كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

يوسف شاهين يهدينا تحفته الجديدة "اسكندرية... نيويورك"

نشيـد تمجيـديّ للحـبّ على إيقـاعـي الحنــين والذاكـــرة

جورج كعدي

إسكندرية نيويورك

   
 
 
 
 

يليق بالبعض أن يروي سيرته، ولا يليق بالبعض الآخر. يوسف شاهين من ذاك البعض الأول، حياته ثرّة، غزيرة المحطات والتفاصيل، ولطالما أتقن كشفها وتعريتها والإفصاح عن طابعها المركّب [تبعاً لشخصيته]، وبخاصة في ثلاثيته الذاتية المشهورة "اسكندرية ليه؟" [1978] و"حدّوتة مصرية" [1982] و"اسكندرية كمان وكمان" [1990]. وها هو يكمل فصول تلك السيرة في جديده البديع "اسكندرية... نيويورك"(*) على طريقة الشيخ العائد الى صباه، أو بالأحرى الى بدايات تفتّحه على الحب والمرأة والشغف بالفن تمثيلاً ورقصاً وسينما، في أميركا الأربعينات، زمن هاجر الشاب الاسكندراني المتعدّد الأصل والمنبع الثقافي [والده من أصل لبناني ووالدته يونانية] الى كاليفورنيا ليلتحق بمعهد باسادينا لإعداد الممثلين. هناك، ترتسم ملامح القدر الذي ينتظر ابن العشرين العائد في 1948 الى مصر ليبدأ مساره السينمائي منجزاً عام 1950 فيلمه الأول "بابا أمين"، دائباً في إنتاجه الغزير، نحواً من أربعين فيلماً في نصف قرن.

وإن تقاطعت سيرة يوسف شاهين مع معظم أفلامه وألمع مراراً الى تلك المرحلة الأميركية المعلّمة في شخصه وعمله السينمائي، إلا أنّ اموراً كثيرة ظلّت الى الأمس طيّ الذات، كأنها تنتظر أوان البوح والخروج من الذاكرة الى العلن المشهدي، فأتى في "اسكندرية... نيويورك" يكشف ما ضمر من تلك السيرة الغنية على هدي موقف انساني وسياسيّ وحضاريّ فرضته التطورات [السياسية في شكل خاص، وشاهين سينمائيّ سياسيّ بامتياز]، إنما في ثوب عاطفي نوستالجي لا يخلو من مرارة وأسى ومقارنة بين جيلين وزمنين وقيم انسانية وفنية متبدّلة.

***

الحبّ هو البدء والمنتهى في جديد يوسف شاهين. الحب ولا سواه. هو الدواء الأوحد لعالمنا المريض المتوحّش. لطالما دعا يوسف شاهين الى الحب في أفلامه خلاصاً من أمراض العالم، ولطالما مجّده وأنشده بالصورة. بيد أنه في ذروة تمجيد الحبّ وتحيّته هنا في "اسكندرية... نيويورك" يرى إليه سبباً كافياً بذاته لأن نحيا له ومن أجله، وان ننظر الى العالم والآخرين من خلاله، وان نتألم منه ونستسلم لناره المتوهّجة، وأن تأسرنا وتغزونا المشاعر الجميلة الناتجة منه، وان نبرأ به من ألم الوجود، وأن يكون الوجع والسعادة، الدموع والفرح، اللقاء والفراق، الحلم والواقع، البداية والنهاية. في الحب وحده الخلاص، منه نتعلّم التسامح وقبول الآخر. يوسف شاهين آخر رسل الحب في عالمنا، يهديه نشيد التعظيم والتمجيد، يحضّنا عليه ويسوقنا دامعين متأثّرين الى نيرانه الملتهبة مثلما عاش في أتونها ليخرج بحكمة الحياة الأبلغ.

تلك رسالة يوسف شاهين ومرامه، بل وصيته، أمدّ الله بعمره وعمر عطائه: الحب، الحب، ولا شيء سوى الحب. بورك هذا الشقاء.

***

ثلاثة أزمنة تتقاطع في "اسكندرية... نيويورك"، زمن المخرج يحيى في مرحلة عمرية ناضجة [محمود حميدة الذي لم يغزُ رأسه الشيب] ومرحلة متقدمة في العمر [محمود حميدة ايضاً وقد غزا رأسه الشيب] ومرحلة شابة في اميركا [احمد يحيى، اختيار ممتاز لدورين متوازيين]. مرة جديدة نحن ازاء بنية متراكبة، متقاطعة، متراصّة، من إياب وتقدّم مستمرين بحثاً عن الزمن المفقود على طريقة بروست، فزمن يوسف شاهين مشوّش وملتبس، من راهن وذاكرة، وكلاهما متداخل ومترابط في نسيج واحد محوك بخيطان الحلم ["الحياة حلم" بحسب كالديرون]، وكم في شريطه من حلم وواقع يتصلان توليفاً بمشهد واحد موصول الى درجة الاختلاط القصوى. الانسان إبن ذاكرته. راهنه ثمرة ماضيه وتشكلاته وترسبات لاوعيه او وعيه الراسخ غير المنزاح.

لم يُشفَ يوسف شاهين من المرحلة الأميركية، وهذا مبرّر عودته اليها اليوم، إذ كانت مرحلة التفتّح على العشق [المرأة الأولى في حياته شاباً فتياً وافداً من اسكندريته بتولاً خجولاً]، وعلى عشق المسرح والتمثيل والسينما والافتتان بعالم هوليوود ونجومها، الراقصين بخاصة. اميركا كانت الحلم [أرض الأحلام] والمثال عهدذاك.  كانت موطن التكوّن والإعداد وانطلاق المشاعر والرغبات وتفتّق الموهبة [في التمثيل بدءاً، وفي أدوار شكسبيرية برع فيها يوسف/ يحيى الشاب] قبل أن يقوده الممثل فيه الى الإخراج السينمائي وإدارة الممثلين. أميركا المعشوقة هذه لم تكن اميركا الممقوتة من يوسف/ يحيى اليوم. لم يكن على خصام معها من جرّاء سياستها الظالمة والمنحازة ضد العرب ومع اسرائيل. اميركا المنقلبة، في نظر يوسف شاهين، تحوّلت وتبدّلت ولم تبقَ تلك التي عرفها في أربعينات الهوى والشباب والتحصيل الأكاديمي. هي اليوم أميركا التي تمزّق مشاعره بين حب وكره، بين وفاء وتنكّر، بين ذكريات عذبة طيبة وصورة قبيحة راهنة. يحبّها لماضٍ له سعيد فيها، ويمقتها لحاضر جائر تتكشف عنه معاداةً للعرب وقضاياهم، وفي مقدمهما فلسطين الجرح النازف، والعراق المحترق الآن. ومع ذلك، لا يرى شاهين مفراً من مجادلة أميركا ومحاججتها، باللين والمنطق حيناً، وبالقسوة أحياناً. لا يبغي قطع شعرة معاوية معها، أو حبل السرّة الذي يربطه برحمها. يحب منها وجوهاً ذات صلة بماضٍ لا يبارحه ويستوطن ذاكرته ووجدانه. ويرفض وجوهاً أخرى من أميركا لم تبق تلك التي عرفها وأودعها جزءاً من روحه وماضيه. أميركاه هي اميركا معهد باسادينا حيث دراساته المسرحية الأولى ومرحلة الإعداد المتوّجة، بحسب الفيلم والسيرة الحقيقية، بدرجة التخرّج المتميزة. أميركاه هي اميركا حبّه الأول الكبير للإيرلندية الأميركية الجميلة جينجر [يسرا اللوزي شابة، ويسرا ممثلته الأثيرة في الشخصية وقد تقدمت في السنّ]. أميركاه هي اميركا الفن والمسرح والسينما وأفلام فينشنتي مينيللي ووليم ديترلي ودوغلاس سورك وفرد استير وجينجر روجرز وجين كيلي وسائر نجوم الميوزيكال الأثيرين لديه. أميركاه هي اميركا الحب والرقص والفرح والنجاح وتحقيق الطموحات في "أرض الأحلام" آنذاك.

