كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ليس تعقيبًا علي بيان لجنة المصنفات التابعة للكنيسة

المشاهد التي أثارت حفيظة الأقباط

في فيلم «بحب السيما»

سامح فوزي

بحب

السيما

   
 
 
 
 
  • بعض الأقباط يريدون أن تقدمهم الدراما في صورة طاهرة.. خالية من الشوائب علي طريقة «فلتاؤوس» أفندي الصراف
  • فتش عن السياسة في تلك الأزمة التي يدفع فيها الفن ثمن ارتباكها وهواجسها التي عششت في العقول

كان من المتوقع أن يثير فيلم "بحب السيما" جدلا واسعا في الأوساط المسيحية. ليس فقط لأن الفيلم يحوي ما تعتبره الكنيسة خروجا علي تقاليدها في بعض المشاهد، ولكن لأنه يمثل مناسبة لإعادة إنتاج هواجس موجودة لدي قطاع واسع من الأقباط الذين يتوقعون أن تكون إعادة الاهتمام بهم علي صعيد الأعمال الفنية من خلال تسليط الضوء علي واقعهم وتراثهم وتقاليدهم دون استدعاء قضايا شائكة تخص حضورهم المجتمعي. إذن المسألة دون مواربة تخص الفن في الظاهر وصراع البقاء والوجود في الباطن. وسيظل هذا الاشتباك قائما-كلما عرض عمل فني يتناول الأقباط علي خلاف الصورة التي يودون أن يكونوا عليها ـ مادامت القضية تمس تساؤلات كيانية وليس إشكاليات ذات طبيعة فنية.

هناك صراع حقيقي علي الصورة التي يرسمها الفن للأقباط. وهو صراع  ممتد  ولاسيما في ضوء تغييب الوجود المسيحي لعقود طويلة عن الأعمال الفنية. جاءت العودة في البداية احتفائية  من خلال ظهور الشخصية القبطية ـ المثالية ـ إن صح التعبير في أعمال أسامة أنور عكاشة وبهاء طاهر، ومن ثم شعر قطاع من المسلمين أن الأقباط ُيقدمون- فنيا- بشكل مثالي، في حين أنهم-أي المسلمين- يقدمون علي الوجهين-الايجابي والسلبي- حسب الأحوال. وعندما بدأت الأعمال الفنية تخوض في عمق الشخصية القبطية أسوة بالمسلمة، علي نحو ُيظهر أنها شخصية واقعية تحمل سمات المجتمع بما يموج به من تحديات ومظاهر عطب اجتماعي بدأ الضجر يزحف إلي الأوساط القبطية الذين رأوا في ذلك تعريضا بهم وبتقاليدهم وعقائدهم. القضية إذن صراع علي الصورة. وسيظل السؤال مطروحا... هل من الملائم أن يقدم الفن الشخصية القبطية علي أنها شخصية صمغية شمعية تحيا في مجتمع آخر أم أنه من الأفضل أن يقدمها علي أنها شخصية نابضة متفاعلة مع المجتمع؟

أتصور أن هناك من الهواجس والمبررات ما يحتاج إلي مناقشة صريحة جادة.

خطاب الهواجس

في تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب في أعقاب أحداث العنف الطائفي في منطقة الخانكة عام 1972 حديث عن وجود صور نمطية مشوهة عن الذات والآخر في أوساط المسيحيين والمسلمين علي السواء. وروي لي الدكتور رشدي سعيد-عالم الجيولوجيا المعروف- وكان عضوا بهذه اللجنة أنه فوجئ هو وزملاؤه بكم الهواجس الموجودة في الأوساط الإسلامية والمسيحية علي السواء. هناك من ادعي أن الأقباط يريدون إفقار المسلمين وحرمانهم من الدواء. هذه الهواجس كانت في أذهان العامة في وقت كانت فيه مصر خارجة لتوها من تراث الستينيات شبه العلماني. ومن الطبيعي أن تتكاثر وتتناسخ مثل هذه الهواجس بعد مرور ثلاثة عقود شهدت الساحة السياسية موجات من الصراع بين السلطة والدين والعنف والخطابات النصوصية التكفيرية في مواجهة المسيحيين والسجالات العقائدية في المفاضلة بين الأديان. وهي فترة عرفت أيضا عزوفا وانسحابا من جانب الأقباط، وتقليصا لمساحات التلاقي بين المسيحيين والمسلمين. في عام 1998 أصدرت كتابا بعنوان "هموم الأقباط"، وطلبت من زميلة باحثة مسلمة أن تجري استطلاعا للرأي في أوساط المسلمين العاديين حول معرفتهم بالأقباط. جاءت الإجابات علي الأسئلة المطروحة  طريفة ومخجلة في آن واحد، ومؤشرا كاشفا علي تراجع مساحات الفهم المتبادل بين المسيحيين والمسلمين. بعض الإجابات جاءت علي النحو التالي  "المسيحيون يعبدون ثلاثة آلهة"، " لماذا تحلق الراهبة شعرها"، " لماذا يقول القس للمتوفي إني بريء منك"، "لماذا رائحة بيوت المسيحيين غريبة"، "لماذا تسعي الفتيات المسيحيات إلي الإيقاع بالشباب المسلم الملتحي في المصايف".....الخ. وهناك خطاب مسكوت عنه في أوساط القطاعات الشعبية من المسلمين مفاده  أن المسيحيات أكثر تحررا من المسلمات نظرا لعدم ارتدائهن الحجاب. وقال لي كثير من المسلمين إنهم لا يعرفون علي وجه التحديد ما يفعله المسيحيون داخل الكنائس؟ وروي لي بعضهم أنه من الشائع في أوساط المسلمين أن الرجال يقبلون النساء في الكنائس عقب إطفاء النور في ليلة رأس السنة. هذه الأمثلة قليل من كثير عن الأنماط المشوهة  لدي قطاع من المسلمين عن شركائهم في المواطنة من الأقباط. ولا أنكر أن هناك صورا نمطية مشوهة عن المسلمين في أذهان قطاعات من الأقباط أيضا.

إذن الحالة المجتمعية في مصر تشهد شكلا من أشكال الشك المتبادل المستبطن. وكلما جاء عمل فني يعري هذا الشك وجد من يتصدي  له. والدليل علي ذلك أن هناك مشاهد بعينها في فيلم "بحب السيما" هي التي أثارت حفيظة الأقباط مثل الشاب الذي يقبل الفتاة في منارة الكنيسة، وخيانة الزوجة لزوجها المتزمت، وتكرار الشتائم علي لسان أبطال الفيلم المسيحيين. هذه المشاهد أثارت غضبا قبطيا- كما يتضح من البيان الذي أصدرته لجنة المصنفات الفنية التابعة للمجمع المقدس في الكنيسة القبطية- لأنها تصور الأقباط بصورة سلبية من ناحية، وتؤكد صورا نمطية مشوهة عن الأقباط  لدي قطاع عريض من المسلمين من ناحية أخري. وسبق أن تكرر نفس الأمر في مسلسل "أوان الورد" عندما دعا إلي زواج  يجمع مسلما بمسيحية تحت لافتة "دين الحب" ، وهو ما اعتبره الأقباط خروجا علي عقيدتهم التي تحرم مثل هذا النمط من الزيجات، وتشجيعا مستبطنا لها. وتساءلوا إذا كان العمل إبداعا، والإبداع -بحكم التعريف- خروج عن النص فلماذا لا يقدم الصورة العكسية أي شاب قبطي يتزوج مسلمة؟ أو يقدم مشهدا لشاب مسلم يقبل فتاة مسلمة في مئذنة مسجد مثلا؟. أم أن هناك فقط مراعاة للعقيدة الإسلامية دون المسيحية؟

صراع علي الصورة

يرافق عودة الاهتمام بالشخصية القبطية في مجال الفن صراع مستبطن علي الصورة. بعض الأقباط يريدون صورة طاهرة  لهم خالية من الشوائب. صورة صمغية.. احتفالية.. شمعية إن صح التعبير تستدعي كلما كان هناك داع للتدليل علي وجود الوحدة الوطنية. وهناك فريق من المبدعين يرون أن الشخصية القبطية تمثل كافة أطياف المجتمع. الجيد والرديء، الفاضل والطالح، الطيب والخبيث.. أي أنها شخصية لها سمات وخصائص نفسية لا تميزها في شيء عن باقي مكونات المجتمع المصري. هي بالتأكيد صورة مختلفة عن "فلتاؤوس أفندي" الصراف القبطي التقليدي في الأعمال الدرامية الذي كان يعكس نمطا للعلاقات المجتمعية السائدة وقتئذ.  لماذا لا تكون  وسط الأقباط شخصيات تحمل تناقضات الحياة؟  ما المانع أن تكون هناك شخصية  قبطية  في عمل درامي تلعب دور اللص أو الشاب المنفلت أو الزوجة الخائنة؟ أليس هؤلاء بشرا يمكن أن يتواجدوا في كل زمان أو مكان دون أن يكون لوجودهم أي تداعيات سلبية علي الصورة الجمعية للجماعة الدينية التي ينتمون إليها؟ ولماذا يقفز إلي ذهن المشاهد ـ أول ما يقفز ـ أن هذا قبطيا أو مسلما رغم أن العمل برمته فنيا؟.

القضية تتلخص في عبارة واحدة أن هناك مخاوف وجودية لدي الأقباط في المجتمع المصري. ومثل هذه الإشكاليات الفنية  ما كان من الممكن أن تحتل مثل هذه المساحة من الجدل والرفض والاحتجاج لو لم تكن مثل هذه المخاوف قائمة. ويدفع-اليوم- الفن ثمنا باهظا لالتباسات الواقع السياسي. يشعر الأقباط أنهم مستهدفون في المجتمع، ويصبح هذا منطلق تفسيرهم للواقع المحيط بهم. مستهدفون في بناء دور العبادة، والتعيين في الوظائف العليا، وتولي المواقع السياسية الحساسة، والتمثيل السياسي..... الخ. يدفعهم هذا -بوعي أو بدون وعي ـ إلي قراءة الأعمال الفنية من هذا المنطلق.  وإن لم تكن الحالة السياسية ملتبسة بالنسبة لهم لما انشغل الأقباط ـ علي نطاق واسع ـ بمثل هذه القضايا ذات الطبيعة الفنية.

إذن صراع الوجود المستبطن يعبر عن نفسه في صراع علي الصورة في العلن. وشعور الأقباط بأنهم في حالة دفاع عن النفس يجعلهم يتجهون إلي الدفاع عن كيانهم وما يتصوره الناس عنهم. القضية -باختصار ـ تعبر عن أزمة سياسة أكثر مما تعبر عن أزمة فنية. أزمة في علاقة الأقباط بالآخر والدولة أكثر من أزمة في علاقة الأقباط بالفن عموما.

نقد ديني أم نقد فني

في حالة الصراع علي الوجود تغيب الجزئيات لصالح الكليات. ويجري تقليص مساحات التسامح والحوار والجدل في سبيل تعبئة كل الامكانات للدفاع عن النفس. ويصبح الدين هو وسيلة التعبئة والحشد والتجميع. هذا ما يحدث بالضبط حيث تجري قراءة الأعمال الفنية من منظور ديني، ويتصدي رجال الدين لنقد هذه الأعمال انطلاقا من أطر مرجعية دينية.  وهي حالة نجد لها مثيلا علي الجانب الإسلامي ظهرت في دعاوي مقاطعة فيلم "آلام المسيح" نظرا لأنه يخالف العقيدة الإسلامية، والبعض ذكر أنه يحض المشاهدين علي اعتناق المسيحية. هنا يجد المبدعون والمثقفون أنفسهم  في مأزق....هو التشهير بأعمالهم والركون إلي أدوات غير علمية لنقد العمل الفني. ويتحول المشهد إلي  ما يشبه محاكم التفتيش الدينية  علي الأعمال الفنية. وتصبح الرسالة الموجهة للمبدعين هي تقديم أعمال فنية تراعي صورا متخيلة عن المجتمع الفاضل وليس ما يشهده المجتمع الراهن من مظاهر انحلال وفوضي إنسانية وأخلاقية. ما يريده  البعض هو أن يتحول الفن من مجال لنقد الواقع من خلال الاشتباك معه إلي مجال للتعامي علي الواقع ومحاولة تصوير عالم فاضل مثالي غير موجود. بقول آخر يتحول الفن من  تجربة نقدية إلي عظة أخلاقية.

