كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

رجل التناقضات عاش حياة مليئة بالمفارقات

مارلون براندو.. العبقري المجنون

وصف حياته برحلة البحث عن وسيلة لإصلاح ما أفسده المجتمع في روحه

أحمد يوسف

عن رحيل العملاق

مارلون براندو

   
 
 
 
 

ظل مارلون براندو خلال سنوات حياته الأخيرة يعيش حالة من العزلة الاختيارية، لا يكاد يذكره أحد بعد أن استمتع طويلا بشهرة هائلة تمزج بين الإعجاب به وكراهيته معا، وبعد أن كان موضوعا رئيسيا لصحف الفضائح التي تحدثت عن أبنائه غير الشرعيين، وشراهته تجاه الطعام والمال والنساء، لكن المفارقة المريرة بحق هي أن ذلك النجم الساطع، الذي حصل على أربعة ملايين دولار للظهور دقائق قليلة في فيلم “سوبر مان” ،1978 عاش سنواته الأخيرة معتمدا على المعاش الضئيل الذي تمنحه نقابة الممثلين حتى وفاته في بداية الشهر الجاري عن ثمانين عاماً.

هل كان مارلون براندو لغزا أم أن تأمل حياته يمنحنا الإجابة عن هذا اللغز؟ وهل كان براندو فنانا عبقريا بحق أم انه كان فنانا موهوبا أضاع موهبته سدى؟ هناك العديد من الإجابات على هذه الأسئلة تكاد أن تتباين من النقيض إلى النقيض في الحديث عن مارلون براندو، الذي يمكن أن تختلف حوله إلى آخر المدى، لكن ما نتفق عليه  دون شك  هو انه يمكنك أن تؤرخ لفن التمثيل السينمائي فيما قبل براندو وما بعده، وان كنت في شك من ذلك أرجو أن تقارن الجيل الذي سبقه، مثل همفري بوجرات وجون وين وروك هدسون وجاري كوبر وكاري جرانت، والجيل الذي تلاه مثل روبرت دي نيرو وال باتشينو وداستين هوفمان وجاك نيكولسون، حتى جيل شون بين وايثان هوك.

تمتلئ حياة براندو بالمفارقات، ولعل المفارقة الأولى المثيرة للدهشة هي أن ذلك التأثير الفني العميق في فن التمثيل السينمائي، استطاع براندو أن يحققه من خلال عدد قليل من الأفلام من بين حوالي أربعين فيلما قام ببطولتها أو التمثيل فيها، بدءا بدوره في فيلم “عربة اسمها الرغبة” 1951 عن مسرحية تينسي ويليامز وإخراج ايليا كازان  كان براندو آنذاك في السابعة والعشرين من عمره  ومرورا بفيلم “يحيا زاباتا!” 1952 عن ذلك الثوري المكسيكي قائد حرب العصابات الذي يتسم بالنبل المأساوي، وفيلم “المتوحش” 1954 في دور قائد عصابة الدراجات النارية المتمرد، ثم فيلم “على رصيف الميناء” في نفس العام في دور الملاكم الضائع في زحام الصراعات الاجتماعية  وهو الدور الذي فاز عنه بجائزة الأوسكار الأولى له  وسوف تمر أعوام طويلة حتى يلمع مرة أخرى في الدور الذي نال عنه جائزة الأوسكار مرة أخرى في فيلم “الأب الروحي” ،1972 ثم يقوم ببطولة فيلم بيرتولوتشي المثير للجدل “التانجو الأخير في باريس” ،1973 وأخيرا دور قصير شديد التأثير في الفيلم الذي يحكي عن مأساة الحرب الفيتنامية  والثقافة الغربية كلها  “نهاية العالم الآن” 1979.

إليك المفارقة الثانية الأكثر غرابة: لقد كان براندو يعلن دائما في مقابلاته الصحفية والتلفزيونية عن احتقاره وازدرائه لمهنة التمثيل!! انه أمر يحتاج إلى الكثير من التأمل لكي تدرك سر هذه المفارقة، فهو يعكس نظرة انتقادية شديدة السخرية من التناقضات الاجتماعية، التي جعلته يسأل ذات مرة: “إني أتمتع بالشهرة لأنني ممثل جيد، لماذا لا أتمتع بنفس الشهرة إذا كان القدر قد رتب لي أن أكون سباكا جيدا؟” وفي الحقيقة انه بهذا السؤال يضعك أمام كل البديهيات التي نأخذها ونصدقها دون تفكير، وهو يضعك مرة أخرى في موقف التساؤل عن العلاقة بين الفن والحياة عندما يقول: “التمثيل هو اكثر الحرف غموضا وإبهاما، فنحن جميعا نقوم بالتمثيل على بعضنا البعض طوال الوقت، عندما نريد شيئا من شخص ما أو عندما نخفي حقيقة ما أو نتظاهر بمظهر لا نملكه.. ولو طلبوا مني أن امثل دور شخص يمسح البلاط لفعلت إذا كانوا سيدفعون مقابلا جيدا”.

الغريب في الأمر أن هذا العبقري المجنون، الذي يتحدث عن “مهنته” بهذا القدر من الازدراء كان من اكثر الممثلين بذلا للجهد في عالم “الاحتراف” عندما يتطلب الأمر ذلك، ففي كل الأدوار المهمة التي قام بها كان يقضي شهورا طويلة مع كاتب السيناريو والمخرج ليناقشهما في تفاصيل الشخصية، لكنه عندما كان يقف أمام الكاميرا يترك نفسه فجأة لنوع من الارتجال، لأنه عند تلك النقطة قد اصبح هو والشخصية شخصا واحدا، بحيث لا يمكنك أن تشعر لحظة واحدة أن إيماءاته وحركاته وسكناته تنبع من “الحرفة” أو “المهنة” وإنما من ذلك “الإنسان” الذي تراه أمامك على الشاشة، وقد تجسدت الشخصية الدرامية من خلاله فأصبحت لحما ودما ومشاعر، ويمكن أن تتأمل على سبيل المثال تلك الحركة العفوية التي يقوم بها بطل فيلم “على رصيف الميناء” وهو يغازل امرأة ويتحدث إليها بينما يرتدي  في نعومة  قفازها، أو فلتنظر إلى حركة الإصبع المرفوعة للبطل العجوز في “الأب الروحي” وهو يحدث أتباعه، فكأن الإصبع قد تحولت إلى صولجان السلطة، دون أن تشعر أبدا أنها حركة مفتعلة مقصودة لذاتها.

لقد كانت “طريقة” مارلون براندو في فن التمثيل السينمائي هي النموذج المجسد الذي بحث عنه رجل المسرح الروسي الأشهر ستانسلافسكي، وحاولت مجموعة “استوديو الممثل” الأمريكية تحقيقه على خشبة المسرح في أربعينات القرن العشرين، لكن براندو اكتشف  بشكل غريزي وحدسي  أنها هي الأصلح للسينما لأن السينما هي الفن الذي يملك وحده “اللقطة المكبرة” أو بكلمات براندو نفسه: “إن اللقطة المكبرة تجعلك على بعد بوصات قليلة من المتفرج، الذي سوف يشعر إذا كانت إيماءاتك مفتعلة قد أتت من تمريناتك أم أنها تنبع حقا من داخلك، إن اللقطة المكبرة تجعل وجه الممثل هو خشبة المسرح ذاتها”. إن هذه “الطريقة” في الأداء التمثيلي لا تعتمد مطلقا على “أكليشيهات” التمثيل التقليدية  إيماءة للحزن، وأخرى للفرح.. وهكذا  بل إنها تعتمد تماما على “المخزون” النفسي والعاطفي للممثل وقدرته على استدعاء هذا المخزون لكي يوائم سلوك شخصية درامية في موقف محدد، لذلك فإن الممثل قد يأتي بإيماءات عفوية  قد يهمهم أو تتحرك عيناه في قلق أو تتشنج عضلات وجهه  على نحو لم يكن مقبولا في مدارس التمثيل السابقة، لكنك إذا قارنت براندو حتى ببعض أبناء جيله  مونتجمري كليفت على سبيل المثال  فسوف تكتشف أن براندو يملك “حيلة” حرفية أخرى، هي انه ينقل توتره إلى المتفرج، ليس فقط عندما يتحدث أو يحرك ذراعيه، ولكن أيضا في لحظات الصمت والسكون، التي تكتسب أهمية قصوى  تأمل على سبيل المثال “المونولوج” الافتتاحي في فيلم “الأب الروحي”  فخلف هذا الصمت والسكون تشعر بكل العواطف والعواصف التي تعتمل داخل الشخصية الدرامية.

في هذا “المنهج” أو تلك “الطريقة” للأداء التمثيلي تكمن عبقرية براندو، التي نقلها إلى الأجيال التالية، التي لا تقل عنه عبقرية، وأرجو أن تلاحظ في هذا السياق أن براندو كان في “الأب الروحي” يمثل بالفعل أبا روحيا لأبنائه “الممثلين” مثل آل باتشينو وروبرت دوفال وجيسم كان، وكأنهم  داخل دراما الفيلم وفي واقع الحياة معا  يستمدون من هذا “الأب الروحي” بعضا من رحيق خبرته. وفي الحقيقة أن هذا التوحد الوجداني بين الشخصية والممثل يؤدي  بقدر العبقرية وتوهجها  إلى مزيج من العبقرية والجنون، فكما أن الشخصية الدرامية تستعير من الممثل بعض خبراته الحياتية فإنها تترك على الممثل الإنسان بصماتها، وإذا كان براندو قد مثل في بداية حياته شخصية المتمرد  التي ردد أصداءها جيمس دين في أفلامه القليلة خلال حياته القصيرة  فقد كان براندو “الإنسان” بدوره متمردا على الثقافة الأمريكية التي نشأ فيها  ناهيك عن خبرته الإنسانية كطفل يعيش في أسرة يغرق فيها الأب والأم في الإدمان والضياع  فبراندو ينتمي إلى جيل الشباب الأمريكي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي وجد نفسه حائرا بين “حواديت” البطولة خلال الحرب، وأحلام الازدهار الاقتصادي الزائفة، والواقع الثقافي الذي يبشر بأن هناك أملا حقيقيا في نهاية النفق، وهو واقع يشبه إلى حد كبير ما آلت إليه الثقافة الأمريكية المعاصرة.