***

أعساه شريط ذاكرة وسيرة وحنين أم شريط "تصفية حساب" وإعلان موقف وخطاب سياسيين حيال اميركا ما صنعه يوسف شاهين؟ لعلّه، في تقديري، الأمران معاً، وعلى نحو متوازن، جدليّ اشتهر به السينمائي العربي ذو التكريس العالمي. هو نشيد حب مؤثّر من ناحية، ورسالة سياسية من ناحية ثانية. يسعى الى القول لأميركا لم أبقَ أحبك اليوم مثلما احببتك بالأمس، تبدّلت أنتِ، ولم أتبدل. انا يوسف شاهين الذي هاجر يوماً، في أربعينات القرن الفائت، الى أرضك الحلم، وعدت منها عاشقاً ملتاعاً وممثلاً مجلّياً ومفتتناً بالسينما اداة تعبيري الأغلى. أحب فيك ذاكرتي وذكرياتي ولا أحب غربتي الآنية في مدنك وشوارعك ومطارحي الأولى في باسادينا وسواها. تغيّر وجهك يا أميركا وتبدّلت قيمك فلم أعد أعرفك ولا أتعرّف الى وجهي في مرآتك اليوم. يلتهمني الحزن والأسى، تؤلمني الذكريات، خيّبني حلمك الذي تحوّل كابوساً يقضّ مضجعي وينغّص عليّ عيشي ويحرمني من أجمل أيامي في أرضك الشاسعة المعطاء. اعطيتني العلم ثم أرغمتني على التنكّر لصورتك وفضلك عليّ بسبب الظلم والموت اللذين تنشرانهما في أرض جذوري وأهلي وانتمائي. عذراً أميركا، لم أبقَ أحبك كما من قبل. نفسي تقارع نفسي، روحي حزينة ومتألمة حتى الموت.

***

راوٍ استثنائي للذاكرة والسيرة الذاتية يوسف شاهين. نرسيس جميل متعاظم، لكن ثمة ما يستحق في حياة عبقري قدّم الى السينما العربية والعالمية تحفاً خالدة أن ينظر الى صورته في مرآة الذاكرة ويفتتن بها. هو لا يفعل غير استعادة مقاطع من سيرته الأولى المكلّلة بالنجاح، المملوءة مشقات وصعوبات، المزدانة بعشق رومانسي حارّ وجارف. يهدينا في نشيده إحدى أجمل قصص الحب الذي يمكن ان نراها على الشاشة، قصته مع جينجر [يسرا اللوزي] الشابة النضرة زميلته في معهد باسادينا الكاليفورني، التي وقع في هواها من نظرة أولى قذفته الى عالمي الحلم والواقع، فالفى نفسه بين ذراعيها، تارة على فراش الجسد البكر، وطوراً في المشهد الحلمي الراقص الذي لا يشبه الا دنيا التهويم والأحلام المقدودة من حكايات الأميرات والقصور وألف ليلة وليلة.

لكنّ يوسف/ يحيى اضطر الى مغادرة اميركا للعودة الى  مصر، تاركاً وراءه حبيبة ملتاعة واستاذة داعمة وحنون [ماجدة الخطيب، باهرة الحضور على مألوفها في سينما شاهين] والكثير من الاصدقاء والذكريات الحلوة. وإذ يعود الى أميركا بعد خمسين عاماً في إطار تكريمي له ولأفلامه، ومعه زوجته جانّ [لبلبة] التي دعمته طوال حياته وأبدت أقصى التفهم والحب لزوجها الصعب المزاج [يصف نفسه في الفيلم بالخجول و"الوحش" في آن واحد]، يلتقي ثانية حبّه الأول جينجر [يسرا الكبيرة هذه المرة] وقد غزت ملامح العمر وجهها مثلما غزا الشيب رأسه، ومعاً يستعيدان زمن عشقهما الفتيّ الذي أثمر ابناً يدعى اسكندر [يؤديه أحمد يحيى أيضاً] لم يكن السينمائي العجوز يدري بوجوده، ولا بنون له من زوجته، فيصعق في عمق مشاعره إذ عرف إحساس الأبوّة متأخراً ومن حيث لا يتوقع. غير ان صدمتين مفجعتين ستؤلمانه شديداً، رفض ابنه راقص الباليه له، واكتشافه أسراراً شديدة الإيلام في ما عاشته جينجر إثر هجره لها عائداً الى موطنه. المأساة تطارد يوسف/ يحيى الى الأرض البعيدة التي أبعدته السينما والمهنة الناجحة عنها.

في لقاء يوسف/ يحيى مع جينجر كان يواجه اوجاع الماضي الجميل الذي ولّى الى غير عودة ولم تصمد منه سوى ذكريات، بعيدة وقريبة. وفي لقائه ابنه مواجهة بين جيلين وذهنيتين ومفهومين ومجموعتي قيم مختلفة يفجّر من خلالها خطابه السياسي [المباشر قليلاً!] من أميركا المتحوّلة، فضلاً عن المقارنة بين الاسكندرية ونيويورك، وترمز الأولى الى حضارة الانفتاح والتسامح القديمة، والثانية الى نموذج تفكير وعيش أميركي معاصر لا يضاهيها تسامحاً وانفتاحاً رغم الطابع الثقافي الكوسمبوليتي [بضعة مشاهد لمحمود حميدة، "ألتر إيغو" يوسف شاهين، تائهاً في جموع شوارعها الصاخبة]. والمقارنة نفسها أفضت الى عنوان الفيلم النهائي، وعلى نحو أبلغ من الأوّلي الذي كان "الغضب". فغضب يوسف شاهين لا يعمي بصيرته ولا يعطّل عقلانيته إذ "لا مثيل لمتعة العقل" في تعبيره.

***

أبعد من السيرة والذاكرة والموقف السياسيّ الجدليّ، شريط يوسف شاهين الجديد، أعود فأكرر، نشيد تمجيدي للحب وتحية عشق للمسرح والرقص والسينما. في الفيلم مشاهد راقصة من أجمل ما صنعه يوسف شاهين، بل من أجمل ما رأيناه في تاريخ السينما، وستكون مشاهد انطولوجية يُرجع اليه استشهاداً وإثباتاً مرجعياً لعبقرية يوسف شاهين عاشق الفن والحياة وساحر الأحلام. وسط ديكورات جميلة لحامد حمدان، وعلى موسيقى بديعة لفاروق الشرنوبي ويحيى الموجي، وعلى خلفية صوتي علي الحجار وهدى عمار الرهيفين، تدور اللوحات الراقصة الرائعة في أداء للبطلين الشابين [الاكتشافين، وعوّدنا شاهين على اكتشافاته المدهشة للممثلين الشبّان وعلى عظمة ادارتهم أسوة بالمحترفين] أحمد يحيى ويسرا اللوزي، ورفاقهما الشبّان وإن يكن الإطار الذي يحتضنهما مصنّفاً في خانة "الكيتش"، فيوسف شاهين دائم اللجوء في أفلامه الى الاصطلاحي Conventionnel إذ لا يأبه للسفسطة المفرطة، بل للمشاعر والكلمات والمواقف الإنسانية [هو ذو نزعة إنسانية عالية] والنظرات التي يعبّر بواسطتها الى الآخر فيكملها هذا أو يتحداها ويقاومها. قلت ماضياً، وأكرّر، يوسف شاهين سينمائي عيون، سينمائي نظرة تثقب الوجدان الى عمقه، ومن حسن طالعه انه محاط بممثلين وتقنيين يستسلمون لنظرة المعلّم، وفي مقدمهم هنا مساعده في الكتابة والاخراج، الشاب القدير خالد يوسف، ومدير التصوير الممتاز رمسيس مرزوق الذي بثّ في "اسكندرية... نيويورك" مناخات توازي ما يخلقه كبار مديري التصوير في العالم لشريط حقبة وإعادة إحياء تاريخية لا يشوبها سوى بعض الاختلاف في الايقاع التوليفي الجيد في لحظات والقاصر في لحظات أخرى [أنجزته القديرة التاريخية رشيدة عبد السلام] ولعلّ هفوات في لقطات الحقل/ الحقل المضاد مسؤولة عنه اكثر منها. وعيب آخر جوهري، وإن أدرجناه تحت الخيار الاصطلاحي [الذي تعتمده السينما الهوليوودية أيضاً] جعل لغة الفيلم المصرية [مع هنّاتها غير الهيّنات كلفظة "دبلوم" التي ينبغي أن تكون "ديبلوم" diplome]، لا الانكليزية، لسان معظم شخوص الفيلم في الإطار الأميركي.