وليس مستغربا أن تتصدي الكنيسة  لمسألة الحضور القبطي في الفن نظرا لأنها أصبحت  تتصدي لكل ما يتعلق بالشأن العام للأقباط بعد أن تقلصت في السنوات الأخيرة مساحة الحياة العامة للمدنيين الأقباط، وتحولت المؤسسة الدينية إلي مدافع عن حقوق المواطنة للأقباط، بعد أن غاب عن المشهد السياسي السياسيون الأقباط الذين لعبوا دورا في إدارة الملف القبطي قبل ثورة 1952، وكذلك التكنوقراط الأقباط الذين حلوا محل السياسيين في الستينيات. غاب هؤلاء وأولئك ولم يعد يملأ المشهد سوي الاكليروس (رجال الدين المسيحيين). يدخل هؤلاء مجال النقد- أسوة بأقرانهم من المسلمين- متسلحين فقط بتفسيرات دينية للواقع والحياة، دون أن يمتلكوا ثقافة حديثة أو رؤية موسوعية تيسر لهم نقد الواقع الاجتماعي بكل مظاهره وتجلياته.

واللافت للنظر أن رجال الدين -علي الجانبين المسيحي والإسلامي- الذي يبحثون بدأب عن كل ما يسيء إلي العقيدة في الأعمال الفنية، يغضون الطرف أو علي الأقل لا ينتقدون بنفس الحدة الأعمال الفنية التي تقدم صورا نمطية مشوهة عن الإنسان- أيا كانت معتقداته. تقديم ـ علي سبيل المثال ـ صورة سلبية عن المرأة بوصفها مجرد "أنثي" أو إشاعة لقيم المجتمع الاستهلاكي أو تكرار مشاهد العنف والجريمة.... ألا يمثل هذا إهانة لجوهر الإنسان-صورة الله ومثاله في المسيحية وخليفة الله علي الأرض في الإسلام؟ هل رؤية مشاهد مبتذلة لن يكون له تأثير سلبي علي الإنسان إذا عرف ديانة من يقوم بذلك؟ ... المسألة إذن ليست فنية بل كيانية -كما ذكرت في البداية. مسألة وجود وليس فنا.

يبدو أنه لا خلاص للمجتمع المصري من الحالة الملتبسة التي يعيشها إلا بالمضي قدما علي طريق إنشاء دولة مدنية علمانية علي أساس من المواطنة الكاملة والتعددية. وتصبح لمؤسسات الدولة دورها  في الحفاظ علي النظام العام ويصبح للمؤسسة الدينية دورها الأصيل في رعاية الشأن الديني.

في دولة مدنية تعددية الفن هي مسئولية المبدعين ونقده مسئولية الجمهور المتلقي والنقاد. ويكون نقد العمل الفني من خلال التماس أدوات علمية منهجية يعرفها النقاد المنتمون إلي مدارس النقد المتنوعة. والتعددية تعني حق كل قطاع أو فريق-بما في ذلك المؤسسة الدينية-  في التعبير عن رأيه أيا كان، لا حجر علي أحد، ولكن في نفس الوقت لا حق لأحد في مصادرة أو الحض علي مصادرة عمل فني. وتكون ساحة القضاء هي الفيصل الحقيقي بين خطوط التماس الفاصلة بين الإبداع الإنساني من ناحية  والإساءة إلي المعتقدات من ناحية أخري بعيدا عن محاولات تحويل رجال الدين من دعاة ووعاظ إلي نقاد وضباط.

جريدة القاهرة في

06.07.2004

 
 

من «برسوم أفندي يبحث عن وظيفة» إلي «بحب السيما»

رحلة آلام الشخصية القبطية علي شاشة السينما المصرية

إنتصار بدر

* من بين 3 آلاف فيلم أنتجتها يظهر الأقباط كضيف شرف.... ولم يصلوا إلي أدوار البطولة إلا في 23 مرة فقط

* «الشيخ حسن» أزمة فيلم تسببت في تدخل المؤسسة القبطية رقابيا لأول مرة

الندرة المفرطة في الاقتراب من الشخصية المسيحية جعلتها من المسائل الشائكة لدي صناع السينما وأجهزة الرقابة و الهيئات الدينية المختلفة وحتي الجمهور وأياً ما كانت الأسباب فإن الضحية في النهاية هو الإنسان المصري المسيحي الذي تخلت السينما عن همومه وتفاصيله الحميمة وحتي في أحسن الأحوال عندما حاولت الاقتراب منه لم تقدمه كإنسان من لحم ودم.. وربما يكمن في ذلك السبب الحقيقي وراء أزمة فيلم «بحب السيما» فمن بين ما يقرب من ثلاثة آلاف فيلم أنتجتها السينما المصرية علي مدار تاريخها ظلت الشخصية المسيحية تظهر علي استحياء علي الشاشة الفضية، وأحيانا كضيف شرف، بينما لم تصل إلي البطولة المطلقة سوي 23 مرة فقط.

هذا ما يؤكده أرشيف السينما المصرية الذي تجولنا في أوراقه لعلنا نعرف الأسباب.

الغريب في الأمر أن البدايات الأولي لصناعة السينما في مصر تشير إلي عدم وجود تلك الحساسية المفرطة علي الإطلاق فبعد تجاوز السينما لمرحلة الإسهامات الفردية للمخرجين الأجانب سواء العابرين أو المقيمين علي أرض مصر وانتقالها إلي مرحلة صناعة السينما بأيد مصرية تحديدا في عام 1923 الذي شهد عرض أول فيلم مصري روائي قصير تحت عنوان «برسوم يبحث عن وظيفة» للمخرج المصري محمد  بيومي، هذا التاريخ يؤكد أن أول بطولة مطلقة في السينما المصرية كانت لشخصية مسيحية، وقيل وقتها إن الفيلم بداية لسلسلة أفلام تحمل اسم البطل، فبالرغم من عدم اكتمال تصوير الفيلم لا لأسباب تتعلق بالرقابة أو دواعي الأمن وإنما لوفاة الطفل محمد يوسف ابن المخرج وأحد أبطال الفيلم أثناء التصوير، مع ذلك أمكن عرض الفيلم لمدة 12 دقيقة بإحدي دور العرض السينمائي بالإسكندرية.

تلك البداية غير المنحازة عقائديا، كانت السمة المميزة للمجتمع المصري حتي أواخر الأربعينيات فالمؤكد أن التركيبة السكانية للمجتمع في مصر آنذاك كانت مزيجا من السكان المصريين المسلمين والأقباط واليهود ومن أبناء الجاليات الأجنبية التي وصل عددها 12 جالية من جنسيات مختلفة تنتمي عقائديا للديانة المسيحية واليهودية، بالإضافة إلي الوافدين من كافة البلدان العربية خاصة بلاد الشام وهم أيضا توليفة من المسيحيين في أغلبهم ومن السنة والشيعة ليشكلوا جميعا خلطة سحرية تجلت روعتها في ذلك التوافق والانسجام دون انحياز عقائدي أو طائفي أو عرقي.

المثير للدهشة أنه بعد عام 1923 بدأ احتكار الشخصية المسلمة لأدوار البطولة بينما انحسرت البطولة المسيحية في الأدوار النسائية فقط.

فمع بداية عام 1928 قدمت السينما في مصر مجموعة من الأفلام تدور أحداثها حول علاقة الزواج بين شاب مصري «مسلم» وفتاة أجنبية «مسيحية» وكانت أحداثها تدور حول مشاكل هذه العلاقة لا من منظور ديني ولكن من منظور اجتماعي يبرز التناقض الحاد بين العادات والتقاليد الشرقية ومثيلتها الغربية، وينحاز في ذات الوقت لتقاليد المجتمع الشرقي، وهي أفلام «قبلة في الصحراء»، عام 1928 إخراج وسيناريو وتمثيل إبراهيم لاما، وإيفون جوين، وفيلم «وخز الضمير» عام 1931 وفيلم «أولاد الذوات» عام 1932، وفيلم «الخطيب رقم 13» عام 1933، ثم فيلم «ياقوت» عام «1934».

ولا  ندري هل كان اختيار الإسلام الهوية الدينية للبطل الذي يمثل المجتمع الشرقي في تلك الأفلام مقصودا أم جاء بالمصادفة، علي أية حال فإن تنوع البناء الاجتماعي في ذلك الوقت واختلاف انتماءاته العقائدية والجنسية حتي أواخر الأربعينيات يجعلنا نستبعد فكرة القصدية ونحيلها إلي المسألة الوطنية التي كانت تمارس ضغوطا كبيرة لتقليص النفوذ الأجنبي في حجب الامتيازات الممنوحة له، ولم تكن السينما بعيدة عن تلك الحالة خاصة بعد أن أصبحت مدعومة من الرأسمالية الوطنية  وعلي رأسها الاقتصادي الوطني طلعت حرب.

ويؤكد هذا أن السينما قدمت في عام 1937 أي بعد أكثر من  عشر سنوات من عرض فيلم «برسوم يبحث عن وظيفة» سلسلة أخري من الأفلام تحمل اسم البطل ولكنه في هذه المرة يهودي الديانة، هذه الأفلام هي «شالوم الترجمان» و«شالوم الرياضي»، و«العز بهدلة» من إنتاج وإخراج توجو مزراحي وتصوير عبد الحليم نصر وتدور أحداثها في شكل كوميدي محبب جماهيريا وقد حرصت الأفلام الثلاثة  علي إظهار الأسرة اليهودية، مجاورة للأسرة المسلمة، وربطت بين أفرادها بعلاقات صداقة وطيدة في إطار من تفاصيل الحياة اليومية المتشابكة.

واللافت للنظر هو غياب الشخصية المسيحية أكثر من عشرين عاما واختفاؤها عن الكادر السينمائي تماما قبل أن تعود للظهور علي شاشة السينما في فيلم «حسن ومرقص وكوهين» إخراج فؤاد الجزايرلي، في بطولة جماعية إلي جوار البطل المسلم والبطل اليهودي، والفيلم مأخوذ عن مسرحية لنجيب الريحاني وقد لعب أدوار البطولة فيه عبدالفتاح القصري «حسن» ومحمد كمال المصري الشهير بشرفنطح في دور «مرقص» واستيفان روستي في دور «كوهين» ورغم تأكيد الفيلم علي مفهوم الوحدة الوطنية بين الأبطال الثلاثة إذ قدمهم باعتبارهم شركاء في المال والمصلحة وأصدقاء في الحياة، وجعلهم يرددون في آخر الفيلم «كلنا إيد واحدة» إلا أنه وضع صفات محددة لكل شخصية تمثل الديانة التي تنتمي لها مستعينا بالموروث الشعبي السلبي تجاه تلك الشريحة وهي للأسف الصورة التي ترسخت في أذهان المصريين حتي وقتنا هذا فقد وصف كل شريك من الشركاء الثلاثة في كتالوج الدعاية، كما يلي «حسن» المسلم الذي يتميز بالسماحة، والاندفاع وسرعة الغضب، والرضا وسهولة الانقياد لشريكيه، ثم وصف «مرقص» المسيحي بالمكر والدهاء، والتظاهر بالطيبة وحدد البلدة التي ينتمي إليها في صعيد مصر «أسيوط»، ومن العجائب أنها ذات البلدة التي كانت بؤرة للجماعات الدينية المسلحة وشهدت أعنف حوادث العنف ضد الأقباط في الربع الأخير من القرن العشرين أما اليهودي فقد وصفه كتالوج الفيلم بالخبث والذكاء ولصق به أحط الصفات مثل: قوي علي الضعيف، وضعيف أمام القوي، ويؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة وهي صفات أيضا ظلت لصيقة باليهودي في الوجدان المصري حتي الآن، أما ترتيبهم في كتالوج الدعاية جاء علي النحو التالي المسلم أولا ثم المسيحي ثم اليهودي، وإن كنا نستبعد القصدية في هذه المسألة لارتباط ترتيب أسماء الممثلين بدرجة النجومية وقيمة الأجر وهو عرف في الوسط الفني.

