو وآل باتشينو‏.‏ وهم يعدونه أعظم ممثل في التاريخ السينمائي‏,‏ وهو يتمتع بحضور طاغ‏,‏ وأداء متفرد‏,‏ فله صوت متثاقل ونظرة مغناطيسية وروح متمردة وأسلوب تهكمي‏.,‏ والحدث الذي أبهر الجميع عندما رفض براندو استلام ثاني جائزة أوسكار له عن دوره كأحسن ممثل في الأب الروحي عام‏1973,‏ كاعتراض منه علي سوء معاملة السكان الأصليين من الهنود الحمر‏.‏ وكان قد فاز بها لأول مرة عن دوره كأحسن ممثل في علي رصيف الميناء عام‏1955,‏ بالإضافة لفوزه وترشيحه لجوائز أخري عديدة عالمية‏.‏ ورغم المجد الذي حظي به ولم ينله أحد غيره‏,‏ فلم يتكالب يوما علي الشهرة‏,‏ بل علي العكس كان دائم الترفع والاستغناء‏,‏ وعلق في إحدي المرات قائلا‏:‏كنت حريصا دائما منذ بدايتي‏,‏ علي إيجاد وسيلة لتصغير دوري بقدر الإمكان‏,‏ حتي لا أعمل أكثر من اللازم‏!!‏

ويقول أيضا ضاحكا‏:‏هل كان سيصفق الناس لي لو كنت عامل سباكة؟ ويتحدث عن شخصيته قائلا‏:‏أنا لا أجيد التصرف أحيانا‏,‏ ويعتقد الناس أنني متبلد الشعور‏.‏ الحقيقة أنا استخدم ذلك كدرع لحمايتي لأنني شديد الحساسية‏,‏ وإذا وجد مائتي شخص في حجرة ومن بينهم شخص واحد لا يرغب في وجودي‏,‏ سوف أخرج فورا.

الأهرام العربي في

10.07.2004

 
 

انـــه السينـمـا

عباس بيضون

لا اعرف لماذا لعب كوبولا بسحنة مارلون براندو في <<العراب>>. لم يعد براندو نفسه. وحين لم يستطع كوبولا ان يغير صوته. بدا هذا الصوت وكأنه يخرج من رأس آخر. ازال كوبولا من وجه براندو شيئا من سحره شاء حنكه مشدودا اكثر وخداه معظمتين. كان يريد ان يطفئ قليلا من ذلك النزق في عينيه. قليلا من ذلك الدلال في هيئته وصوته، شيء في هيئة براندو كان يناسب زاباتا اكثر مما يناسب العراب غالبا. احتمل براندو ان يشدوا وجهه لكن صوته بقي متهدلا غنّاء. مع ذلك لم يكن بين الوجه والصوت اي اختلال. لبس الصوت الوجه بسرعة، لبس الوجه القديم الجديد. وها نحن لا نتذكر مارلون براندو بوجهين ولا بثلاثة. وجه براندو يبقى نفسه ولو بصورتين او ثلاث، وجه براندو يطفو فوق صوره العديدة. وجه براندو وصوته يطفوان فوق ادواره كلها، لا يتعارضان مع أي صوت وأي دور. ولكنهما ايضا يتحرران من كل صورة وكل دور. لا يمثل مارلون براندو نفسه بالطبع، لكنه لا يمثل اساسا. هذا الصوت يناسب كل كلام. الكلام لعبته وأيا كان فهو يعطيه نبرته. هذا الوجه يناسب كل دور وايا كان فهو يعطيه هيئته. لا يمثل مارلون براندو، انه تقريبا التمثيل، هاتان العينان الناعستان تمنحان لمعانا لكل دور وكل كلام. هذا الوجه المسترخي قليلا على قدر من دلع وقدر من تصميم يمنح لغته لكل دور ويعطيه من فتوره وتصميمه.