تحيّة حبّ إليك يوسف شاهين سينمائياً رسولاً للحب والفن والفرح والحياة والتسامح. نحبّك جميعاً أيها الشيخ الدائم الشباب. أبكيتنا.

النهار اللبنانية في

09.08.2004

 
 

اكتشف أنه أعطى آراء فحسب ولم يقل الحقيقة عن حياته

يوسف شاهين: سأحارب أميركا بالحبّ.. أقول لها أنظري كيف كنتٍ

نديم جرجوره

يتميّز الفيلم الروائي الطويل الأخير للمخرج المصري يوسف شاهين <<إسكندرية.. نيويورك>>، بحسّ إنساني رفيع المستوى، وبلحظات مفعمة بالحنين والمغفرة والانجذاب إلى مزيد من الوعي والمعرفة، بلغة سينمائية بسيطة شابتها وتيرة عالية من الخطابية المباشرة، في المشاهد الخاصة بالأحداث الآنيّة، أي بعلاقة يوسف شاهين نفسه بأصدقائه وبالناس المحيطين به، وبعضهم يسعى إلى الاحتفال به في البلد الذي أنكره طوال أربعين عاما، مع أنه فتح له أبوابه الجامعية كي يدرس السينما في أرقى معاهدها (باسادينا، كاليفورنيا). أما المشاهد الأخرى، التي قدّمت زمنا مضى عن مراهقين وحبّ وأجساد مفعمة بالحيوية والرغبات والمشاعر، وعقول متعطّشة للعلم وساعية إليه بقوّة وشغف، وعن لحظات مسكونة بالجماليات والمسرح والرقص والعلاقات، هذه المشاهد مشغولة بحرفية لافتة للنظر، على مستوى الأداء التمثيلي العفوي والمبسّط لممثلين شباب (أحمد يحيى، يسرا اللوزي، نيلّي كريم، يسرا سليم)، وعلى مستوى الحوار واللغة البصرية الجميلة التي استعادت أياما لا تزال أحداثها مطبوعة في عقل شاهين وروحه وسلوكه وتكوينه الإنساني والمعرفيّ، والتي مارست سطوة التأثير على مُشاهدين مسحورين بعبق التسامح والتواصل وإعلان الغضب والتمزّق بين شعورين اختبرهما شاهين وأراد إشراك الآخرين بهما: حبّ لأميركا القديمة التي منحته أجمل أيام العمر وأحلى العلم والسينما والمعرفة والوعي، وكره لسياستها التدميرية التي ألهبت العالم بنيران الحقد والقتل والغضب والخراب.

ذهب يحيى/يوسف شاهين (محمود حميدة) إلى نيويورك تلبية لدعوة مركزها السينمائي، للاحتفال به وبأفلامه، ترافقه زوجته جان (لبلبة). يستعيد ماضيه، إثر لقائه جينجر (يسرا)، ويكتشف أن له ابنا منها بلغ الخامسة والعشرين من عمره اسمه إسكندر (أحمد يحيى)، فيسعى إلى التعرّف عليه، وإقامة جسور المحبة والأبوة والتواصل. لكن إسكندر يرفض أبا هبط من السماء فجأة، والأنكى من ذلك <<عربي>>. محاولة سينمائية لتقديم صورة عن التناقض الفظيع بين أميركا الأربعينيات وأميركا مطلع القرن الواحد والعشرين.

في كل لقاء به، أشعر أن الرجل الأشيب لا يزال قابعا في طفولة لا مثيل لها، وحاضرا في حماس شبابي لا يوصف. أراه مقبلا على الحياة كي يغرف منها التفاصيل والعناوين والتحوّلات. أجده أنيقا في غضبه وثورته وتمرّده، ومليئا بهذا القلق المصنوع من التزامه هموم الناس والمجتمع. هكذا كان حين التقيته في منزله في القاهرة، قبل أشهر قليلة، لمشاهدة <<نسخة عمل>> من فيلمه الأخير هذا <<إسكندرية.. نيويورك>>، الذي عُرض في الدورة الأخيرة (أيار الفائت) لمهرجان <<كان>> (خارج المسابقة)، وفي افتتاح الدورة السابعة ل<<بينالي السينما العربية في باريس>> (حزيران/تموز 2004، والذي تبدأ عروضه اللبنانية في التاسع عشر من آب الجاري. وفي مكتبه الواقع بالقرب من <<وسط البلد>>، التقيته في هذا الحوار حول الفيلم وتداعياته.

·     يحار المرء إثر مشاهدته <<إسكندرية.. نيويورك>> إزاء حقيقة مشاعرك الخاصة بأميركا. فهل لا يزال حبّك لها قويا إلى هذه الدرجة، مع أنك لا تخفي غضبك منها؟

- هناك شعور متناقض في ذاتي إزاء الولايات المتحدّة الأميركية. أولا، شعور بالانتماء إلى أميركا، وهو مؤكّد لا لبس فيه. لكن، وكما قلتُ في الفيلم، أنكروني فيها طوال أربعين عاما، أحيوا بعدها سلسلة أسابيع سينمائية للاحتفال بي، وبدأت جامعاتهم تهتمّ بي قليلا. التواصل الذي تمنّيته منذ صغري ناتج من إحساسي بأن هذا البلد مهم، ويجب أن يبقى التواصل قائما معه، من خلال مهنتي كسينمائي. شعرتُ دائما أن أميركا مُهمّة جدا. دختُ وتعبتُ. زرتُها أكثر من عشرين مرّة. لم أكن أفهم ما هي هذه الرأسمالية الخاصة بهم، إذ لا توجد منافسة بأي شكل من الأشكال، وهناك إنكار لأي شيء لا تصنعه هوليوود. استعملوا الأعذار كلّها. رفضتُ وضع ترجمة لحوارات أفلامي، لأن هذا يعني تغييب التواصل مع الجمهور الأميركي. تنازلتُ عن السوق وقلتُ <<لن أبيع>>. لكن، هناك أهمية للاعتراف بوجود رجل درس عندهم، وباتت له شهرة عالمية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء الولايات المتحدّة وإنكلترا، أي عند الأنغلوساكسون. هذا أمر مزعج بالتأكيد.

هذا كلّه في الإطار العام. لكن، حين تقول لي ما هو الارتباط القائم بيني وبين أميركا، أجيب بأني لا أستطيع أن أفصل نفسي عن فترة دراستي هناك. أنا متأكّد أنك أنت شخصيا تفكّر بمن درّسك وعلّمك، خصوصا من اعترف بموهبتك أولا واهتمّ بك وساعدك على تنمية موهبتك، وأيضا بالمدرسة التي انتسبت إليها، وبالتفاصيل التي اختبرتها فأثّرت بك. لا أستطيع أن أنساهم، ليس عرفانا بجميلهم عليّ فقط، بل لأني لا أستطيع إلى ذلك سبيلا، خصوصا أني أعود إليهم وإلى تلقينهم إياي دروسهم التقنية.