فاطمة وماريكا

ويتأكد التنميط السابق ذكره في الطبعة النسائية من الفيلم الذي عرض عام 1949 تحت عنوان «فاطمة وماريكا وراشيل» إنتاج وإخراج حلمي رفلة ويأتي التنميط هذه المرة مع درجة من الانحياز الديني غير الصريح فالبطل الأول مسلم والبطولة النسائية «المسيحية» جاءت من الدرجة الثانية علي عكس الفيلم السابق الذي جاءت فيه البطولة جماعية، وبالتساوي ثم جاءت أحداث الفيلم  في نفس الاتجاه حيث تدور الأحداث حول شاب مستهتر يحاول الإيقاع بأي فتاة مهما كانت جنسيتها أو ديانتها بالتحايل علي أسرة كل فتاة تنتمي إلي دين معين مدعيا انتماءه لهذا الدين وإلي نفس الأصول الاجتماعية التي جاءت منها ومقلدا كل صفاتها التي جاءت في الفيلم تكريسا لنفس التنميط في فيلم «حسن ومرقص وكوهين» ثم في النهاية يرتبط الشاب المسلم بالفتاة المسلمة «فاطمة» لنبل أخلاقها وقوة شخصيتها وعزة نفسها علي عكس الأخريين وحتي لا يقع الفيلم في دائرة الاستهجان جعل كلا من الشخصيتين المسيحية واليهودية من أصول أجنبية عن مصر كما وضعها في إطار مواقف كوميدية تعتمد علي المفارقات الصارخة طوال أحداث الفيلم.

وفي  3 مارس عام 1952 ظهر الانحياز العقائدي واضحا في فيلم «ليلة القدر» مما أثار حوله جدلا شديدا حيث تعرض لعلاقة زواج بين شاب مسلم يتمسك بتعاليم الإسلام ويدعو إليها من فتاة مسيحية بعد إشهار إسلامها وسط معارضة شديدة من أسرتها وإصرار هذه الأسرة علي منعها  من الزواج بأي وسيلة الذي يتم رغم ذلك تقوم الأسرة باستدراجها لزيارتها وتمنعها من الخروج وتبذل جم محاولاتها لإعادتها لعادات وتقاليد الأسر المسيحية التي جسدها الفيلم في صورة حفلات شديدة الخلاعة.

ويعتبر هذا الفيلم بداية لتدخل المؤسسة الدينية وفرض سلطتها علي منع و عرض الأفلام السينمائية فيما بعد، حيث استفز الفيلم  جميع رؤساء الطوائف الدينية المسيحية وذهب مندوبهم للاجتماع بمدير الرقابة علي الأفلام بوزارة الداخلية كما أرسل رئيس لجنة تقدير الفيلم الأدبية للأفلام في المركز الكاثوليكي رسالة إلي الأنبا يوساب بابا الكرازة المرقصية في 6 مايو 1952 يطالبه فيها باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لمنع عرض الفيلم وبعد أن تحققت إدارة الأمن العام من أن عرض الفيلم كان سببا في بعض الاحتكاكات داخل صالات العرض قررت الرقابة علي المصنفات الفنية منعه وقيل وقتها إن الجماهير أحرقت دور العرض بالأقاليم.

بعد قيام ثورة يوليو أسرع حسين صدقي مخرج الفيلم وبطله، بتقديم الفيلم إلي الرقابة ووافقت علي عرضه وقدم حسين صدقي الفيلم باعتباره الاتحاد المقدس بين عناصر الشعب المصري، وجاءت الأفيشات مليئة بعبارات من نوعية وغدا يفرج  الأحرار أنصار العدل عن فيلم الروح والوطن والإنسانية، ووصفت الدعاية حسين صدقي باعتباره فنانا مؤمنا بربه وبفنه ورسالته والمثير في الأمر أن حسين صدقي نفسه كفر بفنه ورسالته وحاول حرق أفلامه قبل وفاته بعدة سنوات.

إعادة عرض الفيلم أثارت الأزمة من جديد، فأرسل رئيس المركز الكاثوليكي المصري للسينما رسالتين لرئيس الجمهورية محمد نجيب طالبه بمنع العرض ووافقه محمد نجيب حرصا علي الشعور العام لكن حسين صدقي في عام 1954 يعيد المحاولة بعد تغيير اسم الفيلم إلي «الشيخ حسن»، وينجح في عرضه مقدما له بعبارة «اليوم يتحقق مبدأ الفن في خدمة الإسلام»وكتب علي الأفيش «إيراد الحفلة الأولي تم تخصيصه للمؤتمر الإسلامي» وهكذا أفلت الفيلم بعد أن وافق الرئيس جمال عبدالناصر الذي ربما جاءت موافقته حتي لا يتعرض الوفد المصري المشارك في المؤتمر الإسلامي المنعقد في ذات التوقيت للحرج.

أسوأ صورة

هذا الفيلم  بما أثير حوله من صدامات فعلية ونتيجة للأثر السيئ الذي أحدثه في نفوس المسيحيين والكنيسة المصرية سبب قلقا بالغا للمخرجين من تقديم أفلام تقترب من الشخصية المسيحية في صورتها الإنسانية وجعلهم يكتفون بتقديمها في شكل هامشي وحصرها في أدوار الصراف، وموظف الحسابات، ناظر العزبة... إلخ باعتبارها وريثا للشخصية اليهودية التي كانت تتولي تلك الأعمال قبل رحيلها عن مصر ولكن في صورتها الإيجابية ودائما، هذا في الوقت الذي تم فيه تناول الشخصية المسلمة في كافة صورها وفي جانبيها السلبي والإيجابي علي حد سواء حتي شخصية رجل الدين المسلم لم يتردد المخرجون في تقديمها علي الشاشة في أسوأ صورة فهو الفاسد الداعم للسلطة في «الزوجة الثانية» والجبان في فيلم «شيء من الخوف» «المأذون» أو الرجل الهلس في فيلم «الأرض» في الوقت الذي نادرا ما تظهر شخصية القس في السينما وكأنه تابو لا يجب الاقتراب منه.

وعبر رحلة البطولة للشخصية المسيحية في السينما نصل إلي فيلم «حسن وماريكا» عرض عام 1959 للمخرج حسن الصيفي وقام ببطولته مها صبري، إسماعيل يس، عبدالسلام النابلسي، وتدور أحداثه حول تنافس شابين مسلمين علي حب فتاة مسيحية من أصل يوناني وعلي طريقة النهايات السعيدة حل المخرج المأزق بأن الفتاة طلعت بنت راجل مسلم ولا ندري هل نستثني هذا الدور من أدوار البطولة للشخصية المسيحية أم نعتبره زيادة عدد، المهم أنه  منذ فيلم  «وخز الضمير» حتي الفيلم السابق نستثني فقط فيلم «حسن ومرقص وكوهين» كانت البطولة المسيحية دائما أجنبية، أو من أصول أجنبية والشخصية المسيحية المصرية الحقيقية غائبة.

الأهم من ذلك كله أن هذه الأفلام جميعا أكدت علي استبعاد الآخر المسيحي من أذهان المشاهدين وجعلتهم في صالات العرض نصفين الأول مسلم  مغيب إلي الغباء والثاني يجبر علي التصديق إلي حد السفه.

جريدة القاهرة في

06.07.2004

 
 

الرهبــان يقـودون ثورة ضـد فيلم بحب السيما

القاهرة/ مازن حمدي

رغم أن فيلم ''بحب السيما'' بدأ ينسحب من دور العرض السينمائي في مصر مفسحا الطريق للأفلام الجديدة بعد أن حقق مليونا ونصف المليون جنيه مصري في الاسابيع الثلاثة الاولى إلا أن الفيلم مطروح بشدة في الأوساط السينمائية والسياسية والقبطية بعد تكتل الرهبان الأرثوذكس ضد استمرار عرضه· وتقدم 14 منهم ببلاغ للنائب العام المصري المستشار ماهر عبدالواحد يطالبون فيه بمنع عرض الفيلم وسحب نسخه من الاسواق· وأحال النائب العام بلاغ الرهبان الى المحامي العام الأول للتحقيق ومشاهدة الفيلم واتخاذ قرار بشأنه·

ثورة الرهبان على الفيلم مازال البابا شنودة الثالث بطريرك الاقباط الارثوذكس بعيدا عنها تماما واتخذت شكلا آخر في التضامن مع دعوى قضائية سبقتها قبل اسبوعين لمنع عرض الفيلم تقدم بها المستشار نجيب جبرائيل ''المحامي الارثوذكسي'' ونظرتها محكمة الامور المستعجلة بالقاهرة السبت الماضي وأجلتها ليوم 24 يوليو الجاري لضم خصوم جدد وهم الرهبان وبعض المواطنين الأقباط·

ويؤكد ذلك أن هناك إصرارا قبطيا على منع عرض الفيلم الذي أكد الرهبان مجتمعين في مكتب النائب العام على ثمانية تجاوزات تبدأ بازدراء العقيدة المسيحية، وأماكن العبادة، وإهدار كرامة بيت من بيوت الله، وازدراء الصليب والتفوه بألفاظ لا تتفق مع جلال السيد المسيح ''عليه السلام''، والسخرية من الصوم المسيحي وضرب العلاقة بين الطوائف المسيحية ''الارثوذكس والبروتستانت'' واختلاط النسب وأخيرا ازدراء رجال الدين المسيحي!!