“لقد كانت رحلة حياتي كلها هي رحلة البحث عن الحب، والبحث عن الوسيلة لإصلاح ما أفسده المجتمع داخل روحي”، وهي الرحلة التي يمكنك أن تراها بوضوح في العديد من أفلام براندو المهمة، ولا تستغرب أن هوليوود قابلت هذا السعي الجاد من جانب براندو وموهبته التي لا يمكن إنكارها، بالتجاهل في أفلامه الأولى، فقد فاتته جائزة الأوسكار في فيلم “عربة اسمها الرغبة” بينما ذهبت إلى “جميع” الممثلين الآخرين -!!- كما فاتته أيضا في “يحيا زاباتا!” بينما حصل عليها الممثل الثاني، ثم فاتته مرة ثالثة في دوره في فيلم “يوليوس قيصر” 1953 الذي أعطى فيه مذاقا جديدا للتمثيل في مسرحيات شكسبير، بينما توارى إلى جانبه عمالقة من حجم جون جيلجوود، وجيمس ميسون. أخيرا سوف ينجح مسعاه في فيلم “على رصيف الميناء” ولا ندري إن كان تقدير هوليوود له يأتي من براعة تمثيلية أم احتفائها بدور “المخبر” عن زملائه في فترة المكارثية التي كانت تشجع على الوشاية بالأصدقاء!! في فيلم “على رصيف الميناء” جملة فائقة الشهرة، يقال إنها من إضافات براندو نفسه: “يمكنني أن أنافس، إنكم لا تفهمونني، يمكنني أن اصبح من أبناء الطبقة الراقية، أن اصبح شخصا يشار له بالبنان بدلا من هذه الحثالة التي أكونها الآن”، وفي جملة أخرى من فيلم “المتوحش”، تسأله إحدى الشخصيات: “أنت متمرد فإلى أي شيء توجه تمردك؟” فيجيبها براندو “كل شيء”. هذا هو براندو الذي انخرط منذ بداية حياته في حركات مناهضة العنصرية، واشترك في مسيرة مارتن لوثر كينج، ورفض تسلم جائزة الأوسكار عن “الأب الروحي” بسبب الممارسات الأمريكية ضد الهنود الحمر، وهو براندو الذي جمع التبرعات لإنشاء دولة “إسرائيل” -!!- ثم عاد ليتهم اليهود بالسيطرة على مقاليد السينما الأمريكية، ليعود عودا على بدء ليجتمع بالحاخامات اليهود ويبكي ويعلن عن أسفه لما بدر منه!! وهو براندو الذي اتهم أبويه بالإساءة إليه، ليصبح هو نفسه أبا سيئا فيصبح ابنه قاتلا لصديق أخته، بينما تنتهي الابنة إلى الانتحار! هل كان براندو إذن عبقريا أم مجنونا؟! لقد كان في الحقيقة هو النموذج المجسد للثقافة الأمريكية، بكل عبقريتها، وكل جنونها! 

ك.ص: 

براندو “الأب الروحي”

حركة ابتكرها للأب الروحي فميزت الشخصية

في “التانجو الأخير في باريس”

“المتوحش” في عز الشباب

“على رصيف الميناء” الذي نال عنه الأوسكار

مشهد من “عربة اسمها الرغبة”

مارلون الجريء في “نهاية العالم الآن”

الخليج الإماراتية في

14.07.2004

 
 

"ثورة على السفينة باونتي"

مجابهة بين عملاقين

إبراهيم العريس

كان رحيل الفنان مارلون براندو قبل اسبوعين مناسبة للحديث مجدداً عن الأدوار الكبيرة - والعديدة - التي لعبها طوال حياته المهنية على الشاشة الكبيرة. ولقد كان فيلم "ثورة على السفينة باونتي" واحداً من الأفلام التي ذكرت باستفاضة في هذه المناسبة... وذلك لأنه كان, على الأرجح, الفيلم الأكثر شعبية الذي مثل فيه براندو اوائل الستينات من القرن الماضي, ثم لأن دور براندو فيه كان دوراً بطولياً مركباً من النوع الذي يستهوي الجمهور العريض. ومن المرجح ان هذا الفيلم ساهم الى حد كبير في بناء سمعة مارلون براندو كفنان شعبي منذ ذلك الحين. ومع هذا قد يكون من الضروري ان نشير هنا الى ان هذا الفيلم الذي مثله براندو وصوّر في اعالي البحار, لم يكن ابداً من أفلامه الكبيرة فنياً. ولا سيما اذا ما قارنّا نسخة 1961 تلك (وهي نسخة ملونة) بالنسخة الأصلية الأولى (بالأسود والأبيض) التي كان فرانك لويد حققها عن الحادثة نفسها والموضوع نفسه في العام 1935, علماً أن نسخة اخرى ثالثة حققت عن ذلك الموضوع في العام 1984, وبدت سيئة للغاية. لكن هذا الأمر ليس موضوعنا هنا. ما يهمنا في هذا السياق هو العودة الى التذكير بالمرة الأولى التي نقلت فيها تلك الحادثة الى الشاشة. وواضح ان ذلك كان بتأثير مباشر من فيلم "الدارعة بوتمكين" للسوفياتي الكبير سيرغاي ايزنشتاين (1925). فالحال ان الجمهور العريض ومنذ وقت مبكر احب كثيراً الأفلام التي يكون البحر والبحارة محورها... ثم احب اكثر تلك الأفلام التي تحمل ثورة ما, او تمرداً عنيفاً, يختلط فيه عنف المتمردين بعنف البحر بعنف المشاعر التي تنتقل الى المتفرجين في عتمة الصالات, وبخاصة اذا كان الممثلون من النوع القادر حقاً, على نقل مشاعر مقنعة, ويقيناً ان "ثورة على السفينة باونتي" كما حققه فرانك لويد للمرة الأولى في ذلك الفيلم الذي لا يُنسى, جمل كل تلك العناصر معاً... ولكن, بخاصة عنصر الأداء التمثيلي الرائع, حيث تجابه فيه تشارلز لوتون مع كلارك غايبل في الدورين الرئيسيين. فكان الفيلم كله في تلك المجابهة.

في ذلك الحين كان كلارك غايبل في قمة نجوميته وكان شارباه الشهيران يشكلان جزءاً من تلك النجومية, ومع هذا رضي الرجل بأن ينتزع شاربيه. اما تشارلز لوتون فكان واحداً من قمم التمثيل, واشتهر بأدائه الطبيعي الداخلي, قبل ولادة استديو الممثل. ومن هنا نراه, حين قبِل ان يلعب دور القبطان "بلغ" في الفيلم, يعود الى المراجع التاريخية وإلى ارشيفات وزارة البحرية البريطانية كي يشكل شخصيته في شكل دقيق.

ذلك ان الفيلم اتى مأخوذاً, اصلاً, من حادث حقيقي ذكرته سجلات البحرية الإنكليزية, واعتبر على الدوام مرجعاً ودرساً. والحادث حصل في العام 1787, حين تركت سفينة تابعة للبحرية الإنكليزية هي السفينة "باونتي" ميناء بورتسماوث في طريقها الى تاهيتي. وكانت مهمة تلك السفينة ان تحضر الى بريطانيا نباتات معينة جديدة ومفيدة لا تنبت إلا في المناطق الاستوائية. اما قائد السفينة فكان القبطان "بلغ" الغامض المشاعر والمشهور بقسوته وعدوانيته, وقيادته رجاله وعتاده بيد من حديد. والحال ان قسوة ذلك الرجل, عملياً ولفظياً, وعدم احترامه جهود الآخرين, وإصراره على التعامل مع الناس وكأنهم عبيد له, انتهت كلها الى جعل البحارة يتمردون عليه تمرداً ازداد عنفاً ساعة بعد ساعة. والأدهى من هذا ان مساعد القبطان كريستيان فلتشر (قام بالدور كله آل غايبل) وقف في صف المتمردين بدلاً من ان يقف في صف رئيسه. وهكذا سارت الأمور حتى اللحظة التي وضع فيها القبطان "بلغ" في قارب صغير وترك في عرض المحيط. وإذ تمكنت السفينة "باونتي" من مواصلة طريقها الى تاهيتي, قدر للقبطان "بلغ", ان يعود الى إنكلترا من دون ان يصاب بأذى. وهناك قرر ان يثأر لما حدث له. في البداية, جرت الأمور من طريق المحكمة العسكرية التي قضت اول الأمر بأنه على حق... ولكن الكثير من القرائن والشهادات, عاد ليتجمّع دافعاً المحكمة الى تبديل نظرتها. غير ان فلتشر والبحارة المتمردين لم يعرفوا بأمر ذلك التبديل, وبأن الحكم النهائي للمحكمة جاء في مصلحتهم... إذ انهم كانوا لجأوا معاً الى جزيرة بيتسكارن النائية حيث اختبأوا في منجى من الأحكام التي يمكن ان تصدر ضدهم. وهم لن يعودوا من تلك الجزيرة ابداً... لأنهم في ذلك المكان البعيد في الجزر البولينيزية لم يكن في مقدورهم ان يسمعوا آخر الأخبار.

اذاً انطلاقاً من حادث تمرد بحري حقيقي, بنى فرانك لويد هذا الفيلم, الذي اضاف لبنة في صرح تلك السينما التي عرفت, باكراً, كيف تجمع بين حسن المغامرة والدرس الأخلاقي والبعد الفكري من خلال إضفاء طابع طبقي واضح على الصراع, حتى وإن كان البعد السلوكي للقبطان هو السبب الأول في ما يحدث, لا التفاوت الطبقي... غير ان هذا العنصر الأخير ما كان له, إلا ان يطل برأسه, إذ ابتداء من اللحظة التي شوهد فيها فيلم "الدارعة بوتمكين" لايزنشتاين, ما عاد في إمكان هذا النوع من الأفلام ان يحصر خلفيات الثورة والتمرد في التصرفات السلوكية. إذ حتى حين تكون هذه هي الدافع الواضح, فمن البديهي ان الوضع الطبقي والسلطوي بالتالي للمتمرَّد عليه, يشكل العنصر الأساس في ما يحدث.

مهما يكن من الأمر, فإن ما لا بد من الإشارة إليه هنا, هو ان هذا الجانب الفكري في الفيلم يظل عفوياً وعرضياً, وحتى وإن كانت اواسط الثلاثينات التي حقق فيها الفيلم, كانت بدأت تفاقم الوعي - وبالتالي: التساؤل - من حول مسائل مثل السلطة وحقوق المتسلط, وحق المضطهدين في الدفاع عن انفسهم, كما عن الأسس الاقتصادية للتفاوت الطبقي, بين المسيطِر والمسيطَر عليهم. ويقيناً ان هذه الرسائل كلها وصلت الى الجمهور الذي كان من شيمه, في ذلك الحين, التعاطف مع الضعيف والمضطَهَد ضد القوي المضطَهِد. ومن هنا نظر الى هذا الفيلم على انه كناية عن العالم الكبير والصراعات الكبيرة التي تدور فيه.

ومع هذا لم يكن مخرج "ثورة على السفينة باونتي" فرانك لويد من طينة الفنانين اصحاب الرسائل. كان بالأحرى مبدعاً في افلام المغامرات. وكان متميزاً خاصاً في مجال تحقيق الأفلام البحرية, هو الذي كان سبق له ان حقق منذ العام 1924 فيلم مغامرات بحري صامت حقق نجاحاً وصيتاً كبيرين في ذلك الحين هو "نسر البحار", حيث حياة المغامر جان لافيت. اما النجاح الهائل الذي حققه له "ثورة على السفينة باونتي" فمكّنه من ان يحقق بعد اربع سنوات فيلماً بحرياً كبيراً آخر هو "سادة البحار". وحقق فرانك لويد (1887- 1960) في حياته ما يقارب المئة فيلم, معظمها من افلام المغامرات, لكن الكثير منها لم يخلُ من ابعاد سياسية, انما من دون ضجيج كبير. اما بالنسبة الى "ثورة على السفينة باونتي" فإنه اعتبر, دائماً, فيلمَ تمثيلٍ اكثر منه فيلم اخراج او موضوع, ذلك ان المجابهة بين لاوتون وغايبل, اتخذت فيه طابعاً استثنائياً, حيث كان من الواضح ان كلاً من الفنانين الكبيرين كان يريد ان يجعل من هذا الفيلم وموضوعه عمله الخاص. العمل الذي يذكر به الى أبد الآبدين... ويقيناً ان الاثنين نجحا في هذا, ما وضع لاوتون في خانة النجوم, بينما جعل غايبل يعتبر ممثلاً كبيراً الى جانب كونه نجماً.