هذه القامة المشدودة ستبقى هي نفسها لكنها تصنع الادوار. مارلون براندو هو السينما، والدور الذي يحظى بعينيه وهيئته وصوته سينجح بالتأكيد، ما عند براندو هو السينما نفسها. هو سحر السينما، به وبمجرد ان يحضر تحضر السينما، يحضر سحر الصورة وسحر الخروج من ظلمة الشاشة وسحر الكادر وسحر الحركة والكلام. اذا لكل امرئ حضوراته العديدة فمارلون براندو هو الحضور السينمائي، وهذا الحضور يكفي ليخلق السينما ويخلق الدور من لا شيء ومن كل شيء، نفكر بأدوار مارلون براندو فنقول كم كان رائعا في زاباتا والتانغو الاخير في باريس والعراب و...، نقول كم كان عظيما في ادواره قبل ان ننتبه باستغرب الى انه اعطى ادواره اكثر مما اعطته، قبل ان ننتبه الى انها كانت عظيمة فيه، وان زاباتا هو ايضا مارلون براندو والعراب هو ايضا مارلون براندو ومئات الشخصيات هي ايضا مارلون براندو، لقد لعب هذه الشخصيات بقدر ما لعبته، كانت ادوارا له لكنه كان ايضا مثالا لها، ولا نحتاج لان نتذكر هذا الدور او ذاك. مارلون براندو صانع ادواره. مارلون براندو هو السينما.

كان علينا ان ننتظر طويلا بعد انتحار مارلين مونرو لتغدو اسطورة، لقد صنع الزمن ذلك كما صنعته حاجة السينما الى اسطورة. لكن مارلون براندو لن ينتظر في البرزخ انه موجود في السماء قبل ان يصعد اليها اسمه، يحلق قبل وفاته، صورته تحلق قبل وفاته. لن يحتاج الى وقت، هو منذ زمن طويل في مصاف الآلهة والنجوم. انه السينما الى درجة ان كثيرين لن يروه وحده. في الواقع مارلون براندو من زمن في السماء. هناك تجلياته على الارض، لنفكر بدي نيرو مثلا، براندو نفسه كان تجلي ذاته من وقت طويل. اننا نعامله من سنين على انه ظل نفسه. هذا وحده يكفي.

abaydoun@assafir.com

موقع "كيكا"(عن السفير اللبنانية)

السفير اللبنانية في

10.07.2004

 
 

الفنان .. والمتمرد .. والأسطورة

نبيل زكي

بعض الفنانين يجدون انفسهم، مع مرور الوقت، ضحية للنسيان.. تتلاشي اسماؤهم من الذاكرة وتموت اعمالهم معهم، تتواري صورتهم بسرعة مخيفة وتصبح خرساء.. ولا تقول شيئا، وتمحو الأيام ما تبقي منهم.. اذا كان قد بقي شيء ما.

ولكن الفنان مارلون براندو.. حالة مختلفة.

فرغم تصرفاته العجيبة وغرابة أطواره ومزاجه المتقلب وولعه بالمشاكسة والصدام وشخصيته الشاردة والعنيدة التي تنطوي علي قدر كبير من الالغاز .. إلا ان عددا محدودا من الادوار التي قدمها في السينما اثارت جيلا بأكمله واحدثت صدمة كهربائية وتحولا في فن التمثيل السينمائي الي الابد.

يقول روبرت اوزبورن، مؤرخ هوليوود، 'انه واحد من أعظم ممثلي الشاشة الفضية في كل الأزمنة والعصور'.

اتذكر انطباعاتي واستعيد من ذاكرتي.. انفعالاتي.. وانا اشاهد افلام مارلون براندو في سنوات الصبا.

