كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ساعات عن البطل الأسطوري أثارت حماسة عالم «كان»...

من إنديانا إلى غيفارا: حرب المغامرين لن تقع

كان (جنوب فرنسا) – إبراهيم العريس

مهرجان كان السينمائي الدولي الحادي والستون

   
 
 
 
 

كان متوقعاً غداة ظهور مئات الشبان معتمرين قبعة انديانا جونز، أن يظهر مئات آخرون في اليوم التالي وعلى رؤوسهم ما يشبه قبعة غيفارا الشهيرة. لكن هذا لم يحصل. فسجَّل المغامر سارق الآثار جولة ضد منافسه المغامر محرر الشعوب. لا يعني هذا أن ثمة «حرباً» بين المغامرين. ولكن أن يعرض تباعاً في الدورة نفسها فيلم منتظر بتشوق عن مغامر سبيلبرغ، وآخر منتظر بفضول ولهفة عن بطل تحرير أميركا اللاتينية، أمر كان يدعو الى شتى أنواع المقارنة. خصوصاً أن مخرجي الفيلمين يحملان اسمين متقاربين ولكل منهما مكانته الخاصة في راهن السينما الأميركية وكذلك في قلوب هواة السينما: ستيفن سبيلبرغ لأنديانا جونز، وستيفن سودربرغ لـ «التشي». وهنا، على أية حال تقف المقارنة، طالما أن الفيلمين لا يتباريان. ففيلم سبيلبرغ يعرض خارج المسابقة في «كان»، فيما يعرض فيلم سودربرغ في المسابقة ويتطلع، بجزءيه وساعات عرضه الأربع، الى غير جائزة.

ليس جديداً، على أية حال أن تقدم السينما على تحقيق فيلم عن أرنستو غيفارا، ونعرف أن أفلاماً عدة قد حققت في أميركا خصوصاً عن رفيق كاسترو الذي أصبح مع الزمن أيقونة عالمية، في النضال كما في الفن كما في رمزية المجتمع الاستهلاكي. ووجه غيفارا هو الأشهر، طبعاً، في القرن العشرين، الى جانب وجهي مارلين مونرو وتشارلي شابلن في مجال بيع الملصقات وتزيين الصحون وعلاقات مفاتيح السيارات وقاعات المطاعم وما شابه. من هنا يعرف المنتجون سلفاً ان أية بضاعة – بما في ذلك الأفلام السينمائية – تنتج تحت صورة غيفارا ستروّج وتدر أرباحاً، تغذي تلك الرأسمالية الشهيرة التي ظل غيفارا يحاربها حتى لحظاته الأخيرة.

قد لا يكون قصد سودربرغ، الفتى المعجزة في السينما الأميركية منذ عقدين وأكثر، إضافة أرباح الى أرباح. قصده كان أن يعيد الى البطل الشهير اعتباراً كانت السينما الهوليوودية أفقدته إياه بأعمال عدة، بينها ذلك الأردأ الذي قام فيه عمر الشريف بدور الثائر الأسطوري. لكن النتيجة – على رغم أنف سودربرغ! – ستكون عشرات ملايين الدولارات أرباحاً. واللافت أن إسبانيا وفرنسا هما من سيجنيانها. أما سودربرغ فنال حصته، هناك الآن مكانته التي تزداد حجماً بفضل فيلم في جزءين، عرض في كان ونال تصفيقاً. فالفيلم نزيه وجيد. وفيه أدى بنيشيو ديل تورا دور حياته. ولعل أفضل ما يمكن قوله عن «التشي» في جزءيه اللذين سيعرضان تجارياً تباعاً آخر هذا العام، انه فيلم تمكن من أن يحفظ للثائر الكبير أسطورته، بدلاً من أن يعيده الى أرض واقع كان فيلم «يوميات سائق دراجة» أعاده إليها قبل سنوات أمام كاميرا البرازيلي والتر ساليس. فيلم سودربرغ أمعن في أسطرة غيفارا، وكأنه في حاجة الى مزيد من الأسطرة. وفي المقابل، في عودة سريعة هنا الى انديانا جونز يمكن القول إن سبيلبرغ أمعن في نزع انديانا جونز من الأسطورة لإعادته الى الواقع. هل كان هذا في مصلحة الفيلمين؟ في مصلحة واحد منهما؟ في مصلحة غيفارا نفسه؟ تحتاج الإجابة الى مجال أوسع. في انتظار ذلك يمكننا أن نقول إن عرض الأمس للفيلم المنتظر لم يخيب الآمال. استقبل بحفاوة ولهفة، وحين انتهى العرض لم يغب أي قسط من الحفاوة أو من اللهفة... بل همس كثر بأن جائزة أفضل تمثيل رجالي، على الأقل، وجدت مستحقها في شخص ديل تورو، الذي رسم بملامحه وقوة شخصيته وظرفه، صورة للبطل الشهير أتت أكثر من طبيعية في الوقت نفسه الذي أمعنت فيه رسماً للبعد الأسطوري للشخصية.

