كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«كاترين دينوف» في رحلة استكشاف للدمار في بيروت والجنوب اللبناني

«بــدي شـوف» شـهـادة عـلى اختـفاء مـديـنة

كان (فرنسا) ــ صلاح هاشم

مهرجان كان السينمائي الدولي الحادي والستون

   
 
 
 
 

من أقوى الأفلام العربية التي عرضها مهرجان «كان» السينمائي 61 في قائمة المهرجان الرسمي - وليس في «سوق الفيلم» على هامش المهرجان - فيلم «بدي شوف» للمخرجين اللبنانيين الثنائي جوانا حاجي وخليل جورجي، وكان عرض في تظاهرة «نظرة خاصة» في قاعة «ديبوسي» بحضور الثنائي اللبناني المذكور، والممثلة الفرنسية القديرة النجمة كاترين دينوف بطلة الفيلم، وملكة «كان» الحادي والستين عن جدارة، ولولاها يقينا، ما كان لهذا الفيلم أن يتحقق، بالإضافة طبعا الى الحضور الأثير للممثل اللبناني ربيع مروة، قائد الدفة وعجلة القيادة في الفيلم. وكان المخرج خليل جورجي عبر عن شكره وامتنانه لشجاعة وبأس كاترين التي غامرت بحياتها من أجل انجازه، كما حضر على المسرح أيضا منتجو الفيلم في لبنان وفرنسا، واستقبل جمهور «كان» من النقاد والصحافيين الفيلم بحفاوة بالغة، وصفقوا له معنا طويلا.

«بدي شوف» ليس فيلما عاديا مثل بقية الأفلام، فهو فيلم بلا سيناريو، ولا يحكي قصة لها بداية ووسط ونهاية، بل فيلم مثل «شهادة»، شهادة على الدمار الذي لحق لبنان كله أثناء الغزو الإسرائيلي عام 2006 ويحكي عن «رحلة» لتفقد ذلك الدمار، واختفاء قرى بأكملها من الوجود، ودفن بيوتات وعمارات مدينة ــ بعد استخلاص الصفيح والحديد منها ــ تحت البحر، وتوديعها الى الأبد، بكل ما تحمله من تاريخ وذاكرة. وهذا الفيلم أشبه ما يكون بـ«قصيدة» سينمائية، يثير عدة إشكاليات سينمائية مهمة، مثل علاقة السينما بالواقع والتاريخ والذاكرة الجماعية، كما انه كـ«مغامرة فنية» يلبي «حاجة» صارت ماسة في سينما العالم الثالث، ويطرح تساؤلا: على أي شكل يجب أن تكون عليه تلك الأفلام التي نصنع في بلادنا التي تنتمي الى دول العالم الثالث النامي الآن، في مصر والجزائر والعراق ولبنان؟

سينما لبنان ضد التيار

وبخاصة بعد أن صار النموذج السينمائي الأميركي التجاري المهيمن على أسواق السينما في بلادنا والعالم، لا يلبي احتياجاتنا السينمائية الحقيقية، تحت القمع والحصار والحرب، كما أنه يعرقل حركة السينما العربية وسينما العالم الثالث باتجاه سينما تترافق مع الحدث وتصاحبه، وبخاصة في زمن الحرب ــ وكل بلدان العالم الثالث الفقير في حالة حرب، من القاهرة في مصر، الى سان باولو في البرازيل مرورا ببيروت في لبنان ــ لكي تصبح انعكاسا صادقا له، والتعبير الأمثل، وليس الأوحد له، من خلال التجريب، والجمع في العمل السينمائي بين الواقع والخيال، بين السينما التسجيلية والسينما الروائية.

وهو اتجاه بدا لنا من خلال متابعة أعمال المهرجان انه يتكرس أكثر وأكثر من خلال الأفلام التي شاهدناها في المسابقة الرسمية للمهرجان، كما في الفيلم الصيني «مدينة 24» وفيلم «خدمة» من الفلبين، والفيلم البرازيلي لوالتر ساليس، وسنعرض لكل هذه الأفلام الأثيرة لاحقا، حيث أن النموذج الروائي الذي تطرحه هوليوود (كما في فيلم «انديانا جونز» لسبيلبيرغ الذي عرض هنا في «كان» خارج المسابقة وغيره)، لم يعد يكفي أو لم يعد صالحا، للتعبير عن المشاكل التي نعيشها وخصوصيتها في مجتمعاتنا، كما أن المشهد السينمائي أيضا يقينا قد تغير، فهناك الآن شاشات أخرى، وجمهور مختلف عن الجمهور الذي كان ذلك «النموذج» يخاطبه في الستينيات والسبعينيات، وهذه مسائل واشكاليات ورؤى جديدة يطرحها فيلم «بدي شوف»، ويقدم من خلال رحلة الفيلم بحثا عن هوية فيلم وهوية السينما عموما، ويتساءل: ماذا تستطيع السينما أن تفعل في زمن القصف والحرب والكوارث والبطالة، والوقوف على حافة الهاوية، وأي سينما عندئذ نصنع؟.

يحكي الفيلم عن رحلة للنجمة الفرنسية كاترين دينوف في لبنان بصحبة الممثل اللبناني ربيع مروة داخل سيارة يقودها ربيع، وتنطلق بهما اولا في شوارع بيروت المدينة لتفقد الدمار الذي لحق بها اثناء الغزو الاسرائيلي وكل الحروب التي عاشها لبنان وتركت اثرا لا يمحي في جسد المدينة، ويظهر ذلك في البيوتات المهدمة والثقوب التي احدثتها طلقات البنادق والرشاشات والمدافع.

ويقدم ربيع نفسه الى كاترين ويتعارفان، فيذكر لها أن اسمه يعني فصل الربيع، وأنه يكره هذا الاسم، حيث يبدو أن لبنان محكوم عليه بألا يتمتع بأي ربيع أو اي استقرار على الاطلاق منذ زمن، كما يحكي لها ربيع عن أهله في الجنوب الذي تعود ان يقضي فيه فترة الصيف، وعن جدته التي كانت تسكن معهم في بيروت، فلما وقع الغزو الاسرائيلي رجعت إلى بيتها في قريتها الجنوبية، ويعد ربيع كاترين بزيارة إلى بيت جدته معها، كما يحكي لها عن اعجابه الكبير بتمثيلها وبخاصة في فيلم بديع للمخرج الاسباني لوي بونويل الكبير اسمه «حسناء النهار» BELLE DE JOUR اضطلعت كاترين ببطولته، ويردد عليها مقطعا بالعربية من الفيلم يحفظه ربيع عن ظهر قلب، وتنسجم كاترين بسماع موسيقى اللغة العربية في المقطع.

الطريق إلى الجنوب

لكن يظهر منذ أول لقطة في الفيلم قلق النجمة الفرنسية حين تتقدم بهما السيارة في شوارع بيروت، ويظهر قلقها من خلال اهتمامها بربط حزام الأمان في السيارة، ويقول لها ربيع أن عدم ربط الحزام في ما مضي كان يعاقب عليه القانون بغرامة، أما بعد الحرب، وحالة التسيب العام والفوضى، فان أحدا لا يهتم أو لم يعد يهتم بربط الحزام كما تفعل، لكن كاترين تصر على شد الحزام في كل مرة تدلف فيها الى السيارة، والتي نشاهد من خلال نافذتها أهل بيروت وهم يجلسون خارج البيوت والمحلات والمقاهي ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي.وتدريجيا تستريح كاترين لكلام ربيع وهي تنصت الى ما يقوله باهتمام.

ثم تخرج السيارة من بيروت وتنطلق باتجاه الجنوب، وهنا نتفرج على المنظر الطبيعي الساحر في لبنان، وحين تصل بهما السيارة الى قرية ربيع، ويخرج ليبحث عن بيت جدته، اذا به يكتشف أن القرية دمرت تماما، ولم يعد بإمكانه ان يتعرف على بيت الجدة بعد ان سقطت البيوتات المهدمة على الشوارع وأخفت معالمها وغطت على شوارعها، وكأن القرية لم تكن أبدا من قبل.

ثم تنطلق بهما السيارة باتجاه الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وهنا تحلق طائرات اسرائيلية في سماء لبنان عند الحدود اثناء تصوير مشاهد الرحلة، فترتعد كاترين خوفا لكن ربيع يطمئنها، ويقول لها ان تلك غارات وهمية تقوم بها الطائرات الاسرائيلية لارهاب الجنوب وأهله، وبث الرعب في قلوبهم، وقد صارت بمرور الوقت شيئا عاديا ورروتينيا.

وحين يغفل ربيع قليلا وينحرف بالسيارة عن الطريق المخصص للسيارات، يهرع طاقم الفيلم للحاق به، حيث ان كل الطرق الجانبية ملغمة، وقد تنفجر بهما السيارة (كاترين وربيع) في أي لحظة، وبعدها ينتظر طاقم الفيلم بوضع حامل لتصوير بعض المشاهد وانتظار تصاريح التصوير. وينتهز جنود القوات الدولية على الحدود حضور النجمة الفرنسية الكبيرة فيلتقطوا الصور معها.

ثم يعود ربيع بكاترين من جديد الى بيروت واثناء رحلة العودة يحكي لها في مشهد مؤثر عن تلك الرافعات التي تربض في موقع على حافة الماء، وتأتي اليه الشاحنات من المدينة وهي تحمل ما تبقى من بيوتها المهدمة. وبعد ان تستخلص منه حديدها المسلح، تقوم بدفن البيوت المهدمة في البحر، وكأن مصير بيروت المدينة أن تدفن تحت الماء، لكي تصبح في نهاية المطاف مجرد ذكرى ترقد في القاع..

محاولة سينمائية جادة

ويصل الفيلم هنا بعد الرحلة التي قطعتها كاترين مع ربيع مروة في لبنان الى ذروته الفنية، ويذكرنا هذا المشهد والمناخ السيكولوجي العام للفيلم والحالة التي يخلقها بفيلم «هيروشيما حبي» للمخرج الفرنسي الكبير آلان رينيه وسيناريو الكاتبة الروائية الفرنسية مارغريت دوراس، وتشمخ فيه كاترين دينوف بحضورها وشجاعتها وشهادتها، ويحقق به الثنائي اللبناني جوانا وخليل «إضافة» مهمة على طريق البحث والتفكير والتجريب، لإبداع سينما عربية مغايرة، تجمع بين الروائي والتسجيلي لتصبح نموذجا لسينما مختلفة، لمشاهد مختلف، لكن لم تكتمل أو تتشكل ملامحه بعد. نموذج يقدم نفسه كـ«محاولة» سينمائية فنية جادة، لخلق «بدائل» عكس تيار سينما الروايات والقصص والحكايات العربية التافهة التي شبعنا منها في المسلسلات وأفلام الثرثرات اللامجدية والتي يجري تفصيلها على مقاس النجوم، وقد انقضى عصرها ربما والى الأبد.

تحية الى جوانا وخليل الثنائي اللبناني على فيلمهما الذكي، الذي لا يحكي أو يفسر، بل يعرض فقط. يعرض للدمار، وعبثية الوجود الإنساني تحت الحصار والقصف ورعب الحرب، واختفاء مدينة بأكملها تحت مياه البحر، ويتركنا لنتأمل ونفكر، لكي نشارك أيضا بذلك في صنع الفيلم.

وتحية الى كاترين دينوف الفنانة والنجمة الفرنسية الكبيرة، لتعاطفها وتضامنها مع لبنان وأهله، وتشجيعها ووقوفها الى جانب تلك المحاولة السينمائية الجديدة للثنائي جوانا حاجي وخليل جورجي، على سكة سينما لبنانية حديثة.

فيلم سلام..

يقول الثنائي اللبناني جوانا حاجي وخليل جورجي مخرجا الفيلم في حديث معهما في «كان»: «فيلم «بدي شوف» لم يكن المقصود به تصوير وتسجيل العنف والدمار في لبنان كمحصلة لتلك المغامرة الفيلمية، لكن تصوير زمن اللقاء بين كاترين دينوف وربيع مروة والامساك بجماله ومعانيه ودلالاته وعمقه ومن حيث يبدأ في التو زمن اعادة البناء والتعمير من جديد، ولذا فقد خرجنا من الفيلم ونحن نشعر براحة كبيرة. نحن لم نصنع هذا الفيلم لكي يكون «أداة» في يد جماعة أو حزب في الدعاية لنفسه والتلويح به لاتهام الآخرين، ولا نريد ان يكرس الفيلم لخدمة ايديولوجية ما، ونعتبر أن اللقاء الذي تم بين النجمة الفرنسية الكبيرة كاترين دينوف وربيع مروة يقوي الأمل في السلام، ومن الأهمية بمكان أن يقرأ فيلمنا على أنه فيلم سلام، وأنه محاولة لرأب الصدع والتقسيم من خلال الصورة وفن السينما وقد انجزناه لكي يوحد، لا لكي يفرق في لبنان. هذا البلد الذي يمكن ان يكون ايضا أرضا للقاء وتبادل الجمال، وابداع صور جميلة جديدة لم نتعود عليها أو نتوقعها بعد».