جريدة الحياة في

15.07.2004

 
 

مارلون براندو

الأسطورة المُضادة

نديم جرجورة

شكّل رحيل الممثل الأميركي مارلون براندو، في الأول من تموز الجاري، محطة نقدية لاستعادة زمن سينمائي وثقافي ولّى منذ وقت بعيد. فالرجل المولود في نيبراسكا قبل ثمانين عاما (3 نيسان 1924)، تحوّل إلى إيقونة في عالم الفن السابع، بارتكازها على أداء قاس في التعبير عن مكنونات نفس بشرية تواجه، يوميا، أسئلة الوجود والقدر والحياة، مع أنه كتب في مذكّراته المعنونة ب<<الأغنيات التي لقّنتني إياها أمي>> (الطبعة الفرنسية، منشورات <<قرأتُ>>، 1994)، أن <<على المرء أن يكون نابغة كي يُجيب عن أسئلة هذا العالم، بطريقة بسيطة وجازمة>>. والممثل المتألّق في السينما منذ مطلع خمسينيات القرن الفائت، إثر اختباره تجربة مسرحية متواضعة، قدّم للفن السابع بعض أجمل عناوينه الثابتة في الذاكرة الجماعية. على الرغم من هذا كلّه، فإني أميل إلى فكرة مفادها أن مارلون براندو لم يجد في التمثيل أي مُبرّر لوضع نظرية نقدية ما، تحدّد أسلوب تقديم الشخصية، أو تُفصّل مناخا عاما في السلوك الأدائي، أو تعاين تصوّرا تمثيليا يؤدّي بمريديه إلى خلق <<مدرسة>> فنية معيّنة. فالتمثيل، كما يراه براندو نفسه، <<تعبير عن تحريض عصبيّ>>، وأن يكون المرء ممثلا، <<يعني أن يعيش حياة تسكّع>>. لذا، فإن <<التوقّف عن التمثيل إشارة نضج>>. من ناحية أخرى، فإن براندو لم يستطع، في بعض أفلامه الكلاسيكية، أن يقدّم هذا النموذج المتفرّد في الأداء، قبل أن يبلور شكله النهائي في أفلام أخرى. فحين طُلب منه أن يُشارك في <<يوليوس قيصر>> (1953) لجوزف ل. مانكيافيكس، نصحه زميله الإنكليزي جون غيلغود أن يُفكّك الكلمات، كي يتوصّل إلى نُطق حواراته بأسلم طريقة ممكنة. والذين شاهدوا النسخة الكاملة من <<الرؤيا الآن>> (1979) لفرنسيس فورد كوبولا، التي صدرت مسجّلة على أشرطة <<دي في دي>> قبل أعوام قليلة، مُتضمّنة المشاهد كلّها التي اقتُطعت سابقا، أدركوا <<سبب تغييبها عن النسخة المتداولة والمعروفة>>، إذ اكتشفوا <<براندو السيئ>>، كما جاء في مقالة للناقد الفرنسي فرنسوا فوريستييه، منشورة في المجلة الأسبوعية الفرنسية <<لو نوفيل أوبسرفاتور>> (8/14 تموز الجاري)، الذي أضاف أنه <<كان يقرأ الجريدة، ويتحدّث إلى الأطفال، لكن القلب غير موجود>>. وتساءل: <<تُرى، أين كان القلب؟>>

هل يُمكن اعتبار ما قاله براندو حول التمثيل والتسكّع والنضج رفضا لتحديد أسس تنظيرية معيّنة لفن التمثيل؟ هل <<النضج>> المذكور أعلاه <<إشارة>> لموت الممثل في الدور/الشخصية، أم إنه <<أداة>> لمواجهة قسوة الحياة في خارج التمثيل؟ هل اختبر مارلون براندو أقصى <<التسكّع>> الإنساني والفني، في أدواره/شخصياته السينمائية، أم أنه مارس التمثيل لأنه لا يعرف مهنة أخرى؟ وبالتالي، هل هناك <<مدارس>> فنية في السينما أو في غيرها، أم أن القناعة الذاتية في أداء هذا الدور أو تلك الشخصية تمنح الممثل حرية ما في إعادة رسم ملامحه الخاصة أمام الكاميرا؟ أستعيد هنا ملاحظة أوردها المخرج الفرنسي كلود شابرول في كتابه الأخير <<كيف تصنع فيلما>> (منشورات <<بايو وريفاج>>، سلسلة <<المكتبة الصغيرة>>، الطبعة الثانية 2004): <<لا يُمكننا، في أي شكل من الأشكال، القول: هكذا يجب أن نعمل، لأن لكل واحد أسلوبه الخاص بصنع فيلم>>، وهو أسلوب لا يشبه أسلوب أي مخرج آخر. ألا يُطبّق هذا الوصف على التمثيل أيضا؟ أليس أسلوب مارلون براندو في التمثيل خاص به لوحده؟

من ناحية أخرى، هل وعى مارلون براندو قدرته على ابتكار حالة أسطورية في الأداء التمثيلي، حين وجد نفسه، في منتصف أربعينيات القرن الفائت، منصرفا إلى التمثيل؟ أم أن الحكاية كلّها تُختصر بلقطة واحدة لا تتعدّى الثواني القليلة، قدّمها في العشرين من عمره، هي <<لقطة الدجاجة>>؟ ففي العام 1944، طلبت ستيلا أدلر من المنتسبين إلى حلقاتها التدريبية تأدية دور الدجاجة، مما دفع بكل واحد منهم إلى أن يُقلّدها بحركاتها وصوتها، باستثناء براندو الذي حافظ على صمته وهو جالس على كرسيه، من دون حراك. وحين سألته أدلر عمّا يفعله، أجاب بهدوء: <<إني أحضن بيضة>>.

لم يكن هدوء مارلون براندو هذا إلاّ البداية الفعلية للغضب والتمرّد اللذين اعتملا في داخله طوال حياته. ولعلّ هذين الغضب والتمرّد انبثقا، أولا، من لحظة ولادته: <<إذا لم أولد بطريقة قيصرية، فإن ولادتي لا تملك شيئا خاصا>>، كما قال في مذكّراته. تُرى، ما هو هذا <<الشيء الخاص>> الذي ربطه براندو بولادته القيصرية؟ هل هي رغبة في الاختلاف، أم مسعى إلى إعلان فرادته؟ هل هو تأسيس لفعل التمرّد المصنوع من غضبه، أم لحظة عادية أراد، في مذكّراته المكتوبة وهو في السبعين من عمره، أن يُجمّلها ويضفي عليها مسحة <<ألوهية>> مغايرة للسائد؟ أيا يكن، فإن غضب براندو ممزوج بمرارة وقرف وألم، وتمرّده مصنوع من آلية النسق الحياتي والاجتماعي الذي حاصره منذ نعومة أظافره، ورافقه طويلا: فالمناخ العائلي المفكَّك دمّره ودفعه إلى كسر هذا الحصار المنزلي المدويّ، وإلى الغرق في متاهة الحياة والبحث عن أفق ما، وحيدا في بؤرة الاضطرابات المختلفة، ومُنعزلا في دائرة ضيّقة من المشاعر والتناقضات. والنظام الهوليوودي الصارم جعله ينفر من عاصمة الفنّ السابع، مُعلنا عدم احترامه إياها، بسبب <<جشعها وبُخلها وريائها وحماقتها القذرة>>. غضبه طالع من عمق البشاعة التي عرفها طفلا فتح عينيه على امرأة (أمه) أدمنت الخمر (لَحِق بها إلى الخمّارات لإعادتها إلى المنزل، و<<سَحَبها>> مرارا من أسرّة عشّاق عابرين). وتمرّده ردّة فعل ضد كل شيء، وربما ضد لا شيء. إنه، ببساطة، <<أنا>>، كما قال: <<حتى لو تطلّب الأمر مني أن أنطح الجدران، كي أبقى هكذا، فإني لن أتردّد عن فعل هذا الأمر>>. في خلال ثمانين عاما من عمره، تسنّى له أن يكون، دائما، هو <<نفسه>>، أو على الأقلّ <<ما أراده لنفسه>>: أي، باختصار شديد، أن يكون مارلون براندو. رجل لا يستسلم إلاّ لمشيئته، وممثل لا يرى في التمثيل أكثر من وظيفة للحصول على المال. ولعلّه أدرك، في خضم هذا المسار الحياتي القائم على رغبة قوية في العيش الدائم عند الحافة، أو مخترقا حدود كل شيء، أن تحوّله إلى <<إيقونة>> قد يُلغي عشقه لذاته المقدّسة، فانقلب على المفهوم التقليدي ل<<الأسطورة>>، التي صنعها لنفسه بنفسه (بإرادته أم غصبا عنه)، مُعيدا بلورتها في إطار مختلف، بجعلها ملاذا أخيرا أطلّ منه على العالم بتشاوف بديع، وتحدّ عظيم. غالب الظنّ، أن هذا كلّه مرتبط بما وصفته آنا كاشفي (إحدى زوجاته العديدات)، بقولها إن لديه <<سمات رجل صخبه الداخلي هيّأ تملّصا مُتعمَّداً>>.

رأى البعض أن مارلون براندو ورث سماته الأدائية من مُمثلين كبيرين سيطرا على سينما الثلث الأول من القرن العشرين، هما دوغلاس فيربانكس ورودولف فالانتينو. فالأول جسّد مثالا حيّا للشبق الجنسي الرجولي والمرِح والمُفرط الحيوية، في حين أن الثاني رجل غامض ومحبوب من النساء والرجال معا. أما مارلون براندو فابتكر إغراء قويا، وأعلن نفسه وريثا للإثنين، بتأديته دور/شخصية ستانلي كوفالسكي في رائعة إيليا كازان/تينيسي ويليامز <<عربة تُدعى اللذّة>> (1951)، مرتديا <<تي شيرت>> مُمزّقا، صائحا، بعضلاته المنفوخة. هذه <<اللذّة>> هي التي أصابت الجميع بالقشعريرة. ولعلّها هي نفسها التي عاش براندو حياته كلّها محاولا أن يصنع منها نمط عيش، باختباره أنواعها كلّها: نجومية وعلاقات نسائية ورجالية، وإدمان على الأكل، والتزام قضايا إنسانية وسياسية واجتماعية، وتخبّط في الألم والحزن واللامبالاة والعزلة.

السفير اللبنانية في

16.07.2004

 
 

آخر أدوار براندو في فيلم تحريك يُعرض عام 2006

جسد "السيدة ساور" بماكياج كامل وباروكة شقراء!

اذا كان مارلون براندو بدأ مسيرته السينمائية بدور شاب جذاب مفتول العضلات، فإنه ختمها كإمرأة مسنة. فقد كانت مشاركة براندو السينمائية الاخيرة قبل وفاته في الاول من تموز الجاري في فيلم تحريك كوميدي في عنوان Big Bun Man. يدور الفيلم حول عامل في مصنع حلويات، يكتسب قدرات خارقة بعد ان يتعرض لعضة حشرة سامة. بينما يؤدي صوت الرجل الممثل براندن فرايزر، يمنح براندو صوته لشخصية "السيدة ساور" صاحبة المعمل. غير ان الممثل الذي تميز بقدرات تمثيلية نادرة وأساليب خاصة، لم يكن ليكتفي بالتلاعب بصوته الانثوي البحة في الاصل. بل انه ذهب أبعد، بحسب كاتب الفيلم ومخرجه بوب بيديتسن، بأن سجل الحوار مرتدياً شعراً مستعاراً أشقر وفستاناً وقفازات بيضاء وبماكياج كامل!

"كان مذهلاً" يقول بيديتسن مضيفاً "أعتقد انه جزء من اسلوبه المنهجي ان يربك نفسه الى حد يصبح هو والشخصية واحد. ولكنه بعد مرور وقت، خلع الباروكة لاحساسه المتصاعد بالحر."

لعلها ليست المرة الاولى التي استعان الممثل فيها بالماكياج والاكسسوار لتجسيد الشخصية. فمن شاهد The Missouri Breaks عام 1976، يتذكر ارتداءه للمريلة والقلنسوة النسائية. وفي "جزيرة الدكتور مورو" عام 1996، لعب الشخصية تحت طبقات سميكة من الماكياج على غرار طلاء الوجه الابيض المستخدم في مسرح "الكابوكي". يشير المخرج بيديستن الى ان اسلوب براندو ذاك لم يكن فقط من اجل مساعدته على استحضار الشخصية "بل ثمة جانب آخر هو ميله الى اللعب واللهو مع الآخرين."