وهناك المزيد من الدعاوى القضائية مع توالي فاكسات أقباط المهجر ورسائلهم عبر الانترنت والتي تدعم ثورة الكنائس ضد الفيلم الذي بدأ عرضه في نحو 40 دار عرض· وأكدت الدعاوى أن منعطفا خطيرا يدخله الفيلم والمتحمسون له من نقاد السينما الذين يرفضون رقابة الكنيسة على الافلام وتدخل رجال الدين في الابداع وتدور على صفحات الصحف مناظرات بين رجال الدين ونقاد السينما بشكل وصل لحدود تبادل الاتهامات·

أزمة رقابية

بدأت الازمة بما سربته إحدى موظفات الرقابة على المصنفات الفنية في مصر والتي تحركت بدافع ديني ضد الفيلم وسجلت انه يمس العقائد المسيحية ويزدري الطائفة الارثوذكسية واوصت بعدم عرضه· وفي محاولة لتفكيك الازمة وازاء تحفز رجال الدين المسيحي تقرر تشكيل لجنة من كبار المثقفين وبعض رجال الدين المسيحي لمشاهدة الفيلم الامر الذي اثار ثورة السينمائيين ووجدوا فيما قررت الرقابة الاقدام عليه خطوة للخلف وقمعا لحرية الابداع وتعلية السلطة الكنسية على ضمير المبدع، وتراجعت الرقابة عن الاستعانة برجال الدين المسيحي بعد أن وجهت دعوات بالفعل لأسماء كبيرة في الكنيسة مثل الانبا بسنتي أسقف حلوان والمعصرة ''ارثوذكس'' والدكتور يوحنا قلتة نائب بطريرك الاقباط الكاثوليك، وجاء قرار التراجع تحت ضغوط رجال السينما والصحافة الذين تدافعوا ليشاهدوا عرضا خاصا للفيلم فيما يسمى ''مجلس شورى النقاد''، وانتهى العرض بتصفيق حاد للفيلم كما وصفت لجنة كبار المثقفين الفيلم بأنه شجاع مع حذف ثلاثة مشاهد فقط· وترددت الرقابة في الترخيص بعرض الفيلم وواجهت هجمات صحفية على مديرها الدكتور مدكور ثابت الذي ألغى مجلس شورى النقاد، وأعاد الدكتور جابر عصفور رئيس اللجنة العليا للرقابة تشكيل لجنته العليا وضم اليها عددا من كبار الصحفيين والنقاد والمثقفين لتكون هي الحكم النهائي في مصير الافلام المصرية·

وتبارت الصحافة المصرية في الدفاع عن الفيلم ومنع تقييمه من وجهة نظر دينية· وقال الناقد كمال رمزي إن هذا الفيلم الشجاع يحتاج لمساندة شجاعة، وأفردت مجلة ''المصور'' الاسبوعية تحقيقا موسعا على اربع صفحات كاملة واحتل جزءا من الغلاف بعنوان ''الاقباط على شاشة السينما المصرية بين محاذير الرقابة وتوجس الكنيسة'' جمعت فيه نخبة من المثقفين الاقباط ونقاد السينما والمفكرين ورجال الدين واجمعوا على عدم ولاية الكنيسة او الازهر على الفنون عامة والسينما على وجه الخصوص وان الكنيسة ليست جهة رقابية ولا جهة منع او تسلط ولابد من الابتعاد بها كلية عن هذا الطريق·

وفي نفس الوقت بدأت الكنائس إصدار تعليمات شفاهية للاقباط بعدم مشاهدة الفيلم لأنه ينطوي على مساس بالعقيدة الارثوذكسية ويقدم نموذجا لعائلة مسيحية بروتستانتية على انها نموذج لكل العائلات المسيحية وهذا ليس صحيحا، كما يتعدى الحدود في زواج الارثوذكسي من البروتستانتيه وهذا ممنوع كنسيا ويزدري المسيحية وطقوسها ويجعل الكنيسة مسرحا للأفعال المنافية للآداب وعلاقات الحب والغرام وكثيرا من المشادات التي تتناثر فيها الالفاظ الخادشة للحياء، ويبول فيها طفل صغير على رؤوس المصلين·

الحملة اثرت على ايرادات الفيلم الامر الذي ادى لرفعه من بعض دور العرض ومنها سينما مودرن بشبرا بعد ان حقق ثمانية آلاف جنيه بمعدل 600 جنيه يوميا وظل معروضا في سينما ''الامير ودوللي'' بنفس الحي·

الحملة المسيحية الارثوذكسية على الفيلم اتخذت اشكالا شتى بخلاف رفع الدعاوى القضائية منها ملاحقة الكتابات الصحفية التي تشيد بالفيلم والتشهير ببعض الكتاب، وتجييش حملة من جانب أقباط المهجر الذين لم يشاهدوا الفيلم للمطالبة بمنع عرضه، واستكتاب بعض آباء الكنيسة لمقالات وآراء وتوزيعها على الصحف باعتبار أن هذا هو رأي الكنيسة في الفيلم ردا على ما تردد من ان الكنيسة ليست غاضبة من الفيلم لدرجة ان رأيا مناهضا للفيلم للأنبا بسنتي اسقف حلوان والمعصرة تم تعميمه على الصحف والمجلات·

المفاجأة كانت رفع دعوى قضائية من خلال مركز ''الكلمة'' لحقوق الانسان وتصدى للدعوى مستشار الاحوال الشخصية القبطي نجيب جبرائيل الذي أكد انه أقام الدعوى ضد الفيلم ليس مدفوعا من الكنيسة ولكن مدفوعا بعقيدته الدينية التي مست بشكل فيه ازدراء· وأكد ان مئات المسلمين والاقباط من كافة الطوائف تضامنوا معه·

مجلة ''روز اليوسف'' هاجمت الدعوى القضائية بعنف واعتبرت جبرائيل مثل مشايخ الحسبة، كما قالت ''صوت الامة'' المستقلة أن القمص مرقس عزيز كاهن الكنيسة المعلقة المتضامن مع جبرائيل يشبه الشيخ يوسف البدري صاحب دعاوى الحسبة ضد المثقفين والابداع والسينما في مصر· وأكد المستشار جبرائيل أنه ليس من شيوخ الحسبة ولا يبحث عن شهرة بل يحاول حماية معتقده الديني، رافضا استنكار دعاوى الحسبة في الاوساط المثقفة· وقال انها دعاوى قضائية لمرضاة الله في ترديد واضح لمقولات شيوخ الحسبة قبل تنظيمها من جانب النائب العام المصري بعد واقعة تكفير الدكتور نصر ابوزيد وتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس منذ عشر سنوات·

واستغل القمص مرقس عزيز صفحات صحيفة ''الميدان المستقلة'' للنيل من معارضيه مهددا إياهم بالويل والثبور، وقال سنظل وراء الفيلم حتى لو طارت فيه رقاب· وأفردت مجلة ''المصور'' للمرة الثانية صفحاتها لعدد من المفكرين والكتاب للرد على القمص مرقس وانصاره وكان أبرز الردود للناقد سمير فريد الذي أشبع القمص تقريعا ولوما مطالبا بمنع تدخل رجال الدين في الفن· كما افردت مجلة ''الكواكب'' ملفا خاصا على عددين كان واضحا فيه عنوان ''ليلى علوي تشعل ثورة الاقباط'' وداخل العدد نشرت حوارا على اربع صفحات للمستشار نجيب جبرائيل تحت عنوان ''محاكمة غير سينمائية لفيلم سينمائي''، واشارت لجبرائيل بعنوان ''هذا الرجل لا يحب السيما''، وابدى جبرائيل تخوفه من عرض الفيلم في صعيد مصر، كما ابدى القمص مرقس عزيز عزمه وتصميمه على مطاردة الفيلم !!

فتح النار

والتزم مخرج الفيلم أسامة فوزي الصمت مكتفيا بتجميع كل ما كُتب عن الفيلم والرد في حدود ضيقة، بينما فتح المؤلف هاني فوزي النيران على الذين يناهضون الفيلم مؤكدا رفضه أي محاولة للمساس بحريته في الكتابة أو الخيال ورد على منتقديه بأن فيلمه روائي لا تسجيلي· أما اسامة فاضطر للسخرية ممن صوروا الفيلم على انه فيلم بروتستانتي وقال انه سيقدم فيلما جديدا ارثوذكسيا، ثم قال سأصنع فيلما عن السنة ثم فيلما عن الشيعة وهكذا حتى لا أغضب أحدا· وحمل أسامة بشدة على الرقابة وقال للأسف كل هذا الذي يحدث سببه موقف الرقابة وهذا هو الذي جعلنا الآن نجلس لنفتش في ديانات صانعي الفيلم وديانات الذين وافقوا عليه وديانات الذين رفضوه وهذا ما يخلق الفتنة وليس الفيلم نفسه·

ويضيف: أنا متأكد من أنني صنعت فيلما يجعل الناس أقل تعصبا ويحمل دعوة لحب الحياة، وحب الله بدلا من الخوف منه، هذا هو الفيلم في سياقه العام، أما إذا أراد البعض التوقف عند التفاصيل فكل التفاصيل حقيقية وأنا عشتها والفن في النهاية وجهات نظر·

هاني فوزي مؤلف الفيلم قال: أصور حياة أسره من البروتستانت أو الأرثوذكس أو الكاثوليك وهذا اختيار فني ليس مقصودا به أي شيء آخر وهل اذا صنعت فيلما عن أهل النوبة مثلا يكون من حق القاهريين ان يعترضوا لأنني لم أصنع فيلما عنهم في حين أنهم هم الأكثر عددا؟ وهكذا يمكن أن أصنع فيلما عن طائفة لا يزيد عدد أفرادها على مئة ومع ذلك سبق لي أن ألفت فيلما بطله قبطي أرثوذكسي وهو ''فيلم هندي'' ومشاهد الكنيسة فيه تم تصويرها في كنيسة أرثوذكسية·

ويضيف هاني: قدمت فيلما عن حياة فرد وليس عن العقيدة المسيحية، قدمت فردا متزمتا وليس عقيدة متزمته، والابطال في الفيلم نماذج فردية تمثل نفسها، مع ملاحظة ان الاحداث تدور في فترة الستينات واعتراضات من رفعوا الدعوى ليس لها منطق، مثلا بطل الفيلم يمتنع عن معاشرة زوجته وهو صائم، هذا فهمه -هو- للصيام وليس معنى هذا ان ما يفعله ينطبق على بقية المسيحيين، ويتطرق هاني لأحد أهم المآخذ وهو زواج الارثوذكس من البروتستانت ويقول الارثوذكس طوال الوقت يتزوجون البروتستانت والقول بغير هذا غير صحيح وكل ما في الأمر ان الطرف الانجيلي يتم تعميده في كنيسة ارثوذكسية ثم لماذا يتجاهلون ان الاحداث تدور في فترة الستينات·

وقال إن مشهد المعركة في الكنيسة الذي يعترضون عليه كان في دار مناسبات تابعة للكنيسة التي غضبوا من انها كنيسة بروتستانتيه، وحتى لو كانت مشاجرة فهى في كنيسة بروتستانتيه، واعتقد ان من رفع الدعوى لم يفهم الفيلم·

نجيب جبرائيل صاحب الدعوى يرفض الاتهام بانه لم يشاهد الفيلم أو لم يفهمه ويقول أنا مستشار في محكمة الاحوال الشخصية ولي وجهة نظر، وما يقوله المخرج والمؤلف مجرد تبرير لاعتدائهما على المقدس في عقيدتنا المسيحية، وتقديري ان المخرج مثل طفل يعبث بشيء لا يعرف عواقبه وعقابه ويؤدي للفتنه والصدام بين الطوائف، فالمخرج تعمد ان يصور كل مشاهد الفيلم في كنيسة بروتستانتيه كما لو كانت الطائفة البروتستانتيه هي الغالبه والعكس صحيح فالارثوذكس هم الاغلبية، كما اظهر الفيلم ان لدى الارثوذكس تزمتا مقيتا في ممارسة صلواتهم وصيامهم وعلاقة الزوج بزوجته، وبين الفيلم أن الديانة المسيحية فيها من التعقيد والتزمت بحيث يمكن ان تطيح بالعلاقة الزوجية في سبيل الصيام·

واكد المستشار جبرائيل ان الفيلم جعل الكنيسة وهي مكان مقدس مكانا للقاء العشاق كما تحول الفرح والمأتم الى معركة شرسة داخل الكنيسة، واكد ان رسالة الفيلم ليست واضحة واساء الى المسيحيين الارثوذكس ولتاريخ وطقوس الكنيسة القبطية والتي شهد لها العالم بأكمله· كما ان الفيلم يثير الفتن الطائفية ويكدر السلام الاجتماعي ويزدري طائفه لها وجود قانوني في مصر وهي طائفه الاقباط الارثوذكس ويمكن ان يحدث صداما بين الطوائف المسيحية في مصر ويؤلب طائفة ضد أخرى، وقال: ليس الهدف من الدعوى القضائية ان اقول ارجعوا الى الكنيسة الارثوذكسية لان الكنيسة ليست جهة رقابية ولكن حتى تستقيم الامور يجب ان يستطلعوا رأي الكنيسة فيما يتعلق بالعقيدة ولا اعترض على قصة الفيلم، وانما على الاخطاء الدينية·