القبس الكويتية في 21 مايو 2008

 
 

تحية للفيلم البلجيكي صمت لورنا

وتصفيق حار لكوستوريكا ومارادونا

قصي صالح الدرويش من كان

لم يكن غريبا أن يجمع النقاد على تحية الفيلم البلجيكي "صمت لورنا" من إخراج الأخوين داردين فهما مخرجان متميزان استحقا بكفاءة جائزة السعفة الذهبية التي نالاها مرتين من قبل. وفيلمهما الجديد رحلة مهمة في مغامرتهما السينمائية  استطاع أن يشد الجمهور الذي تابع أحداثه بكثير من التشويق والإعجاب. لورنا شابة البانية تتورط مع شبكة إجرامية يقودها نصاب يدعى فابيو الذي يساعدها في الحصول على الجنسية البلجيكية عبر تدبير "زواج أبيض" أي زواج صوري من شاب بلجيكي مدمن على المخدرات يدعى كلودي. حلم لورنا كان يقتصر على أن تجد عملا وتوفر مبلغا يمكنها من شراء مطعم صغير هي وحبيبها الألباني الذي يعمل في ألمانيا، لكن فابيو يجد فيها وبعد حصولها على الجنسية أداة لتجارته فيبدأ التخطيط لتزويجها من رجل مافيا روسي مستعد لدفع مبلغ كبير مقابل الجنسية، ولتسريع الأحداث يقرر إبعاد كلودي الذي لم يعد مفيدا.

وتبدو علاقة لورنا وكلودي غريبة حيث يحاول الاستعانة بها كي يتخلص من إدمانه وتقبل مساعدته لقاء الطلاق ويشفى كلودي ويحاول استمالة لورنا التي يحبها كي تبقى معه، أمام هذا الموقف الغريب تبدو لورنا باردة غاضبة ورغم رفضها السابق لمحاولات كلودي السابقة التقرب منها، تفاجئه بعريها الذي يتلوه مشهد حب وجنس يكشف حاجة الاثنين إلى العاطفة، فيما يبدو كأنه انطلاقة جديدة للعلاقة، لكن فابيو كان قد اتخذ قراره بالتخلص جسديا من كلودي وقتله عبر جرعة زائدة وهو ما سيتحقق له. لورنا تشعر بأنها حامل من كلودي أسفر وتحاول إقناع رجل المافيا الروسي كي يقبل باستمرار حملها لكن هذا الأخير يرفض كي لا يرثه الطفل، فتقرر ورغم غضب فابيو الاحتفاظ بجنينها, وأثناء نقل رجال فابيو لها كي تخضع لعملية إجهاض قسرية، تتمكن من خداعهم والهرب بعيدا في الغابة حيث تجد منزلا مهجورا تقتحم بابه لتنال قسطا من النوم.

الفيلم محكوم بدقة وبساطة تلتقي خيوطه المبعثرة ليتحول من فيلم بوليسي عادي إلى فيلم يتحدث عن معاناة المهاجرين في أوروبا وعن أخلاقيات مجتمع  كل ما فيه قابل للمساومة والإنسان فيه عملة مقايضة والذي استخدم الأداة تحول إلى أداة بدوره, الصورة ليست سوداء بالكامل فالجنين هو ثمرة حالة كانت انطلاقة جديدة لحياة لورنا التي تعجز عن الحيلولة دون قتل كلودي لكنها تسير على طريق الحياة والاحتفاظ بما تبقى منه، لورنا الهشة تجد في داخلها المقاومة,
التصوير والأحداث تطورت في هذه الولادة الجديدة التي أحدثت إيقاعا دراميا مؤثرا. وكان الفيلم في ساعته الأولى رائعا قبل أن يبدو السيناريو وكأنه توقف بحثا عن مخرج أفضل للنهاية، هذه النهاية التي صارت هربا آخر نحو شروط حياتية أفضل، لكنها غير محددة الملامح.

رغم هذه النهاية يظل في الفيلم رائعا تتألق فيه الممثلة ارتا دوبورشي بحضور آخاذ يضعها في حلبة التنافس على جائزة التمثيل. دوبورشي التي جاءت من كوسوفو والتي اختارها الأخوان درادن من بين المئات من الشابات ستصبح وبالتأكيد إحدى نجمات التمثيل في أوروبا.   

أما الاستعراض الذي شهده المهرجان أمس فكان فيلم "مارادونا لكوستوريكا" الذي عرض خارج المسابقة بحضور نجم كرة القدم الذي عشقه الملايين من جماهير كرة القدم أي دييغو مارادونا. والفيلم الذي قدمها كوستوريكا يستعرض حياة اللاعب الأسطوري منذ طفولته المبكرة في ضواحي بيونس ايريس الفقيرة مرورا بصعوده الخارق إلى القمة وصولا إلى سقوطه المدوي بفعل الإدمان، نراه مراهقا رشيقا يغازل الكرة ونراه حطام إنسان في أوج إدمانه. في هذا الفيلم نتعرف على مارادونا الإنسان على أفكاره وقيمه ومعاناته فنتابعه يتحدث عن كرة القدم وعن الهدف الشهير الذي حققه في كأس العالم ضد انجلترا بعد اربع سنوات على حرب المالوين ونسمعه يعرب عن آرائه العدائية لكل ما هو انجلوساكسوني: لبريطانيا ومارغريت تاتشر وطوني بلير والملكة اليزابيث والأمير تشارلز، لكن على الخصوص جورج بوش الذي يصفه مارادونا بأنه "قمامة البشرية". وفي المقابل يبدي إعجابه الكبير بكاسترو وتشي غيفارا وشافيز وقادة الأحزاب اليسارية الثورية في أمريكا اللاتينية.

بكثير من المهارة وبكثير من الاندفاع والحماس لمارادونا يصور كوستوريكا حالاته الإنسانية حين يتحدث عن مرارة تجربته مع الكوكايين وعن حبه لزوجته وابنتيه, وبكثير من الدقة والحرفية استطاع المخرج الصربي أن يصبح شريكا لمارادوانا في تقديم حكايته، بحيث لم يعد مجرد مخرج سينمائي كبير بل بطلا شريكا للاعب الشهير، ومن هنا نفهم أن اسمه ورد في عنوان الفيلم.  وبالتأكيد لم يكن كوستوريكا قادرا على إنجاح هذا الفيلم لولا حبه الكبير لكرة القدم التي كاد أن يصبح لاعبا محترفا فيها قبل أن يتحول إلى السينما، كما لم يكن قادرا على تصوير هذا الفيلم وبكل هذا الزخم لو لم يكن يشاطر مارادونا في مواقفه السياسية الناقد لأمريكا وبريطانيا ولو لم يكن بدوره يساريا يصفق لزعماء اليسار وثوارهم.

وبغض النظر عن المواقف السياسية لجمهور ما تابعوا الفيلم، صفق الجميع وبحرارة كبيرة لهذا الفيلم الجميل الحماسي الذي رافقته تظاهرات حارة قبل وبعد عرضه لتحية مارادونا كرة القدم وكذلك لتحية كوستوريكا الذي يطلق عليه البعض تسمية "مارادونا الفن السابع".

موقع "إيلاف" في 21 مايو 2008

 
 

المفتش السابق هاري يفضح ممارسات شرطة لوس انجليس في «كان»...

وفي اليوم السادس أعطى ايستوود المهرجان فيلمه الكبير

كان (جنوب فرنسا) - ابراهيم العريس

الأفلام الجيدة التي عُرضت في هذه الدورة من مهرجان كان السينمائي حتى اليوم، جيدة في شكل عام، حتى وإن كان معظمها قد أتى أدنى من التوقعات. وإذا استثنينا الفيلم التركي «ثلاثة قرود» وفيلم وودي آلن، الخفيف والطريف «فيكي كريستينا برسلونا»، لا يمكن اعتبار الأفلام المعروضة والموقعة من أسماء سينمائية كبيرة، أفضل ما حقق أصحابها في تاريخهم حتى اليوم.

من هنا كانت المفاجأة طيبة حين عرض فيلم كلينت ايستوود «الإبدال» بدءاً من أمس، الثلثاء، ليعتبر حدثاً سينمائياً كبيراً. وهو على مفاجأته، كان أمراً متوقعاً بالنسبة الى الذين يتابعون التطور المدهش في لغة ايستوود واختياره مواضيعه خلال السنوات الأخيرة. بل أكثر من هذا: تطوره بالنسبة الى قيم المؤسسة الأميركية، في شكل يثير سجالات صاخبة.

هذه المرة، في «الإبدال» يتصدى ايستوود الذي كان يعرف في الماضي بـ «المفتش هاري القذر» بسبب أفلام فاشية عدة مثّلها تحت إدارة دون سيغال بخاصة، يتصدى لقلب المؤسسة الأميركية: للبوليس وتحديداً في لوس انجليس التي لا تتمتع أجهزة الشرطة فيها بسمعة عطرة. وإيستوود الذي نكاد نقول ان تصديه هذا هنا يشكل انعطافة أساسية في فكره، يتصدى من خلال أجهزة الشرطة الى أجهزة الاستشفاء النفسي، فاضحاً ممارسات قد يكون طبيعياً ان يفضحها سينمائيون آخرون على مدى تاريخ السينما. اما الجديد فهو ان يأتي هذا الفضح من فنان وُسم دائماً باليمينية والامتثالية، وعلى الأقل حتى «بيارق آبائنا».

غير ان المدهش هنا هو ان ايستوود لا يجعل من عملية الفضح هذه لب الفيلم، بل يقوم بها من خلال حكاية كلاسيكية اشخاصها من لحم ودم، بعيداً من ان يستخدمهم رموزاً. ومن هنا جاءت إدارته الرائعة ممثلين من طينة انجلينا جولي وجون مالكوفتش في حكاية مأخوذة من واقع حقيقي حدث في لوس انجليس في ثلاثينات القرن الماضي. حكاية تتعلق بخطف طفل ثم إبداله بآخر تصر الأم على انه ليس ابنها. وانطلاقاً من هنا تدور الأحداث على مدى سنوات، ومحورها تلك الأم التي على رغم كل ما يحدث لها لا تريد أن تفقد الأمل في عودة الابن... يساعدها في هذا قسيس ورجل شرطة ورأي عام، فيما يحاربها جهاز الشرطة الفاسد.

على خلفية هذه الحادثة، المشهورة في تاريخ المدينة، بنى ايستوود فيلماً كلاسيكياً ضخماً، رسم من خلاله في شكل رائع مدينة لوس انجليس في تاريخها السابق من القرن الماضي، ومر في طريقه على السينما – وليدة تلك المدينة – في غمزات تليق بمحب كبير للفن السابع. كما جاور أنواعاً سينمائية مختلفة في مزج خلاق في ما بينها، من الفيلم البوليسي الى الدراما العائلية، الى فيلم المحاكمات.

كل هذا، الى صورة خلاقة وحوارات مكثفة واشتغال انيق على العلاقات بين الشخصيات، أعطى ايستوود الدورة الـ 61 من مهرجان كان، وهو بعد في يومه السادس، فيلمه الكبير. الفيلم الذي قد يمكن المراهنة منذ الآن على انه لن يخرج خالي الوفاض يوم توزيع الجوائز، كما انه يسير بمخرجه خطوة أخرى صعوداً نحو مكانة أساسية في السينما الأميركية المعاصرة.

الحياة اللندنية في 21 مايو 2008

 

الحدث الأكبر في مهرجان «كان» يأتي من خارج المسابقة وداخل الحرب الباردة...

«انديانا جونز» وبوند وتان تان والعصر الكولونيالي في لغة واحدة

كان (الجنوب الفرنسي) – ابراهيم العريس 

للوهلة الأولى لا يبدو الأمر واضحاً بالنسبة الى المارة: مئات الشبان والمراهقين يحيطون بقصر المهرجان في «كان» وهم معتمرون قبعات متشابهة يميل لونها الى البني الفاتح. يقفون في ترقب وفرح وبالكاد يصدر عنهم صوت أول الأمر. هل هم أعضاء طائفة دينية جديدة ما؟ هل هم اعضاء ناد رياضي؟ ثم من اين تأتي هذه القبعات ذات الطراز الكولونيالي ولماذا يعتمرونها والشمس شبه غائبة؟ فجأة يعلو صراخ الشبان والسبب: ها هو ستيفن سبيلبرغ وصحبه، من جورج لوكاس وكيت بلانشيت وهاريسون فورد يدنون من البساط الأحمر ودرجاته الصاعدة الى الصالة الرئيسة في القصر. إنهم في طريقهم الى حضور العرض الأول لفيلمهم المشترك «انديانا جونز ومملكة الجمجمة الكريستال»... الفيلم المنتظر أكثر من أي فيلم آخر في تاريخ «كان». وحتى خارج «كان» في تاريخ السينما كما يبدو. وإذ يدرك المارة هذا يفهمون كل شيء: قبعات الشبان هي قبعة المغامر الشهير نفسه، وزعت على الناس في الشارع وبلغت كلفتها، كما قيل، كلفة فيلم فرنسي متوسط الإنتاج.