هل يمكن لأربعة او خمسة ادوار كبري ان تجعل من الانسان.. 'الفنان الاعجوبة' و'المعجزة المتمردة'؟

***

أتذكره الآن في دور ستانلي كوفالسكي في فيلم 'عربة اسمها الرغبة' المأخوذ عن مسرحية الكاتب الكبير 'تينيسي وليامز' وفي دور الثائر المكسيكي 'اميليانو زاباتا' في فيلم 'فيفا زاباتا' المأخوذ عن قصة الكاتب جون شتاينبك.. وفي دور 'تيري مالوني' الملاكم السابق في فيلم 'رصيف الميناء' الحائز علي جائزة الأوسكار '1954'.. وفي دور مذهل في فيلم 'الأب الروحي'، هو دور 'دون فيتو كورليوني'.

واتذكره الآن في مشهد واحد لا ينسي في فيلم 'القيامة.. الآن'.. ونحن نتابع الرحلة الطويلة للضابط الأمريكي 'ويلارد' عبر احد أنهار فيتنام، اثناء الحرب هناك، بحثا عن الكولونيل الأمريكي 'كيرتز' 'مارلون براندو' الذي رفض المشاركة في الحرب ضد الشعب الفيتنامي.. والمهمة التي كلف بها الضابط 'ويلارد' هي قتل الكولونيل كيرتز.. ونري مارلون براندو في المشهد يبدو امامنا كما لو كان 'بوذا'، أو نصف إله.. ويرتفع صوته وهو يلفظ آخر كلماته عن الحرب قائلا: 'الرعب.. الرعب'.

***

هذه الأدوار المحدودة تجعل من مارلون براندو ..الأعظم. وعلي حد تعبير الناقد السينمائي 'ريك ليمان'، فإنه من المؤكد ان هذا الفنان واحد من حفنة من ممثلي السينما الأمريكية الخالدين.. بل يري البعض انه 'الأعظم' بينهم.

ويمكن القول ببساطة انه في فن التمثيل السينمائي.. هناك ما قبل مارلون براندو وما بعد مارلون براندو.

والمسافة بين 'ما قبل' و'ما بعد' اقرب الي المسافة بين كوكبين مختلفين.
نحن بازاء حضور عبقري فذ، وقامة تراجيدية مهيبة، واداء عملاق احدث ثورة في اسلوب الاداء.

انه نوع من 'الكاريزما' او القبول يستقطب الجمهور ويحتضنه في دفء وحنان.
ويتفق الجميع علي انه رائد طليعي سبق عصره، وعلي ان الكثيرين قاموا بتقليده ومحاكاته.. بل ان الكثيرين من الممثلين تأثروا بأسلوبه، واصبح كل منهم يحتوي في ادائه علي صدي لنموذج براندو، ومنهم بول نيومان ووارين بيتي وروبرت دي نيرو.. واخيرا ليوناردو دي كابريو.

بداية الانطلاق كانت مسرح برودواي في عام 1947 وهو يؤدي دور كوفالسكي في 'عربة اسمها الرغبة'، وكان عمره 23 سنة، ثم قام بنفس الدور في السينما عام 1951 وعندما حقق نجاحا كبيرا في المسرحية، قال: 'كما لو انني، بعد النوم، أفيق جالسا فوق قالب حلوي'!. ومرة أخري نلاحظ ان اسطورة براندو تعتمد علي عدد صغير من الادوار التي جعلت منه نجما لم تعرف السينما من يماثله في حجمه.. ولا من هو اشد بريقا وتألقا.

***

في ورشة الدراما بالمعهد الجديد للأبحاث الاجتماعية في نيويورك تعلم براندو فن 'التمثيل المنهجي' الذي ابتدعه في روسيا كونستانتين ستانسلافسكي في العشرينات من القرن الماضي، واشتهر هذا الفن في نيويورك في الاربعينيات علي يد مجموعة من الاساتذة بينهم 'ستيلا آدلر'، التي تعلم مارلون براندو علي يديها.