وقال اكرام لمعي راعي الكنيسة البروتستانتية والذي اختصمه المستشار جبرائيل: لم اقرأ السيناريو ولو عرض عليّ لأقرأه لرفضت، لان الفيلم لم يصور بأكمله داخل الكنيسة والقصة بلاشك خيالية من إبداع المؤلف وطلب مساعدتي في جانب محدد فقط من الفيلم ولأن الرقابة وافقت على السيناريو فان رفضي سيكون مشكلة، ولذا قبلت التصوير وحتى الشكر الذي وجهته اسرة الفيلم لنا ككنيسة طلبت رفعه من المقدمة حتى لا يساء الفهم· ونحن ضد أي إساءة للكنيسة بجميع طوائفها، كما أننا ضد الرقابة بكافة أشكالها لأننا لسنا أطفالا، وقد استفاد صناع الفيلم من الضجة التي حدثت بشكل لم يكونوا يحلمون به·

الإتحاد الإماراتية في

09.07.2004

 
 

أسامة فوزي

مخرج يسبح ضد التيار

راشدة رجب

لم يكد المخرج المصري أسامة فوزي يخرج بمساندة مفكرين ومثقفين منتصرا في معركته مع الرقابة من أجل عرض فيلمه المثير للجدل "بحب السيما" الذي يعرض لأسرة قبطية "متزمتة"، حتى وجد نفسه في مواجهة جديدة مع عدد من رجال الدين الأقباط، أبدى إصرارا على خوضها والسباحة ضد التيار.

فقد اشترطت الرقابة على فوزي في مرحلة ما حصول الفيلم على موافقة الكنيسة القبطية، لكن المخرج رفض وسانده مفكرون ومثقفون حتى تقرر عرض الفيلم بدون هذه الموافقة.

وبعد أسبوعين تقريبا من بدء عرض الفيلم تقدم 40 مصريا بينهم 11 من كهنة الكنيسة القبطية ببلاغ إلى النائب العام، يطلبون فيه منع عرض الفيلم؛ بدعوى أن فيه "ازدراء فاضحا للعقيدة المسيحية"، حسبما صرح أحد هؤلاء الكهنة القمص مترياس نصر لمجلة "روز اليوسف" في عدد السبت 10-7-2004.

وقال القمص إسطفانوس ميخائيل -راعي كنيسة العذراء بمصر الجديدة، أحد مقدمي البلاغ- للمجلة نفسها: إن الفيلم "وراءه مؤامرة صهيونية تستهدف هدم الدين المسيحي من أساسه".

لكن المخرج أسامة فوزي الذي حصل فيلماه "عفاريت الإسفلت" و"جنة الشياطين" على عدة جوائز فقد اعتاد مقاومة التيار، مؤكدا "أحب أن أعمل في السينما المصرية رغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها، أحب جدا هذا التحدي".

فيلم ضد الخوف

وعندما سألته "إسلام أون لاين.نت" السبت 10-7-2004: ألم تكن تتوقع كل هذه المشاكل؟ أجاب أسامة فوزي : "لم أفكر بهذه الطريقة. وأرى أن أي فيلم لا بد أن يحمل هذا القدر من الجرأة. لكننا لم نعتد على ذلك خاصة في السنوات الأخيرة حيث انتشرت الأفلام السطحية التافهة، ولا نناقش أي قضية بجدية بل نهزر ونهرج".

وأضاف: "مناقشة أي قضية بجدية لا يؤدي إلى الخوف. والفيلم ضد الخوف، ويدعو لأن يمتلك الإنسان قدرا أكبر من الشجاعة في مواجهة وحب الحياة والتعامل معها دون تعصب".

وتدور أحداث الفيلم في فترة الستينيات وبالتحديد عامي 196 و1967، ويؤكد المخرج أن "تنفيذ الفيلم في فترة الستينيات أصعب، إلا أن تلك الفترة تعطينا حرية أكبر في مناقشة موضوعات ربما لم يكن ليسمح لنا بمناقشتها بنفس القدر من الحرية لو أن الأحداث تدور حاليا".

ورغم أن الفيلم يحمل كراهية واضحة للعهد الناصري (1954-1970) ويقدمه في صورة الأب كرمز للقهر.. يرى أسامة فوزي أن نقده لفترة بعينها لا يعني كراهيتها.

ويوضح: "مثلا أنا لا أكره شخصية الأب في الفيلم؛ فرغم قسوته على ابنه فمن الواضح جدا حبه له. المشكلة فقط هي فكرة الوصاية أو السيطرة والقهر من شخص يحبك ويدعي أنه يعمل لصالحك".

ويضيف: "وهذا ينطبق على عبد الناصر؛ فلا يستطيع أحد أن يشك في وطنيته وعمله لمصلحة الشعب، لكنه مثلا اختار الاشتراكية التي ربما رآها أنسب لنا، دون أن نُسأل كشعب عما نريده. وعندما جاء السادات وحولنا للرأسمالية لم نُسأل أيضا، ولم يتم إعدادنا لهذا التحول".

وكما يعرض الفيلم للقهر على مستوى الأسرة فإنه يقدم بشكل غير مباشر قهر المجتمع، وهو الذي يدفع الأم في الفيلم لقهر أبنائها في النهاية فتقول لهم: "أنت لازم تطلعي مهندسة، وأنت لازم تطلع دكتور"، حتى لا يقول أحد إنها لم تستطع تربية أولادها أو "أنها رمت العيال وراحت تتجوز". فاضطرت أن تضحي بسعادتها ورفضت الزواج.

"بحب الحرية"

وهو يرى أن "الفيلم ضد كل سلطة.. ليس فقط السلطة السياسية، ولكن سلطة الأب في الأسرة، والمدرس في المدرسة، والطبيب. والطفل يمثل نداء الحرية، والسينما هنا هي معادل الحرية (بحب السيما بمعنى بحب الحرية)".

ويعد تناول الفيلم للتطرف في فترة الستينيات مثيرا للدهشة، خاصة أن هذه الظاهرة قد تنطبق على المجتمع المصري اليوم، إلا أن المخرج يقول: "عندما نتكلم (يقصد نفسه هو والمؤلف) عن الستينيات فلسنا بمعزل عن الواقع الذي نربط المتفرج به دائما عن طريق الراوي".

وأضاف: "وما نريد أن نقوله أننا ما زلنا نعاني لهجة التعصب حتى الآن. ويمكن أن أطلق عليه تزمتا دينيا. والتزمت الديني موجود في كل عصر؛ لأن أي فكر أو أيديولوجية معينة يعتقد فيها مجموعة من الناس لها تأويلات متطرفة".

مشاكل رقابية

وأضاف أن هذا "التزمت الديني" هو الذي أدى لرفض رقيبة مسيحية لسيناريو الفيلم، بينما وافق عليه ثلاثة رقباء آخرين.

وتابع: "ولأن الفيلم يتناول أسرة مسيحية اضطر رئيس جهاز الرقابة إلى تكوين لجنة، تضم: د.يونان لبيب رزق، والناقدين مصطفى درويش، وأحمد صالح أجازت السيناريو".

وأضاف: "ونتيجة لمشكلات نظام الرقابة كانت نفس الرقيبة ضمن لجنة أخرى شكلت وضمت أحد عشر رقيبا شاهدوا الفيلم، وكانت العضو الوحيد الرافض".

ورغم الثناء الشديد على الفيلم من جانب اللجنة قرر د.مدكور ثابت رئيس الرقابة على المصنفات الفنية عرض الفيلم على الكنيسة القبطية؛ وهو ما رفضه صناع الفيلم، وأقاموا عرضا خاصا رأى فيه رجال الفكر والإعلام والفنانون ضرورة عرض الفيلم كاملا؛ مما أدى لتراجع الرقابة عن موقفها.

وكون د.جابر عصفور لجنة تضم د.أسامة الغزالى حرب، د.قدرى حفني، د.هدى بدران، والناقدين ماجدة موريس وكمال رمزي الذين أبدوا إعجابهم الشديد بالفيلم. وتم حذف بعض جمل حوارية معظمها خاص بمشهد المعركة في الكنيسة كما تقرر عرض الفيلم للكبار فقط.

رسالة الفيلم

دعوة الفيلم لقهر الخوف تدفع للتفكير في مشهد نهاية الفيلم الذي يموت فيه الأب؛ فقد سبق هذه النهاية مشهد رائع تعانق فيه الغروب مع تحول شخصية الأب؛ فرأيناه يركب الدراجة واضعا أمامه ابنه في رقة وحنو لم نعهدهما به منذ بداية الفيلم، وهو مشهد أقوى من مشهد النهاية.

لكن المخرج أسامة فوزي يؤكد أنه يختلف تماما مع هذا الرأي؛ فهو يرى أن "في هذا النوع من الأفلام لا بد أن نرى الأب وهو يموت، ولا يصلح أن نتخيل موته. فقد مات وهو يصلى كما تمنى دائما، ولم يمت كافرا كما قد يظن البعض، خاصة بعد مشهد مناجاته لله، مؤكدا أنه لا يحبه بل يخاف منه".

وأضاف: "ظهرت على وجه الأب ميتا علامات السعادة والارتياح بعدما استطاع أن يسعد أسرته ويفهم الطريق الصحيح للإيمان. وكان لا بد أن نرى الأم وهي تتسلم السيطرة من الأب".

وتابع المخرج: "لكننا تعودنا أن نشاهد الأفلام بأفكار مسبقة، ونتصور مشاهد نهايتها. وأنا أحب أن أعمل ضد توقعات المتفرج. وقد أخذ الفينال (مشهد النهاية) شكلا رمزيا عكس الدراما الموجودة طوال الوقت وهذا مسموح".

واعتبر أنه "لا بد من هذا المشهد (الطفل لا يعبأ بموت جده، ويستمر في مشاهدة التليفزيون ضاحكا) الذي يحمل تطلعا إلى المستقبل؛ فالطفل المعزول عن العالم يصر أن يكمل حياته كما يريد، ويختار ما يحبه. وعلى مستوى الشخصيات الدرامية فقد توفي الجد الذي كان يربطه بهذا العالم، وسافر الخال الذي جعله يحب السينما، ولم يبق رجلا سواه في العائلة".

ويشير أسامة فوزي لاهتمامه برد فعل الجمهور تجاه أفلامه من أجل اختيار فيلمه التالي "ففيلماي: عفاريت الإسفلت وجنة الشياطين صادمان، ويواجهان المتفرج بقسوة؛ إذ كنت أشعر في هذا الوقت أن المجتمع يحتاج إلى صدمات حتى يفيق من ثباته وحالة عدم الإحساس واللامبالاة التي أصابته".

وقال: "كنا لسنوات نقدم الأفلام لنطبطب على الناس، ونقول لهم: إن الحياة جميلة رغم مساوئها، ونحن شعب من الأبطال يستطيع أن يقاوم ويتحايل على الحياة، خاصة الطبقة المتوسطة والمهمشين. ورأيت أن هذا يساعد على أن تظل الأوضاع كما هي".