مع «انديانا جونز» الجديد الذي شهد عرضه زحاماً استثنائياً ربما لم تشهد «كان» مثله من قبل، على الناقد، او المغالي في حبه للسينما الجادة، أن ينسى تماماً كل هذا، ويفعل كما يفعل الناس أجمعين: ان يدرك من البداية انه إنما يشاهد فيلم مغامرات يعيده الى الطفولة... الى ولعه القديم بكل ما يمت الى الحكايات الصاخبة بصلة... الى دهشته قبل عقدين وأكثر أمام قدرة انديانا على الإفلات من المخاطر، وقدرة سبيلبرغ على تصوير ذلك كله. امام هذا فلينس الناقد انه ناقد، بل فلينس ايضاً المهتم بالسياسة والمناضل ضد هيمنة العصر الكولونيالي الذي يمثله انديانا خير تمثيل، انه أي شيء آخر غير هاو للسينما. إن فعل سيرتاح تماماً ويشاهد مغامرة جديدة للبطل وقد صار الآن كهلاً، لكنه لا يزال يحتفظ بسحره ولطفه وولع الناس به، خصوصاً انه هذه المرة تخلص من أبيه، واكتسب «ابناً» بما يشبه التبني. وهذا طبيعي ضمن منطق الفيلم، إذ نعرف ان مغامرة انديانا جونز الثالثة «الحملة الصليبية الأخيرة» تعود الى العام 1989، وتروي احداثاً وقعت اواسط ثلاثينات القرن العشرين. اما المغامرة الجديدة فتدور رحاها، بين اميركا الشمالية وأختها الجنوبية العام 1957. ويعني هذا بالطبع انه فيما كانت مغامرة انديانا الثالثة تدور في زمن النازيين، ها هي المغامرة الجديدة تدور في زمن الحرب الباردة بين السوفيات والأميركيين، والصراع يدور من حول حبكة متشابهة: محورها هذه المرة تلك الجماجم المنحوتة بفن مدهش، من الكريستال في زمن حضارات اميركا الجنوبية، والتي يفترض الفيلم ان عددها 13، وأن من يملكها يسيطر على العالم. إذاً، لئن كانت الأجهزة الأميركية تطارد انديانا عند أول الفيلم، فإنه هو، على رغم هذا سيقارع رغبة السوفيات الحادة في العثور على الكنز، عبر بلدان عدة أولها جبال البيرو. وواضح ان هذا كله يضعنا، حقاً امام روح مغامرات انديانا جونز (أشهر بطل مغامر في تاريخ السينما)، ولكن ايضاً في مكان ما بين مغامرات «تان تان» التي يتجه سبيلبرغ نفسه الى إخراج سلسلة منها للسينما، وبين حكايات جيمس بوند، ولكن طبعاً من دون الإفراط في الخمر وفي النساء. ومع هذا ثمة في الفيلم امرأة مميزة، يفترض مبدئياً أنها قائدة القوى المعادية (السوفياتية) المطاردة لأنديانا وللجماجم في آن معاً... ولكن لأن كيت بلانشيت هي التي تقوم بالدور، سيكون للضابطة السوفياتية الكبيرة هذه دور يتجاوز مهماتها هذه. وهو دور من الصعب علينا توقعه في أول مشاهد الفيلم حين نرى على الشاشة جنوداً سوفياتيين في عربات عسكرية اميركية تقودهم في المطاردة كيت بلانشيت.

إذاً، الفيلم الأكثر صخباً في «كان» حتى اليوم هو «انديانا جونز» الذي عرض عرضاً خاصاً، خارج المسابقة، والذي، إذ صفق الجمهور له طويلاً وتجاوب معه كثيراً، وتابع في كل زاوية ومكان نقلاً تلفزيونياً للمؤتمر الصحافي لأصحابه، وجد بين النقاد من تجاوب معه كمغامرة غير ضارة، خصوصاً ان الحرب الباردة صارت في متحف التاريخ، كما وجد من هاجمه، سياسياً وفنياً بقوة قائلاً ان سبيبلرغ، الذي وصل الى مستوى السينمائي الجاد والمؤلف في اعمال مثل «لائحة شندلر» و «ميونيخ» و «المحطة الأخيرة»، عاد هنا ليصبح، من جديد، منتجاً يبحث عن المال، لأن إخراج مثل هذا الفيلم «لا إبداع فيه»، حتى وإن كان سبيلبرغ أكد انه، على عكس كل أصحاب الأفلام الضخمة في أيامنا هذه، استخدم للخدع السينمائية تقنيات تقليدية تعود الى ايام شبابه، لأنه هو ايضاً يحب ان يعود الى مراهقته، حتى وإن استنكف وسط الضحك والتصفيق عن اعتمار القبعة الشهيرة.

الحياة اللندنية في 20 مايو 2008

 
 

يوميات “كان” السينمائي الدولي 2008... ( 8 )

كان - محمد رضا

يلوم أحد النقاد العرب زميلاً له على أن الثاني كتب أن الأول لم يجد في مهرجان عربي أي خطأ على مدار خمس مقالات كبيرة حول ذلك المهرجان ووجد في مقالة صغيرة واحدة خمسة أخطاء فادحة في مهرجان عربي آخر.

وبينما هما يتصافيان كان المهرجان الفرنسي الكبير الذي يحضرانه هما و4400 صحافي وناقد وإعلامي آخر يجسّد حقيقة أن المهرجانات الكبرى، كهذا المهرجان، لا يمكن أن تخلو من عيوب. كان الواقع في ذلك اليوم أن النقاد والصحافيين وجدوا أنفسهم أمام برمجة غريبة تحتوي على فيلم مسابقة واحد وخانة مفتوحة لفيلم ما بعد الظهر لا يمكن لهم حضوره من دون أن يتم ذكره في جدولة البرنامج.

برنامج اليوم التالي كان أيضاً لا يخلو من الغرابة، لم يكن هناك فيلم مسابقة في الصباح الباكر كما عوّدنا المهرجان كل يوم من أيامه منذ عقود وعقود. بينما في يوم آخر كانت هناك ثلاثة عروض للمسابقة في يوم واحد، الأول في الصباح والثاني بعد الظهر والثالث ليلاً.

إنه من العبث أن تسأل عن السبب ومن العبث أن تمضي وقتاً طويلاً وأنت حائر خصوصاً أنه دائماً هناك أفلام أخرى، في أقسام جانبية، تعرض ليل- نهار.

مهرجان هذا العام يبدو، وقد مرت عليه ثمانية أيام متلاحقة، كما لو أنه يكرّس مبدأ أن المرء منا لا يستطيع أن يعيش هنا من دون الورقة التي تُنشر الساعة الخامسة من بعد كل يوم والتي يتم فيها تحديد كل الأفلام المعروضة في الأقسام الرئيسية من “كان”، اي قسم المسابقة وقسم “نظرة ما” التي باتت متسابقة أيضاً والعروض الرسمية خارج المسابقة وعروض تظاهرات أخرى هامشية لكنها مهمّة لدى متخصصي السينما والنقد.

هذه الورقة تحدد ما الذي يحمله يوم غد من جديد ومتى، ومن دونها تشعر بأن كل كان تعرض أفلاماً من وراء ظهرك. لا تعرف الى أي صالة تتجه ومتى ولأي فيلم. وهذا لا يحدث في المهرجانات الأخرى، حيث يتم تحديد كل الأفلام مسبقاً وبنظرة واحدة تجد أن الخانات الزمنية ممتلئة في مواعيد محددة. فيلم الساعة التاسعة صباحاً لن يحدث فيه استثناء مفاجىء فإذا به يتضمّن فيلماً في التاسعة والنصف مثلا. تعلم وإن لم تراجع الجدول كاملاً أنك إذا قصدّت الصالة الفلانية في هذا الوقت فإنك ستجد فيلماً تابعاً لقسم معيّن يعرض في الوقت ذاته الذي تم عرض فيلم من ذات القسم يوم أمس وسيعرض فيه فيلم آخر في الغد. لا أعني أن هناك فوضى عروض في “كان” لكن هناك تلك الفراغات وبضعة عروض غير منظورة وتفاوتاً في بعض الأوقات يجعل من الصعب الارتياح الى إدراك مسبق والتأكد منه.

وعلى كل حال، تتوالى العروض السينمائية والسائد الى اليوم أن الكثير منها -في المسابقة وخارجها- جيّد وإن ليس عظيماً. ليس الى الآن الاكتشاف الكبير لفيلم محدد، لكن العديد من الأفلام التي عرضت في المسابقة مثلاً تتبارى في مسألة أن بعضها أفضل وأهم بكثير من بعضها الآخر. ومع أن هذه هي الحالة المفترضة، الا أنها حالة تتساوى فيها الغالبية من الأفلام المتسابقة بحيث تخلق حالة من نوع النظر الى الأمام من دون أن يرى المرء شيئاً محددّاً أمامه. يحلّق في الأيام المقبلة الباقية من المهرجان من دون أن يبلور منهجاً لهذه المسابقة تفرز له توقّعاً حقيقياً ما.

هذا على صعيد التصنيف العام لأفلام المسابقة الى الآن، لكن في نظرة أعمق الى ما تم عرضه هناك ما يساعد على تكوين رأي جامع وهو أن ما شوهد الى الآن يمكن، في معظم حالاته، تكوين صورة لواقع يزداد ثقلاً ودكانة من عام إلى آخر.

المخرج هو فرد مثلنا جميعاً يعيش العالم الذي نعيش فيه ولديه اختيارات، هو إما أن يتعاطى مشاكل العالم مختاراً من المواضيع ما يعكس هذه المشاكل، وعبر نوع من الأعمال هو حر في اختياره أيضاً كما أن يكون واقعياً أو خيالياً مفرطاً، لا فرق، أو أن يختار الالتفات الى ما يؤلّف حالة خاصّة تسرد ما لا يبدو متّصلاً بالشؤون التي تطغى على حياتنا هذه الأيام من حروب ومشاكل بيئية وأشكال ذلك التكوين غير الصحّي لعالم تقاربت مسافاته وأصبح، اقتصادياً، مسؤولاً عن مجاعات وحروب أهلية ودكانة طالع الأفق أمام العديد من الشعوب غير القادرة على المواكبة.

وسنجد أن هناك أفلاماً جيّدة في كل هذه المجالات سواء تعاطت الوضع الذي نحياه أو ارتبطت به على نحو أو آخر، أو لم تفعل، ربما لهذا السبب مرّ فيلم “مارادونا” لأحد المخرجين الذين يتوقّع المرء مشاهدة أعمالهم أولاً بأوّل، وهو أمير كوستاريتزا، ليس خارج المسابقة فقط، بل خارج دائرة اهتمام العديدين من النقاد الذين كانوا اعتبروا المخرج الصربي أحد أهم السينمائيين الخارجين من تلك المنطقة للانضمام الى قائمة المبدعين في العالم. فيلم كوستاريتزا هذا فيه حسنات، لكنها حسنات تتبع نظام أعماله، وليس من النوع الذي تجعلها مميّزة هنا على نحو كبير.

كذلك الحال مع فيلم وثائقي آخر وعن رياضي آخر تم عرضه في قسم “نظرة ما” هو “تايسون” عن ذلك الملاكم المعروف الذي أثار العديد من الاستياء حين توالت الأنباء، خلال السنوات الخمس الأخيرة من التسعينات على الأقل، عن عنفه على الحلبة وخارجها وحالات اعتداء اتهم بها وسلوك شرس جعله يبدو كما لو أنه آيل الى السجن والهزيمة في يوم قريب. الفيلم عنه الحامل اسمه من إخراج جيمس توباك، وهو نوع من المخرجين الأمريكيين صاحبه تردد بين هواة السينما في تحديد انتماءاته. فهو بالتأكيد ليس تبعاً للنظام الهوليوودي لكن ليست لديه لا تلك الأعمال التي تقصد الترفيه وحدها ولا تلك التي تعرف مستوى فنيّاً كبيراً بحد ذاتها.

على أن النبرة السائدة فيما شاهدناه الى الآن نبرة ذات دكانة في تعاملها مع مواضيعها، بالرغم من استثناءات لابد منها، فإن المخرجين الذين يشكّل كل منهم عالمه من وجدانيّاته ومراميه ونظراته الى هذا الزمن الذي نعيش فيه، يبلور كل ذلك في اختياراته كاتباً لأعماله، كما منفّذاً لها.

وهذا في الحقيقة بداية من فيلم الافتتاح “عمى” حيث المنظور الذي طلب منا المخرج البرازيلي فرناندو مايريليس قبوله يقدّم عالماً مخيفاً نعيش فيه. إنه لا يتنبأ بأن فيروساً يصيب البشرية بالعمى سيصيب الناس، بل يقوم أن هذا الفيروس ماثل الآن. إن حالة العمى نعيشها بأعين مفتوحة ترى لكنها لا تبصر. تنظر الى الأشياء لكنها لا تفهمها.

المخرج البرازيلي الآخر وولتر سايليس يقدّم وشريكته دانييلا توماس في فيلم “نقطة العبور” موضوعاً حول صعوبة البقاء عائماً فوق نهر المشاكل والمتاعب التي تجرف في سبيلها معظم الشباب هذه الأيام. إنه لا يفتعل ولا يتحدّث عن بلد بلا اسم أو هويّة بل يستخدم الواقع ليرسم صعوبة العيش خارج نطاق هذا الواقع.

والصيني جيا جانكي يبحث في فيلمه الجديد “المدينة 24” القيمة الفردية الضائعة في صين اليوم ولا يجدها. يتعامل مع عالم لا يرضيه فنّاناً ولا إنساناً، لكنه عالم موجود. وبالنتيجة ولأن المخرج غير راض عنه فإنه من الطبيعي أن يمنحه وجوداً داكناً هو انعكاس لمفهوم جيا المختلف عن مفهوم السُلطة التي تمضي في درب من الرأسمالية- الشيوعية غير مسبوق.