الحياة اللندنية في 22 مايو 2008

 
 

ابراهيم العريس:

بعض نقادنا السينمائيين يرتعبون لمشاهدة فيلم اسرائيلي!

محمد موسى من كان

هذه الدورة الحالية من مهرجان كان السينمائي، هي ليست دورة عادية للناقد السينمائي اللبناني الكبير ابراهيم العريس،هي تصادف الذكرى الثلاثين من الدورة الاولى التي حضرها عام 1978، ابراهيم العريس ملأء تلك السنوات الثلاثين، بمقالات وكتب سينمائية وفكرية عديدة، وشغف لم يتوقف بالسينما ومهرجان كان السنمائي، ايلاف إلتقت ابراهيم العريس محرر صفحات السينما في جريدة الحياة اللندينة اثناء وجوده في مدينة كان الفرنسية، لتسأله عن ذكرياته مع كان وترشيحاته للدورة الحالية.

·         هل ممكن ان تحدثنا عن الدورة الاولى التي حضرتها لمهرجان كان السينمائي؟ ما هي الذكريات الاولى لك هناك؟

- الدورة الاولى كانت سينمائية حفا، المرة الاولى في مهرجان كان السينمائي، كانت في عام 1978، لذلك هذه الدورة لهذه السنة، هي خاصة لي، لاني احتفل بالذكرى الثلاثين لحضوري الاول في كان، بعد عام 1978، جئت باستمرار مع انقطاعات جد قليلة. انطباع الدورة الاولى، كنت مبهورًا تمامًا، مبهورًا بعالم المهرجان، كان هو اول مهرجان عالمي احضره بحياتي، قبله كنت احضر مهرجانات محلية وشرق اوسطية. الدورة الاولى التي حضرتها، عرضت مجموعة كثيرة من الافلام المتميزة، هي السنة التي ربح فيها فيلم "شجرة الصنادل" لبرمان ايرمي. في السابق كان قصر المهرجان اصغر من هذا بكثير، وكان في مكان أخر مختلف عن مكانه الحالي. كنت مع زملائي الذين نحضر، نحب السينما كثيرًا لكننا كنا نخضع لإيديولوجيات ايامها، لذلك كنا نفضل مشاهدة الافلام التي تحمل الكثير من "النضال"، والتي تحمل الكثير من اللهجة الصاخبة ضد "الامبريالية"، وكنا نركض لمشاهدة افلام العالم الثالث المتقشفه، لاننا نعتبرها جزءًا من نصالنا نحن. في تلك السنوات الاولى، اكتشفت مجموعة رائعة من الافلام المغربية، افلام لم اكن اعرفها ولم يكن بالامكان ان احضرها في بيروت. فصار المهرجان من يومها يأخذ طابعين عندي، طابع النضال الخاص، ضد الامبريالية الاميركية، كنا مثلاً لا نحضر افلام اميركية، حتى لو كانت تقدمية على اساس اننا كنا ضد الاميركيين، والطابع الثاني، هو مشاهدة افلام عربية ومن العالم الثالث، افلام اكتشفت لاحقا بضعفها، ماعدا الافلام المغربية والجزائرية التي سعدت بالتعرف إليها في "كان".