وتابع: "وفي فيلمي الثالث بحب السيما قررت أن أتصرف بشكل مختلف، محاولا التأثير على المشاهد ولكن بحنو. فالفيلم أيضا يحمل نوعا من الصدمة والاستفزاز ولكن بشكل قائم على الوجدان والمشاعر".

إسلام أنلاين المصرية في

10.07.2004

 
 

متظاهرون لم يروا الفيلم.. يقودهم قساوسة لم يروا الفيلم.. يحتجون على فيلم لا علاقة له بالكنيسة:

..تسقط "السيما"

القاهرة/ وائل عبدالفتاح

ليست هذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها مظاهرات ضد فيلم سينما.

خرجت المظاهرات ضد فيلم سكورسيزي الشهير "الاغواء الأخير للمسيح". المظاهرات أعطت للفيلم قوة إضافية ووضعته على قائمة أفلام الصدمات. أي أفلام تخرج وتتمرد على الصور الجاهزة.

بمعنى آخر. انتهت المظاهرات. وأصبحت علامة على نظرة متعصبة تكره حرية التعبير.

وعاش الفيلم.

هكذا فان المظاهرات ضد فيلم بحب "السيما". لن تمس الفيلم. بل ستمنحه قوة إضافية لأنها تحدث صدمة في مجتمع راكد لا يريد ان يرى نفسه. مجتمع سعيد بمنطق النعامة التي تخفي رأسها في الرمال.

لكن المظاهرات تكشف ان هناك من يلعب الآن على ورقة الاضطهاد الديني. يستغلون حالة اليأس التي يعيشها ملايين الشباب في مصر ويحركونهم مثل القطيع في حرب وهمية.. كما حدث في كاتدرائية العباسية يوم الاربعاء أثناء اجتماع البابا الاسبوعي.

المظاهرات هي الحلقة الثالثة في حملة التحريض ضد فيلم "بحب السيما". الأولى بدأت في الكنائس بتعليمات مقاطعة الذهاب إلى الفيلم لكي يحقق خسارة اقتصادية.

الحلقة الثانية كانت مذكرة إلى محكمة القاهرة للأمور المستعجلة تطالب بوقف الفيلم تلاها بلاغ إلى النائب العام من 11 كاهناً من الكنيسة القبطية والمستشار نجيب جبرائيل صاحب دعوى الأمور المستعجلة (تأجلت إلى 24 يونيو).

الحلقة الثالثة كانت هي المظاهرات التي تستغل شباباً متحمساً لم ير الفيلم لكنهم على طريقة "الغازية لازم تنزل" اندفعوا في حالة هياج هستيري حتى ان احد المتظاهرين قال لنا: "... لم ار الفيلم لكن ما سمعته يكفي لكي أطالب بإعدام كل من شارك فيه..".

الإعدام؟!

انها حالة من التعصب والهياج النفسى لجموع كبيرة لم تعد قادرة على التعبير عن نفسها سياسياً أو اجتماعياً (فالاقتراب من السياسة خطر.. والمجتمع مغلق امام طموحات الغالبية البعيدة عن الامتيازات). لم يعد سوى الدين يفجر الطاقات المكبوتة. وهذا ما يلعب عليه رجال الدين وزعماء الهستيريا الدينية.. مسلمين ومسيحيين.. وهي حالة لابد من تأملها (لا مجرد ادانتها فقط).

هتافات عمياء

تجمع أكثر من 500 شاب امام مقر اجتماع البابا شنودة في تمام الساعة السابعة وهم يحملون لافتات تقول: "الاقباط.. سلام لا استسلام".. لن نسكت عن الازدراء بعقيدتنا... الغضب المقدس آت..".. "يسقط الإعلام الهدام".

المجموعة الأولى استقطبت مجموعات أخرى في ظل عدوى الغضب وبدأت الهتافات:

"بحب السيما دسيسة جديدة لضرب الكنيسة"

"سيبونا نعيش من غير تشويش"

"اسامة فوزى يا وضيع... حق الكنيسة مش ها يضيع..".

"بالروح بالدم نفديك يا صليب"

"مش هانوطي.. مش هانطاطي... خلاص بطّلنا الصوت الواطي"

"لك الله يا كنيستنا..".

ويبدو هؤلاء الشباب محبطين تظللهم سحابة اليأس.. يرددون كلاماً كأنه اعلان يعاد بثه بدون تفكير. لم يشاهدوا الفيلم لكنهم سمعوا عنه. فقط سمعوا. أي منطق الوشاية والإشاعات. وهو منطق تستخدمه تنظيمات سياسية فاشية تهدف إلى خلق بروباغندا تحرك "قطيعاً" من الناس لا يفكرون بل يشحنون بغرائز الانتقام. هل هذا ماحدث في الكنيسة؟

لا احد يهتم. لا الرهبان. ولا المسؤولون الذين يتحدثون باسم "شعب الكنيسة". البابا نفسه تفادى الدخول في القضية وتجاهل الرد على الأسئلة حول الفيلم والبلاغ الموجه إلى النائب العام ضد الفيلم وفنانيه.

بل ان الانبا موسى اسقف الشباب ( الذى يوصف بانه من جناح معتدل نسبة إلى ان هناك جناحاً متطرفاً..) لم يرفض هذه النظرة الضيقة إلى السينما وقال انه لم يشاهد الفيلم لكنه "كان يفضل ان يعرض على رجال الدين قبل التصريح به حتى لا تحدث هذه المشاكل".

هذا يعنى ببساطة ان هناك رغبة عارمة في اعلان تدريجى لسلطة رجال الدين. وكما يفعل رجال الدين في الأزهر وهم يوسعون صلاحيتهم ويعلنون كل أسبوع عن قرار مصادرة كتاب وتتلقف وسائل الإعلام منهم القرار بدون مناقشة حق الأزهر القانوني في المصادرة. يفعلون هذا ليستقر في اذهان الجميع سلطة فرضت بالأمر الواقع.

رجال الدين المسيحيون يريدون نصيبهم من هذه السلطة. يريدون فرض نظرتهم على الفن والتفكير والإبداع. لان هذه هي مساحة حرية العقل التي يمكن من خلالها التحكم والسيطرة على المجتمع .

يريدون ان ندافع عن تهم اعلنوها بمنطق التفتيش في النوايا.
يريدون محاكم تفتيش جديدة.

والا فهم سيحركون الجمهور المحبط اليائس الباحث عن فرصة لاعلان صوته. وخاصة اذا كانت القضية تخص الدين. يخرجون صوتهم المكتوم طويلاً ويتحركون تحت تأثير مخدر يسري مع أوامر كأنها تأتي من سلطة الهية بعيدة.

هذا تقريباً ما فعله القساوسة في الحملة على "بحب السيما" بزعامة القمص مرقس عزيز الذي قال براحة ضمير مشهودة في "المصور": ".. سنظل وراء الفيلم حتى لو طارت فيها رقاب". تحريض واضح. وتهديد بالغ العنف. انه يلعب بقدرته على تحريك المشاعر الغاضبة لشباب لا يجد طموحاته في بلد مهزوم سياسياً و اقتصادياً. بلد تحتله وتتركه حكوماته فريسة لمؤسسات الفساد التي اصبحت أكبر من البلد. وهم شباب لا يجدون تعبيراً عن أنفسهم الا تحت مظلة كيان كبير مثل الدين. هؤلاء هم جمهور أشخاص مثل القمص عزيز والأحد عشر كاهناً الذين تبعوه في حملة التحريض على الفيلم.

هؤلاء هم وقود النار التي يشعلها رجال دين يبحثون عن سلطة ونجومية باسم الدفاع عن الدين.

هكذا تحركت "كتلة الغضب"على ارض من أوهام ودعاية هستيرية روجها المتطرفون في الكنيسة.. وسارت جموع الغاضبين منومة بسحر الدفاع عن دينها لتخطئ الهدف تماماً.

قاطعوا.. قاطعوا

في مستوى آخر هناك على الانترنت الآن حملة منظمة لمقاطعة فيلم " بحب السيما".

رسالة بالبريد الالكترونى تصل إلى كل عناوين المسيحيين فقط.. تقول".. إلى كل أصدقائي: لقد شاهدت بنفسي فيلم بحب السيما و رأيت فيه كم الإهانة الموجهة إلى المسيحيين من إظهارهم شتامين وزناه حتى داخل الكنيسة وفي الإجمال منحلين أخلاقياً.. مع وجود عدد هائل من الألفاظ الخارجة التي يعف لساني عن ذكرها و يعاقب عليها القانون وأتعجب عن إجازتها من قبل الرقابة؟!!فضلاً عن وجود العديد من المشاهد الجنسية الفاضحة الخارجة عن حدود المنطق والمعقول.. الفيلم لم يعرض شخصية أساسية أو ثانوية واحدة مسيحية سوية بل على العكس كلهم غير متزنين ومرائين يفعلون كل المبيقات(يقصد الموبقات) والأفعال الشائنة حتى داخل الكنائس وتحت الصليب.. .. لذلك اطلب منكم مقاطعة هذا الفيلم حتى لا ينجح.. و إرسال هذه الرسالة إلى كل أصدقائك..".

هذه طبعاً رسالة تحريض.. و ليس رسالة تعبير عن رأي.

رسالة تطالب المسيحيين باعتبارهم كتلة منفصلة مقاطعة فيلم سينمائي لا يعجب بعض رجال الدين.

والرسالة قادمة عبر موقع اسمه "زيتون" نسبة إلى ظهور العذراء في كنيسة الزيتون عام 1968. وهو موقع يهتم بالمعجزات والكرامات. مكتوب باللغة الانجليزية باستثناء بعض ترمات الكتاب المقدس أو الرسائل الالكترونية. وعادة ما يهتم بشؤون اللاهوت والعقيدة.

الغريب ان رسالة التحريض لا تحترم عقل من ترسل إليه. لانها تطالبه بمقاطعة فيلم لم يشاهده. بل وتعتبر ان النظر بعين واحدة وهي النظرة الفاشية هي الطريقة الوحيدة لمشاهدة فيلم سينما. والاهم انها تعتمد على طريقة ناجحة في الدعاية وهي اعتبار ارسال الرسالة إلى الاصدقاء هو عمل من اجل الدفاع عن قضية.

القضية هنا هي اهانة المسيحيين.

أي انها تلمس جرحا تلعب عليه أطراف كثيرة.

جرح فيه جزء من حقيقة.

وكل الذين تربوا في مناخ محافظ ومتزمت سيعتبرون ان الرسالة إضافة إلى تعليمات القمص مرقص عزيز بعدم الذهاب إلى الفيلم (لتحقيق خسارة اقتصادية..) هي جزء من الدفاع عن وجودهم.. اثبات انهم فاعلون في الحياة.. هكذا بدون تفكير ابعد من اتباع التعليمات.

هذه بالضبط نغمة سخيفة تحدث عندما تبدأ حملة باسم: الفيلم يسيء إلى سمعة مصر. أو.. "الفيلم يسيء إلى الاسلام".. والآن:"الفيلم يسيء إلى المسيحية".

في كل حملة هناك محترف الجنازات.

وملقن الملقن وظيفة كانت مهمة في المسارح الكلاسيكية التي تتطلب من الممثل حفظ النص والتقيّد به . هذه المسارح تقدس النص وتعتبر الممثل في مهمة يومية لاعادة خلقه على خشبة المسرح. وهو هنا مجرد أداة لتقديم النص للجمهور العريض. في هذه المساحة الضيقة أبدع ممثلون فائقو المهارة تحولت النصوص على أيديهم إلى كتل حيوية أشعلت حماس الجمهور وأمتعته. وكان الملقن يلعب هنا دور جرس الإنذار الذي يذكر الممثل بالنص ويعطيه مفاتيح الدور. لكنه أبداً لم يخرج من موقعه ليمارس على الممثل سلطة مباشرة و يوقفه عن التمثيل لانه خرج قليلا عن النص.