أضف إلى ذلك كلّه، أن أميركا، في هذه الفترة، شكّلت حيّزا للتسامح الجدّي والفعلي، وهي بالنسبة إلينا كعرب وكمسيحيين أبدت تسامحا نحو اليهود والسود. ذهبت إلى أميركا من آخر الدنيا، من العالم العربي. لم أشعر بأي مشكلة. لم أكن أصلّي أو أصوم. كنت لا أدريا. أنا لست <<بتاع كنايس>>. من جهتي، لم يكن هناك سوى العلم والمحبّة الشديدة للغاية. هناك مسألة أخرى: سافرتُ إلى الولايات المتحدّة الأميركية للمرّة الأولى في حياتي إثر بلوغي السابعة عشرة من عمري، أي في بداية التفتّح الجنسي والعملية الجنسية والجينات الجنسية التي تبدأ بالظهور وتنمو، فإذا بي ألتقي صبايا جميلات يرغبن جميعهنّ في أن يصبحنّ ممثلات.

من ناحية الأفلام الهوليوودية، كانت هناك موسيقى رومانسية مؤثّرة جدا. وفي الوقت نفسه، طُرح سؤال التناقض في السياسة الأميركية، والمرحلة زاخرة بالاقتصاد والسلطة، بالجينز وال<<تي شيرت>> والقبعة التي ترتديها والأشياء التي تستعملها يوميا والأخرى التي تتمنّى الحصول عليها. في المرحلة نفسها، نشأ <<وادي سيليكون>> الذي بات اليوم شهيرا، وصُنع ال<<وكمان>> وأجهزة <<كمبيوتر>>. هذا كلّه جزء من حياتي وتفكيري. لا تستطيع أن تضع كل شيء في سلّة واحدة وتقول <<طز>>. <<طز>> على إدارة بوش. فالإدارة أسيرة لبوش، وبوش أسير لشارون الذي هو المثال الأعلى لبوش المتطرّف دينيا بشكل فظيع، كما لو أنه من أتباع إحدى الجماعات المسيحية المتطرّفة، ك<<واكو>>، الذي ادّعى أنه المسيح، فحرق سبعين شخصا من أتباعه. إنه متطرّف إلى أقصى حدّ ممكن، ويعترف بوجود مسيح يهوديّ سيظهر في يوم القيامة. هذه هي الرابطة التي تجمعه بشارون.

غضب وتسامح

في مقابل هذا، سألتُ نفسي عن الخيار الذي يجب علينا، كعرب، أن نتّخذه. هل نجحنا في مقاومة أميركا بالشتائم أم بالأسلحة التي نملك؟ قلت: حسنا سأحاربها بالحبّ. أو على الأقلّ سأحاول. إذا هجمْتَ عليّ بشتائمك، أسعى إلى الانتقام منك. أما إذا دخلْتَ عليّ بالحب، فهناك احتمال بأن تسمح لي بأن أفهمك. أقول لهم: أنظروا كيف كنتم، حقيقة، وقارنوا بين الأمس واليوم، فتجدون فرقا بين الماضي وما كنتم عليه من تسامح وانفتاح، وبين الحاضر الذي يكشف لكم <<أين>> أصبحتم و<<ماذا>> أصبحتم. هذا هو هدفي من تحقيق <<إسكندرية.. نيويورك>>. بهدلوا العرب والمسلمين أكثر من اللازم. حسنا، حتى هذه مرّت. لكن، ما الذي يدوم؟ بالنسبة إليّ: الولاء والوفاء والحب أمور تدوم حين تدفعهم إلى التفكير بها. أنت تعطيهم درسا في هذا كلّه، من خلال الحوار المرئي الذي هو الفيلم.

·         إذاً، يُمكن القول إن فيلمك هذا متحرّر من الغضب إلى حدّ ما.

- الغضب الكبير قلته في (الفيلم الروائي القصير) <<11/9>> (المشروع الفرنسي الذي حقّقه أحد عشر مخرجا من إحدى عشرة دولة، أنجزوا أحد عشر فيلما مدّة كل واحد منها إحدى عشرة دقيقة وتسع ثوان ولقطة. وشاهين هو المخرج العربي الوحيد الذي شارك في تحقيق هذا المشروع)، على الرغم من الشتائم التي قيلت في حقّي، والحملات التي شنّها اللوبي الصهيوني القويّ جدا ضدّي. لكن، في مقابل راية <<العداء للسامية>> التي رفعها هذا اللوبي في وجهي، لم أنسق إلى الفخّ الذي نصبوه لي، بل أعلنت عدم كرهي لأميركا. في المشهد الأخير، أظهرت المثقف في مقبرة أرلينغتون يتأسّف على موت الجندي الأميركي، وإلى جانبه ظهر المقاتل الفلسطيني الذي قال له <<لا تنسني. إبك أميركا، لكن لا تنسني>>. هذه اللقطة أثارت الجنون فيهم، إذ كيف أتجرّأ على إظهار <<قنبلة بشرية>> وأتكلّم عنها بحنان. قلت <<على طيزي>>، فأنا لا أخاف الصهاينة ولا أخشى أحدا، خصوصا إذا كنتُ متسامحا للغاية مع الدين اليهودي، لأن لا علاقة لي البتّة بالأديان كلّها. <<الإسرائيلية>> جنسية يحملها مواطن لا أهتمّ بدينه. وإلى أن يفهموا هذا، لا بُدّ أن تكون الدولة التي يفكّرون بها ديمقراطية ومتسامحة، وإلاّ فإنهم سيبقون مَكروهين في العالم كلّه.

·         هل تدعو إلى ضرورة التعرّف على أميركا؟

- لا، ليست الحكاية أن نعرف المجتمع الأميركي، فقط. لم نحاول نحن أن نفهمهم، وهذا أعتبره نقصا فظيعا في ثقافتنا وتفكيرنا. أقود الحرب لوحدي، فلا حكومات ورائي لتساندني. أنا أحارب من ناحية، ومن ناحية أخرى يقولون لي: ما الذي تفعله. ثم جاءت الفترة التي أسمّيها المرحلة الوطنية البلهاء، فصرتُ كلّما تكلّمتُ أُتّهم بالتطبيع، وإلاّ <<لا تنطق، لا تتكلّم>>. مُنعنا من الحوار مع أي كان. أنا لا أهتمّ بمن يكون هذا الآخر، إسرائيليا أم أميركيا. أتحاور معه وأقود معركتي. المشكلة أن هذه الوطنية البلهاء انقطعت عن العالم، وباتت لدينا ديبلوماسية بلهاء تمثّلنا في الخارج.

ماذا يفعل الصهاينة، في مقابل بلاهتنا هذه؟ كلّما ذهبتُ إلى جامعة تعرض فيلما عربيا مثلا، وجدتُ على بُعد خمسة عشر مترا فقط طاولة كبيرة وضعوا عليها كتبا ومنشورات خاصة بالصهيونية. في الجامعات والمهرجانات والمؤتمرات، يجلسون في الصفوف الأمامية ويبدون كمن يدير دفّة كل شيء. في مهرجان <<كان>>، حين نلت الجائزة (مُنحتْ جائزة العيد الخمسين للمهرجان في العام 1997 ليوسف شاهين عن مجمل أعماله، علما أنه أنجز حينها <<المصير>>)، طاردني نحو خمسة عشر إسرائيليا أراد بعضهم إجراء حوارات صحافية معي، وسعى آخرون إلى إقناعي بتلبية دعوة إلى إسرائيل. ذهبتُ إلى منتجي وقلتُ له إني منصرف سريعا إلى الفندق. في المقابل، لم نفعل نحن أي شيء لمواجهة سياستهم البشعة في الانتشار في كل الأمكنة. هم يحاربونني بكتب إسرائيلية، بدعايات ترويجية، بحملات إعلانية، إلخ. إسرائيل دولة ديمقراطية والعرب ديكتاتوريون.