 انا اسمي ذلك الزمن احيانًا، بطفولة النقد العربي، كنت اجلس مع زملاء عرب آخريين، لنشتم الافلام الاميركية، ونعتبرها جزءًا من نضالنا ضد الامريكان، الذين نصرخ على افلامهم في المهرجان،هذا كان الانطباع الاول عن المهرجان،الذي حببني بالسينما كثيرا، وهو الذي علمني ان السينما ممكن ان تكون متنوعة كثيرا، سينما التتوع الخلاق، بالتدريج بدات اكتشف ان المهرجان يضيف لي ولمعلوماتي السينمائية، واضاف لشغفي بالسينما،وبعد ثلاثين سنة عن الدورة الاولى، لم يزل هذا الشغف موجود، والتنوع الذي يقدمه المهرجان لا يزال موجودا، لكن مع الوقت صرنا نفرق بين مناطحة الامبريالية وهي شيء يختلف عن مناطحة السينما الامريكية، التي هي في اغلب اوقاتها هي سينما ضد الامبريالية الاميركية، وان الشعب الاميركي من خلال السينما هو الشعب الذي يكشف فضائح حكوماته اكثر من اي شعب آخر. وان السينما شيء جميل جدًا سواء كانت عربية او اسرائيلية او عربية، الفيلم هو اما يكون فيلمًا عظيمًا أو لا يكون، بصرف النظر عن معناه ومضمونه.

·     هل تعتقد انه من خلال تغطيياتك وتغطيات زملائك للمهرجان للفترات الطويلة الماضية، إن مكانة المهرجان عند القارئ العربي قد تميزت او تحسنت، اما ان المهرجان يبقى، جزءًا من السينما الفنية التي تبقى بعيدًا بالغالب عن المشاهدين العرب لأسباب عديدة منها جرئتها، أو عدم شعبيتها؟

- اعتقد المهرجان اثر على مجموعة قراء السينما، التي تقرًا لي او لزملائي الآخريين، اعتقد ان عدوى حماسنا للمهرجان، انتقلت الى القراء ايضا، بان هناك سينمات متميزة بالعالم تعرض افلام هي تختلف عن ما يعرض في صالاتنا، وان هذه هي السينما الحقيقية. المهرجان ساعدنا مع الوقت على قراءة السينما الاميركية بشكل افضل. لكن مع الاسف لا يزال الكثير من الناس لا تحاول ان تفهم ذلك، العديد من التلفزيونات "المناضلة" ما زلت تسال عن السينما الاميركية وعلاقتها بالامبريالية، تلفزيون "المنار" المناضل، اجرى عدة لقاءات معي، وسالتني المقدمة مرة أذا كنت اوفاقها الراي ان السينما الاميركية هي امبريالية وتساند الصهيونية وهي مصنوعة لضرب العالم العربي ! طبعا هكذا ناس لا تفهم في السينما كثيرا. هؤلاء التلفزيونات تعرفنا وتعرف تاريخنا ومع ذلك يريدون ان نعطي اجوبة على اسئلتهم التي هي نفسها تشبة الاجوبة وليست اسئلة، انا احاول دائما ان اقول ما اعتقد به واصحح اسئلة هؤلاء الاعلاميين وانه ليس صحيحًا ما تقولون به. وانكم تقدمون اجوبة وانا لم اطرح عليكم اسئلة لتقدمون اجوبة، للاسف هؤلاء من يسيطر على العالم العربي وعقل العالم العربي، هؤلاء حتى عندما يقرأوا لنا عن "كان" يصيرون يفتشون في المقال عن اشياء ليحكم علينا ايدولوجيا، مثلا اذا قلان مثلا ان هذا الفيلم الاميركي عظيم، فسوف نتهتم اننا نخدم الامبريالية مثلا، واذا قلنا ان هذا الفيلم ضد اليمين الاميركي، سوف يقولون ان الكل في اميركيا واحد، هذا الشيء ينطبق على اسرائيل، السنة الماضية شفنا هنا في "كان" فيلم رائع جدا، هو "زيارة الفرقة "، هذا الفيلم كان من اروع الافلام التي شاهدناها، انا وقفت مع الناقد المصري سمير فريد، لأكثر من 20 دقيقة مع المصفقين، لأننا اعتبرنا ان الفيلم يفضح "الا تفاهم" بين البشر، انا اقترحت في مقابلة تلفزيونية ان يعرض هذا الفيلم في كل العالم العربي، ويا ريت نستطيع ان نعمل افلام تشبه، لان الشعوب والناس البسطاء، في اسرائيل مثلا، والذين جائوا واحتلوا الاراضي الفلسطينية، هم خدعوا بايدولوجيات، هذا الفيلم يبرز كيف خدعوا هم واين خدعنا نحن ايضًا، لأن كل شعوب المنطقة خدعت، هذه الخديعة التي وقعنا بها هي التي ضيعت فلسطين. هذا الفيلم اي "زيارة الفرقة" عندما اراد القائمون في مهرجان ابو ظبي عرضه، ثارت الدنيا والكل صار يردد يالطيف، عملاء الصهيونه والامبريالية.