لكن الملقن وظيفة مهمة ايضا في كل التنظيمات السياسية والدينية وغيرهما من أي تنظيمات مغلقة. هو الذى يمرر المعلومات لعضو التنظيم السري والذي يستمع إلى الاعتراف في الكنيسة ويلقن الميت ما سيقوله يوم الحساب وهو على باب المقبرة. انه موجود في لحظات التنفيذ. الحافظ والمقدس للتعاليم والنصوص إلى حد الغاء نفسه من اجلها. لا وجود له بعيدا عنها.

ابحثوا عنه انها ايامه.

توكيل الله

القمص مرقص عزيز سعيد هذه الايام. صورته في كل الصحف. اسمه على كل لسان. فهو يقود حملة "مقدسة" ضد فيلم "بحب السيما". بدأت بالصحف والكنائس والانترنت.. حتى وصلت إلى المحكمة.

لماذا ؟!

هل يريد ان يلعب الدور الذى لعبه الشيخ يوسف البدري في التسعينات.. الذي غلبته هواية رفع الدعاوى القضائية على كل شيء. اثباتاً لوجوده ولموقع يتخيله وهو: المتحدث باسم الاسلام والمسلمين. مع ان احداً لم يوكله طبعاً.

القمص عزيز وهو يكتب أو يصرح في الصحافة. تشعر انه مستمتع. يتحدث بثقة من يملك توكيلا ليتحدث باسم عموم المسيحيين.

يخاف أي احد الاقتراب منه لانه يظهر له التهمة المرعبة المخجلة لاي احد: انك تزدري المسيحية.

عندما يرفع هذه التهمة يبث الرعب ويشعرك بانه يملك سلطة التشنيع عليك بتهمة خطيرة. لانه في هذه الحالة لن يكون مثل الشيخ البدرى يتهمك في دينك ويفتش في نواياك.. بل سيزيد عليها انه يتهمك بالعنصرية واثارة الفتنة الطائفية.. وازدراء دين ليس هو دين اغلبية المصريين. أي انك تشارك في اضطهاد المسيحيين و.. إلى آخر قائمة اتهامات.

المدهش انه يتحدث أثناء توجيه التهم عن التسامح والاخاء.. والكلمة المستهلكة: الوحدة الوطنية.

ولا يناقشه احد طبعاً لماذا يمكن ان نعتبر العلاقة بين المسلم والمسيحى في مصر.. وحدة ؟! والوحدة تعني ان هناك عنصرين العلاقة بينهما يمكن ان تصبح وحدة.. لكن المجتمع المصري ومنذ نهاية الدولة العثمانية يحلم ويفكر في ان يصبح مجتمعا حديثاً.. المواطنة فيه لا تعتمد على جنس أو لون أو دين أو عائلة. ليس مجتمعا اسلامياً. بل مجتمع يقبل بتعدد الاديان.. ويقبل حتى غير المتدينين. هذا هو الحلم الذى يحاول المصريين تحقيقه قبل الاصابة بفيروس المجتمعات البدوبة احادية اللون والدين والعقل. اصبحنا في نظر المتعصبين: مجتمعا اسلامياً. والمسيحيين: اقلية.

وفي هذا المناخ المريض يظهر عشاق الشهرة. وتجار الكوارث. وندابات الطوائف.

شلة الحماية

هذه ملامح مجتمع مهزوم. يبحث فيه الجميع عن ولاءات صغيرة: الدين وداخله الطائفة. البلد.. وداخلها العائلة. مركز القوى.. و"الشلة السياسية".. هكذا لا يعترض المستشار نجيب جبرائيل على ان يسبق اسمه وصف: المحامي القبطي مع انها مهينة أكثر مئة مرة من فيلم مثل "بحب السيما" الذي تحمس وتقدم إلى محكمة القاهرة للأمور المستعجلة بدعوى قضائية لوقف الفيلم.

لماذا لم يعترض المستشار الذى كان رئيساً لمحكمة الأحوال الشخصية على ان يوصف بديانته في مجتمع محترم ؟!

لماذا لا يفكر المستشار بمنطق آخر. ربما هو يعتقد انه يدافع عن عقيدته. بالضبط كما يفكر شريكه في الدعوى القضائية القمص عزيز. لكن هل العقيدة هي المهددة.. ام المجتمع هو المهدد؟!

يمكننا ان نقول بان الخطر الاساسي على المجتمع . هذه اجابتنا التي نضيف اليها: بان الخطر اغلبه يأتي ممن يشعلون النيران في أي قضية صغيرة باسم دين أو عقيدة.

لأنه ببساطة عندما تعطي لنفسك حق التحدث باسم الدين.. أو حتى باسم المجتمع فانك تعطي لنفسك قداسة تمنع عنك النقد والمواجهة أو الاختلاف.

ساعتها ستصاب بحماسة زائدة في اقل تقدير وهذا يحدث كثيراً مع القمص عزيز مثلاً. فعندما فتحنا على صفحات "صوت الامة" قضية:"السمكة التي يضعها بعض الاقباط على سياراتهم.." غضب القمص. واعتبرنا ضد المسيحية. وضد الوحدة الوطنية. وبعد اقل من شهر ظهرت تصريحات للبابا شنودة في الصحف ترفض "السمكة" و تطالب بالامتناع عنها. سنقول هنا غلبت الحماسة القمص ولم يفرق بين من يدافع عن حق المسيحي في ان لا يعامل كمسيحي.. بل كمواطن مصري له كافة الحقوق وعليه نفس الواجبات ..كنا نطالب بالغاء خانة الدين من البطاقة الشخصية.. لكنه رأى فقط ان يقتنص الفرصة ليمارس سلطة التحدث باسم المسيح .. والمسيحيين.. بل والوحدة الوطنية.

لماذا يصر القمص. و من يسير على دربه على ان تتحول كل قضية تمس شخصاً مسيحياً إلى قضية حساسة.

ولماذا رأى في "بحب السيما".. "اساءة للكنيسة والمسيحية".. مع ان الفيلم عن المجتمع وليس عن الدين. عن فرد وليس عن الكنيسة.

هل يمكن ان تذهب إلى البقال و تطلب منه دواء للمصران الغليظ؟!

بساط الريح

انهم يفعلون ذلك. يذهبون للسينما ويحاكمونها بمنطق غير الفن. مثل الذى يعترض على مشهد بساط الريح في فيلم فريد الأطرش لأنه ضد قوانين الجاذبية الارضية.

بنفس المنطق يشاهدون فيلما عن نظرة بطل الفيلم إلى الدين المسيحي.. فيصرخون: هذه ليست تعاليم المسيح.

الفن لا يمكن ان يتعامل بمقاييس الدين.

الدين له حقائق مطلقة.

والفن حقيقته نسبية.

والبطل في الفيلم لايمثل شعباً و لا يمثل الا نفسه.

والمخرج والسيناريست.. والممثلون لا يقدمون الواقع بل نظرتهم للواقع.

يمكن هنا الاختلاف معها. اعترض عليها. قل انها لا تعجبك لكن ان تمارس سلطة الاتهام والتشنيع فهذا لا يخدم العقيدة ولا المؤمنين بها وأولاً و قبل كل شيء لن يخدم مجتمع يعيش على اعصابه مشدوداً بين استبداد سياسي طويل المفعول من جنرالات العسكر الذين رفضوا العودة إلى الثكنات بعد الثورة فانتحرت الديمقراطية ومازلنا نبحث عنها حتى الآن.. وها هم رجال الدين يرفضون العودة إلى جوامعهم و كنائسهم.. ولا نعلم إلى أي مصير سيدفعنا هوسهم بالشهرة ؟!

النظرة الضيقة

لابد طبعا ان تروج نظرية المؤامرة كاملة في مثل هذه الحروب الوهمية. احدى المتظاهرات تساءلت بيقين كبير: ".. . لماذا سمحت الرقابة الآن بالفيلم... الذي قالوا انه في العلب منذ سنوات ..لماذا في هذا التوقيت.. وبعد عرض فيلم آلام المسيح... هل هو رد على فيلم آلام المسيح..اعضاء مجلس الشعب اعترضوا على عرضه في القاهرة.. اشمعنى بقى فيلم باحب السيما هل لان الفيلم يشوه الاقباط..؟!".

احد كهنة الحملة قال للصحف تصريحات تضع المؤامرة في سياق أكبر:".. انا لم اشاهد الفيلم لكنني من خلال تقرير لجنة خاصة اؤكد انه ضمن مؤامرة صهيونية لتدمير المسيحية". مؤامرة كاملة الاوصاف.

الاهم انها تكشف عن طريقة "متخلفة" في مشاهدة الافلام. ترى الشخصيات و كأنها نماذج تدل على طائفتها أو جنسيتها أو مهنتها (وهي نفس الطريقة المتخلفة التي اعترض بها المحامون على فيلم الافوكاتو لان الفيلم يحكي عن محامٍ يستخدم الفهلوة في حل القضايا.. وهي ايضا طريقة شبيهة بالحجة التي استدعت بها مباحث الآداب يحيى الفخراني ومعالي زايد بتهمة ممارسة فعل فاضح علني لانهما في فيلم "للحب قصة أخيرة" يمثلان مشهد حب على الشاشة..).

هذه نظرة مرعبة للسينما. تتحرك بقوة رجال دين في الكنيسة اثبتوا انهم لا يختلفون كثيراً عن المتطرفين الاسلاميين.

هم يرون السينما من جانب ضيق جداً. تتحول فيه الآداب والفنون إلى مؤسسة أخرى من مؤسسات الحفاظ على استقرار الثقافة والمعرفة السائدة. لا تخلف هنا عن: الجامع والمدرسة والجامعة والإعلام وغيرها من مؤسسات مهمتها الوحيدة تدعيم أواصر النظام القائم ومحاربة كل رغبة صغيرة في الخروج عن المعروف سلفا.

لكن السينما فن.

وهذا يعني انها الجانب الارحب الذى يلعب فيه الانسان داخل ملعب العقل. يناوش كل مستقر لتبدأ الرحلة التي لا تنتهي في مسيرة المجتمعات الانسانية.. رحلة التطور والتجديد..

الفارق الوحيد ان المتطرفين في الجماعات الاسلامية يتحركون من منطق انهم اصحاب الحقيقة الوحيدة.

والمتطرفون في الكنيسة يتحركون من موقع الاضطهاد.

المستقبل اللبنانية في

12.07.2004

 
 

أسامة وهاني فوزي يختاران الأصعب...

"بحب السيما"

فيلم "حقيقي" في مواجهة "التصحر" السينمائي

أحمد رشوان

منذ أول أفلامه, "عفاريت الأسفلت", اعتاد أسامة فوزي أن يكون خارج المألوف, خارج سباقات الصيف وصراعات شباك التذاكر المريرة, منتمياً الى صنّاع السينما الحقيقيين, على رغم قسوة الثمن وقلة الإنتاج: ثلاثة أفلام في عشر سنوات, كان نصيب "بحب السيما" منها أربع سنوات قضاها أسامة بين إحباط مرير وتفكير في ترك مهنة السينما, بل الهجرة خارج مصر. ما أقسى ثمن الاختيار ورفض الاستسهال وصناعة الأفلام النظيفة (...), لكن بعد أن خرج مولوده الأخير "بحب السيما" إلى قاعات العرض يحق لأسامة فوزي أن يفخر باختياره, ويحق لنا أيضاً أن نفخر به, نفخر بكونه استثنائياً وكونه من صناع السينما الحقيقيين حتى وإن كلفه ذلك الكثير.  