يكشف المخرج، صاحب The Simpsons، انه في البداية عرض على براندو ان يلعب دور الرجل الذي يدير المعمل. ولكن النجم انجذب اكثر الى شخصية السيدة المسنة على الرغم من انها لا تظهر الا في ثلاثة مشاهد فقط. انتهى براندو من تسجيل حوار السيدة السمينة والقصيرة الشقراء ذات النهدين المترهلين، كما تخيلها براندو، في يوم واحد. ويقول المخرج انه علم لاحقاً من وكيل براندو ومدير أعماله انه كان حلمه ان يجسد دور إمرأة في فيلم تحريك، بما يذكر بكلام السينمائي ايليا كازان عنه حين قال انه يملك في شخصيته "جانباً انثوياً".

سجل براندو صوت "السيدة ساور" يوم العاشر من حزيران الماضي، اي قبل عشرين يوماً من وفاته، بينما كان مستلقياً في سريره ببيته، حيث كان بحاجة الى مزود اوكسيجين لست ساعات في اليوم. لم يشأ المخرج ان يكشف عن الاجر الذي تقاضاه براندو بل اكتفى بالقول ان الاخير "لم يشأ ان يُعامل كأيقونة. كان يفضل ان يُخاطب كرجل عادي وكان بهذا المعنى النقيض التام لنجوم هوليوود. ثمة امتياز وحيد أحب ان يُعامل به هو توفير طعامه المفضل: الكافيار الفارسي، الجبنة المستوردة والنبيذ الاحمر."

الجدير ذكره ان الفيلم Big Bun Man لن يكون جاهزاً للعرض قبل العام 2006.

المستقبل اللبنانية في

17.07.2004

 
 

عبدالنور خليل يكتب عن الأضواء والنساء في حياة مارلون براندو

اعترافات الأب الروحي للمافيا

لم يكن مجرد ممثل عبقري.. ولا مجرد متوحش متمرد ثائر يناهض التفرقة العنصرية ويطالب بالحقوق المدنية للسود ويدين إبادة أمريكا للهنود الحمر.... بل كان منذ طفولته عاشقا ترتمي عند أقدامه أجمل وأشهر نساء عصره.. وهو في اعترافاته التي نشرت لأول مرة عام 1996 في كتاب بعنوان «براندو»، وأعاد تنقيحها وتحقيقها ليعيد نشرها في بداية هذا العام.. جريء ومثير... صريح يقوده إحساس إنساني غير مسبوق.

عندما أتجول بين سني عمري التي قاربت علي الثمانين محاولا استعادة فيما كان هذا العمر لا أجد شيئا واضحا تماما.... وأظن أن أول ذكري لي هي أنني كنت أصغر من أن أتذكر كيف كنت صغيرا.. أفتح عيني في ضوء ملون وأدرك أن «إيرمي» مازالت نائمة، وأقوم فأرتدي ثيابي.. بأفضل ما أستطيع وأهبط الدرج، بقدمي اليسري أولا علي كل درجة... أجلس علي الدرجة الأولي في الشمس، عند النهاية المسدودة للشارع الثاني والثلاثين.

أجلس في بيتي أطارد هذه الذكريات التي تغزو الذهن كصور متنافرة تنتهي بضباب غير واضح.. تزكم أنفي رائحة حقل «الليلي»، في الحديقة التي غالبا ما غلبني النوم فيها في الأمسيات الحارة في «أوماها»، كنت دائما أعاني من شعور بأننا فقراء وعندما كانت أمي تفرط في الشراب كانت أنفاسها تصبح منعشة حلوة رغم كراهيتي لإدمانها الشراب..

وعندما تقدمت بي السن، كنت أحيانا أجد نفسي مع امرأة لها نفس المذاق، وكنت دائما تثيرني جنسيا هذه الرائحة.

لقد أخبروني أنني ولدت قبل منتصف الليل بساعة في 3 أبريل 1924 في مستشفي أوماها للولادة، وكانت عائلتي قد عاشت لأجيال في ولاية نبراسكا، وكانت بالطبع تنحدر من أصول أيرلندية وكانت أمي «دورتي بين يكر براندو في السابعة والعشرين ووالدي مارلون الأب في التاسعة والعشرين، وكنت الابن الوسط في الأسرة وتكبرني أختي جاكلين بخمس سنوات بينما أختي الصغري فرانسيس تصغرني بعامين وكان لكل فرد في الأسرة اسم دلع... أمي كانت «دودي»، وأبي «بودي» وأختاي «تيدي»، و«فراني» وأنا «باد».

وعندما بلغت السابعة كنا نعيش في بيت كبير مبني من الخشب في شارع واسع في «أوماها»، علي صفيه بيوت مثل بيتنا وشجرات عملاقةمن شجرات اللبخ، وكانت بعض ذكرياتي في تلك الفترة مفرحة.. في البداية لم أكن ألتفت إلي الزجاجة التي تعب منها أبي شرابها، ولا تعاسة والدي الذي كان سكيرا هو الآخر وكثيرا ما كان يختفي في مغامرة يشرب فيها حتي الثمالة ويصاحب عاهرة... وعندما كنت صغيرا جدا اعتدت أن أحمل وسادة في كل مكان، أحتضنها عندما يفاجئني  النوم في أي مكان وكلما كبرت أصبحت أحمل وسادتي هذه وأصعد لأجد مأوي بين فروع الأشجار التي اتخذت منها مملكتي الخاصة.

أكثر ذكريات طفولتي عن والدي أنه يتجاهلني تماما.. كان سمسارا متجولا يبيع أدوات المنازل، وعلي استعداد دائم أن يدس في يد «الفراش» ورقة بخمسة دولارات لكي يعود إليه بزجاجة شراب في يد وعاهرة في اليد الأخري، ويلقي إلي موظف الأمن في الفندق بدولار كي يسمح لها بالبقاء معه في الحجرة، وكان يستمتع بأن يقول لي إنني لا أستطيع أن أفعل أي شيء صحيح... وكان محبطا عاطفيا إلي درجة مخيفة.. ولم أحظ منه أبدا بكلمة ودودة ولا نظرة محبة ولا حتي حضن حان.. كنت أحبه وأكرهه في نفس الوقت لكنني أفهم ظروفه وعقدته النفسية عندما هربت أمه وهو في الخامسة من عمره وتركته لتربيه عمة عجوز، وكان قد أحب أمي وبادلته الحب وهما تلميذان في المدرسة الثانوية وتزوجا. وكانت أمي مخلوقة رقيقة مرحة تعشق الموسيقي والتعليم لكنها لم تكن أكثر اهتماما من والدي وحتي اليوم لم أفهم الدوافع النفسية ولا الإحباطات التي جعلت منها سكيرة مدمنة. بالطبع عندي بعض الذكريات الطيبة عندما كنت أنام بجوارها في الفراش، وخصلات شعرها البني تنسدل فوق المخدة   وقد راحت تقرأ لي كتابا ونحن نتقاسم زجاجة لبن وبعض البسكويت أو عندما كنا نتجمع لنغني وهي تعزف علي البيانو وكانت لسبب لا أدريه تعزف كل أغنية كتبت وذاعت وعلي الرغم من أنني لا أذكر كم رخصة  قيادة حصلت عليها إلا أنني مازلت أذكر كل أغنية حفظتها عن أمي، ومازلت قادرا علي استعادة كل لحن صيني أو إفريقي، أو سواهما لأكثر من ألف أغنية سمعتها منها.

بعض أمتع ذكريات طفولتي الباكرة كانت عن «إيرمي» وضوء القمر يضيء حجرتي في ساعات الليل المتأخرة كنت في الثالثة أو الرابعة عندما جاءت «إيرمي»، لكي تعيش معنا في أوماها كأسرة بديلة.. ومازلت أذكرها كما رأيتها عندئذ... كانت في الثامنة عشرة، بعيون واسعة، ولها شعر حريري أسود.. كانت دنماركية لكن بمذاق خاص نابع من جذورها الإندونيسية.. ضحكتها لا أنساها أبدا... وعندما تدخل حجرة كنت أشعر بها دون أن أراها أو أسمعها بسبب الرائحة غير العاديةالتي كانت تسبقها إلي المكان وقد لا أجد تبريرا كيماويا لكن أنفاسها كانت حلوة كفاكهة طازجة مقطعة، كنا نلهو ونلعب طيلة النهار... وفي الليل ننام معا، كانت تنام عارية وأنا أيضا، وكانت تجربة أحبها... كانت عميقة النوم ويمكنني أن أتخليها الآن، نائمة في فراشنا بينما القمر ينصب من النافذة، وتحدد أشعته جسدها العاري بلون ليموني مشع، وكنت أجلس متأملا جسدها... وأداعب ثدييها.. وألتصق بهما حتي أعتيلها تماما، كانت كلها ملكي تنتمي لي ولي وحدي، هل كانت تدرك شغفي بها هل كان من الممكن أن نتزوج فوق السحاب ونتقاسم حبنا ولكنت قد حميتها فوق  عربتي السماوية وجمعت لها كل اللآلئ التي تتناثر حول النجوم، وعبر الزمن وأبعد من الضوء إلي الأبد.

وكان لإيرمي صديق يدعي والي.. وعندما كنت في السابعة... ألعب متفردا رأيتهما يتبادلان القبل في سيارة لكنني لم أع وقتها حجم الكارثة التي أصابتني.. وعندما تركتني  إيرمي لكي تتزوج بعد وقت قليل، لم يكن صديقها  والي هو الزوج بل كان فتي غيره يحمل اسم  إريك وأحسست بالإحباط.. فهي لم تخبرني أبدا بأنها سترحل أو أنها ستتزوج لكنها أخبرتني أنها ستقوم برحلة ثم تعود مسرعة... وفي الحقيقة فقد دامت هذه الرحلة عشرين عاما قبل أن أراها مرة ثانية.

وفي الليلة التي أدركت فيها أن إيرمي قد ذهبت إلي الأبد، أرقت وأنا أراقب سماء ملأها الزبد، وقمرا كاملا يطل من خلف السحب، وبدا أن أحلامي قد ماتت إلي الأبد... ومضت أسابيع علي رحيل إيرمي، وكنت قد رحت أنتظر وأنتظر أن تعود قبل أن أتأكد أنها بالفعل لن تعود.. وشعرت أنني مهجور تماما.. وكانت أمي قد هجرتني فعلا منذ فترة طويلة إلي زجاجة شرابها... وهجرتني إيرمي أيضا.. وربما كان هذا  الإحساس هو الذي كان يدفعني دائما طوال حياتي أن أبحث عن نساء سيهرجنني حتما... ومنذ ذلك اليوم أصبحت متمردا علي هذا العالم.

وأنا في السادسة انتقلنا من أوماها إلي إيفانستون بولاية ألينوا قرب شيكاغو حيث كون أبي شركته الخاصة وفكرت أنني جاهز بالفعل  لهذه التغييرات وخلال المدرسة في أوماها ولأسباب لا أدريها كنت الولد السيئ في المدرسة وكان علي أن أجلس تحت ترابيزة المدرسة وكانت تجربتي الأولي في الحياة هي النظر تحت ملابسها ومنذ تلك السن أصبحت أتوه في الأرقام وأنسي جمل الكلام بل إنني حتي اليوم أخطئ في أرقام مكالمة تليفونية لو حاولت أن أنظر إلي الرقم الذي أطلبه.