في النهاية، أقول لك: نحن لم نفعل شيئا لنجعل الآخرين يتعرّفون إلينا بالشكل الصحيح. وقبل هذا، أسألك: هل تعرف عدد المواطنين العرب الذين قرأوا إدوارد سعيد، مثلا؟ يقولون إن هناك أزمة في السينما المصرية. لا. هناك أزمات في مصر وفي العالم العربي في المستويات كلّها. ليست السينما في أزمة، بل التفكير العربي نفسه يُعاني أزمة. في فرنسا مثلا، يصدر يوميا خمسة وعشرون كتابا، وفي أميركا وإنكلترا نحو خمسة عشر كتابا. ماذا عنّا نحن؟ أين هي الأموال الطائلة التي يربحها العرب من مبيعات النفط وحده؟ ألا تُصرف كلّها في مجالات لا تستحقّها؟ هناك أمثلة قليلة للغاية عن معنى العلاقة السوية بين العرب: ذات مرّة، اتصل بي سفير الإمارات العربية المتحدّة في القاهرة، في المستشفى حيث خضعت لعلاج، كي يُعلمني أن الشيخ زايد وضع بتصرّفي كل ما أحتاج إليه في مصابي الصحي، سائلا إياي عن أي طبيب في أي مستشفى في العالم أريده، وهو مستعدّ لاستدعائه فورا، ولدفع التكاليف كلّها. لا أعرف الشيخ زايد. لكني أسأل: كم شيخ زايد لدينا في العالم العربي؟ بعد ذلك بوقت، سافرتُ إلى دبي، واطّلعتُ على الإنجازات العلمية والأكاديمية التي حقّقوها، من جامعات ومعاهد متخصّصة، إلى الشوارع والطرقات والأبنية. أمر لا يُصدّق. لذا، صوّرتُ نيويورك في دبي (في <<11/9>>).

·         كيف كان شعورك حين شاهدْتَ النسخة الأولى من "إسكندرية.. نيويورك"؟

- استعدتُ لحظات عشتها سابقا، فشعرتُ أني قريب للغاية من هذه الفترة. بدا الأمر صعبا. هناك مسألة الشيك الذي وصلني خطأ، في اللحظة نفسها التي حزمتُ فيها حقائبي وودّعتُ الجميع واستعددتُ للعودة إلى القاهرة، وذلك قبل شهرين فقط من امتحان نهاية السنة الدراسية الأخيرة. حين أشاهد هذا كلّه، أنهار، خصوصا أن الشخصيات السينمائية حقيقية.

أفلام/محطات

·         اخترتَ مشهدين من <<باب الحديد>> و<<إسكندريه ليه>> وقدّمتهما في سياق فيلمك الأخير هذا. لماذا؟

- لي مع كل فيلم من أفلامي حكاية. مع <<باب الحديد>>، تعرّضتُ لهجوم. بصقوا في وجهي. أمضيتُ خمسة أعوام أعاني تداعيات هذه الحملة. كتبته وأخرجته ومثّلت فيه.لم أشكّ أبدا في أني ممثل. بعد <<العصفور>> أرادوا سجني. يوسف السباعي تساءل: كيف أتجرّأ على إنجاز فيلم كهذا. هناك أيضا <<الناس والنيل>> و<<إسكندرية ليه>>. كلّها مذكورة في فيلمي الأخير. وكلّها وغيرها عانت كثيرا وعانيت معها أكثر. دُعيتُ للمشاركة في مهرجانات عدّة، لكن عدد المرّات التي مُنعتُ فيها من السفر والمشاركة أكبر بكثير. صراعاتي مع السلطات لا تُعدّ ولا تُحصى. وقعَتْ مشاكل عدّة بسبب <<الناس والنيل>>: لديّ تلغراف تهنئة عليه، وآخر بعد ثلاثة أيام قيل لي فيه إني بدّلت السيناريو.

هذه الأفلام الثلاثة أعتبرها محطات صعبة جدا في حياتي. بخصوص <<باب الحديد>>، قيل لي أنه لا يُمكن للجلابيب البيضاء أن تمرّ. صوّرتُ <<الناس والنيل>> وهُنّئتُ عليه، ثم أرادوا تمزيقه لأن أحدهم سخر من موسى صبري، على الرغم من معرفتهم أني لا أحقّق روايته. <<إسكندرية ليه>> جاء بعد لحظة حسّاسة ورهيبة عشتها بسبب خضوعي لعملية قلب مفتوح، وهي المرّة الأولى التي تُجرى فيها عملية كهذه. وعدتُ نفسي بتحقيق هذا الفيلم في حال لم أمتْ في خلال العملية. لم أشأ طرح آراء. فوظيفة الفن، بالنسبة إليّ، أن يقول الحقيقة. من يعرف الحقيقة عن عائلتي أكثر منّي؟ قلتُ أشياء كثيرة كان يصعب قولها. أبي كان مُفلسا، عاش حياته في تناقض فظيع بين مبادئه ونزاهته، ومهنته كمحام. لم <<تمش>> مهنته كما يجب.

بالنسبة إلى <<إسكندرية ليه>>، فإني طرحتُ السؤال على نفسي قبل يومين اثنين من إجراء العملية الجراحية في قلبي. هناك قرار صعب للغاية عليّ اتّخاذه: ماذا فعلتُ في حياتي كلّها، حتى هذه اللحظة؟ اكتشفتُ أني أعطيتُ آراء ولم أقل الحقيقة بعد. إعطاء الآراء أمر سهل. لكن، أن تكشف نفسك كما أنت، وأن تقدّم من حولك كما هم، أي أبي وأمي وشقيقتي، فهذا صعب جدا. هناك أيضا الأصدقاء، وبعضهم كان أكثر من مجرّد صديق. لم أخف تساؤل الولد الصغير عما إذا كانت أمه هي مريم العذراء، كما كان يظنّ، أم إنها هي أمه فقط. هذه تفاصيل مهمّة وضعتُها في الفيلم كي أكشفَ نفسي كما هي عليه، لأني أردتُ القول أيضا إني عشتُ في هذه البيئة الاجتماعية والإنسانية التي علّمتني التسامح منذ صغري. والتسامح يبدأ أصلا من الذات.

يطرح المرء على نفسه أسئلة من نوع <<أين أصبحت؟ ماذا فعلت؟>> حين يواجه أزمة ما. لو أنك تقدّميّ إلى حدّ ما، ومتماشٍ مع الحداثة، فأنت قطعا لست كما كنت في الأمس. هناك تطوّر يحصل بين يوم وآخر، وإذا لم تواكبه فأنت ميت.

أظهرتُ أمي وأختي وزوجتي وهنّ يتصارعنّ فيما بينهنّ. تردّدتُ كثيرا قبل الإقدام على هذه الخطوة، في هذا الفيلم. جمعتُ الجرأة المطلوبة كلّها كي أكشف الحقيقة. حين تُقابل ذاتك، يجب أن تكون جريئا للغاية، وأن تقول الحقيقة. والحقيقة قاسية جدا. قيل لي إني أمدح نفسي، فأجبتهم أني قلتُ كل شيء، وأني لم أفهم، وأردتُ أن أفهم من خلال طرحي هذه التساؤلات كلّها.

حقيقة ومتخيّل

·         ماذا عن الرقص؟ فهذه ليست المرّة الأولى التي تخصّص بالرقص مشاهد في أفلامك.