كاتب سيناريو الفيلم هو الموهوب هاني فوزي, المقل أيضاً. نجده في التعاون مع أسامة فوزي في أعلى تجلياته وتسطع قدرته بوضوح في "بحب السيما" في التعبير عن عالمه الخاص. أليس هذا الفيلم الاستثنائي حصاداً إيجابياً لشخصين أحبا السينما بحق؟

ربما كانت السطور السابقة محاولة عاطفية للتعبير عن الترحيب بظهور فيلم جد مختلف وسط الظروف الحالكة التي تواجهها السينما المصرية منذ سنوات. لا ينضم "بحب السيما" إلى قائمة الأفلام الاستثنائية في السنوات العجاف فحسب, بل يتربع على قمة هرم الاختلاف والتحدي... يتحدى السائد والعقول الجامدة والأفكار السهلة, ويحطم الواجهة الزجاج الهشة التي يحتمي وراءها عشاق فرض الوصاية على المجتمع وأدعياء الفضيلة. يكشف سترهم بفيلمه... يناقش إدعاءاتهم ولكنه لا يلقي عليهم بالحجارة (...)

شعار طفل

"بحب السيما" هو الشعار الذي يرفعه بطل الفيلم وهو طفل سماه المؤلف نعيم (يوسف عثمان) واختار له الحياة في منتصف الستينات وسط أسرة مسيحية عائلها شديد التزمت يحمل اسم عدلي (محمود حميدة), والأم نعمات (ليلى علوي) تعمل ناظرة لمدرسة ابتدائية بائسة بعد أن أجهضت حلم فن الرسم الذي كانت تمارسه منذ سنوات, ونعيمة (جاسمين) الأخت الكبرى فتاة في سن المراهقة التي تتسلى بالأكل.

يربط الفيلم بين حياة هذه الأسرة التي يقترب رسم شخصياتها من الكاريكاتور وتُروى الأحداث من خلال وجهة نظر الطفل - بدءاً من أسمائها ومروراً بتصرفاتها حتى مظهرها الخارجي - وبين حياة مجتمع كامل يرزح تحت وطأة التغيير وينحو نحو الاشتراكية. إنه الاختيار الأنسب الذي جنح إليه المؤلف والمخرج لتمرير أفكارهما عبر الربط بين القهر المشترك الذي يعاني منه كل من "الأسرة" و"المجتمع", الربط بين نتائج غياب الديموقراطية ومحاولة فرض الوصاية بالترهيب تارة, وبالترغيب تارة أخرى. النتيجة الحتمية هي السقوط الأسري المقترن على المستوى السياسي بهزيمة حزيران (يونيو) 1967, ويتجلى ذلك بوضوح في مشهد سير الأب بالدراجة على الشاطئ ومعه الطفل أثناء الغروب وإحساسه بالألم, في توقيت متزامن حيث نستمع على شريط الصوت لخطاب التنحي بصوت عبدالناصر.

على المستوى الوجودي يطرح الفيلم تساؤلات عدة حول العلاقة بين الإنسان وربه. وكيف حوّل الخوف صاحبه إلى آلة عقيمة غير قابلة للتفاعل مع الحياة. هذه الآلة يمثلها الأب المتزمت الذي يكره مظاهر الحياة في تطرف واضح وقوالب معدة سلفاً من دون قابلية للنقاش. برع المؤلف في رسم شخصية الأب وفي رصد تحولاتها حتى موته. ومن المشاهد اللافتة للأب مشهد صلاته وتلصص الطفل عليه, ومشهد قيامه بترهيب الطفل في بداية الفيلم, فوجه الأب في لقطاته المكبرة يعتريه التشويه بفعل قرب المسافة والزاوية المنخفضة (فرق القامة بين الطفل والأب) فيعطينا إحساساً بأن الأب تحول إلى مارد شرير, وربما إلى شيطان بخاصة إن إضاءة المشهد تعتمد على عود الثقاب (...) ومشهد البار حيث يتناول عدلي الخمر للمرة الأولى في حياته وهو يتحدث عن عبدالناصر. في مقابلة نرى الطفل المفعم بالحيوية والحركة, العاشق للسينما بما تمثله له من إطلالة على الحياة, المحلق في أفق الخيال, المتمرد على السلطات بصورها كافة من الأب إلى الطبيب. كل هذه الأبعاد في شخصية الطفل نسجها هاني من وحي ألعاب الطفولة, بينما بنى أسامة هذه المشاهد تقنياً في شكل بصري خلاب, وخيال خصب يتواءم مع خيال الطفل. ففي قاعة السينما يرى الطفل العاملين فيها في هيئة ملائكة, ويرى أبطال الفيلم تحيط برؤوسهم الهالات المقدسة (...) وفي معمل التحاليل الطبية لم يجد حلاً للتخلص من الحقن سوى شرب المزيد من الماء ليتبول عليهم حتى يتمكن من الهرب, بينما يتكرر تبول الطفل أثناء عزاء الأب على المتشابكين في مشهد أشد قسوة لكنه لا يخلو من بهجة (...), إنها المساحة التي يخترقها الطفل بأفعال لا مسؤولة لكنها تنفذ عبر زجاج الطبقة المتوسطة المشروخ وتحطمه.

كشف الأسرار

إنه بذكائه الفطري وتلقائيته يكشف أسرارهم, فيهددهم من أجل تلبية رغباته الطفولية. فيشاهد خالته أثناء قيام خطيبها بتقبيلها داخل برج الكنيسة, ويضبطه أيضاً أثناء زيارته لها في منزلها وثمن السكوت بالطبع هو اصطحابه للسينما. كما يهدد أمه حينما يراها ترسم صوراً عارية. ولكن هذا الخط الدرامي الخاص بالأم وهوايتها في رسم الجسد العاري, وعلاقتها بمفتش التربية الفنية والفنان التشكيلي (زكي فطين) التي انتهت بالخيانة من أضعف الخطوط الدرامية بالفيلم لما اعتراه من مباشرة أدت إلى بروزه كمعادل للمكبوتات في شكل يفوق أهميته المستترة. وانعكس هذا الضعف على رسم شخصية الفنان وعلى حواره أيضاً.

ضعف هذا الخط لم يؤثر كثيراً في الفيلم بسبب تكامل الخطوط الأخرى والتي غذاها المؤلف بالتفاصيل وبخاصة حياة أسرة أم نعمات, حيث تقوم الجدة (عايدة عبدالعزيز) بتربية الدواجن, وكتابة التواريخ على البيض, وتتلقى معاكسات هاتفية جنسية, وتشاكس الحماة العجوز التي تسرق منها الطعام, بينما الأبن خال نعيم دائم الذهاب للسينما وهو الذي وضعه على بداية طريق حب السينما, والخالة (منة شلبي) في علاقتها بصديقاتها من الفتيات وكذلك علاقتها بجارها لمعي (إدوارد) الممتلئ المحب للطعام والذي يتحول عرسهما إلى معركة شرسة في ساحة الكنيسة بسبب تعنت الأب (رؤوف مصطفى). كل هذه التفاصيل تثري الخطوط الرئيسية. وإن كان هناك خط فاصل دقيق بين الرسم الكاريكاتوري للشخصيات الثانوية والمبالغة في الأداء, إلا أن الخطين كادا يتلامسان في بعض المشاهد, مثل التعثر المتكرر في خطوات لمعي, وحال الولهان المبالغة التي يعيشها الجار المراهق الذي يحب نعيمة والتي تحولت بعد مشاهد عدة إلى نمط تمثيلي.

مفاجأة

أما أداء الشخصيات الرئيسية فبلغ من الإتقان حداً كبيراً يعبر عن اهتمام أسامة فوزي بتوجيه الممثل وبخاصة شخصية الطفل والتي أداها يوسف عثمان والذي كان أداؤه بمثابة مفاجأة بكل ما حمله من تلقائية في الأداء وطزاجة في التعبير بعيداً من الكليشيه التليفزيوني في أداء الأطفال على الشاشة. أما محمود حميدة الذي شارك أسامة فوزي في أفلامه الثلاثة, فمن الواضح ارتفاع درجة التفاهم بينهما وهو ما انعكس على أداء حميدة الذي عبر بأدوات الممثل كافة عن مكنونات الشخصية, فكان تعبير وجهه ونظراته, وطبقة صوته في المشاهد المختلفة والتحولات التي مرت بها الشخصية كمن يسير على حد سيف, حتى وإن بدا في بعض المشاهد قليل من المغالاة مثل مشهد مناجاة الرب, لكن هذه المغالاة المحسوبة خدمت الشخصية ولم تفسدها. هذا إضافة الى الشكل الخارجي المتقن والنادر في السينما المصرية.

أما ليلى علوي فعبرت عن مأساة المرأة المقموعة التي تعاني من الحرمان الجسدي الناتج من انغلاق الزوج. والتي تحاول إخفاء رقتها وإظهار خشونة حتى وهي بصدد التعامل مع الأطفال مثل مشهد التعليمات في طابور المدرسة, ومشهد تعنيف الطفلة التي كشفت عن جسدها لزميلها. وهو ما ارتبط بعد ذلك بمشاهدها بعد وفاة زوجها حيث أصبحت أكثر قسوة.

من أبرز العناصر التي ساهمت في إبراز هذا التكامل الفني هو الديكور والإدارة الفنية لصلاح مرعي الذي عبر عن هذه المرحلة بكل تفاصيلها من شكل الأبنية (حتى التي صُورت في أماكن حقيقية ولم تُبن كديكور), والإكسسوارات والملابس, وكذلك تصوير طارق التلمساني الذي جسد روح الشخصيات بإضاءته وساهم في إضفاء أبعاد أكثر عمقاً على الصورة. ومونتاج خالد مرعي فحقق ارتباطاً وثيقاً بين المرئي والمقروء بين اللقطات. وكذلك سلاسة في التتابع على رغم عمق المحتوى.

أما سيناريو هاني فوزي فهو بالطبع العمود الفقري للفيلم, وإضافة الى قوة البناء وبراعة رسم الشخصيات. هناك فكرة الراوي الشاب الذي يروي الأحداث منذ أن كان طفلاً وهي تتلاءم مع طبيعة الموضوع ولم تعق السرد بأي شكل, بل ساهمت في انسيابيته. كما أن التفاصيل الغنية لم تخرجنا عن الإطار الحياتي لشخصياته, فلم نتوقف عند كون أبطال الفيلم مسيحيين, ولم نناقش انتماءهم لطائفة دون أخرى, حيث كان الزوج البروتستانتي متزوجاً من امرأة أرثوذكسية. أما التطرف فغير مقتصر على طائفة أو ديانة, لأن التطرف والتسامح موجودان من وجهة نظر صانعي الفيلم في كل الأديان وكل الطوائف. ولكن الأهم هو صنع فيلم يعبر في شكل حقيقي عن حق الإنسان في حب الحياة وخالقها وحب الفن وممارسته, وينادي بالبعد عن الخوف ونشد الحرية ومقت الديكتاتورية والتحكم في مصائر البشر من دون أي مباشرة أو خطابة. إن ما طرحه المخرج والمؤلف لا يتسق وحسب مع ما يحدث في مجتمعاتنا الآن من تطرف وتخلف وليس في الستينات فقط, لكنه يتسق في شكله الإيجابي مع رغبتهما في صنع سينما جميلة على رغم التضحيات والعقبات, ويعبر عن حبهما الكبير للسينما كفعل وفيلم وليس فقط شعار يرفعه بطلنا الصغير ويجلجل به في آذاننا "بحب السيما", لعل يستمع لهذا النداء طرفاً من الذين خربوها وما زالوا.

مشهد من "بحب السيما".

جريدة الحياة في

16.07.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)