وزاد  إدمان أمي الشراب في إيفانستون وأحيانا كان الإدمان يصيبها بنوبات بكاء حادة، لكنه كان أيضا يجلب لها السعادة والمرح، إلي حد أنها تجلس إلي البيانو لتغني لنفسها ونحن غالبا ما نصاحبها في الغناء... وبرحيل إيرمي كنت أقضي فترات طويلة وحيدا، وبعد فترة قصيرة بدأت ألاحظ أنني أتخذ سلوكا مغايرا كنت في المدرسة فاشلا... أصبحت متشردا أصطاد الطيور وأحرق الحشرات.. وأثقب إطارات السيارات وأسرق النقود.. وأعاني الشعور الجارف بعدم الرغبة في العودة إلي البيت، وأقضي معظم وقتي مع زميل الدراسة وصديق العمر فيما بعد، جيمي فيرجسون أو في بيت العائلة اليونانية التي تقطن بيتا علي قمة الشارع، وقد أصبحت مشهورا بالغباء إلي حد أجبرت علي الذهاب إلي جامعة نورثوسترن  لكي أجري اختبارات ذكاء، وعوملت بلا نجاح، وببندقية الرش التي تلازمني.. أصبت سائقا وحطمت زجاج أحد  نوافذ بيتنا، مما جاء برد فعل غاضب من والدي.. وفي دقيقة من أخف أوقات المرح التي أتذكرها كانت عندنا امرأة من المرتنيتيك تساعدنا في البيت ولكي تدخل السرور علي والدي أفرغت «جيرك» ماء وملأته بشراب  «الجن»، وفي صباح اليوم التالي عندما جلس يتناول الأفكار رفع الجيرك لكي يشرب منه عدة جرعات، ثم غادر البيت إلي المكتب وهو يترنح.

كنت دائما وأبدا أظن أنني كان يمكن أن أصبح أحسن حالا، إذا قدر لي أن أنشأ في بيت للأيتام.. كان والدي يتحاشيا الشجار أمامنا لكن كان يطغي علي البيت جو من  الغضب وقد زاد هذا بعد أن انتقلنا إلي إيفانستون وأصبح الشقاق والتوتر وعدم الرضا هو السائد في بيتنا لماذا؟ لست أدري لكنني أظن أن السبب هو أن والدتي أصبحت أكثر ضيقا بسلوك والدي حيال العاهرات وغضب أبي من إفراط أمي في الإدمان علي الشراب.

كانت كارول هيكوك تعاني من مرض غريب يجعلها تسقط في النوم فجأة، ففي لحظة هي مستيقظة وفي لحظة بعدها تنام حتي لو كانت واقفة، وبعد دقيقة أو دقيقتين تفتح عينيها ببطء وتستيقظ دون أن تدرك أنها كانت نائمة، وعندما حدثنا عنها أحد مدرسينا في مدرسة لينكولن عن مرضها وطلب منا أن نعتني بها شعرت أنني يجب أن أوليها اهتمامي وبالفعل قررت أنني سوف أتزوجها كنت أصطحبها من المدرسة إلي البيت وخلال سيرنا معا طلبت موعدا للخروج معها وشعرت براحة وأنا أدعوها إلي العشاء في مطعم كولي، ثم ذهبنا معا إلي السينما لنشاهد فيلم «المومياء»، لبوريس كارلوف، وعندما جاءت المشاهد المخيفة من الفيلم أخبرتها أنني سأذهب إلي دورة المياه ثم أعود وخرجت إلي الممر حتي انتهت المشاهد ثم عدت ثانية، وعندما بدأ جزء مخيف آخر من المشاهد عدت أختفي مرة ثانية ثم مرة ثالثة، ولا أدري ماذا ظنت كارول بعادة ذهابي إلي دورة المياه.

وذات مساء كنت أزور كارول وكنا نجلس علي أريكة، عندما وجدتها فجأة تسقط  مغمي عليها وملت عليها وقبلتها أول قبلة مني لفتاة وبعد دقيقة عندما استعادت يقظتها سألتها: كيف أنت؟ ولم أشر أبدا إلي القبلة التي سرقتها منها.. ربما كانت هي الفتاة التي كان يجب علي أن أتزوجها.

كان في مدرسة لينكولن تلميذان فقط من السود.. وكانا صديقي.. خاصة آسالي.. وكنت في منزله ذات يوم عندما اتخذت أنا وهو وابن عمه أن نكون ناديا وعندما حان وقت انتخاب رئيس النادي، ونائب الرئيس والسكرتير.. وجدنا صعوبة في اختيار من يكون رئيس النادي.. وقلت ببساطة: ايني.. ميني.. امسك زنجي من كعبه وإذا عوي اتركه يذهب... ايني.. ميني.. مو، وفي تلك اللحظة أحسست بيد تسقط علي كتفي كانت أم آسا انحنت وهي تقول: «إننا لا ننطق أبدا كلمة زنجي في هذا البيت»، لم أكن أعرف معني الكلمة لكن من تعبير وجهها أحسست أنها جريمة.. ولم تلبث أن وضعت في فمي قضيب لبان حلو وقالت: «انت شيء حلو»، وكانت تلك أول تجربة لي مع التفرقة العنصرية.  

وإلي الحلقة القادمة

جريدة القاهرة في

17.07.2004

 
 

عبدالنور خليل يستعرض مذكرات ساحر هوليوود مارلون براندو:

عندما فقدت عذريتي لأول مرة

يقول روبرت ليندساي الذي اختاره «عراب المافيا» الأسطورة مارلون براندو: «إنني لم أكتب النص الذي تحدثنا فيه للوهلة الأولي، خاصة وقد أخبرني أنه بدأ يري الأمور بنظرة مختلفة تماما، وأنه لم يعد لديه رغبة في الانتقام من أعدائه».

خلال سنواتي الأربع في مدرسة لنكولن، بعض المدرسين كانوا يحبونني، لكن بسبب أنني لم أكن متجاوبا، وميالا للتمرد، كانت الأكثرية تري أنه لا أمل في صلاحي.. وبين هذه الأكثرية كانت مس مايلز، التي لاحظت أنني أنفق وقتا طويلا مع صديقي الزنجي آسا، فاستدعتنا من الفصل، وأوقفتنا في الممر وسألت: «حسنا.. أنتما الاثنين، أخبراني بما يحدث هنا». ولم أكن علي بينة عما تقصده فقلت: «لا شيء يحدث». وقالت بحدة: لا تقل لي هذا. وإلا فيما تتسكعان معا طول الوقت؟!». وعندما قلت إننا عضوان في النادي نفسه، سألتني أي نوع من الأندية هذا؟.. وعندما لم يجب أحدنا بشيء، جذبتني من ذراعي وهزتني بعنف، وبدأت أبكي، وربما فعل آسا أيضا، وعادت قائلة في حدة أكثر: والآن قل لي الحقيقة أي نوع من النوادي أنتم فيه؟». وأجبتها: «إنه نادينا.. هو رئيسه وأنا نائب الرئيس». وتركتنا قائلة: «من الخير أن تحذرا مما تفعلانه».

عندما بلغت الحادية عشرة، انفصل والداي، وذهبت أنا وأختاي في صحبة أمي لكي نعيش مع جدتي لأمي، عرابة الأسرة وكنا ندعوها بيس أو نانا، في كاليفورنيا.. كانت الجدة ضخمة الجسد، ضخمة الصدر، بيضاء الشعر أرستقراطية السلوك.. وكايرلندية كانت مرحة ومسلية.. ولم نكن ندري أبدا ماذا يمكن أن يخرج من فم الجدة.. كانت لها ضحكة مميزة ولكنها تمتلك إحساسا نادرا بكل ما هو إنساني. ودرست بالفصل السابع والثامن في مدرسة جوليوس لاثروب العليا في سانتا آنا التي يعيش فيها مجتمع من المزارعين وحدائق البرتقال جنوب لوس أنجليوس.

وفي تلك الفترة، أدمنت أمي الشراب أكثر، وكانت تعد بالتوقف، لكن تختفي في مكان آخر لأربعة أو خمسة أيام.. كانت أبدا تحاول أن تدلل علي حبها لنا عندما تكون في البيت.. لكن نادرا ما كانت تركز اهتمامها علينا.. ولم أكن بالطبع أدرك سلوكيات مدمن الخمر، لكن، مثل أختي كان علي أن أتعايش مع هذا برغمي، وألوذ بالوحدة. وكنت أقضي أغلب الوقت في فراشي، محملقا في سقف الحجرة، متخيلا أن كل الناس المهمين في حياتي قد رحلوا عن الدنيا، وهذا إحساس صعب علي فتي في الثانية عشرة.

وبعد عامين، قررت أمي أن تعود لأبي وانتقلنا إلي ليبرتي فيل في ولاية الينوا، وهي مدينة صغيرة في شمال شيكاغو بالقرب من بحيرة ميتشجان.. ومرة ثانية داعبنا جميعا الأمل في بداية جديدة مثمرة.

أين انت يا أمي

مرات عديدة.. كانت أمي يغلبها السكر ويخرجها عن صوابها إلي حد أن زميلا لها في بار أو حتي غريبا يحضرها إلي البيت، أو نبحث نحن عنها، أو يدق التليفون في البيت ويقول لنا أحد رجال البوليس: «لدينا هنا السيدة دروثي بيباكر براندو، هل يمكن أن تحضروا إلي القسم لاصطحابها؟!»، وكانت أختي جاكولين هي التي تتولي شئون البيت علي الرغم من أنها لا تكبرني أنا وأختي فراني إلا بسنوات قليلة. كانت تشرف علي تربيتنا مما يجعلني دائما أحمل لها شعورا بالعرفان، وفي غيبة أمي كنت أعتمد عليها في توجيهي إلي ما أفعله. كانت أبدا تحرص علي أن أجد شيئا آكله وثيابا نظيفة ارتديها.. كان ثلاثتنا، ومعنا والدي أحيانا، ننفق وقتا في البحث عن أمي.. كنت أتجول بين مشارب شيكاغو، وحاناتها المظلمة، أدفع أبوابها المتحركة وأنظر داخلها لعلي أجدها علي أحد المقاعد أمام البار.. وأنا في الرابعة عشرة، أحضرها أبي إلي البيت ذات مرة، وصعد بها إلي الطابق الثاني إلي حجرة النوم. وبقيت أنا في حجرة المعيشة، وسمعتها تسقط، وسمعت صوت الصفعات والضربات، وجريت صاعدا، ووجدتها ملقاة فوق الفراش تبكي وهو يقف فوق رأسها، وجننت من الغضب، وغرزت أسناني في جسده وكأنني أمتلك قوة جولياث، وصرخت في صوت واضح: «إذا ضربتها مرة ثانية.. سوف أقتلك». ونظر في عيني مهتزا، وعرف أنه يري شيئا لم يألفه في حياته.. لم يكن أبي يخاف من أي شيء، وكان من المحتمل أن نتقاتل حتي الموت ما لم يملأه إحساس بالذنب. وخرج من الحجرة تاركا أمي فوق الفراش.

###

وأنا في الخامسة عشرة، قررت أن أكسب عيشي من اللعب علي الطبلة، وكونت فريقا سميته «الطبال براندو وزملائه» وكونا «باند» لكن ذلك لم يستمر طويلا ولم يدر أية نقود.. وعوضا عن هذا عملت «بلاسيه» في إحدي دور العرض السينمائي.. وفي ليالي السبت كان أغلب الفلاحين يصطحبون عائلاتهم إلي السينما، وكنت استمتع بقيادة الرواد إلي مقاعدهم المشغولة مسبقا، وفي الظلام كانت صنوف من الناس تقع فوق آخرين وتتعالي اللعنات وعبارات السباب. وكان من المفروض أن ارتدي «يونيفورم» خاصا بالدار، وكانت حرارة الجو داخل دار العرض تجعلني أضيق به وأخلعه، ووشي به زملائي لصاحب الدار ففصلني، وذات يوم أحضرت حيوانا ميتا تفوح منه رائحة عفنة والقيته في الدار واندفع الناس هاربين منها، ولم يعرف صاحب الدار أبدا من الفاعل، لكنني كنت سعيدا بانتقامي منه.