ومن الصين الى تركيا حيث العالم الخارجي هو أيضاً داكن. لكن في فيلم نوري بيلجي سيلان “ثلاثة قردة” فإن هذه الدكانة تكمن في نوعية العلاقات الأسرية والعائلية السائدة. هنا لا علاقة للدولة أو السُلطة بكيف يعيش التركي حياته، وهذا مفهوم، لكن هناك علاقة بالوضع المعيشي الذي يفرض على هؤلاء اختياراتهم الصعبة أو على الأقل يؤدي الى حلول تبدو آمنة ومقبولة لكنها سريعاً ما تتبدّل الى فخاخ منصوبة على المرء أن يتلمّس حلوله منفرداً وليس من بينها حلاً مثالياً واحداً.

في كل ذلك، وفي غيره، تبدو المدينة التي نعيش فيها أقرب الى الفخ الرامز الى السجن الأكبر الذي اسمه الحياة.

الأفلام المعروضة في ثاني الأقسام الرئيسية في هذا المهرجان، وهو قسم “نظرة ما”، لا تختلف في ماهية النظر الى العالم من حولها.

فيلم “جوع” للأيرلندي ستيف مكوين هو عن السجن السياسي وما يتعرّض إليه المعتقلون من تعذيب وضرب يذكّرك بما جرى في أبو غريب ولو أن أحداثه تدور في مطلع الثمانينات. واقعي ومحسوس بانتمائية قرار ورغبة في رصف عالم فني يرصد عالماً بائساً من الحياة.

هذه الأفلام وسواها تترك في العين جرحاً نازفاً خصوصاً حين يدرك المرء بطريقة تلقائية تماماً أنه يعيش هذا الواقع وإن لم يره حوله.

ما هو مخيف هو أن هذه الأفلام لا تجرؤ على الإيحاء بحل أو حتى بأمل، سيبدو ذلك تطمينياً أو وعظياً وفي كل الأحيان لا يتماشى مع ما سبق من طرح وأقل منه حجماً ما يجعله غير قابل للتصديق. 

أفلام اليوم

فيلمان يناقشان مشاكل اجتماعية

** صمت لورنا

إخراج: جان-بيير داردين، لوك داردين

بلجيكا (المسابقة)

خلال السنوات العشر الأخيرة عرف الأخوان جان- بيير ولوك داردين استحواذ الإعجاب عبر سلسلة أفلامهما القائمة على طرح مشاكل اجتماعية من خلال شخصيات تَكِد لكي تحافظ على مكتسباتها المادية في الحياة التي، في غالب الأمر، قد لا تكون أكثر من الحد الأدنى جداً من مستويات الدخل أو العيش.

هذه المرّة في فيلمهما الجديد “صمت لورنا” يعودان الى موضوع الهجرة غير الشرعية عن طريق تقديم قصّة امرأة اسمها لورنا (أرتا دبروشي) كانت قد هاجرت من ألبانيا وتزوّجت في بلجيكا زواج مصلحة للحصول على الهوية البلجيكية. الآن وتبعاً لكونها عضوة في خلية صغيرة تعمل في سوق جلب المهاجرين وتزويجهم من مواطنات بلجيكيات لحين حصولهم على الجنسية لقاء مبالغ كبيرة، عليها أن تتخلّص من زوجها الذي يعاني الإدمان والعصابة تساعدها في ذلك. لكنها في ذات الوقت على علاقة بشاب ألباني يعمل في بلجيكا. تتعقد الأمور بعد موت زوجها نتيجة جرعة زائدة وذلك عندما تكتشف أنها حامل. الزبون المقبل هو روسي لا يتحدّث لا لغتها الألبانية ولا اللغة الفرنسية وهو لن يرغب في الاقتران بامرأة حامل.

العصابة الآن تريد من لورنا الإجهاض ولورنا تريد الاحتفاظ بالجنين. والفيلم يوحي بأن لورنا في النهاية هي إنسانة طبيعية مُساقة لأن تلعب دوراً غير قانوني، وربما غير إنساني، لكنها، وككل امرأة أخرى، فإن رغباتها تكمن في الاستقرار العاطفي مع من تحب وإنشاء العائلة التي تستطيع فيه رعي أطفالها.

*** ثلاثة سعادين

إخراج: نوري بيلجي سيلان -تركيا (المسابقة)

مثل الأخوين داردين نال المخرج التركي نوري بيلجي سيلان السعفة الذهبية من قبل، إنه المخرج الذي شاهدنا له في الدورات القريبة السابقة “مسافة” و”مناخات” وكلاهما خرج بجوائز من هنا ومن مهرجانات أخرى حول العالم ويشكّلان الجزأين الأول والثاني من ثلاثية تنتهي بهذا الفيلم. لكن هذه الثلاثية هي كذلك لأن المخرج أعلنها هكذا، بكلمات أخرى، لو لم يعلن أنها ثلاثية لتم قبولها من دون مثل هذا التحديد ذلك لأنه من الأوضح عدم انتماء كل جزء منها الى الآخر لا من حيث أن المشاكل المطروحة هي ذاتها ولا من حيث الشخصيات التي يتعامل معها كل فيلم. “مسافة” عن الغربة بين قريبين ترك أحدهما قريته وتوجّه الى المدينة الكبيرة آملاً أن يجد الملاذ عند ابن عمّه بينما يبحث عن عمل، لكنه ينتهي فاقداً الاثنين، والثاني عن رجل وزوجته يخوضان أزمات الحب الذي توقّف سيله بينهما، وهذا الثالث يتحدّث عن عائلة من ثلاثة (العنوان) التي تمر بتجربة تتركها وقد تهاوت الى الحضيض ولا أحد يستطيع أن يوقف ما حدث.

الجامع بين هذه الأفلام عملياً الى جانب أنها من إخراج سيلان حقيقة أنها تبحث في أوضاع اجتماعية مع شخصيات تعيش أزمات غير مطروقة على هذا النحو من قبل في السينما التركية وبين ما شاهدناه في أي سينما أخرى.

هنا يدخل رب العائلة السجن لعام بعدما دهس صاحب عمله - وهو رجل أعمال ثري يأمل الدخول الى البرلمان - رجلاً فألبس التهمة لسائقه حسب اتفاق بينهما على أن يعيل الثري العائلة. الزوجة بعد حين تستجيب لنداءات الثري العاطفية وترتبط معه بعلاقة يكتشفها الابن ويسكت عنها. حين يخرج الزوج من السجن يجد زوجته متقلّبة وهو فوق ذلك كانت لديه أسباب للارتياب. حين يتأكد له الأمر يُسقط في يده. لا يستطيع فعل شيء سوى الثورة في داخله وخارجها.

يضرب زوجته ويهجرها وهي تعود الى ذلك الثري تريده أن يرتبط بها، لكنه يرفضها. فجأة نعرف أنه قتل والبوليس يجري تحقيقاً في الموضوع. من قتله؟ يدّعي الابن أنه القاتل وتزداد حالة الزوج صعوبة وهو يريد أن يحمي ابنه من دخول السجن فيسعى للاتفاق مع عامل مقهى لا يكاد يجد ما يكفي لسد ريقه لكي يتحمّل الجريمة ويدخل السجن مدّعياً أنه ارتكبها لقاء أن يأخذ الزوج باله على متطلّباته بعد خروجه. إنه الحل الذي فرض عليه سابقاً في نهاية لفيلم يستطيع أن يستمر على هذا المنوال الى الأبد. 

أوراق ناقد

حالة إبداع

تجدر الإشارة خلال الحديث عن الأفلام التي تثير حالاتها التوقّف مليّاً عندها، أن بعض هذه الأفلام هو بحث في الحلول الإبداعية لمشكلة البحث عن كيفية جديدة لسرد حكاية أو موضوع ما. هناك أفلام تفرض ظروفها الخاصّة نوعاً معيّناً من العملية السردية (نسمّيها عادة بالمعالجة) وتملي على المشاهد سبيلاً مختلفاً لتقدير المادة الواردة فيها.

أحد هذه الأفلام “بدّي شوف” للمخرجين اللبنانيين جوانا حاجي توما وخليل جريج الذي انطلق من وضع خاص، الرغبة في أن تقوم ممثلة فرنسا الأولى كاثرين دينوف برحلة في جنوب لبنان لكي تتعرف (او تشوف) كما تقول، الى الحقائق. هذه ليست الفكرة وحدها، بل القصّة أيضاً وما يُثير هنا، فوق ما تم ذكره حول هذا الفيلم سابقاً، هو أن الحالة خلقت وضعاً مختلفاً كان على المخرجين معالجته على النحو الذي يرتئيان أنه ذو جدوى.

لا ينفع هنا أن يتم وضع قصّة في هذا السياق. ليس مستحيلاً هذا، لكنه لن يكون مقنعاً. لن يكون بنفس القدرة على قراءة ما تواجهه الممثلة نتيجة قرارها بأن تشترك في رحلة تقطع فيها المسافة بين بيروت والحدود الجنوبية للبنان.

الحل الذي اختاره المخرجان هو شيء من إعادة التسجيل. أو من البناء الدرامي داخل الشكل التسجيلي. صحيح أن هناك مشاكل معيّنة في معالجة هذا الحل (الحوار مهم لكنه ليس كاشفاً عن أكثر من معلومات يدلي بها الممثل اللبناني بديع مروّة خلال الرحلة) لكن المهم هنا هو كيف وجد المخرجان وسيلة لمنح الفيلم أسلوباً خاصّاً يجمع بين ما هو تسجيل لما يدور. إذاً هو تسجيلي، وتركيب لخط روائي معيّن، ما يعني أنه أيضاً روائي من دون أن تكون هناك رواية.

لقد سبق للمخرجين حاجي توما وجريج، وهما سينمائيان متزوّجان، أن أخرجا فيلمين مختلفين تماماً عن هذا الفيلم هما “البيت الزهر” و”اليوم الآخر” عمدا فيهما الى شكل تقليدي في السرد. أولهما كان فيلماً جيّداً اما الثاني فكان عملاً ممتازاً وكما لم يكن من الممكن اعتماد ذلك النوع من السرد في فيلمهما الثالث هذا، فإنه ليس ممكنا اعتماد ذلك السرد هنا في هذا الفيلم. الحالة الإبداعية المسجّلة هنا تنطلق من عملية إيجاد حلول للمواضيع.

وجدنا في هذه الدورة أن آري فولمان وجد لفيلمه “الرقص مع بشير” حلاً غير مطروق بالنسبة لما يُريد أن يقوم به: فيلم تسجيلي لكنه لا يملك الوثائق التي تساعده على ذلك، فقام برسم الفيلم ما مكّنها من الاحتفاظ بالنبرة التسجيلية إنما عبر استخدام وسيط جديد هو “الأنيماشن”.

كان يمكن لذلك الفيلم الذي يتناول الغزو “الإسرائيلي” للبنان أن يعمد الى الحل الروائي، لكنه اختار حلاً جذرياً مختلفاً وهذا ما قام به المخرجان اللبنانيان كحل إبداعي للموضوع المرتسم أمامهما. وهو حل أفضل بكثير من أن يقوما بتركيب قصّة ذات مفارقات.

بعد أيام قليلة من عرضه اشتد اللغط على هذا الفيلم اللبناني ولا يزال هناك انقسام بشأنه لكن من دون أن نعي الحالة التي واجهها المخرجان والحل الذي أوجداه في هذه المواجهة سوف لا يمكن الحكم جيّداً على عملها الذي يستحق كل هذا الاهتمام.

م.ر

الخليج الإماراتية في 22 مايو 2008

 
 

ثـلاثــة أفــلام بثــلاث خيـانـات

مشهد من «ثلاثة قرود» للتركي نوري بيلجي تشيلان

زياد الخزاعي

اتّخذ «عرين الأسد» للأرجنتيني بابلو ترابيرو من محنة شابة تتورّط في خيانة ذاكرتها التي تقودها الى المعتقل باباً لمحاكمة العقاب واشتراطاته القانونية، بالإضافة إلى مساجلة معاني الحق الشخصي في الاحتفاظ بوليدها الذي تنجبه داخل عنبر النساء الأمهات. تستيقظ جوليا ذات صباح لتجد نفسها ملطّخة بالدماء، فيما ترقد جثة عشيقها في الحمّام ورجل آخر يصارع الموت في صالون شقتها الصغيرة وسط العاصمة. هذا المفتتح إيذانٌ ببدء رحلتها الطويلة في جحيم يفرض إقصاءً ضاغطاً لذات بشرية لم تسعفها الظروف من أجل امتحان براءتها. ما يعيق حالتها أن جوليا (أداء ساطع لمارتينا غوسمان) حامل بوليدها البكر الذي ترتهن حياته داخل ذلك العنبر الوحشي الكائنات من نزيلاته. يذهب ترابيرو (مواليد بيونيس أيريس، 1971) في معالجة هذه اللوعة الذاتية بروية سينمائية معتمداً بالكامل على أداء مفعم بطبيعيته لغوسمان التي قرّرت أن تكون حاملاً لبكرها في الواقع، وقد أنجبته في مستشفى السجن وبقي معها حتى انتهاء التصوير. ترابيرو، بعيداً عن الكليشيهات التي تتوافر في أي عمل سينمائي يستند على أحوال سجون النساء، ركّز همه الدرامي على السؤال الضاغط: ما هو ردّ فعل أم يُسرق منها فلذة كبدها؟ ماذا تفعل عندما يكون السارق.. والدتها؟ يصبح همّ جوليا، التي قرّرت الاحتفاظ بجنينها كثمرة علاقة حب صافية مع عشيقها ناهويل الذي قضى بطعنات لا تحصى من مجهول، أن تحقّق حرية الوليد أولاً. مع فشل مساعيها في إبعاد شبهة القتل عنها، تتحصّن خلف قانون الأعوام الأربعة التي تضمن احتفاظها بالوليد. بيد أن فشلها في إقناع القضاة بأن ما تعرّضت له يشبه غسيل ذاكرة أُجبر دماغها على التوقف عن خزن الوقائع، إثر مشاهدتها عشيقها وصديقه راميرو (روديغو سانتورو) أثناء ممارستهما شذوذهما على فراشها، يُبقي الحيرة فيها وفي ملابسات القضية التي لم تجد جواباً لسؤالها الأسود: هل تملك شابة رهيفة مثلها هذا العنف كلّه لتوجيه طعنات كثيرة انتقاماً؟ ألا يُفترض بذلك القاتل المجهول أن يكون كائناً قوي العضلات، متينها؟ يخون الحقّ جوليا، ويُبرّئ الشاب الآثم الذي يعترف لها لاحقاً بجريمته. نراها وهي تتطبّع بأخلاقيات مناقضة لمحتدها المستند الى طبقتها الوسطى باعتبارها موظّفة في المكتبة المركزية. يحوّل المخرج ترابيرو وجهة نصّه إلى الداخل الشخصي لجوليا، فنشهد العلاقة الملتبسة بينها وبين زميلتها مارتا الحاضنة الحقيقية للعائلة الصغيرة المغدورة، قبل أن تدخل والدة البطلة صوفيا التي هاجرت واستقرت في باريس على الخط، وتقرّر رعاية الطفل الخارج من السجن ثمناً لمصالحة معها بعد نكرانها السابق لابنتها التي تخلّت عنها وهي صغيرة.