يقول براندو عن ستيلا آدلر:

لقد علمتني ان اكون صادقا، وان لا احاول اصطناع او افتعال عاطفة لم اشعر بها شخصيا اثناء الأدوار.

وفكرة التمثيل المنهجي تعتمد علي استخدام الممثل لمهارته اكثر من اعتماده علي التقنية مما يقربه من الصدق في الاداء.. وكان براندو يتمتع بنفاذ بصيرة وبالقدرة علي اكتشاف ابعاد الدور.. انه ناقد واكاديمي عندما يناقش دورا معينا ولم يكن هناك من هو افضل منه في التقاط اللمسات الذكية التي تجعل الشخصية نابضة بالحياة.

***

في سيرته الذاتية.. يكتب المخرج 'ايليا كازان' قائلا: 'لم امارس الاخراج في مشهد التاكسي في فيلم 'علي الرصيف'.. وما حدث هو ان مارلون براندو شرح لي كما كان يفعل في معظم الاحيان الكيفية التي ينبغي بواسطتها اداء المشهد.. انه يفاجئني دائما بمثل هذه المعجزات الصغيرة.. وفي احيان كثيرة، وجدته افضل مني.. وكان شعوري نحوه هو الامتنان'.

وفي ادائه لدور دون فيتو كورليوني في 'الأب الروحي' حرص براندو علي تقديم تصوره الشخصي للفيلم كعمل انتقادي 'للبيزنس' الامريكي وشراهة الاحتكارات، بينما كان تصور المؤلف 'ماريو بوزو' للشخصية.. مختلفا.. وهذا الاداء لشخصية كورليوني هو الذي بقي في ذاكرة الاجيال، ولا يستطيع احد إزالته.. وفي كل مرة يقف فيها امام الكاميرا.. يبتكر شخصية اخري غير تلك التي ارادها المخرجون الذين كانوا مفتونين بأدائه المتميز.. بقدر ما كانوا يمقتون تصرفاته.

مهارة الممثل ترتبط بنظرته الثاقبة والمرهفة والواعية للسلوك الانساني.. والممثل العظيم يجب ان يعرف العالم ويشعر بشيء ازاءه.. وبالهموم الأشمل والأوسع للبشرية ويشارك فيها.

بعد خلافات حادة مع المخرج الأمريكي لويس مايلستون اثناء تصوير فيلم 'ثورة علي السفينة باونتي' '1962'.. زعم المخرج ان براندو اعتاد ان يسد أذنيه بقطعة من القطن 'حتي لا يسمع تعليمات المخرج'!.

وبدأ الترويج للإدعاء بأن الفنان 'صعب المراس'.

فهل كان هذا هو السبب في ان مارلون براندو لم يجد امامه سوي فرص ضئيلة للعمل الفني في أدوار جادة خلال الاربعين سنة الماضية.. اي عبر الجزء الأكبر من حياته بعد النضج؟ لقد جلبت أفكاره الاجتماعية عليه التعاسة بعد أن أخذت تطارده أدوار لا ترضي ميوله.

الآن يوجه بعض النقاد الاتهام لصناعة السينما الأمريكية بأنها تجاهلت براندو تحت ستار أقاويل ترددت بأنه يبدد موهبته، وانه نرجسي 'يعشق ذاته' ويصعب توجيهه.

غير ان المخرج الايطالي جيلو بونتيكورفو، الذي عمل مع براندو في فيلمي 'تأملات في عين ذهبية' و'احرق!' يشهد بأنه علي الرغم من حساسية براندو المفرطة وصعوبة العمل معه، إلا انه علي مستوي عال من المهارة الحرفية وانه في النهاية يفعل ما هو مطلوب منه.