كنت تلميذا سيئا فاشلا في مدرسة ليبرتي فيل الثانوية.. ولهذا كنت معاقبا أغلب الأوقات بالإبعاد عن الفصل، أو التكليف بواجبات إضافية، وكان مدرسي السيد رسل يخرج عن صوابه ويهزني بعنف أمام طلبة الفصل طالبا مني أن أبذل كل الجهد إذا أردت الاستمرار، وكان أولياء أمور الطالبة يبعدونهم عن طريقي ويعاملونني كأني أفعي سامة، وكان الحل الذي لجأ إليه أبي لكي ينهي متاعبي في ليبرتي فيل الثانوية، هو أن يرسلني إلي المدرسة التي سبق له الدراسة فيها وهي «شاتون أكاديمي العسكرية» في مدينة فيربولت بولاية مينسوتا، كان يظن أن اعتياد النظام سيفيدني كثيرا. لكن وجودي في «شاتوك» كان مقضيا عليه منذ البداية، ففي ذلك الوقت كنت ثائرا متمردا علي من يتولونني وعلي الجميع.

وبعد فصلين دراسيين في «شاتوك» انطلقت في إجازة صيف.. اختلس الركوب في القطارات، وأصاحب العاهرات وارتاد معسكرات المتشردين ممن يطلقون عليهم لقب «الهوبو».. وكان زملائي من كل نوع وركن في أمريكا وعرفت أن لهم عادات اجتماعية معينة وسلوكيات متعارفا عليها. وأول ما تعلمت ألا أسأل غريبا عن أوضاعه السابقة في حياته، كثيرون منهم كانوا هاربين من زوجاتهم، أو من البوليس أو من حياة سابقة لا يرغبون فيها وشعارهم: «فقط نحن نقطع الوقت».. وكانت هناك قواعد تحكم الحياة في معسكرات «الهوبو» هذه، كأن يضع كل منا أي طعام يحضره في صفيحة كبيرة، نأكل منها جميعا، وأن تعد القهوة السوداء في قدر كبير لنشربها في أكواب من صفيح بدون سكر أو كريم.. ومرضت في المعسكر وقررت أن أتركه.

في ذلك الزمان كان الناس كرماء، كانوا علي استعداد أن يطعموك مقابل عمل إضافي، ولم تكن الجريمة شائعة.. وطرقت باب إحدي المزارع وعرضت أن أقوم بعمل مقابل وجبة عشاء، وسألني الرجل: «ما الذي يمكن أن تعمله مقابل عشائك؟». وأجبته أفعل أي شيء، وعندما عرف أنني تربيت في مزرعة، أخذني إلي حظيرته لأحلب بقراته وأطعم خنازيره، واقتادني إلي المطبخ لأجلس مع أسرته لأتناول عشائي، وبعد العشاء قادني إلي حجرة ابنته لكي أنام.. كانت جميلة جدا، وعندما أطفئت الأنوار زحفت إلي فراشها، لكنني ندمت لائما نفسي علي فعل ذلك بعد أن أحسنوا إلي، ولم أعد أبدا في حياتي لمثل هذا التصرف الغبي.

أصبحت ممثلاً

بعد إجازة الصيف هذه والعودة إلي «شاتوك» أدركت أن من المستحيل علي الاستمرار في هذه المدرسة العسكرية، قررت أنني أريد أن أصبح ممثلا، خاصة وقد كان رئيس فريق التمثيل في «شاتوك» يري في موهبة التمثيل بعد أن أعطاني دورا في مسرحيته «رسالة إلي خوفو» ونجحت في أدائه. كنت قد زرت أختي فراني، حيث تقيم في نيويورك في إجازة عيد الميلاد، وكتبت لها رسالة: أحببت نيويورك وسوف أعيش فيها عندما أبدأ حياتي العملية».. وعندما تجمعت حولي الأسرة، وطلبت أمي وطلب أبي أن أحدد العمل الذي أريده وأشعر أنني سأنجح عندما أمارسه قلت لهم: «لماذا لا أذهب إلي نيويورك وأحاول أن أكون ممثلا؟!».

عندما غادرت سيارة الأجرة التي أقلتني من محطة بنسلفانيا إلي شقة أختي في «جرينوش فليج» في ربيع 1943 كنت ارتدي سترة رياضية حمراء أنيقة إلي درجة أن أسقط من يراني ميتا.. إنني أشحذ ذاكرتي لأستعيد تلك الأيام الأولي من الحرية في نيويورك، خاصة إحساسي بالحرية من ملاحقة أي مسئول عني وإدراكي أنني أستطيع الذهاب إلي أي مكان وأفعل أي شيء في أي وقت.. لقد كرهت المدرسة بنظمها ومساءلاتها والآن أنا حر. ذات ليلة ذهبت إلي «واشنطن سكوير» في نيويورك، وشربت حتي الثمالة لأول مرة في حياتي. وسقطت نائما فوق أريكة ولم يضايقني أحد، وعندما شعرت بالحاجة تبولت خلف شجرة ولم ينهرني أحد. كان كل ذلك رغبة حارقة.. النوم في واشنطن سكوير دون الإحساس بالمسئولية حيال أي فعل أو أي شخص. وإذا كنت أريد ألا أنام في فراشي.. أفعل. بل في هذه الفترة وضعت قاعدة للنوم فيما توالي من سنين.. أستيقظ حتي منتصف الليل وأنام حتي العاشرة أو الحادية عشرة من الصباح التالي.

أول امرأة

في الشقة المجاورة لشقة أختي كانت تعيش امرأة اسمها استرليتا روزاماريا كونسلو كروز.. كنت اختصر اسمها إلي «لوك».. كانت من كولومبيا، وتكبرني بعشر أو خمس عشرة سنة، لها بشرة بلون زيت الزيتون ناعمة وذات ذوق فني عال، وكانت طباخة عظيمة.. كان زوجها بحارا مسافرا عبر البحار.. وذات ليلة دعتني للعشاء.. ثمة مدفأة وأضواء شموع ونبيذ.. وفقدت عذريتي.

كانت لوك مثيرة إلي حد لا يعقل، مغرمة بالجنس بلا تحفظ، ولم تكن ترتدي أية سراويل، وكثيرا ما كنا ونحن نسير في أحد شوارع نيويورك، ننعطف إلي أحد المداخل، ونفعلها.. وفي إحدي حفلات الباليه التي كنا نحضرها، تلامسنا بالأيدي، وبلغنا إلي حد الإثارة التي جعلتها تصدر ضجة، جعلت بقية الجمهور ينظر إلينا في غضب واستنكار.. وعندما عاد زوجها من أعالي البحار، علم بعلاقتنا واكتشفها. ورغم هذا استمرت صداقتنا لسنوات عديدة، فقد كانت مهمة جدا لي في ذلك الوقت، لكن بعد «لوك» كانت هناك نساء أخريات عديدات في حياتي.

أفضل فرق العازفين في العالم، كانت دائما متنقلة بين مانهاتن وحي هارلم وخلف أضواء النيون والعلامات الحمراء لنوادي الجاز في غرب الشارع الثاني والخمسين.. وغرقت في هذا العالم.. وفي ليبرتي فيل، كانت مثلي العليا في دنيا الجاز محصورة في جيد كروبا وبادي ريتش، لكن ذات ليلة ذهبت إلي بادليوم وهي صالة رقص في برود واي لكي أرقص.. لكنني كدت أفقد عقلي من الإثارة وأنا اكتشف الموسيقي الإفريقية الكوبية.. وليلة كل خميس كانت تعقد مسابقة في «المامبو» وكان يبدو أن كل إنسان من بورتريكو موجود في نيويورك يقذف بنفسه إلي حلبة الرقص ليغسل عناء أسبوع من العمل الشاق.. كانت الليلة عادة تتحول إلي مهرجان اشتاق للمشاركة فيه، وكان المكان يتفجر بالمرح والإثارة والمغامرة خاصة، وأفضل فرق الموسيقي الإفريقية الكوبية مثل تيتونيتي وتيتورود ريجز تعزف فيه. وبعد هذه الرحلة في بادليوم قررت الاحتراف كطبال، واشتريت «الطبلة» الخاصة بي وتعاقدت لكي آخذ الدروس في فصل كاترين دونهام، وهي راقصة سوداء بارعة، طافت العالم لتدرس ما يسمي الرقص البدائي، وقد خيرتني بين أن أعزف أو أرقص وكنت أفضل العزف.

كنا فقط اثنين من البيض بين الدراسين لدي دونهام، والبقية من السمر وبينهم ممرضة من جمايكا اسمها فلوريتا في عيونها نظرة مثيرة ثاقبة، تسقط رموشها الطويلة فوق عينيها فتبدوان مغلقتين، ولسبب ما كنت أجد في ذلك إثارة جنسية، وبعد أن تبادلنا الحب اكتشفت أنها لم تحب من قبل رجلا أبيض، وأنني لم يحدث أن عاشرت امرأة سوداء من قبل، وعلي هذا تشاركنا ذلك النوع من الفضول الذي يحسه الناس من عنصرين مختلفين، كل تجاه الآخر.. ولا أجد مبررا لدهشتي عندما وجدت أنه ليس هناك أي فرق في مبادلة الحب لامرأة ما غير لونها.

ونعمنا بأوقات سعيدة حافلة معا، ولكن بالطبع لم يلبث أن اتخذ كل منا طريقه، فقد تركت فلوريتا المدرسة ولم أرها مرة ثانية.

جريدة القاهرة في

03.08.2004

 
 

عبدالنور خليل يستعرض مذكرات ساحر هوليوود مارلون براندو:

عشقت نساء اليهود ممن يكبرنني في السن!!

في الأسبوع الماضي، ولم يكتمل علي رحيله شهر، يأبي النجم الأسطورة مارلون براندو إلا أن يزداد تألقا وسحرا.. ففي مسابقة لاختيار أحسن فيلم جريمة في المائة سنة الماضية من عمر السينما احتل فيلمه «الأب الروحي» القمة في المسابقة واحتل هو قمة النجوم بدوره «دون كورلوني» في الفيلم.. وللأسبوع الثالث أقدم لقارئي جانبا أكثر إثارة من اعترافات أشهر النجوم: براندو

التحقت بالمدرسة الحديثة للبحث الاجتماعي لعام واحد وما أروعه من عام. كانت المدرسة بل ونيويورك كلها ملجأ لمئات من اللاجئين اليهود الأوروبيين الذين هربوا من ألمانيا وبلاد أخري، خلال الحرب العالمية الثانية وأعترف أنهم كانوا يثرون الحياة الثقافية للمدينة... لقد ترعرعت وكبرت علي اتساع بواسطتهم.. كانوا مدرسيني ومن وهبوني العمل... قدموني إلي عالم من الكتب والأفكار لم  أكن أعرف بوجودها.. قضيت ليالي معهم أوجه الأسئلة وأناقش وأقترح واكتشفت ضحالة ما أعرفه وضخامة جهلي، وتدني ما تعلمته فلم أكن حتي قد أنهيت دراستي الثانوية، بينما كثيرون منهم يحملون درجات وشهادات عليا من أكبر وأضخم الجامعات الأوروبية... شعرت بالغباء والخجل، لكنهم فتحوا شهيتي لكي أتعلم.