تتحوّل جوليا إلى وحش نادر القوّة والعزم على إنهاء الفراق مع ابنها، وتعزل نفسها عن الأجواء المريضة في العنبر حتى قيام زميلاتها بعصيان جماعي تضامناً معها. هنا يحدث الانقلاب الكبير في خطّتها. ففي إحدى الزيارات الى دارة والدتها، تهرب جوليا بطفلها وتعبر الحدود إلى حريتها التي انتزعتها بفعل غير قانوني هذه المرّة. يُشكّل «عَرين الاسد» نموذجاً باهراً لـ«الساغا العائلية» في أرقى تجلّياتها، صاغها مخرج «عالم الرافعات» (1999) بإيقاع محكم طغت عليه التفاصيل اليومية، ساعياً الى الاقتراب من أحكام متوازنة عن العقاب وأخطائه، والحق ونزواته. كما أنه يستحضر إحدى كلاسيكيات هوليوود «دعوني أعش» (1958)، التي أدّت فيها النجمة سوزان هيوارد، بإدارة روبرت وايز، دور أم منكودة الحظّ تقع تحت براثن زوج فاسد تُتّهم بسببه بجريمة لم ترتكبها، قبل أن تُعدم غيلة.

يُحاكم التركي نوري بيلجي تشيلان بدوره ثيمة الخطيئة التي تُرتكب بسبب الحماقة. فقد جمع مخرج «غيوم أيار» (1999) و«بُعد» (2002) و«مناخات» (2006) ثلاث إرادات إنسانية في حيّز ضيّق من الخيانة وشكوكها، والوجد الخاطئ وعواقبه، والبراءة التي تكتشف ضعفها وتهافتها. إن أبطال جديده «ثلاثة قرود» اختزالات قدرية للجبن والضعف والظمأ للحب، وبالذات للمال القادر على تجاوز محن العوز. هذا الفيلم الباهر، الذي اجمعت غالبية النقاد الموجودين في «كان» على أنه الأفضل بين نظرائه في المسابقة الرسمية، لا يذهب مباشرة في اتّهام أبطاله وتسفيه دوافعهم، بل يلتقط الثيمة الأعقد الواقعة بين الولاء والمظلمة العائلية التي لا تقوم إلاّ بعد فاجعة كبيرة، على غرار الدرامات الإغريقية الكبرى. يدهس السياسي سرفيت (أركان كيسال) غريباً في طريق غابي وهو عائد من حملته الانتخابية. وبدلاً من تعريض مستقبله ومصالحه للخطر، يرجو سائقه الخاص أيوب (أداء قوي ليوفوز بينغول) تحمّل التهمة والسجن في مقايضة مالية مغرية، ويُسمعه لهاث مخاوفه: «لقد اتصلت بالمحامي وأخبرني أنهم لن يشكوا بأي شيء كونك سائقي. ستة أشهر بالكثير وسنة بالكاد. على الأقل، ستتسلّم تعويضاً منّي عندما تخرج من السجن. أنت تعلم أنني لن أسألك هذا المعروف لولا مشاركتي في الانتخابات، لكن أي شخص يسمع بالحادث يعني أن حياتي السياسية انتهت هنا. أنت تعلم أنهم ينتظرون اصطيادي. أولاد الزّنا». ينطبق الوصف الأخير عليه بالذات، لأنه يغوي هاجر (أداء مدهش لهاتيجي أصلان) زوجة أيوب، ويُجري معها مقايضة ثانية لتأمين مبلغ إضافي لشراء سيارة مستعملة لابنها اسماعيل. الثمن: جسدها المتعطّش الى النطفة الحرام.

على فراش الخيانة، يسمع الشاب تأوّهات والدته وضحكاتها، هي التي تعيش في قوقعة صمت لا نهاية لها في عرف العائلة الهامشية. بالصدفة، يعي اسماعيل أن أمه لا تزال تحمل جذوة الشبق الخاطئ الذي لم تستكفه مع والده المتميّز بجسده الوحشي وطباعه الحيوانية. وإذ صمتت الأم، فإن «القرد الثاني» اسماعيل يُغمض عينيه بأن لا يسعى إلى كشف زنى أمّه، لكنه لن يغطّي عليه، ونراه مستجمعاً أول علامات شجاعته بصفعه والدته، التي تكتشف بدورها أنها خسرت كرامتها مثلما أضاعت سنوات عمرها مهمّشة العواطف.

يكشف المخرج تشيلان حذاقاته السينمائية في تغيير أجواء المحيط الذي يغلّف مأساة كل «قرد» من قرود فيلمه. فمفتتح الفيلم (تصوير أخّاذ لمدير التصوير غوقهان تيراكي) مشبع بالضياء والألوان تعبيراً عن صفاء العائلة. وما إن تدخل الخيانة إلى الدار الوضيعة، حتى تبدأ الأجواء بتجميع ظلاماتها وكآباتها وغيومها السوداء الملبّدة. يركّب تشيلان مشهديات المقطع الأخير قبل اعتراف هاجر وغفران زوجها أيوب بكمّ مُعتَبَر من الليل الحالك وعصف رياح هادرة تقف كنقيض طبيعي للسكينة التي بدأت تُزهر داخل الزوج المكلوم الواقف عند مضيق ساحر.

تحمل هاجر، التي ما زالت تحمل الكثير من الحُسن، وتتبعثر ككيان أمام العشق المتأخّر، وتبدأ بملاحقة السياسي الغني الذي ما إن يلمح وجودها قرب بيته وعائلته حتى يتحوّل إلى كاسر يهينها وهي تصرخ: «لا تتركني. ارحمني. لا تذلّني». يصبح الأخذ بالثأر أمرا مركبا وحاسم الحدوث. وعندما يُقتل السياسي، تحوم الشكوك حول الزوجة، قبل أن يعترف الابن اسماعيل بجريرة الثأر. هنا، يكون الاب أيوب القرد الذي لم يقل شيئاً في هذا المصاب العائلي كلّه.

الخطيئة نفسها، لكن بصيغة أكثر صدماً، هي ما توافر في العمل الثاني للمخرج الهنغاري كورنيل موندروتشزو «دلتا»، الذي يتجاور وعمل تشيلان بمشهدياته المفعمة بالجمال والاحتفاء بالرعوية البكر. هذا عمل يساجل في الآثام الأخلاقية التي تشفي البرية جروحها وتنشف دماء نزفها. لا تغفلنا الأم حين يتحوّل عطشنا إلى الحنان وعواطف الآخر الى فعل قاس وحالة من التجبر. نتساءل كلّنا: ما للكائن البشري سوى جماعيته التي تقيم له السد الحامي من الفناء. يختزل المخرج موندروتشزو (1975) صيروراتنا الأزلية بالرباعي العائلي الساكن في قلب اللامكان، حيث تقوم الألفة على أرقى مكوّناتها. يعود الشاب مايهيل (فيليكس لاتشكو) الى التجمّع الريفي في الدلتا النائية بعد طول غياب، ويلتقي شقيقته التي لم يرها من قبل. يرصد الوافد حجم الغربة التي تعيشها الصبية فاونا (أداء مفاجئ لأورسي تاوث) وتحوّلها على يدي أمهما وعشيقها إلى كائن للسخرة اليومية. هي قدر عائلي كوّنته الحاجة إلى يد عاملة، ويتّضح من مسلكها أن الرجولة المرغمة عليها تظهر واضحة على تقاطيع جسمها المتعظل. عندما يقرر الأخ بناء بيت خشبي عند حافة الدلتا، تلحقه الصبية نشداناً لطلق إنساني يُعتقها من الارتهان الأبدي. بيد أن تحقيق هذه الشراكة يستوجب دفع ثمن باهظ ومزدوج، يأتي أولاً على يدي عشيق الأم الذي يغتصبها وينثر نطفته على جسدها كتدنيس وحشي، والثاني عبر الصدود الجماعي من السكان المحليين الذين يوصلون شكوكهم إلى القناعة بأن الشقيقين أقاما علاقة آثمة بينهما، فينأون عن الـ«سدوم» المصغّرة لتتكفّل البرية في تنظيف بيتها. يمكن اختزال هذه الحكاية بسطر واحد، لكن لا يمكن وصف الجمالية العالية الجودة التي يتضمّنها الفيلم، ناهيك عن الإيقاع المتأنّي الذي يذكر (وليس بالضرورة يقتبس) باشتغالات مواطنه بيلاّ تار والروسي أندريه تاركوفسكي.

)كان(

السفير اللبنانية في 22 مايو 2008

 
 

إنديانا جونز في العصر الذري

نديم جرجوة

بعد مرور ثمانية عشر عاماً على إطلالته السينمائية الأخيرة، التي حصدت نجاحاً تجارياً باهراً تفوّق على الجزأين السابقين لها، عاد إنديانا جونز، عالِم الآثار والمغامِر المنتصر دائماً على أعدائه الكثر، إلى الشاشة الكبيرة في الثامن عشر من أيار ,2008 أثناء انعقاد الدورة الواحدة والستين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، التي تنتهي في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. بعد هذه الأعوام كلّها، ما الذي سيقدّمه انديانا جونز/هاريسون فورد إلى المشاهدين السينمائيين، أبناء العشرية الأولى من القرن الجديد؟ ما الذي سيقوله لهم هذا «العجوز» الذي يُعاند زمنه ويستمرّ في التنقيب عن المختلف في الحضارات والأساطير والأسرار القابعة في أعماق الجغرافيا وتفاصيل التاريخ ومضامين تلك الحكايات التي لا تنتهي؟ ما الذي سيفعله؟ في أي بقعة جغرافية وزمن تاريخي سيخوض تمارينه الإنسانية والحضارية والسينمائية؟

الحرب الباردة

على الرغم من أن المعلومات الصحافية كانت، في النصف الثاني من العام الفائت، لا تزال شحيحة بخصوص الجزء الرابع من فيلم «انديانا جونز 4» (انديانا جونز ومملكة الجمجمة البلورية) الذي بدأ تصويره في حزيران الماضي، على أن تُطلق عروضه التجارية في الولايات المتحدة والعالم إثر عرضه العالمي الأول قبل ثلاثة أيام فقط، فإن مجرّد الإعلان عن إنتاج حلقة جديدة من هذه المغامرة، التي ألهبت عقول مشاهدين كثيرين ومشاعرهم وأحلامهم، ودفعتهم إلى متابعة كل ما يفعله في رحلاته الغريبة ومغامراته الأغرب من الخيال، يعني أن هوليوود مقبلة على فترة مليئة بالمفاجآت والتمنّيات بمزيد من الأرباح (حقّقت الأجزاء الثلاثة الأولى أرباحاً مالية بلغت مليارا ومئتي مليون دولار أميركي منذ انطلاقة السلسلة في العام 1981)، الناتجة من الإيرادات المنتظرة للفيلم الرابع (بلغت تكاليف إنتاجه وميزانية ترويجه العالمي 335 مليون دولار أميركي كما ورد في تحقيق نشرته المجلة الفرنسية «إكسبرس» في عددها الصادر بتاريخ 15 أيار 2008)، ومن صناعة الألعاب والألبسة وكل ما يخطر على البال، ترويجاً له ولبطله العائد بعد غياب طويل، خصوصاً أن الجزء الثالث (انديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة، 1989) حقّق نحو نصف مليون دولار أميركي كإيرادات عالمية، منها ستة ملايين ومئتا ألف بطاقة مبيعة في فرنسا وحدها. وهذا ما يُذكّر بالنجاح التجاري الكبير للجزء الأول (1981) بعنوان «مغامرات القوس الضائع»، إذ ما إن جمع المنتجون 390 مليون دولار أميركي من عروضه التجارية العالمية (ست ملايين بطاقة مبيعة في فرنسا)، حتى قرّروا إنتاج جزء ثان بعنوان «أنديانا جونز والمعبد الملعون» في العام ,1985 بتكلفة إنتاجية قدرها 28 مليون دولار أميركي فقط، أفضت إلى أرباح بلغت 211 مليون دولار أميركي (خمسة ملايين وستمئة ألف بطاقة مبيعة في فرنسا). لكن، على الرغم من بلوغ إيرادات الجزء الثالث ما يُقارب نصف مليون دولار أميركي، في مقابل تكلفة إنتاجية لم تتجاوز 48 مليون دولار أميركي، فقد آثر المنتجون إيقاف السلسلة ثمانية عشر عاماً.