ام ان محاولة براندو التوغل علي نحو اكثر عمقا في الشخصية الانسانية وظروف الحياة.. جعلته يشعر بأنه في بيئة غير مواتية وغير مريحة وبأنه اصبح غريبا عن صناعة السينما، وخاصة في الاحقاب الأخيرة؟

ثمة حالة من عدم الوفاق بين براندو والعالم الذي ينتمي اليه.. او حالة من عدم القدرة علي التكيف مع السينما التجارية، وهو امر لا علاقة له بعيوبه الشخصية او اضطرابه العصبي.. ولكن قد تكون له علاقة بالنفور الطبيعي لديه من الفساد والنفاق وانعدام الامانة.. تماما كما كان حال شخصيات فنية اخري مثل اورسون ويلز ومارلين مونرو في فترة ما بعد الحرب العالمية. ام ان ملوك صناعة السينما اتخذوا موقفا رافضا لمارلون براندو بسبب توجهاته الفكرية والسياسية؟

***

في عام 1996، ظهر براندو في مقابلة مع المذيع التليفزيوني الشهير 'لاري كنج' في شبكة 'سي.ان.ان' ليصرح بأن 'اليهود يحكمون أمريكا، بل انهم يملكونها فعلا'.. وقامت القيامة.. واتهموه بأنه عنصري ومعاد للسامية.

وقبل ذلك شارك براندو في اجتماع لتأسيس فرع هوليوود من لجنة مناهضة الأسلحة النووية مع 'هنري فوندا' و'مارلين مونرو' والكاتب المسرحي الكبير 'آرثر ميلر' و'هاري بلافونت' وفي مايو عام 1960، شارك مع الفنانة 'شيرلي ماكلين' وآخرين في اجتماع امام سجن كوينتين، وشارك في مسيرة شعبية في اغسطس 1963 في واشنطن للدفاع عن الحقوق المدنية، وهي المسيرة التي ألقي فيها الزعيم الأسود 'مارتن لوثر كنج' خطابا مدويا.

وخلال زيارة للندن في عام 1964، شارك براندو في اعتصام امام سفارة حكومة جنوب افريقيا العنصرية للمطالبة باطلاق سراح المسجونين السياسيين، ووجه نداء الي الممثلين والمنتجين والمخرجين والكتاب السينمائيين لكي يشترطوا في اي عقد يبرمونه في المستقبل حظر عرض افلامهم علي مشاهدين من انصار التفرقة العنصرية. ومنذ اوائل الستينيات، ارتبط براندو بحركة حقوق الهنود الامريكيين، وألقي القبض عليه في عام 1963 بولاية واشنطن لمساندته حقوق الصيد للهنود.. وفي عام 1976، القي القبض علي براندو في سان فرانسيسكو بسبب تأييده لزعيم حركة الهنود الامريكيين دنيس بانكس.. وساند الهنود بعد المواجهة الدموية بينهم وبين الشرطة الفيدرالية الأمريكية في داكوتا الجنوبية.

ويقول القس الامريكي الاسود وزعيم حركة الحقوق المدنية جيسي جاكسون: 'لقد ساعدنا براندو كثيرا في سنوات الستينيات'.

ودافع براندو عن حركة 'الفهود السود' الامريكية الشهيرة، وساعدهم ماليا وشارك في تأبين الزعيم الاسود جورج جاكسون، الذي اغتيل في داخل السجن.. ودافع عن 'هوي نيوتن' زعيم الفهود بعد القبض عليه في اوكلاند عام .1968 ووقف براندو ضد حرب فيتنام، وضد كل اشكال القهر، كما وقف الي جانب المجتمعات المظلومة.كان يقول: لو اضطررت لضرب رأسي في جدار حجري لكي ابقي صادقا مع نفسي.. لفعلت ذلك. وبذل براندو.. جهودا كبيرة لدعم الاطفال من خلال منظمة 'اليونيسيف'.