صدقت أنني إذا وسعت دائرة معارفي فسوف أصبح أذكي وإن كنت أدرك الآن أن ذلك غير صحيح.. قرأت كانت وروسو ونيتشه ولوك وميلفيل وتولستوي وفولكنر وديستويفسكي وكتب عشرات من المؤلفين الآخرين، وإن لم أفهم أغلبهم... وإن كنت قد اكتسبت إحساس المثقف الذي صاحبني طيلة العمر.

عشقت بنات اليهود

وعلي شاكلة هؤلاء الأكاديميين والأساتذة في أوروبا الشرقية كانت بنات اليهود كن أكثر تعليما  وأكثر مرونة وأكثر خبرة مني ولكن معلماتي في تلك الفترة المبكرة في نيويورك كان من المعتاد لبنات الأسر اليهودية الغنية في نيويورك أن تؤجر الواحدة منهن شقة صغيرة في المدينة، وتنال جانبا من المرح قبل أن تحترف عملاً ما أو تتزوج بعد تخرجها في الكلية، وكنت بالنسبة لهن ككائن هبط من كوكب آخر كائن قليل الخبرة قليل المعرفة، يركب دراجة نارية.. شاب جذاب إلي حد معقول مليء بالحيوية والإثارة مختلف تماما عن الشباب التي ترعرعت معه هؤلاء البنات... لم أكن أعترف بأي من أساليبهن ولم يكن يعترف بوسائلي وكنت أثيرهن كما كن يثرنني.. وكن أكثر خبرة في الأمور الجنسية أكثر مني.

وأتذكر بصفة خاصة كارولين بورك المرأة الجميلة التي كانت تكبرني بعشر سنوات التي ندمت علي أنني لم أستثمر علاقتي بها أكثر... لم تكن فقط مثيرة جسديا وعلي درجة كبيرة من التعلم، بل تتفجر بالرقة والحلاوة والتذوق للأشياء  الجميلة، كانت تعيش في شقة مليئة بالتحف النادرة وتضع عادة عطورا فاخرة ومثيرة وبالنسبة لها كنت مثل التفاحة.. فتي فلاح في التاسعة من عمره لم ينضج بعد وقد لقنتني الكثير.

ذات يوم كنت أسير مع كارولين في الشارع السابع والخمسين وتساءلت ببراءة: «أليس مضحكا أن يري المرء كل هذه النسوة الشقراوات اللواتي يرتدين معاطف الفرو وكانت أمامنا امرأة من هذا النوع وكنا نتحدث عنها عندما قالت كارولين: إنها يهودية وسألتها كيف عرفت فأجابت: اسمع... أنا يهودية وأستطيع وأعرف كيف أميز اليهود بنظرة مباشرة أو جانبية».

وبعد عدة شهور في نيويورك كنت مازلت مهتما بأن أكون راقصا للرقص الحديث، لكن وقتها التحقت بفصول التمثيل في مدرسة الدراما الحديثة، وتغير كل شيء كان يدير مدرسة الدراما الحديثة أروين بسكاتور وهو رجل كانت له سمعة ضخمة في المسرح الألماني لكن بالنسبة لي كانت روح المدرسة وعنصرها النشط هي ستيلا أدلر التي كانت في بداية الثلاثينيات قد ذهبت إلي أوروبا ودرست علي أيدي كونستنتين ستانلافسكي في المسرح الروسي، وجلبت معها أساليبه وطرقه وحرفيته لكي تنقلها إلي جماعة المسرح من ممثلين ومخرجين وكتاب، الذين يفكرون في غزو المسرح التجاري في برود واي الذين بدأوا لعقد من الزمان بدءاً من 1931 يحاولون أن يفرضوا لونا مختارا من المسرح يظنون أنه يحدث تغييرا اجتماعيا.

ستيلا وعيناها الخضراوان

عندما قابلت ستيلا كانت في الواحدة والأربعين... فارعة الطول، جميلة جدا، عيناها خضراوان وشعرها أشقر كثيف طويل، تتمتع بحضور كبير، لكنها كامرأة غير راضية بما حققته في حياتها كانت ممثلة كبيرة لكنها للأسف لم تنجح  في أن تكون نجمة كبيرة وهذا علي ما أعتقد كان سبب إحباطها.. كانت بنتاً  لأسرة شهيرة جدا في المسرح الأمريكي، وظهرت في أكثر من مائتي مسرحية علي مدي ثلاثين عاما لكنها تعرضت لنظرة قاسية تطبقها هوليوود ومنتجوها الذين لا يعطون الفرصة لممثلة أو ممثل يبدو لأول وهلة أنه يهودي.. علي الرغم من أن هوليوود هي مجتمع يهودي، بدأها اليهود وحتي اليوم يديرها اليهود.. إذا كان شكلك يهودياً فلن تحصل علي دور ولن تكسب مالا في هوليوود.. يجب أن يكون لك شكل كيرك دوجلاس وتوني كيرتس ولول موني أو يوليت جودار وتغير اسمك حتي تشق طريقك إلي النجومية  في هوليوود.. جوليوس جارفنكل اليهودي حمل اسم وجون جارفيلد وماريون ليفي أصبحت بوليت جودار وإيمانويل جولدنبرج أصبح إدوار ج. روبنسون وقد ذهبت ستيلا إلي هوليوود ومثلت ثلاثة أفلام وغيرت اسمها إلي «أبلر» علي أمل أن ينفعها هذا، لكن أنفها الكبير المحدد كان يفضحها ويعلن يهوديتها رغم أنها أجرت عملية تجميل لكن ظل المنتجون علي رأيهم تجاهها.

علي أن ستيلا أدلر تركت وراءها أسطورة حية فما من نجم اليوم في السينما الأمريكية إلا ويدين لها بنجاحه، وعن طريقها تغيرت مبادئ وأساليب التمثيل في الخمسينيات والستينيات ولإيمان ستيلا بموهبتي أتاحت لي فرصة البداية في المسرح بدور رشحتني له في مسرحية «أتذكر ماما»، وكانت تقول عني لأصدقائها: «هذا المتمرد .. سوف يكون أفضل ممثل شاب في المسرح الأمريكي».. كنت ضيفا دائما علي بيتها وما أكثر الذين كانوا يترددون علي البيت وتربطهم علاقات بها.. وكنت عادة أرتدي سويتر جلدي وبنطلون جينز، وكنت أزرع نفسي كزهرة اللوتس علي الأرض، وأروح أداعب ستيلا بما كنا نسميه أسلوب الببغاء، وكانت دائما تحتفظ بكأس أمامها وسيجارة في يدها تسقط رمادها علي السجادة وأروح أراقبها وهي ترتشف قطرات من الكأس ثم تعيدها مكانها وكانت دائما ترتدي ثوبا فضفاضا يكشف نصف صدرها ولا ترتدي شيئا أسفله.. وتضع ساقا فوق ساق، وساقاها كانتا دائما مثيرتين خاصة عندما ينفرج عنهما الثوب.. وكنت أخلع الجينز وأبقي بالشورت الذي أمارس به رياضة الملاكمة، وأكشف عن ساقي أنا الآخر.

وتقول لي: «ساقاي تثيرانك.. أليس كذلك؟»

وأرد: «وساقاي أيضا جميلتان».

فتاة  لكل ليلة

أثناء عملي في مسرحية «أتذكر ماما»، عادت أمي إلي بيتنا في «ليبرتي فيل» للحياة مع أبي مرة ثانية.. كنت أمثل كل ليلة، لكنني كنت أعاني من اضطراب عاطفي، لم أنقطع عن أي عرض من عروض المسرحية لكن الحياة أصبحت بلا معني لي... وانتقلت إلي شقة من حجرة واحدة علي ناحية الشارع الثامن والخمسين والشارع السادس، وعلي الرغم من أنني كنت أعود كل ليلة وفي ذراعي فتاة أقضي الليل معها، كنت أعاني عذاب الإحساس بالوحدة.

كنت أنفق الكثير من الوقت وسط عائلة ستيلا أدلر، التي تبنتني بعد رحيل أمي عائدة إلي ليبرتي فيل، كانت ستيلا ابنة لسارا وجاكوب أدلر، وهما نجمان من نجوم المسرح وكان زوجها هارولد كليرمان كاتب ومنتج وناقد مسرحي جيد السمعة، ومثلنا جميعا كانت ستيلا شخصية غير متكاملة وكانت تقلباتها أحيانا تزعج البعض الذين يعتقدون أنها مهزوزة وخلال تلك الفترة المضطربة من حياتي علمتني ستيلا لا التمثيل فقط لكن الحياة نفسها ولأسباب لا أدريها كانت مغرمة بي جدا، وكانت تجلسني بجوارها دائما علي مائدة الغداء وتظل طول الوقت ممسكة بيدي... أحيانا كنت أدخل إلي مخدعها وهي ترتدي ثيابها استعدادا للخروج لدعوة العشاء.. وكانت تجلس أمام المرآة بثيابها الداخلية وتحاول أن تغطي نفسها قائلة: «أوه مارلون من فضلك عزيزي، إنني أرتدي ملابسي» وأحيانا كنت أمسك ثدييها براحة يدي، وكانت تقول نصف مبتسمة: «مارلون.. لا تفعل هذا وإلا صفعتك» وكنت أديم ا لنظر إليها وأقول: «تعلمين أنك لا ترغبين في صفعي».

وعندما كانت تشتد بي المعاناة والإحساس بالصدمات العاطفية أو الجسدية كانت تقدم لي ليس مهارتها فقط كمدرسة، بل أيضا بيتها وعائلتها ودفء شخصيتها وإدراكها الواسع وحبها.... وقدمتني لابنتها الين، وكانت مثل أمها بارعة الجمال، ذكية، آسرة، تشعر بفرديتها واستقلالها في حضور أمها.... وقد كان من الممكن أن تصبح الين شخصية سينمائية فذة، لكن بسبب الصراع مع أمها لم تشأ أن تنخرط في مهنة التمثيل..

وبعد أن لقيت الين تطور الأمر وارتبطت بها في علاقة كانت تقوي ثم تضعف لتعود فتقوي من جديد، لكنها دامت لسنوات عديدة.

وإلي الحلقة القادمة

جريدة القاهرة في

10.08.2004

 
 

عبدالنور خليل يكتب إعترافات النجم الأسطورة "براندو":

مأساة نجمة اسمها «تالولاه» ومجاري تينسي وليامز التي أصلحتها

عندما رشحه الياكازان لدور ستانلي في مسرحية تينسي وليامز «عربة اسمها الرغبة» أجمعوا كلهم علي أنه يصغر الدور سنا، وأقرضه كازان 20 دولارا ليزور تينسي في بيته الريفي ليراه ويقرر ما إذا كان يصلح للدور، وكان مفلسا، فأنفق المال قبل أن يغادر نيويورك وذهب بطريقة «الأوتوستوب» ليجد تينسي وليامز وقد انفجرت المجاري في بيته. فأصلحها وقرأ معه الدور ليثبت أنه جدير به.. وبدأت الأسطورة التي حملت اسم مارلون براندو.

واشنطن ضد الزنوج

في رسالة لوالدي من واشنطن كتبت: «إن واشنطن ضد الزنوج وتطبق التفرقة العنصرية بكل قسوة إلي حد أنني أكاد أجن وأتمني أن نغادرها بسرعة. وفي إحدي نشرات الأخبار رأيت جماعة «الكوكلوكس كلان» وهي تعاود حشد أفرادها في زرافات ضخمة، والتفكير فيها يدفع إلي الإحساس بالألم، وفي طريق عودتي إلي شيكاغو، سأتوقف في ليبرتي فيل لكي أتحدث في مجتمعات المطاعم.. ليس لدي برنامج العمل في الصيف بعد، لكن هناك آلاف الاحتمالات من بينها تمثيل مسرحية مع «تالولاه بانكهيد».