لكن أسئلة عدّة يُمكن طرحها هنا: إلى أي مدى سيتلاءم انديانا جونز والتطوّرات الكثيرة التي شهدها العالم منذ نهاية الثمانينيات المنصرمة، أي منذ الجزء الثالث الذي عرض في العام 1989؟ هل سيلبي الجزء الرابع رغبات الاستراتيجية العامة للولايات المتحدّة الأميركية، المنبثقة من جريمة الحادي عشر من أيلول 2001 وما تلاها من حرب أميركية في أفغانستان والعراق، أم إنه لن يلتفت إلى ما حصل في مفتتح الالفية الثالثة، ليركّز اهتمامه الأول والأساسي على تطويع الصورة السينمائية في خدمة الحركة؟ هل سيبحث انديانا جونز عن أسرار مدفونة في ذاكرة العالمين العربي والإسلامي، انطلاقاً من تلك الجريمة البشعة، أم إنه سيبقى معزولاً عن السياسة، للتوغّل في مغامرات لا تهدف إلاّ إلى تشويق المشاهدين وتحريضهم على متابعة رحلة غريبة جديدة؟ بالإضافة إلى هذا كلّه، هل سينجح هاريسون فورد، الذي بلغ الخامسة والستين من عمره في الثالث عشر من تموز ,2007 في تقديم انديانا جونز المغامِر والمتحمّس للبحث والتنقيب، صاحب اللياقة البدنية؟

في الجزء الأول من المغامرة المشوّقة، التي نالت أربع جوائز «أوسكار» في فئات تقنية عدّة، تنقّل انديانا جونز بين هتلر والوصايا العشر، أثناء بحثه عن تحف ذات تأثيرات خارقة يحتاج إليها كل من يرغب في السيطرة على العالم. وفي الجزء الثاني، لاحق جونز (برفقة مغنية ملهى ليلي وصبي صغير يساعدانه على مواجهة الأخطار المحدقة به) خلية سرية خطرة للغاية، تملك جوهرة مقدّسة بقوى لا مثيل لها. وفي الجزء الثالث، التقى انديانا جونز والده (شون كونري)، فخاضا معاً واحدة من أطرف المغامرات وأخطرها: البحث عن كأس مقدّسة تعود إلى ألفي سنة تقريباً، ويطمح إليها ضابط عسكري ظنّاً منه أنها قادرة على منحه قوة غريبة تؤهّله للانقضاض على العالم.

العصر الذريّ

في الثامن من أيار الجاري، حانت اللحظة التي انتظرها عشّاق السينما طويلاً، إذ قُدّم الفيلم الرابع في مهرجان «كان» السينمائي. وقال سبيلبيرغ في مؤتمر صحافي عقده قبل وقت قليل على عرض جديده هذا: «انتقل انديانا جونز من حقبة ما قبل الحرب إلى العصر الذري». فالفيلم الجديد، شأنه في ذلك شأن الأجزاء الثلاثة السابقة، من بطولة هاريسون فورد الذي يؤدّي شخصية عالم الآثار المتحوّل إلى بطل حركة وإثارة في فيلم فُرض عليه نطاق شديد من السرية قبل عرضه هذا. لكن، بدلاً من مواجهة النازيين وغيرهم في الثلاثية الأصلية، يجد انديانا جونز نفسه في خضم الحرب الباردة مع سباق تسلح نووي يتبلور سريعاً، إذ إنه يواجه عدداً من الشيوعيين الروس بقيادة العالِمة المسيطرة إيرينا سبالكو (كايت بلانشيت)، وينطلق النزاع بينهما بهدف الحصول على جمجمة غامضة تعود إلى عصور ما قبل كريستوف كولومبوس في غابات بيرو. من جهته، قال جورج لوكاس (منتج السلسلة) إنه يبحث دائماً عن أشياء حقيقية من صنع الإنسان تدور حولها أفلامه. أما كايت بلانشيت فقالت إنها كانت تودّ أن تؤدّي دور انديانا جونز نفسه: «مع هذا، حصلت على جائزة ترضية ليست سيئة. أؤدّي دور شخصية شريرة بصورة لا تُصدَّق، بتسريحة شعر مذهلة».

عشية العرض العالمي الأول، ذكرت «هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي.)» أن هاريسون فورد وكايت بلانشيت وشيا لوبوف سينضمون إلى ستيفن سبيلبيرغ وجورج لوكاس على السجادة الحمراء على مدخل القاعة الرئيسية للمهرجان في تلك المدينة الساحلية القائمة على الريفييرا الفرنسية. ونقلت عن سبيلبيرغ قوله إنه لم يكن ممكناً له أن يتجنّب عودته إلى إخراج سلسلة أفلام عالم الآثار: «هذا أمرٌ طالبني الجمهور به حقاً»، معترفاً بأنه كان عصبياً عندما بدأ تصوير المشاهد الأولى من الجزء الرابع من سلسلة الأفلام الأكثر شعبية: «لا تبدأ العمل على أي مشروع، أكان مغامرة إضافية مثل سلسلة أفلام انديانا جونز أم مشروعاً جديداً يخرج من العلبة، من دون أن تتساءل: ماذا تفعل.

 حاولت العثور على نموذج لهذا الجزء يكون مطابقاً للأجزاء الثلاثة السابقة. لم أكن أرغب في أن يخرج على نمط فيلم «إنذار بورن»، أو أن يكون جيلاً جديداً من انديانا جونز».

إلى ذلك كلّه، لم يتردّد سبيلبيرغ عن إعلان بدا متلائماً والمناخ الحماسي الذي استُقبل فيه جديده هذا، إذ قال إنه سيكون مسروراً لإخراجه فيلماً جديداً في السلسلة نفسها، إذا أحب المشاهدون الجزء الرابع الذي انتظروه طويلاً، وذلك ردّاً على سؤال عمّا إذا كان ينوي إخراج جزء خامس، مشدّداً على القول: «فقط إن أردتم ذلك. سوف أنتظر ردود الفعل على الجزء الحالي، وبعدها أقرّر».

السفير اللبنانية في 22 مايو 2008

 
 

«الاستبدال».. تحفة جديدة من سيد هوليوود الكبير كلينت إستوود

بقلم  سمير فريد

في يوم من أجمل أيام مهرجان كان ٢٠٠٨، تم عرض فيلمين من روائع سينما ٢٠٠٨ التي يصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تتجاهلهما أي لجنة تحكيم تقدر المسؤولية الملقاة علي عاتقها، الأول الفيلم الأمريكي «الاستبدال»، أحدث أفلام المخرج والممثل الكبير كلينت إستوود، والثاني الفيلم المجري «دلتا الدانوب» إخراج كورنيل موندروزو، وهو إنتاج مجري ألماني «وليس ألمانياً مجرياً» - كما ذكرت «فارايتي» عند نشرها قائمة أفلام المسابقة - ورابع فيلم طويل لفنان السينما المجري الشاب.

عرف الناس كلينت استوود ممثلاً جيداً ثم مخرجاً جيداً، ولكن مع «غير المتسامح» ١٩٩٢، ثم «جسور ماديسون» ١٩٩٥، أصبح من كبار مخرجي هوليوود، وبعد أن بلغ السبعين من عمره عام ٢٠٠٠، أخرج «النهر الغامض» ٢٠٠٣ ثم «فتاة بمليون دولار» ٢٠٠٥، فأصبح من كبار مخرجي العالم، وها هو في سن الثامنة والسبعين يقدم تحفة جديدة لا تقارن إلا بروائع كوروساوا وهيتشكوك وفيلليني وبرجمان وغيرهم من كبار مبدعي السينما في تاريخها كله، والمؤكد أن إستوود هو سيد هوليوود اليوم من غير منازع علي الصعيدين الفني والفكري.

في «الاستبدال» يسيطر استوود علي لغة السينما سيطرة مطلقة، مثل طه حسين في سيطرته علي اللغة العربية، ومثل بيكاسو في سيطرته علي لغة الرسم، طوال ساعتين و٢١ دقيقة، لا توجد دقيقة واحدة يفتقدها المتفرج أو يشعر بأنها زائدة عن حاجة الدراما، التي تتوغل في المناطق الأصعب من النفس البشرية، وتعبر عن مدي القسوة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان من خلال قصة قاتل في لوس أنجلوس عام ١٩٢٨، لا يتورع عن تمزيق أجساد ٢٠ صبياً بالسكاكين والفؤوس، وضابط شرطة لا يتورع عن إيهام أم بأنه عثر علي ابنها المفقود، ولا عن إيداعها مستشفي الأمراض العقلية عندما تصر علي أن الصبي ليس ابنها، وهذه الأم التي قامت بدورها أنجلينا جولي في أحسن أدوارها، هي تعبير عن الإنسان الذي يحتفظ بفطرته النقية من ناحية، وعن الفرد الذي يمكن أن يغير الواقع من ناحية أخري، وليس أدل علي هذا من الكلمة الأخيرة التي تقولها في الفيلم، بعد أن ظهر احتمال ألا يكون ابنها من ضحايا القاتل، فضابط الشرطة يسألها ما الذي يدفعها لترجيح ذلك الاحتمال، فترد «الأمل».

مؤلف سينمائي وشاعر ومفكر يشرق علي السينما من المجر

كما كان الروسي أندريه زفياجينتسيت في «العودة» هو اكتشاف مهرجان «فينسيا الـ٦٠» عام ٢٠٠٣، فإن المجري كورنيل موندروزو هو اكتشاف مهرجان كان الـ٦١ عام ٢٠٠٨ «دلتا الدانوب» إعلان عن مولد مؤلف سينمائي من الطراز الرفيع، وشاعر ومفكر يشرق علي فن السينما من المجر، ويواصل مسيرة كبار المبدعين المجريين الذين ساهموا مساهمة بارزة في تطوير ذلك الفن، مثل ميكلوش يانتشو واشتفان سابو وغيرهما، لا توجد مفاجأة في المستوي العالي لأفلام إستوود والأخوين دارديني ونوري بجي سيلان، ولكن المفاجأة كانت الفيلم الإسرائيلي الذي أخرجه أري فولمان بالنسبة لأفلام التحريك والفيلم المجري بالنسبة للأفلام الروائية.

«دلتا الدانوب» قصيدة من الشعر السينمائي الخالص، تعبر عن رؤية فكرية شاملة عبر دراما تذكر بالتراجيديا الإغريقية، فنحن في البرية وسط الغابات الكثيفة، ودهاليز فروع النهر والأخشاب التي تقطع وتوضع علي الشاطئ بالقرب من قرية تبدو مثل أول تجمع للبشر علي الأرض، وليس لشخصيات الفيلم أسماء، وإنما شاب يصل من الغابة ليري أمه، فتقدم له الأم عشيقها، وتقدم له فتاة تقول إنها أخته، وتتحرك الدراما بين هذه الشخصيات الأربع، ولكن من دون يقين بأن الأخت أخت أو أن الأم أم أو حتي إن الابن ابن، ومتي كانت قصيدة الشعر مثل النثر الروائي، والصمت هو مفتاح تلقي الفيلم الذي لا يزيد الحوار فيه علي عشر صفحات، وفي البدء كان الصمت تعبيراً عن الطبيعة، وكانت الكلمة تعبيراً عن الإنسان وأفعاله وتفكيره.

الشاب مزيج من الابن الضال الذي يعود، والمسيح الذي يعتقد البعض أنه سيعود، والمسيح الذي رفع إلي السماء، ففي حياته في المهجر/الغابة، قام بمساعدة فتاة حملت سفاحاً حتي ولدت طفلها، ثم اختفت، ومع وصوله إلي القرية يكون أول صوت يسمعه ونسمعه معه صوت ذبح خنزير في الحظيرة، والفعل الوحيد الذي يقوم به شراء أخشاب من عشيق أمه، ولكنه يمارس عملين: النجارة، حيث يقوم بمساعدة أخته علي إنشاء مبني خشبي بين بيت لا يقيم فيه أبداً وسفينة مثل سفينة نوح لا تنقذ أحداً، وصيد السمك حتي يعيش هو وهي.