- أنا أحبّ الرقص.لم أرقص أبدا كما حصل مع أحمد يحيى (يؤدّي دورين اثنين: يوسف شاهين تلميذا في أميركا، وابنه أيضا، في <<إسكندرية.. نيويورك>>)، لكني حلمت به (أي بالرقص). ربما لهذا اخترتُ يحيى. إنه ممثل جيّد. حدث الأمر صدفة. شاهدته كراقص في <<زوربا>>. أخضعته لتمارين كثيرة فوجدتُ فيه خامة تمثيلية مدهشة وحقيقية. وضعته في مستوى واحد مع محمود المليجي.

أرقص مثل أحمد يحيى، وأمثّل كجون غيلغود. في هذه الفترة، رقصتُ جيّدا، لكن ليس كأحمد. أستطيع القول هنا إن أحمد يحيى هو حُلُمي. ذلك أن جزءا كبيرا من الفيلم حقيقيّ، في حين أن الجزء المتبقي متخيّل وتمثيلي. ربما لديّ ابن أميركي. هذا احتمال. لا أعرف ما إذا كان لديّ ابن أم لا. هذه أمور متداخلة بين الحلم والتمثيل.

·     أعود مرّة ثانية إلى مسألة الغضب. فأنت أنجزت الروائي القصير <<11/9>> وقلت فيه هذا الغضب، وبدا يومها أنك تريد تطوير قول الغضب في فيلمك الروائي الطويل هذا.

- استمرّ الغضب فيّ لفترة، لكني لم أعد أهتمّ به الآن. فكريا أقول إني انتبهتُ إلى أننا لم نكسب معاركنا لا بالغضب ولا بالشتائم، بل خسرناها كلّها لهذه الأسباب. أبناء الإسكندرية مشهورون بأنهم يتضاربون من رصيف إلى آخر، ويتبادلون الشتائم من دون أن يخوضوا معارك حقيقية. الشتائم من بعيد لا توصل أصحابها إلى أي شيء مفيد. لم تكن فاتحة لبدء حوار.

أكرّر لك ما قلته سابقا: في الفيلم أوجّه كلاما إلى الجميع مفاده أن انظروا إلى أنفسكم لتروا أين كنتم وأين أصبحتم الآن. كنتم تقدّمون منحا للشباب كي يتابعوا دراساتهم الجامعية عندكم، وكي يتعرّفوا إليكم، ويشاهدوكم عن كثب. هناك مخرجون تمّت دعوتهم إلى أميركا للتعرّف عليها. الآن تعطون سلاحا إلى إسرائيل، وبات الكذب أمرا طبيعيا لديكم. ما حصل في العراق يكفي للإطاحة ببوش، لكنه بقي رئيسا للولايات المتحدّة الأميركية واستمرّ بفضل كذبه. هناك بشاعة وكذب.

أستطيع القول هنا إني بعد كشفي لهم ما أصبحوا هم عليه الآن، قادر على فتح حوار ما معهم. فالصراع بيننا ليس غبيا، ولا يُدار من رصيف إلى رصيف.

·     في أفلامك الأخيرة، تحديدا منذ <<المهاجر>> (1994) و<<المصير>> (1997) و<<الآخر>> (1999)، كنت حادّا ومباشرا في خطابك وحواراتك. هل هذا مقصود؟

- يجب أن تتطوّر مع السياسة الموجودة حولك. السياسة والناس. أنا فخور بكوني عربيا. لكن العرب لم يكونوا مضطهدين في حياتهم كلّها أكثر مما هم عليه الآن من قِبل أميركا. أنا ابن الإسكندرية أيضا، هذه المدينة الكوزموبوليتية، بما هي عليه من انفتاح وتسامح وتواصل. عشتُ فيها إلى جانب ثلاث عشرة جنسية مختلفة، وثلاثة أديان. التعرّف إلى الآخر والتواصل معه أمر طبيعي جدا بالنسبة إليّ، وهذا ما جعلني أدرك أهمية الحوار.

دعني أخبرك حادثة حصلت معي في إنكلترا، ولا أستطيع أن أنساها: في أحد القطارات الإنكليزية، جلستْ امرأة عجوز في المقعد المقابل لي، وأمضينا وقتا طويلا من دون أن نتبادل ولو كلمة واحدة. ثم فجأة، نظرت إليّ وقالت: ألا تعتقد أننا غبيين أنت وأنا؟ نحن معا منذ بعض الوقت، ولا واحد منا يعرف الآخر. ماذا لو تكلّمنا قليلا، ألا يُمكن أن نصبح صديقين؟ وهذا ما حصل في الواقع. حين نزلَتْ في المحطّة التي قصدَتْها، ودّعنا بعضنا البعض كما لو أننا صديقين منذ زمن بعيد. أعترف أني تعلّمت شيئا مفيدا من هذه الحادثة: عليك أن تجتهد قليلا لإقامة حوار مع الآخر. إما أن نخلق حوارا مع الآخر، وإما أن نصمت. لا أعتقد بوجود طريق ثالثة، ولا أستسيغ لغة الشتائم والاتهامات.

السفير اللبنانية في

13.08.2004

 
 

في فيلمه «اسكندرية ـ نيويورك» 

يوسف شاهين يطلق صيحة غضبه ضد أميركا 

القاهرة ـ ناهد صلاح:

بالرغم من انه يري ان خمسة وعشرين دار عرض غير كافية، الا ان المخرج «يوسف شاهين» حدد اخيرا الثامن والعشرين من اغسطس الجاري لاطلاق عروض فيلمه الجديد «اسكندرية ـ نيويورك» في دور العرض المصرية.وكان الفيلم تأخر عرضه التجاري رهن اسباب فنية ابرزها مشاركته في قسم «نظرة ما» بمهرجان كان السينمائي في دورته الاخيرة خلال شهر مايو الماضي.وكذا مشاركته فيما بعد بمهرجان السينما العربية الذي ينظمه معهد العالم العربي في باريس، كما فضل «شاهين» ان يتريث قليلا حتى تهدأ الموجة الصيفية العاتية لافلام الكوميديا التي تجتاح الشارع السينمائي في مصر.

ويعد «اسكندرية ـ نيويورك» هوالمتمم الرابع في سلسلة «شاهين» الذاتية والتي اتخذ من الاسكندرية خلفية اساسية لها وفيها تناول نشأته وحياته العملية في السينما، وهي السلسلة التي ابتدأها بفيلم «اسكندرية ليه» واتبعها بفيلم «حدوتة مصرية» ثم بفيلم «اسكندرية كمان وكمان»، وفي فيلمه الاخير يتناول «شاهين» علاقته بالولايات المتحدة الاميركية وهي التي شهدت دراساته في الحقل السينمائي وبداية وعيه ونضجه الفكري والفني، قبل ان تجيء احداث الحادي عشر من سبتمبر وتجعله يطرح تساؤلات مصيرية عن خلط الغرب ما بين الارهاب والعرب.

و«شاهين» (77 سنة) لايكمل بهذا الفيلم الموسيقي رباعيته حول الاسكندرية فقط وانما اراد ان يعبر عن تمزق ما يدور بداخله، فهو من ناحية معجب بأميركا الحلم الذي عاشه خلال سنوات صباه وشبابه ومن ناحية اخري يكفيه ان يشاهد على شاشة التليفزيون المذابح في فلسطين والعراق ليتحول هذا الحلم الى كابوس انبهار شاب في الثامنة عشرة، وهو عمر شاهين نفسه عندما ترك الاسكندرية في نهاية الحرب العالمية الثانية وذهب الى نيويورك على ظهر سفينة لكي يصبح اول مخرج سينمائي عربي يدرس في الولايات المتحدة.