كانت إيدي فانكليف أن المشاركة في مشروع تقديم مسرحية الكاتب الفرنسي الشهير جان كوكتو «للنسر رأسان» التي تقوم ببطولتها تالولاه التي كانت صديقة مقربة من إيدي. ولقد كنت لأفعل أي شيء تطلبه مني إيدي: فقد كانت عطوفة وكريمة معي وتبعث عندي الأمان في سنوات الكفاح تلك، ولسبب أكثر أهمية هو أنني أحتاج المال.

وقبل أن ترسل بي «إيدي» إلي بيت «تالولاه» في «ويستشيستر كلونتي» للتعارف، أخبرني صديق أنها «امرأة شاذة».. لكنني وبسرعة اكتشفت العكس. كانت تالولاه مثالا للفنانة الكاملة، ولم تكن ممثلة متفردة، لكنها أصبحت نجمة بسبب عوامل بارزة في شخصيتها.. كانت تتمتع بصوت عميق، يفوح منها عبق الروائح الروسية وتدخن التبغ الإنجليزي الذي تلتقطه عادة من صندوق أحمر لتضعه في مبسم فضي وطويل وتشعل لفافتها ببطء وكأنها تؤدي حركة مسرحية. كان لها أنف حاد مدبب وذقن عريض فيه فم واسع يؤهلانها لدور الساحرة الشريرة في مسرحية «ساحر أوز» وبصوتها المخمور المنخفض كانت «تالولاه» ممتعة، ذكية إباحية تحكي قصصا مسلية.

«تالولاه» تفضل الرجال الصغار

حالما انتهيت من قراءة المسرحية، طلبت مني «تالولاه» المشاركة في المسرحية، إلا أنني أعتقد أنها كانت تهتم بي أكثر كشريك جنسي أكثر من اهتمامها بي في در «ستانسلاس».. وعندما بدأنا البروفات اكتشفت أنها تتناول جرعة من خمر كل صباح، تقضي بقية النهار في الشرب أكثر، وبدأت تخترع لي الأسباب كي أزورها في فندق اليزيه، وبحجة مراجعة النص، وكنت أخافها، لكنها كانت نجمة العرض وكنت أحتاج الأجر، كانت تنفق الدقائق الأولي، وهي تدور بلسانها فوق شفتيها وهي تحاول أن تبدو مبتسرة، ثم تبدأ حركات الإغراء علي طريقة الجواري في حريم عربي. كانت في الثالثة والأربعين، وكنت في الثانية والعشرين، وكانت بطبيعة الحال تفضل الرجال الأصغر سنا، ولعلي الآن أشعر برغبة فيها أكثر مما كنت وقتها.. والحقيقة أن أغلب النجمات عندما يتقدمن في السن، يشعرن بأن فتنتهن وجمالهن يقل ويخبو ويتقبلن هذه الحقيقة بصعوبة وكما تفعل «تالولاه» بعضهن يتحولن إلي الرجال الأصغر سنا في محاولة لاستعادة الشباب المفقود.

افتتحت المسرحية في «نيو انجلند» وأنا ألعب دور عاشق «تالولاه» الشاب.. ولم أعتقد أنني كنت أؤديه جيدا.. فبين الكثير من النواقص، لم أكن امتلك اللكنة الصحيحة، وأسوأ من هذا، عندما أكون معها علي المسرح.. وتقترب اللحظة التي يجب أن أقبلها فيها لا أحتمل هذا.. ولأسباب عدة كانت تمتلك فماً بارداً ولسانا أكثر برودة.. علي المسرح تدفعه في فمي دون حتي استئذان.. وفي البداية أصبح شغلي الشاغل تحت هذه الظروف، أن أتحاشي حركات لسانها دون أغضبها، مفكرا أن أبدو كرجل رومانسي، لكن هذا كان لا يعجبها ومن ثم تخفض رأسها باحثة عن فمي بشفتيها.. حاولت أن آكل كمية كبيرة من البصل، لكن حتي هذا لم يوقفها.

لقد عانت «تالولاه» الكثير من الآلام وقلة السعادة في حياتها، وكان يعجبها أن تتحدث عن هذا، ولم أكن أستطيع أن أمنع تعاطفي معها، ذلك التعاطف الذي تأخذه بخشونة، ولقد أعتقدت دائما أنها لو لم تكن محبطة عاطفيا هكذا، لكانت ممثلة عظيمة وشخصية جذابة بلا حدود.

أعتقد أن «تالولاه» كانت في الحقيقة تهتم بالجنس والسكر أكثر من الأداء التمثيلي، ولقد وشي بي عندها جاسوس من الزملاء، وقال لها إنني أتمضمض بمطهر في حجرتي كل ليلة بعد أن أقبلها علي المسرح إلي جانب أنني لم أعد أزورها في حجرتها بالمسرح.. ولهذا أخبرت منتج المسرحية أنني لا أصلح للدور، ففصلني من الفرقة بعد ستة أسابيع من العمل.

من عربة تينسي وليامز بدأت

ومضت شهور، قبل أن تخبرني إيدي فانكليف، راعية موهبتي.. أن المخرج الياكازان يخطط.. لتقديم مسرحية لـ«ـتينسي وليامز» بعنوان «ليلة البوكر»، وأن أعيد تسميتها إلي «عربة اسمها الرغبة» وكانت الممثلة جيسكا تاندي قد اختيرت بالفعل لتمثل دور «بلانش ديبواه» لكنهم يجدون صعوبة في اختيار الممثل الذي يعلب دور ستانلي كواسكي.

كان جون جارفيلد هو المرشح الأساسي للدور، لكنه لم يستطع أن يصل إلي اتفاق مرض مع المنتجة ايرين سلزنيك ـ ابنة رئيس شركة مترو لويس. ب. ماير وزوجة المنتج السينمائي دافيد سلزنيك ـ وقد انفصلا فيما بعد ـ وبعدها رشحوا بيرت لانكستر، لكنه لم يستطع أن يفلت من عقد الاحتكار في هوليوود. ورشحني هارولد كلرمان، زوج ستيلا أدلر، للدور، لكنهما في البداية تركا القرار للمؤلف تينسي وليامز، واقترح علي كازان أن أذهب لمقابلته حيث كان يقضي إجازة صيفية في «راس كود» في بيته الصيفي، وأقرضني كازان 20 دولارا من أجل تذكرة القطار، لكنني كنت مفلسا وصرفت أكثرها قبل أن أغادر نيويورك إلي المدينة الريفية، واضطررت أن أصل إليها بوسيلة إيقاف السيارات في الطريق، واستغرق هذا وقتا أكثر مما توقعت، حتي إنني تأخرت يومين عن موعد القراءة الأولي للمسرحية. وعندما وجدت بيت تينسي وليامز، اعتذر لي أن مجاري البيت قد تفجرت، وتطوعت لإصلاح المجاري، وقرأت الدور أمامه، وتحدثنا ساعة وبعض ساعة، ثم طلب كازان تليفونيا وأخبره أنه يريد منه أن يعطيني الدور.

افتتحت «عربة اسمها الرغبة» في مسرح ايثيل باريمور في نيويورك في الثالث من ديسمبر 1947، بعد عروض تجريبية في نيوهافن وبوسطن وفلادليفيا. وفي نهاية ليلة الافتتاح في نيويورك، ذهبنا إلي قاعة الشاي الروسية لننتظر آراء النقاد. وترك لـ«نيويورك تايمز» متابعة الآراء واسترخي كل فرد إلي الحقيقة بأننا قدمنا مسرحية قمة.

أشارت كتابات بعض النقاد إلي أنه في أداء ستانلي كوالسكي الوحشي الحساس سر النجاح، وفي الحقيقة كنت أؤدي نفسي واستفرض ما بداخلي، وبكلمات أخري، نجح العرض لأنني كنت ستانلي كوالسكي. ومنذ هذا الدور تعلمت أن الكثير من الأدوار البارزة يجب أن يصنعها الممثل، خاصة علي الشاشة. فإذا كان بين يديه رؤية ناجحة، فكل ما عليه أن يخترع الشخصية التي تجعله مصدقا، لكن إذا وجد الممثل بين يديه مسرحية جيدة «مثل عربة اسمها اللذة» فليس عليه أن يفعل الكثير، إن عليه أن يتنحي عن الطريق ويترك الدور يؤدي نفسه، فالتحسين لا يجدي مع مسرحية لـ«تينسي وليامز»، كما هي الحال مع مسرحية لـ«شكسبير».

لم أقتنع أبدا بأنني نجحت في أداء دور ستانلي.. وأعتقد أن أحسن نقد قرأته عن المسرحية هو الذي قال إنني الاختيار الأسوأ للدور، وكذلك قال عن جيسكا في دور «بلانش» في الوقت الذي أثني فيه علي كيم هنتر في دور «ستيلا» وأثني علي كارل وبلدان أيضا.. لقد كانت جيسكا ممثلة موهوبة جدا، لكنني لم أفكر يوما في أنها مقنعة في شخصية «بلانش» ولا أنها تملك ذلك الكم من الأنوثة التي يتطلبها الدور، ففي رأي تينسي وليامز كانت «بلانش ديبواه فراشة تحوم حول النار، ناعمة ورقيقة بينما ستانلي يمثل الجانب الوحشي للإنسان. كانت «بلانش» كذابة ومتغطرسة، لكنها كانت تكذب من أجل حياتها، ولكي تبقي ماء وجهها حيا وعندما تقول: «لا أنطق بالحقيقة لكني أنطق ما يجب أن تكون عليه الحقيقة. إنني لا أكذب من قلبي». كان تينسي وليامز يقصد هذا بعينه إلي حد أنه قال لكازان: «إنه يريد من الجمهور أن يعطف علي بلانش».

وبالطبع هناك ثمرة للنجاح كبطل لمسرحية في برودواي، أكثر من مجرد أجر يصل إلي 550 دولارا في الأسبوع، ولم يكن هذا المال يعنيني بقدر ما كان يعنيني ما صنعه نجاح «عربة اسمها الرغبة».. فبعد كل ليلة عرض، كنت أحد سبع أو ثماني فتيات في انتظاري في حجرتي، كنت أتفحص بعناية واختار منهن رفيقة الليلة، فكشاب في الرابعة والعشرين من عمره كانت رغباتي شيئا مهما جدا لي اتركها تتحكم في وكم كان ذلك رائعا. أكثر من هذا، كنت أعشق القدرة علي اصطحاب أية امرأة، وأحب الحفلات وأرقص وأعزف الكونجاز والنوم في أحضان امرأة.. أي امرأة.

كنت أقطن الطابق الحادي عشر في منزل للشقق في الشارع الثاني والسبعين، أقمت حفلا ذات ليلة وبلغ كل فرد في الحفل، بما في ذلك أنا، الذروة في كل شيء، واتجهت إلي نافذة فتحتها وصرخت في كل ضيوفه: «أنني ضقت بهذا العالم بكل ما فيه، إنني لا أستطيع أن أفهمكم يا ناس.. لقد ضقت بهذه الحياة».. ووقفت علي افريز تحت النافذة، وتمددت علي الحائط وأمسكت بالشراع بيدي.. وبينما اختفيت تحت النافذة ضاحكا، أراقب كل ضيوفي يصرخون، إلا فتاة واحدة جرت إلي النافذة، ونظرت إلي الشارع تبحث عن جسدي قبل أن تراني، ثم قالت: «هيا.. أسقط.. ولاحظ إذا كنت أبالي».

وزحفت عائدا لأدخل من النافذة وأنا أضحك ملأ فمي.

وإلي الحلقة القادمة

جريدة القاهرة في

24.08.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)