إنه يريد أن ينعزل عن البشر، ولا يشتبك في أي صراع، ولا حتي مع عشيق أمه الذي اغتصب أخته، والتي تتطور العلاقة بينهما إلي علاقة جسدية فطرية لا نعرف حدودها علي وجه اليقين، وذات يوم تدخل شباكه كمية كبيرة من الأسماك، فيوجه الدعوة إلي أهل القرية جميعاً لكي يأكلوا منها ما أصبح العشاء الأخير، إذ يقومون بقتله هو وأخته في الليل، ويلقون بهما في النهر، وتبقي طوافة حمراء من البلاستيك نراها في الصباح من بعيد وبها شخصان، ومن اللقطة المصورة من السماء ننتقل إلي لقطة كبيرة لسلحفاء تقفز إلي النهر وهي المخلوق الأطول عمراً، إنه جمال الشعر مع جمال السينما مع جمال الفكر.

samirmfarid@hotmail.com

المصري اليوم في 22 مايو 2008

 
 

«صمت لورنا» وغيفارا و95 ألف تذكرة لمانغيو مع اقتراب الدورة من نهايتها

موهبة دوبروشي تتفجر قبلات في «كان»

زياد عبدالله - دبي

من يشاهد فيلم الأخوين ديردين «لي سيلانس دو لورنا» (صمت لورنا) يعرف ما الذي يدفعهما ليطبعا قبلة مشتركة على خدي بطلة الفيلم آرتا دوبروشي أمام المصورين المحتشدين عند مسرح «لومير» في العرض الأول للفيلم.

ومن يستعيد مع شون بين ذكرياته الأولى عن «كان»، وكيف حضره للمرة الأولى منذ ما يزيد على 20 سنة، ومن ثم حصوله على جائزة أفضل ممثل عام 1997 عن دوره في فيلم «ميستك ريفر»  إخراج كلينت ايستوود، سيعرف من أين يأتي إصرار ايستوود على تقديم جديده في مسابقة «كان»، وكيف ستكون عليه لجنة التحكيم هذه السنة بقيادة بن، كون ايستوود قد سبق وكان رئيس لجنة التحكيم، وله أيضاً أن يرى الحضور الأميركي المتزايد في هذا المهرجان، عبر المسابقة الرسمية، كون الحديث سيأخنا أيضا إلى فيلم أميركي آخر عرض ضمن المسابقة الرسمية حمل عنوان  «تو لافرز» (عاشقان) أخرجه جيمس غاري، هذا الفيلم الذي سيتبع بفيلم طويل جداً (أكثر من أربع ساعات ونصف) لمخرج أميركي شهير هو ستيفن سودربورف يحمل عنوان «تشي» أي ارنستو تشي غيفارا عبر مقاربة لما يبقي هذا الرمز حياً وخالداً بعد مرور أكثر من 40 سنة على مقتله. ولمن لا يعرف الأخوين ديردين فله أن يعود سنتين إلى الوراء ليعرف أنهما توجا بسعفة «كان» الذهبية عن فيلهما «الطفل»، ولهما في هذه الدورة أن يقدما فيلماً جديداً يقترب من عالم قائم بذاته، له أخلاقياته وعلاقاته.

دوبروشي

قبل الاقتراب من الفيلم، أذكر رواية علاقة الأخوين بالممثلة البوسنية دوبروشي والتي وقع عليها اختيارهما بعد مقابلة ما يزيد على 100 ممثلة بوسنية محترفة أو غير محترفة، وليقع خيارهما عليها بعد أن شاهدا فيلمين لها، فقاما بدعوتها إلى بلجييكا وتصويرها تغني وتمشي وترقص وما إلى هنالك، وليجدا في النهاية أنها الأفضل والأقدر، خصوصاً إن سمعتم ما يحكي جان بير دردين عن وجهها الجميل والعفوي في لقائه الصحافي، وهذا تماماً كان حاضراً بقوة بالفيلم، فلورنا التي جسدتها دوبروشي، امرأة جاهزة للرقة، وللانقلاب على قسوة ما تعيشه، وبطريقة دراماتيكية لمجرد اكتشافها أن ما تعيشه على النقيض من ما تشعر به، فهي تعمل كزوجة وهمية لطالبي الحصول على جنسية أوروبية، كونها حاملة للجنسية البلغارية، الأمر الذي يتم من خلال وسيط يبدو في البداية راعياً لها ومدبراً لحياتها.

مع بداية الفيلم نشاهدها تعيش مع رجل مدمن اسمه كلودي، يحاول التخلص من إدمانه بوسائل شتى، ولا نعرف ما الذي يمثله بالنسبة لها، فهو يعيش في بيتها، إلا أنها توصد غرفة نومها وتتركه وحيداً في الصالون، وتتعامل معه بقسوة بعض الشيء، وهو يسألها أن تساعده في التخلص من إدمانه، بينما نجدها على علاقة حب مع رجل يسافر من بلد أوروبي إلى آخر، ولنعرف بعد ذلك أنها متزوجة من كلودي على الورق فقط وليحصل هذا الأخير على جنسيتها.

لكن الأمور تنقلب درامياً، ويطرأ على لورنا تغير عاصف تكون طيلة الفيلم تحاول تجاهله، فتكتشف في لحظة أنها تحب كلودي، بينما تكون تسارع في إجراءات طلاقها منه، لتتمكن من زواج رجل روسي يسعى للحصول على الجنسية، هذا التغيير ومن ثم وفاة كلودي إثر جرعة زائدة من الهرويين يمضي بلورنا إلى مصير يكشف حقيقة كل الرجال المحيطين بها.

أعود إلى حكاية بين مع «كان»، فهو كما يقول ذهب إلى «كان» للمرة الأولى برفقة صديق كان يجالسه في حانة، فقال له أنا ذاهب إلى مهرجان كان، فسأله بين إن كانت غرفة الفندق تتسع لأن يكون معه، وينام على الأريكة، وفعلاً ذهب وكانت هذه المرة الأولى التي يزور فيها بلداً أوروبياً.

وبما أنه حصل على جائزة أفضل ممثل عام 1997 فإنه ما زال طامحاً إلى الحصول على ما يرضي «بين» المخرج، ولعل أكثر ما يستعيده  من جائزته تلك هي قبلة كاترين دونوف لدى تسليمه الجائزة، والتي تقول بدورها إنه وفي هذه الدورة يحافظ على مسافة معها، كونها مشاركة في المسابقة الرسمية عبر فيلم «حكاية عيد الميلاد» لأرنوند ديسبلاشين، وبين رئيس لجنة التحكيم.

كلينت إيستوود

هذا ينتقل الحديث بنا إلى جديد كلينت ايستوود الذي عرض أول من أمس، وكان الجميع في ترقب لجديده، كونه يزداد ألقاً كلما تقدم في العمر أكثر، وأوغل أكثر في تجربته الإخراجية، وليقدم هذه المرة عبر بطولة مطلقة لأنجلينا جولي فيلماً حمل عنوان «شينجلينغ» قصة تدور أحداثها في عشرينات القرن الماضي، عبر سرد حياة امرأة اسمها كريستين تنتمي للطبقة العاملة تعيش مع ابنها الذي لم يتجاوز التاسعة، بحيث تكون حياتها متمركزة حوله، ولا شيء آخر سوى عملها وهذا الطفل، والذي فجأة يختفي من حياتها بعد اضطرارها في يوم عطلتها للذهاب إلى عملها، لتعود ويختفي ابنها تماماً.

من هذا الحدث، وقصة بحث الأم عن ابنها الضائع، يسلط الضوء على فساد شرطة لوس انجلوس في تلك الفترة، والتي تعتبر الأكثر إظلاماً في التاريخ الأميركي، حيث يكون رئيس مجموعة دينية (جون مالكوفيتش) في خضم حملة ضد الفساد، إلى أن تعثر الشرطة على والتر ابن كريستين، لكنه يكون طفلاً آخر يصر ضابط الشرطة على أنه ابنها، في مسعى لتلميع صورة شرطة لوس انجلوس، هذا الاصرار يؤدي إلى صدام الأم مع هذه الشرطة الفاسدة، واستفحال الأمر لحد وضع الأم في مصح عقلي، لتعود الأمور وبعد صراع مرير إلى نصابها لكن دون أن تعثر كريستين على ابنها أبداً.

لن يكون شيئاً جديداً القول إن فيلم ايستوود محكم، مليء بالانعطافات الدرامية التصاعدية، هذا عدا الدور الاستثنائي الذي قدمته جولي في هذا الفيلم وإلى جانبها جون مالكوفيتش، لكن يبقى فيلم «شينجلينغ» في مساحة تتحرك بها السينما الأميركية كثيراً، ألا وهو نبش التاريخ الأميركي وتسليط الضوء على قضية بعينها لها من الواقعية ما يجعلها مفصلية في التكوين الاجتماعي والسياسي للولايات المتحدة.

فيلم أميركي آخر عرض أول من أمس حمل عنوان (عاشقان)، له أن يكون متمركزاً بشكل أو آخر على شخصية ليونارد القلق لدرجة محاولة الانتحار لمرات، والكيفية التي يبني بها علاقات حبه مع جارته الشقراء (غوينث بالترو) من جهة، وساندرا (فينسا شو) من جهة أخرى، وليجري كل ذلك وليونارد ما زال يعيش في كنف عائلته، وعلى ارتباط اقتصادي وحياتي معها، الأمر الذي يجعله مراقباً من والديه اليهوديين واللذين يفضلان أن يرتبط بامرأة من الدين نفسه أي ساندرا الذي يجري تعارفه معها في اطار المعرفة العائلية المتبادلة، وهكذا يمضي ليونارد في علاقتين، الأولى يكون أميل إليها لكون جارته الشقراء جانحة ومجنونة، لكنها على علاقة برجل متزوج، يظن لفترة قصيرة أنه فاز بها، إلى أنها تهجره بمجرد أن يعود عشيقها السابق إليها ويقرر أن يهجر زوجته لأجلها، ما يعيده إلى ساندرا المتيمة به.

فيلم «عاشقان» على شيء من الهدوء، والمضي خلف شخصية ليونارد إلى آخرها، ومدى الوطأة الشديدة لأن يكون الفرد مرتبطاً بعائلته في مدينة مثل نيويورك.

95 ألف تذكرة

وبما أن الحديث في البداية عاد بنا إلى سنوات سابقة من مهرجان كان، فإن من المهم استعادة المخرج الروماني كريستيان مانغيو صاحب السعفة الذهبية للعام الماضي عن فيلمه «3 أشهر، 4 أسابيع، ويومان»، الذي قال وبتصريح خاطف إنه بصدد عدد من المشروعات التي لم يحدد طبيعتها، وإنه سيبدأ تصوير فيلمه الجديد هذا الصيف «إن توفر لدي الوقت، كوني على ارتباط بالكثير من الالتزمات الاجتماعية بعد فوزي بالسعفة»، مانغيو سعيد ببيع فيلمه 95 ألف تذكرة، ويبقى السؤال الأكثر تردداً مع اقتراب الدورة الـ66 من نهايتها، من سيتوج بالسعفة لهذا العام، لدينا اجابة واحدة في هذا الخصوص يطالعنا بها تصويت النقاد الذي ما زال يتصدره الفيلم التركي «ثلاثة قرود»، الأمر الذي لا يلغي أن تكون نتائج لجنة التحكيم أمراً معلقاً بالغيب.  

مارادونا: أقطع يدي من أجل عيون جوليا روبرتس

كان «فرنسا» ــ د.ب.أ 

استقبل مهرجان كان السينمائي الفرنسي أسطورة كرة القدم الأرجنتينية دييغو آرماندو مارادونا الذي لقبه الكثيرون بـ« سيد الكرة»، حيث قال: « أنا على أتم استعداد لقطع يدي  من أجل عيون جوليا روبرتس»، وذلك على شاطئ مدينة كان الفرنسية.

 وحضر مارادونا إلى مهرجان كان للمشاركة في تقديم فيلم تسجيلي عن حياته من إخراج البوسني أمير كوستاريكا. وبدا مارادونا في حالة صحية جيدة وبدأ يومه وهو يمارس الرياضة أمام المصورين على الشاطئ وبجواره المخرج صاحب فيلم «تحت الأرض»، حيث تبادلا العناق والنكات.

وأمام المصورين والمعجبين قام مارادونا بعمل بعض الحركات الاستعراضية بالكرة وهو يرتدي الملابس السوداء وصليباً فضياً كبيراً على صدره وأساور زرقاء حول معصمه.

ورافقت مارادونا ابنته الكبرى دالما ومن المقرر وصول ابنته الصغرى جيانينا في غضون ساعات.

ومع ذلك بدا مارادونا الذي يعد من أفضل لاعبي كرة القدم في العالم خجولاً أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده أمس، رغم احتفاظه بعفويته المعتادة.  

الإمارات اليوم في 22 مايو 2008

 
 

من بطولة أنجلينا جولي

كلينت إيستوود في «التغيير» يصنع سينما المتعة

عبد الستار ناجي

الحديث عن كلينت ايستوود، يعني الحديث عن اسطورة سينمائية، فهذا النجم يتربع على عرش النجومية منذ مطلع الستينيات حتى اليوم، ممثل مقتدر، ومخرج فذ، وقيمة خفية، وبصمة سينمائية رفيعة، ويؤكد كل مرة، يعود بها الى جمهوره، أنه يأتي «دائما» محملا بالتحف السينمائية، التي تظل حاضره في وجدان وذاكرة السينما وعشاقها.

وعودته تأتي مع فيلم «التغيير» «CHANGELLING» الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الحادية والستين.

وقبيل الحديث عن «التغيير»، نشير الى ان كلينت ايستوود من مواليد 31 مايو 1930 في سان فرانسيسكو، الولايات المتحدة الاميركية.

في رصيده كم من الاعمال السينمائية، كممثل وكمخرج، ومن الاعمال الاخيرة التي قدمها تأتي افلام، رسائل من اوباما «2006» واعلام من آبائنا «2006»، وطفلة المليون دولار «2004» وكم اخر من الاعمال من ابرزها «لا غفران» «1992».