يقول يوسف شاهين: فيلمي الحالى هو رابع افلامي التي تحكي سيرتي الذاتية لكنه موجه بالاساس الى تجربتي شديدة الخصوصية مع اميركا التي سافرت اليها وانا ابن 17 عاما لادرس الفن بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها. ذهبت الى اميركا مفتونا بها اراها حلما للحرية والمبادرة الفردية وتعلمت الفن هناك وعشت قصة حب رومانسية مع فاتنة اميركية لكن الحلم الاميركي تحول في عيني الى كابوس مزعج دفعني الى صنع فيلمي الجديد «اسكندرية نيويورك» .

ويضيف : هذا الفيلم ليس ضد الشعب الاميركي فهذا الشعب فيه كثير من اصدقائي وحين وقعت احداث 11 سبتمبر اصابني الفزع على مصيرهم في الوقت نفسه حين تشاهد محطات التلفزيون والفضائيات يؤلمك ما يحدث للفلسطينيين بسلاح اميركي فضلا عن الاحتلال الاميركي المباشر للعراق لذلك وقعت في تناقض خطير جدا فمن ناحية احب الاميركيين فانا تعلمت في معهد باسادينا اصول الفن على يد اساتذة عظام.

ومن ناحية اخرى انا ضد سياسات ادارة بوش المتطرفة فكريا وسياسيا ولذلك اردت من خلال هذا العنوان التفريق بين موقفي من الانسان الاميركي العادي وبين الادارة الاميركية التي تتطابق مواقفها مع مواقف شارون والفئات المتطرفة في اسرائيل.

يعتبر هذا الفيلم هو اطول افلام «شاهين» التي تتناول السيرة الذاتية ففي «اسكندرية ليه» تناول الاسكندرية في الحرب العالمية الثانية الى ان وصل بالباخرة الى نيويورك وفي «حدوته مصرية» تناول مشواره الفني في مصر من اواخر الاربعينات الى مطلع الثمانيات وفي «اسكندرية كمان وكمان» تناول ايضا مرحلة الثمانينيات اما هذا الفيلم فيتناول الفترة من الاربعينيات وحياته في اميركا الى اللحظة الانية.

وعبر فيه عن الانقلاب الاميركي من خلال الجزء الخيالي في الفيلم او شخصية الابن الذي يرفض الاعتراف بأبيه او بتعبير ادق لانه عربي وكيف ان علاقة الاب المصري بابنه الاميركي ليست علاقة اب بابنه الذي تربى على كراهية العرب واعتبرهم ارهابيين.

الفيلم يقدم رؤية خيالية لاميركا التي كان يحبها «شاهين»، رؤية تختلط فيها الرومانسية بالسياسة وكأنه يود ان يكون فيلمه رسالة اليها يخبرها فيها انه من الصعب ان يحبها كما في الماضي، وهو ماعبر عنه فعلا بقوله: لقد احببت اميركا في اواسط الاربعينيات ووقعت في هواها من خلال افلامها والموسيقى الرائعة والاستعراضات الضخمة وحشود الفاتنات في الافلام الاميركية وكان هناك حلم اميركي جميل بالحرية والمبادرة الفردية.

الواقع الآن يقول ما يناقض ذلك وانا وضعت في الفيلم عبارة حول هذا الانقلاب في الحلم الاميركي من الجمال الى القبح انظروا الى الفارق بين سحر فريد استير وجيم كيلي وبين سيلفستر ستالوني وبروس ويلس وغيرهما في 60 عاما شهدت اميركا انقلابا عظيما.

يبقى ان الفيلم يشارك فيه مجموعة كبيرة من الممثلين، «محمود حميدة» يجسد شخصية المخرج المصري في مرحل عمرية متقدمة، في حين يجسد الوجه الجديد «احمد يحيي» شخصيته في شبابه، كما يقوم ايضا بأداء دور «اسكندر» الابن الاميركي الذي يرفض اباه المصري لانه تربى على كراهية العرب واعتبرهم ارهابيين، و«احمد يحيي» هو بالمناسبة راقص باليه قبل ان يختاره «شاهين» للانضمام الى دنيا التمثيل، اما «يسرا» فتقوم بدور الحبيبة الاميركية.

ويمتد دورها من وقت تعارفها بالمخرج المصري حين كانوا يدرسون معا في معهد باسادينا والتي ينتهي بها المطاف لتعيش في نيويورك دون ان تشعل موهبتها مكتفية بحياتها العادية كالاخرين، «لبلبة» تقوم بدور الزوجة الحالية للمخرج المصري، هذا الى جانب ادوار اخرى كثيرة لفنانين اخرين منهم «هالة صدقي» والوجه الجديد «يسرا اللوزي».

البيان الإماراتية في

19.08.2004

 
 

يوسف شاهين يطلق من بيروت "إسكندرية.. نيويورك"

ريما المسمار 

يتكرّر مشهد يوسف شاهين وسط حشد الصحافيين والفنانين والجمهور السينمائي منذ سنوات في بيروت بمعدل مرة كل عامين. امس كان الموعد الذي تأخر هذه المرة عاماً اضافياً ولكنه ما زال يستدعي ان نقف بإعجاب امام دينامية السينمائي الذي شارف على ثمانينه من دون ان يفقد حماسه في ترجمة آرائه وأفكاره صوراً وموسيقى ورقصاً، تتحرك على شاشة جاوزت سنونها نصف القرن منذ شكلها للمرة الاولى العام 1950 بفيلمه البكر "بابا امين". أربعة وخمسون عاماً أنتج خلالها شاهين واحداً وأربعين فيلماً، أحدثها "اسكندرية نيويورك" إفتتح امس في بيروت في صالة كونكورد بدعوة من موزعي الفيلم: دبوق العالمية، ايطاليا فيلم وفتح الله. كأن شاهين كان من خلال تقديمه الفيلم في عرضه العربي الاول في بيروت، انما يكمل دائرة الامكنة التي ارتسمت حولها حياته وتشكلت بمزيجها هويته السينمائية والانسانية. اسكندرية مسقط رأسه، نيويورك المدينة التي تختصر اميركا حيث تفتح على السينما والحب، وبيروت من حيث هي عاصمة البلد الذي جاء منه والده والتي التجأ اليها اوائل الستينات ومكث فيها لبعض الوقت منجزاً عدداً من الافلام. إذاً، كان امس العرض الاول لشريط شاهين الجديد في العالم العربي، مع العلم انها المرة الاولى التي يُعرض احد افلامه في بيروت قبل القاهرة، والثالث عالمياً بعد عرضه الافتتاحي في مهرجان كان 2004 في برنامج "نظرة ما" وعرضه الفرنسي ضمن فاعليات بينالي السينما العربية في باريس في حزيران/يونيو الماضي. يُعتبر الفيلم عودة الى ثلاثية السيرة الذاتية التي انجزها المخرج عبر "اسكندرية ليه"، "حدوتة مصرية" و"اسكندرية كمان وكمان". ولكنه يتصل ايضاً بأفلامه الاخيرة (المصير، الآخر) ذات الخطاب السياسي من حيث ارتباطه بنظرة المخرج الى التحولات التي اصابت اميركا بعيد احداث 11 ايلول. هكذا ينقسم الفيلم بين زمني الاربعينات التي شهدت سفره الى اميركا ودراسته للسينما، وبين الحاضر الذي يحمل المخرج الى اميركا من جديد، ولكنها اميركا مختلفة عن التي عرفها، بهدف تكريمه في احدى جامعات نيويورك.