***

كان مارلون براندو يقول: 'ان الممثل يجب ان يلتزم بشيء واحد تجاه جمهوره، هو ألا يجعله يشعر بالملل'. وجاء وقت اعرب فيه براندو عن اشمئزازه بصورة متزايدة من صناعة السينما.. ولكن الناس سيتذكرونه كمتمرد حقيقي لا يقبل المساومة، ولأنه آخر عمالقة الجيل الذهبي في السينما الأمريكية، ولأنه اتقن تقديم افلام من نوعية مختلفة وادوار مختلفة بسهولة ويسر.. لم يضارعه فيهما احد..، ولأنه احدث ثورة في السينما الأمريكية، وفتح عصرا جديدا في الأداء، ولأنه كان خصما للرأسمالية الأمريكية المتوحشة ولأنه رفض الاوسكار تعبيرا عن رفضه للتعسف والظلم والاضطهاد لسكان امريكا الأصليين.

ورغم أنه حصل علي 3 ملايين دولار مقابل ظهوره لمدة 10 دقائق في فيلم 'سوبر مان' .. إلا أنه مات مفلسا بعد أن تراكمت عليه الديون بسبب كوارث عائليه.

أخبار اليوم المصرية في

10.07.2004

 
 

براندو "المفلس" يترك خلفه الملايين

تركة النجم مارلون براندو تقدر ب 22 مليون دولار حسب ما أفاد به محامبه، مما يناقض ما قد أشيع عن أنه مات مفلسا.

وكانت هناك شائعات عن أن براندو قد قضى سنواته الأخيرة مدينا حيث لم يكن له ايراد غير تقاعده وبعض المصادر المحدودة. وقد توفي براندو الذي كا صاحب أعلى أجر في هوليوود يوم الأول من يوليو/تموز عن عمر يناهز الثمانين عاما.

وقال محامي براندو أن ثروته قداستثمرت في العقارات بشكل رئيسي . وكان المحامي ديفيد سيلي يتحدث بعد تقديمه طلبا في محكمة لوس انجيليس لبدء الاجراءات القانونية من أجل توزيع تركة براندو على ورثته.

وتتضمن تركته حقوقا قانونية في العديد من سيناريوهات الأفلام واللوحات الفنية. ويظهر من الوثائق التي قدمت للمحكمة أن عائدات العقارات التي كان يملكها براندو تصل الى خمسمئة الف دولار سنويا. وقد ذكر جميع الافراد الذين ينحدرون من نسل براندو باستثناء أحد أحفاده وأحد ابنائه بالتبني.

وكانت قد انتشرت شائعتات في سنوات براندو الأخيرة عن أنه قد استنفذ ثروته منفقا جزرءا كبيرا منها على المحامين الذين دافعوا عن نجله المتهم بقتل صديق شقيقته في عام 1990. وأنفق براندو أيضا أموالا طائلة على أولاده وأحفاده وعشيقاته.

ومن أكثر أفلامه شهرة فيلم "و"العراب" و"التانجو الأخير في باريس" وفيلم "عربة اسمها الشهوة". وقد أحرق جثمان براندو في مراسم سرية في لوس انجلس الأسبوع الماضي.

موقع الـ BBC في

10.07.2004

 
 

مارلون براندو: المخـرجون تافـهون

آخـر أعمـاله يدعـو إلى الكــذب!

الاتحاد - خاص: اكذب لتعش، عنوان آخر اعمال عملاق السينما العالمية مارلون براندو ليس فيلما بكل معنى الكلمة·· بل سلسلة دروس مسرحية في فن التمثيل لن نراها على الشاشات بل عبر البريد الالكتروني فقط·· ض فريد من نوعه يطلق براندو فيه العنان لنفسه بدون رتوش، داعيا الى·· الكذب·· والى كسب ما أمكن من المال الكثير··

هوليوود الاستديو رقم خمسة·· حشد من النجوم، يشع على الفور من بينها وجه نجم النجوم: دون كورليوني زعيم مافيا فيلم العراب: مارلون براندو وبصوته المتهدج الذي يستحيل تقليده، يقول مرحبا: لدينا ضيف مميز جدا هذا الصباح: مايكل جاكسون·
وبفوضويته المعهودة، وقبعة الباسكت بول المهملة عند ثلاثة ارباع رأسه ونصف عينيه، يتقدم مايكل ويجلس في مقاعد الصف الأول، الى جانب شاين (13 عاما) حفيد مارلون براندو·