فماذا عن «التغيير»؟

فيلم يذهب بنا الى سينما المتعة، بكل ما تعني هذه المفردة، القصة والاداء والاحتراف العالي، وايضا القضية المثيرة للجدل.

تجري الاحداث في لوس انجلس 1928، حينما تضطر احدى الامهات «انجلينا جولي» للذهاب الى عملها، وفيما تعود تكتشف غياب ولدها، وتبدأ مهمة البحث عنه، وبعد جهد، يتم العثورعليه، ولكنها تكتشف أنه ليس ابنها، بينما الشرطة تصر على انه ابنها، وهو يدعي بأنه طفلها ويحمل ذات الاسم، ولكن قلب الام دليلها، فهي تعرف كافة التفاصيل عن طفلها، حتى انها كانت تقيس طوله كل حين، وفيما يعود من جديد، تكتشف أنه ينقص ثمانية سنتيمرات عن طوله الاصلي، مما يؤكد شكوكها، ولكن مسؤول الشرطة يجبرها على انه ابنها، وهي ترفض.

وتتطور الامور، مما يدفعها لان تلجأ الى الصحافة والاعلام ويتقدم لمساعدتها قسيس مشغول بالاعمال الخيرية، وحينما يجد مسؤول الشرطة أنها تثير له المشاكل، يأمر بإرسالها الى مستشفى الامراض النفسية، وهناك تتواصل ذات العملية، بل ان هناك جناحاً خاصاً بالذين يرفضون التعاون والتعامل مع الشرطة بشكل ايجابي، وهم يخضعون لشتى اصناف التعذيب، من اجل التوقيع او الاعتراف على ما تريده الشرطة.

ولكن الصحافة والقسيس ومجموعته يظلون يبحثون عنها لاطلاق سراحها، خصوصا بعد ان يعثر محقق اخر، على خيوط جريمة ترتبط بقصة طفل تلك السيدة المفقود.

حيث يعثر المحقق على طفل يخبره أنه لايريد العودة الى المزرعة التي عثر عليه بها، لانه لا يريد العودة الى قريب له يقوم باغتيال الاطفال، فهو يجمع الاطفال من الشوارع، ويقوم باغتيالهم بشكل وحشي ويأمر الطفل بدفنهم في المزرعة.. وتتفجر القضية، خصوصاً حينما يتعرف ذلك الطفل على صور طفل السيدة المفقود واسمه «والتر» وتمضي الاحداث، عشرات الاطفال المخطوفين، والشرطة بدورها تخفي الحقائق، وتدير البدائل، وتتصاعد الازمة.

ويتم القبض على القاتل، ولكنه يبقى مصرا على انه لم يقتل أياً من الاطفال، بل انه ينكر وقبيل لحظة اعدامه، أنه قام باغتيال «والتر». ويتم الحكم بالاعدام، وايضا تنحية قيادات الشرطة بكاملها في لوس انجلس اثر تلك الفضيحة التي تزامنت مع الانتخابات في ذلك الحين مما صعد الازمة.

وتظل الام المفجوعة، تنتظر والسنوات تمر، حتى تتصل بها ذات يوم امرأة تحمل ذات المعاناة حيث تم اختطاف طفلها في نفس الفترة لتخبرها أنه تم العثور على طفلها، والذي يقوم بدوره برواية حكاية هرب مع طفلين اخرين بينهم «والتر» من تلك المزرعة، بل ان «والتر» ساعده على الهرب بعد ان علقت ملابسه بالاسلاك.

وتظل الام تترقب.. وتنتظر.. من رده بأنه «الأمل» فما اروع الامل.

وينتهي الفيلم ولا تنتهي الحكاية، انها حكاية الانتظار.. والجريمة.. والاصل.. وقمع الشرطة.. والحديث عن خيارهم.. وايضا عناصرها السيئة.. وكم اخر من الحكايات والعلاقات الانسانية والاجتماعية المتداخلة.

فيلم محمل بالاتهامات، والمواجهات الصريحة مع الشرطة، بحثا عن مصير افضل للانسان في كل مكان.. انها حكاية ام واسرة ومجتمع، وحكاية السلطة والاعلام والدور الاجتماعي المترقب للمجتمع الحقيقي، وهو ايضا سينما تحمل المتعة البصرية.

سينما وصورة بعناية، عبر مشهديات تعود الى الثلاثينيات من القرن الماضي، وفي لوس انجلس على وجه الخصوص.

واداء رفيع متناغم، بالذات، من النجمة انجلينا جولي، التي تؤكد أنها تنضج يوما بعد اخر، وتتفجر قدراتها، وايضا قدرتها في اختيار الادوار والتعاون مع مبدعين كبار، أمثال المخرج كلينت ايستوود، الذي تعامل مع السيناريو باحتراف، والرؤية البصرية بعمق، وانسيابية وتطور ايجابي وسهل للاحداث، وتجاوز الصيغ التقليدية في التطرق لموضوعات العنف.

تمثيل عال، ومع انجلينا، وبدور القسيس يطل علينا الممثل الرائع جون مالكوفيتش، الذي يمثل بعمق، ويعيش الدور باحتراف، وبدور رجل الشرطة جيفري دوفان وعدد اخر من النجوم من اجيال السينما الاميركية، والملاحظة الابرز في هذه التجربة، ان ايستوود يستغني في هذه المرة، عن النجوم، الذين تعود التعامل معهم في اعماله السابقة.

كلينت ايستوود في فيلم «التغيير» يصنع سينما المتعة، وسينما الفرجة التي ترحل بنا من كرسي المشاهد الى داخل الحدث.. فنلهث وراء الحكاية.. ونتفاعل مع دموع انجلينا جولي.. وكفاحها وحلمها بأن يعود ابنها.. ولكنها في الحين ذاته تكشف خيوط جريمة كبرى.. وكماً من الضحايا الابرياء الذين سقطوا تحت فأس مجرم مهووس ومريض نفسي.

كلينت ايستوود، كعادته رائع.. ومقتدر.. ومتميز.

والسينما تعشق المبدعين الذين يمنحونها التميز والاستمرارية.. والمتعة.

النهار الكويتية في 22 مايو 2008

 

مخرج يبتكر صورة جمالية لموضوع قاسٍ

«دلتا» فيلم هنغاري عن زنى المحارم

عبد الستار ناجي

المخرج الهنغاري كورنيل مندروسو، يسير على ذات النهج الذي يعمل من خلاله عدد من صناع سينما المؤلف، ومنهم «بيلاتار» حيث للصور بهاؤها وحضورها، والصورة هي الاهم في معادلة الفيلم السينمائي، اما القصة فهي مجرد ذريعة لتقديم الشكل.

الفيلم الجديد لكورنيل بعنوان «دلتا»، يتحدث وبشكل صريح عن زنى المحارم، حيث نتابع حكاية شاب يعود من القرية، الى حيث تقيم امه في منطقة الدلتا، عند مصب أحد الانهار في المجر.

وهناك يلتقي للمرة الاولى مع زوج والدته، وايضا شقيقته «من والده ايضا» والتي لم يرها منذ ولادتها.

جاء من اجل بناء منزل في اطراف المصب، مرتفع عن الماء، من اجل صيد الاسماك، ومنذ اللحظة الاولى تبادر شقيقته وهي صبية شابة جميلة الى مساعدته، بعد ان كانت تساعد والدتها وزوجها في ادارة «بار» ولكن زوج الام يرفض في البداية.

وفي اليوم الذي تقرر الفتاة ان تترك البيت للانضمام الى شقيقها يعتدي زوج امها عليها جنسيا، وهي تخفي الامر، عن شقيقها، ولكنها تصاب بحمى شديدة يسهر على علاجها شقيقها، وفي الوقت ذاته يقوم ببناء المنزل والممشى الى الشاطئ.. وما ان تصحو من مرضها، حتى تبادر الى مساعدته.

ولكن الامور تتطور بينهما في ذلك الخلاء الى زنى المحارم، حيث يعاشرها معاشرة الازواج، وترتفع الاصوات في القرية رافضة لتلك العلاقة وذلك التواجد المشترك.

ويتحول الرفض الى لحظة عنف، يتم خلالها اغتيال الفتاة اولا، ثم شقيقها ثانيا.

كل ذلك عبر مشهديات سينمائية خصبة بالصور، والحكايات، وايضا النسق الجمالي في التصوير، وحركة الكاميرا، التي تتحرك بكثير من البطء، حتى ان هناك بعض المشاهد تمتد لاكثر من سبع دقائق في حركة بسيطة لمتابعة ادق التفاصيل.

ان زنى المحارم امر محرم في كافة الاديان، وفي احد المشاهد، يسأل رجل عجوز الفتاة، هل تقيمين مع شقيقك كشقيق، او مثل حياة «الخنازير»!!؟.

انها حياة الخنازير..

ولابد من الموت..

وتكون النهاية الموت، وذهاب جثتيهما الى حيث النهاية..

فيلم ومخرج يبتكران صورة جمالية لموضوع هو في غاية القسوة..

يناقش بعمق، يرفض، وتحقق العدالة ارادتها.. وهو الموت.

فيلم يقول الكثير.. غير الصورة والمضمون.. وربما يكون احد فرسان الحفل الختامي لمهرجان كان السينمائي الدولي.

  

كيت بلانشيت: تربيت على حب «أنديانا جونز»

عبد الستار ناجي

اعترفت النجمة الاسترالية كيت بلانشيت، في حديث خاص بانها تربت على حب «انديانا جونز» وقالت في حديث مطول، نقتطف منه، سعادتها الكبيرة في تجسيد احدى الشخصيات الرئيسة في النسخة الجديدة من فيلم «انديانا جونز ومملكة الجمجمة البلورية».

وقالت: عشت طفولتي، وأنا استمتع وأحب مشاهدة أفلام «انديانا جونز» ولطالما حلمت بتجسيد احدى شخصياتها، وحينما اتصل بي المخرج الكبير ستيفن سبيلبيرغ سألني سؤالاً واحداً يقول فيه «ما هو رأيك في أن تكوني معنا في «انديانا جونز»، فكان الرد بكلمة واحدة موافقة».

وكانت كيت قد وصلت الى كان، بعد اسبوعين فقط من انجابها لمولودها الأخير، حيث ستغادر كان متوجهة إلى لوس انجلس لتصوير فيلمها الجديد هناك.

وتجسد كيت في الفيلم شخصية ضابطة روسية تطارد انديانا جونز من أجل الحصول على الجمجمة البلورية وسط كم من المغامرات والمطاردات المشوقة، كما تتميز كيت باتقان اللكنة الروسية في الفيلم، حتى يعتقد المشاهد بأنها ممثلة ذات أصول روسية.

النهار الكويتية في 22 مايو 2008

 

وجهة نظر

مواعيد

عبد الستار ناجي

خلال مهرجان كان السينمائي الدولي، اقتربت من تجربة في غاية الاهمية، تتعلق بالمواعيد.

ودعوني اروي لكم هذه الحكاية، لقد اتصلت قبيل شهر ونصف من موعد مهرجان كان السينمائي، بالمرافق الاعلامي والصحافي لفيلم «انديانا جونز ومملكة الجمجمة البلورية، من اجل الحصول على موعد، وبعد دقائق وصل الجواب «تم تسجيلك ضمن اللائحة».

وحينما جاء اليوم والوقت، ذهبت الى فندق «دي كاب» خارج مدينة كان، والذي تحول الى ما يشبه الترسانة من كثرة الحرس.

ومن بعيد شاهدت عدداً من النجوم بينهم هاريسون فورد والمخرج ستيفل سبيلبرغ.

لقد ذهبت قبل الموعد بساعة تقريبا، وكان امامي من اجل لقاء هاريسون فورد اكثر من «30» زميلاً صحافياً واعلامياً وناقداً، والموعد بحد اقصى «3» دقائق.. سؤال او اثنان وينتهي الأمر، لان كل شيء تريد ان تعرفه عن هاريسون والفيلم موزع في الملف الصحافي، وهو بعدة لغات مكتوبة او منسوخة على اقراص مدمجة.

الموعد كان 1:20 ظهراً، وقبلنا كان ثلاثة صحافيين، جلسوا معه وكان موعدهم معه 1:16 دقيقة، وفعلا، انتهوا في اربع دقائق ودخلنا انا وصحافي ياباني وثالث بلجيكي، وجلسنا «4» دقائق فقط لامجال للمجاملات، وكانت الاسئلة سريعة والاجوبة اسرع مع شيء من الضحك.

وظل هاريسون يلتقي مع الصحافيين والتلفزيون حتى الرابعة، حينما انتقل الى قصر المهرجان ليعقد مؤتمرا صحافيا، ثم يحضر حفل افتتاح الفيلم في المساء، ويحضر حفل عشاء، ثم يغادر عائدا الى لوس انجلس.

اهم ما في هذه التجربة دقة المواعيد، والاحتراف العالي من قبل المرافقين الصحافيين، والالتزام من قبل هاريسون فورد.

هكذا تسير الامور في كان.. وفي صناعة الفن السابع.. فالنجومية هي التزام، وليس تأخراً في المواعيد كما يفعل اكبر عدد من نجومنا في العالم العربي.

وعلى المحبة نلتقي

annahar@annaharkw.com

النهار الكويتية في 22 مايو 2008

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)