حضر الافتتاح يوسف شاهين والممثلة يسرا التي تلعب دور حبيبة شاهين الاميركية الاولى "جينجر" في سن النضج الى منتج الفيلم غابي خوري ووزير الثقافة غازي العريضي ومسؤول مديرية شؤون السينما والمسرح والتلفزيون بالوزارة غسان ابو شقرا، كذلك حضرت المطربة لطيفة التي انتهت لتوّها من لعب دورها على خشبة منصور الرحباني في عمله الجديد "حكم الرعيان" مع العلم ان لطيفة كانت بطلة شاهين قبل ثلاثة اعوام في فيلم "سكوت...حنصوّر".

غاب الممثل محمود حميدة الذي انضم من خلال "اسكندرية نيويورك" الى قافلة الممثلين الذين جسدوا شخصية شاهين في افلامه وأبرزهم نور الشريف ومحسن محيي الدين. وكعادته، يقدم المخرج وجوهاً تمثيلية جديدة هما احمد يحيى في دور شاهين المراهق، ويسرا اللوزي في شخصية "جينجر" الشابة. الى ذلك تشارك الممثلة لبلبة بدور "جاين" زوجة شاهين.

ابتداء من عصر اليوم، تبدأ عروض الفيلم التجارية في صالات كونكورد، بلانيت الذوق وطرابلس، شيراتون بحمدون وأريسكو بالاس.

المستقبل اللبنانية في

19.08.2004

 
 

شاهين في مجلة "سينما"

رؤية مُحٍبَّة ومُهادٍنة 

عشية العرض العالميّ الأول لفيلمه الروائي الطويل الأخير <<إسكندرية.. نيويورك>>، الذي تمّ في إطار الدورة السابعة والخمسين (أيار الفائت) لمهرجان <<كان>> السينمائي الدوليّ، أصدر الزميل قصيّ صالح الدرويش عددا خاصا بالمخرج المصري يوسف شاهين من مجلته السينمائية المتخصّصة <<سينما>> (نيسان/أيار 2004)، حمل عنوان <<يوسف شاهين، عصفور المشاكسة.. والغضب>>، في محاولة للإضاءة على التجربة الثقافية والسينمائية والحياتية التي اختبرها شاهين (المولود في مدينة الإسكندرية، في الخامس والعشرين من كانون الثاني من العام 1926)، منذ إنجازه فيلمه الروائي الطويل الأول <<بابا أمين>> في العام 1950. ذلك أن أربعة وخمسين عاما من العمل السينمائي، أغنت السينما المصرية والعربية بعدد من <<التُحف>> البصرية التي صاغت شيئا من الذاكرة الإنسانية، والتي منحت الفنّ السابع العربي بعض حضور عالميّ. ويوسف شاهين، البالغ من العمر ثمانية وسبعين عاما، لا يزال متمتّعا بمرح الشباب وحماسهم الطفوليّ المشحون بطاقة واعية ومعرفة علمية وافية، ولا يزال قادرا على المشاكسة التي وسمت حضوره الإنسانيّ، وعلى الغضب المتوّج بفعل التسامح والتواصل، والإصرار على مخاطبة الآخر وتفعيل دور الحوار من أجل التفاهم والسلام.

بدا العدد الخاص بيوسف شاهين غنيّا إلى حدّ ما، بما فيه من مقالات تحليلية وشهادات متنوّعة وضعها نقّاد وممثلون ومنتجون عرفوا شاهين الإنسان والمخرج، فعكسوا، في نصوصهم، بعض الحب والاحترام والتقدير لهذا السينمائي الكبير، قيمة وعمرا. وبدا الحوار الطويل الذي أجراه قصيّ صالح الدرويش مع شاهين مرآة عاكسة لمحطّات وتفاصيل وحكايات رواها المخرج بنزقه وتمرّده وجمالية استعادته الماضي ورؤيته الحاضر واستشرافه المستقبل. وكعادته في أعداده كلّها، وضع قصيّ صالح الدرويش حواره مع شاهين في مقدّمة العدد، كملفّ قائم بحدّ ذاته، قبل أن يحدّد، في تقديمه العدد (كتابة على الشاشة)، الأسباب التي دفعته إلى اختيار شاهين محورا لعدد كامل. كتب رئيس تحرير <<سينما>> في مقالته هذه المعنونة ب<<لماذا يوسف شاهين؟>>، أنه <<حين فكّرنا في تسجيل وقفة خاصة بسينما يوسف شاهين، لم نتردّد في تخصيص عدد كامل من مجلتنا بهذا المخرج الكبير الذي لا يزال، منذ خمسين عاما ونيّف، يفاجئنا في كل فيلم جديد من أفلامه بجرأته في اختيار الموضوع، وجرأته في معالجته، وبموهبته الناضجة، التي تزداد نضجا في كل مرة، وبقدرته على العمل والتطوّر وإثارة الجدل أيضا>>.إلى الحوار والرسالة التي كتبها جيل جاكوب (المندوب الدائم لمهرجان <<كان>>) خصيصا بهذا العدد، هناك مجموعة مقالات نقدية وضعها كلّ من سمير فريد وإبراهيم العريس ومصطفى المسناوي وعلي أبو شادي وفاطمة بكّار وكمال رمزي ووائل عبد الفتاح وديانا جبّور وعصام زكريا وقصيّ صالح الدرويش وحسن عطية، بالإضافة إلى مقالتين قديمتين للراحلين سمير نصري وتوفيق الحكيم، وشهادات لهند رستم ويسرا ومحسنة توفيق وليلى علوي وهدى سلطان وماجدة الخطيب ولبلبة وخالد يوسف وعزت العلايلي وأحمد فؤاد سليم وسيف عبد الرحمن وأحمد وفيق وعبد الله محمود وماريان خوري وغابي خوري ورمسيس مرزوق ويحيى الموجي ونبيهة لطفي. كما ضمّ العدد ألبوم صُوَر وفيلموغرافيا.

هناك ملاحظات نقدية عامة، لا بُدّ من الإشارة إليها. فعلى الرغم من أهمية تخصيص عدد كامل بيوسف شاهين، لما يتمتّع به من مكانة مرموقة في المشهد السينمائي، ولما يحتويه بعض أفلامه من مساءلة ومشاكسة وطرح تساؤلات مصيرية ونقدية مهمّة ولاذعة، إلاّ أن هذا العدد خلا من تحرير المادة المنشورة فيه، فظهرت المقالات والشهادات بأساليب متباينة، بعضها محتاج إلى إعادة صوغ أدبي وصحافي على حدّ سواء. فالحوار الطويل الذي أجراه قصيّ صالح الدرويش مع شاهين بقي على حاله، أي بحسب الأسلوب المستخدم من قبل المخرج في كلامه وإجاباته وتعليقاته وانتقاداته. لا يعني هذا ضرورة إلغاء مضمون كلامه (وهذا أمر غير اخلاقي مهنيا)، بل هناك حاجة ملحّة إلى تحرير المادة الصحافية كلّها، كي تحافظ المجلّة بعددها الخاص هذا على مناخ واحد من الكتابة، وليس على مجموعة متفرّقة ومتناقضة من الكتابات الصحافية الناتجة من أساليب كتّابها. أضف إلى ذلك أن الغالبية الساحقة من المقالات والشهادات ركّزت على الجوانب الإيجابية، وقرأت الأفلام والقضايا بأساليب <<مُهادنة>> بعض الشيء.

كما أنها تغاضت كلّيا عن أفلامه الوثائقية والروائية القصيرة، وعمله المسرحيّ، الذي يُمكن لصانعي العدد أن يتغاضوا عنه، كونه عملا مسرحيا والمجلة سينمائية، لكن غياب مقالة نقدية واحدة على الأقلّ مخصّصة بالأفلام الوثائقية والروائية القصيرة ففاضح، خصوصا وأن هذا العدد تحديدا مرشّح لأن يكون مرجعا ما يستعين به باحث أو طالب أو ناقد أو راغب في الاطّلاع والمعرفة.

السفير اللبنانية في

19.08.2004

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)