نجم النجوم، الذي كانت بداية لمعانه في الفيلم الشهير قطار اسمه الرغبة يقدم ض جديد عنوانه اكذب لتعش سلسلة من دروس الكوميديا بادارة نخبة من كبار اساتذة المسرح الاميركي: غولدبرغ، وليامز، أولموس، نيك نولت وغيرهم·· وبمشاركة نخبة من كبار ديناصورات هوليوود: جاك نكسونو رود ستيغر و اليزابيت تايلور·· وبمقاطعة ليوناردو دي كابريو الذي قال لـ براندو بكل بساطة: لا اعرف ما الذي يجعلك تعتقد نفسك مهما الى هذه الدرجة؟!

الجمهور حوالى الخمسين من ممثلين وتلامذة تمثيل واصدقاء براندو ابن الثامنة والسبعين، الذي استدعى طوني كاي من لندن لاخراج وانتاج فيلمه المسرحي اكذب لتعش·· كان براندو معجبا باخراج كاي منذ فيلمه قصة الاميركي اكس وكان كاي بدوره متلهفا للعمل مع الرجل الاسطورة، لكن براندو افهمه منذ البداية بأن الهدف الاساسي لهذا العمل الفني هو الكسب المادي بالدرجة الأولى·

وكان براندو منذ فيلمه الشهير التانغو الأخير في باريس عام ،1972 قد رفع شعاره الشهير: عمل أقل مقابل مال أكثر·· براندو ليس جشعا بطبعه، لكن موجباته العائلية وتبذيره الخيالي يجعله بحاجة دائمة الى الكثير من المال·

لديه احد عشر ولدا من عدة زوجات·· واحدى زوجاته السابقات ماريا كرستينا رويز مثلا طالبته بنفقات اعالة غذائية قيمتها مئة مليون دولار· اضافة الى انه ما يزال بانتظار من يشتري جزيرته تاتياورا في هاييتي المعروضة للبيع منذ سنوات طويلة·

بعد الكثير من التحضيرات، بدأ أخيرا تصوير اكذب لتعش وطلب براندو من فريق العمل ان يرتدي كل واحد منهم الزي الذي يشاء، وقد غضب براندو عندما حضر طوني كاي بزي أسامة بن لادن·· وكان في عداد الممثلين مصارع ياباني وزنه 200 كيلو وقزمان اثنان والعامل الميكانيكي الفرنسي فيليب باتي الذي مشى على حبل بين برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك قبل تفجيرهما·

الموسيقى المرافقة خلطة افريقية كوبية اسمها مامبو من اختيار مارلون براندو طبعا·· قطعتها صرخته: حان وقت الضحك، ويبدأ هو بتقديم وصلات تهريجية يقلد فيها نفسه، في الشخصيات التي لعبها في افلامه، بطريقة كاريكاتورية ساخرة· لكن، ليطلع من قلب هذه السخرية بحكم فلسفية مرة، بسيطة بقدر ما هي حقيقية، حيث يقول: التمثيل ليس فنا معاصرا، التمثيل هو اقدم مهنة في تاريخ البشر·· نحن جميعنا نقضي كل حياتنا في الكذب وفي اصطناع الادوار· الكذب هو فعل اجتماعي مربح لا مجال للنجاح بدونه، أنا محترف كذب في كل حياتي، مثلي في ذلك مثل كل البشر، وما يميزني عن غيري هو أنني اتقن فن الكذب بطريقة ممتازة·

ومن محاضرة فلسفة الكذب هذه، ينتقل براندو الى الطلب من تلامذته السعي الى اجراء النقد الداخلي الذاتي لانفسهم: مزقوا الاكفان الملفوفة على اجسادكم وانظروا جيدا الى ما في داخلها· اذا عجزتم عن ذلك لن تصبحوا ممثلين!

ثم يروي لهم كيف اختاره المخرج فرنسيس كوبولا لبطولة فيلم العراب على الرغم من معارضة الشركة المنتجة بارامونت وكيف ان كل ما تقاضاه عن دوره في هذا الفيلم الذي حصد مئات ملايين الدولارات لم يتجاوز الخمسة وخمسين ألف دولار فقط·
في اليوم الرابع للتصوير، يصدر مارلون براندو تعليمات غريبة: على الممثلين البيض لعب دور السود، وعلى الممثلين السود لعب دور البيض·· ويمتثل الممثلون - التلامذة على الفور وبدون ادنى اعتراض·

درس آخر من الاستاذ براندو: في فيلم القيامة الآن، لم يكن لدي ما أفعله·· استسلمت للسيناريو وتركت الأمور تسير على هواها·· لم ابذل جهدا كبيرا في لعب دوري·· وكان هناك اجماع على روعة أدائي·· ألم أقل لكم ان كل شيء هو مجرد كذب بكذب؟!

درس آخر: الجمهور دائما على حق· اذا كان السيناريو مكتوبا جيدا فان المشاهدين هم الذين يكملون أداء الممثلين·· الأفلام موجهة الى المشاهدين· هل يمكن ان نتصور تمثيلا بدون مشاهدين؟!

درس آخر يلقيه براندو بحيوية مميزة: اذا وقفت امام الكاميرا أو على خشبة المسرح وأنت في 100 في المئة من قدراتك، فلا تظهر امام الجمهور سوى 80 في المئة منها فقط·· واذا كنت في 80 في المئة اظهر 60 في المئة فقط·· اما اذا كنت في 40 في المئة فالافضل لك ان تدع شخصا آخر يؤدي دورك!

خلال ذلك لا يتوانى براندو عن القول لتلامذته وزملائه من وقت لآخر: لاتصدقوا ما أقوله لكم·· هذا مجرد هراء!

ومع ذلك، يظل التلامذة والجمهور مشدودين مبهورين بكل ما يقوله براندو أو يفعله أمامهم·· يهتفون له ويطالبونه بالمزيد: المخرجون هم مجرد أناس تافهين لا مواهب لديهم ولا مخيلة·· اظهروا لهم اعجابكم بهم، لكن حاذروا ألا يتحول ذلك الى اعجاب حقيقي يسيطر على عقولكم!·· سيناريو اكذب لتعش - دروس في فن التمثيل، لم يكن مكتوبا بل كان مفتوحا ولـ مارلون براندو حرية الارتجال كيفما يشاء، والى متى يشاء·· لكنه في اليوم الرابع عشر من التصوير اعلن انه مضطر لانهاء الشريط عند هذا الحد بدواعي الضجر والتعب والمرض· وسارع صديقه مايكل جاكسون الى القول بأنه على استعداد ليضع يخته نيفرلند في تصرفه لمتابعة تصوير حلقات أخرى من هذه السلسلة الشيقة متى يشاء·

ورد عليه براندو ضاحكا: كفاك كذبا ونفاقا ياميكي·· فلننتظر أولا ماذا سيحصل لهذا المسكين طوني كاي الذي سيغرق في تنسيق مئات الساعات من اشرطة الفيديو التي جعلناه يصورها في هذا الستوديو القذر الرقم خمسة!

متى سيبصر هذا الشريط النور؟

مارلون براندو نفسه لايعرف موعدا محددا، لكنه اعلن ان الشريط غير مخصص للشاشات، بل سيكتفي بعرضه للمشتركين على موقعه على الانترنت ·
أورينت برس

الإتحاد الإماراتية في

10.07.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)