انا يائس تمامًا من قدرة الاكثرية الساحقة من الشعوب العربية للوصول الى فهم الفوارق البسيطة، إني يمكن ان احارب اسرائيل من خلال مشاهدتي لفيلم من داخل اسرائيل، يفضح الايدولوجية الصهيونية، نحن خسرنا كثيرًا بسبب التطرف العربي، خسرنا ناس كثيرين كانوا يؤدونا في قضايانا، من داخل اسرائيل، هم الذين يخوضون نضال ضد الصهيونية منذ سنوات، صاروا لا يلتفتون الينا لمسعادتهم في قضاياهم، نحن لم نتعامل جيدًا مع اليد الممدودة، وخصوصًا اليد الممدوة سينمائيًا من داخل اسرائيل، وهذا الشيء ينطبق على السينما الاميركية وسينمات اخرى كانت معنا ضد هذه الدول، لكننا نحن خسرناها. نحن نخسر الآن كل شيء، بسبب الحماس والجهل العربي العام، وبسبب ايدولوجيا الستينات المسبقة والموجودة في الرأس وخاصة على الصعيد السينمائي، لانه اكبر معركه تخاض هي، ضد السينما، لان السينما هي فن الوعي بامتياز، ويبدو أن العرب، ومن دون ان تكون هناك مؤامرة عربية متطرفة، وعيهم الساذج والمحدود يجعلهم يحاربون السينما، من كل هذا احب ان اقول اننا كنقاد لم نؤثر كثيرًا، يمكن ان تكون اثرنا عن انفسنا، انا وزملائي النقاد، انا لا اتكلم باسمهم، لكن هذا ما يخيل الي، تعلمنا من "كان" ان نكون منفتحين اكثر ومتسامحين اكثر، وان نفهم التاريخ بشكل افضل، ونفهم الشعوب الاخرى ـ ونفهم اخيرا ان من انتصر على الادارة الاميركية في حرب فيتنام هي ليست الاسلحة الروسية، بل ضمير الشعب الأمريكي، لذلك انا كنت اتوقع منذ ثلاثين سنة، ان من ينتصر على الايدولجيات القائمة المتعصبة في العالم العربي واسرائيل، هم نحن الشعب العربي والقوى المتقدمة في الشعب الاسرائيلي، التي مدت لنا يدها وانتقدت حكوماتها، هذه القوى فتشت عن دولة ديمقراطية، عن يد اخرى تساعدها، لكننا جابهناها، بالعنف الحمق والجهل الدائم لدينا.

·     على ذكر السينما الاسرائيلية، هل شاهدت الفيلم الاسرائيلي الذي عرض في المسابقة الكبرى، "فالس مع بشير" وما هو رايك فيه؟

انا لم اشاهد الفيلم بعد لكني اعرف الكتاب الذي اوخذ عنه، اي كتاب الرسوم المتحركة، وانا اعتقد انه فيلم معادٍِ للصهيونية، اذا جاز لنا استعمال هذه الوصف، هو فيلم يبحث عن فضح اليات القمع والعدوان والطغيان سواء كانت، اسرائيلية او غير اسرائيلية ويقول الحقائق كما يراها مواطن اسرائيلي، وهذا ليس بالجديد، لأنك تعرف وانا اعرف ويعرف جميع من يشاهد الأفلام الاسرائيلية من سنوات عديدة، ان هذه السينما، تتحمل منذ زمن بعيد عبء الضمير اليهودي المضاد لدولة اسرائيل والصهيونية، هذه الافلام للاسف لا يشاهدها العالم العربي، نقادنا العرب الذي يشاهدون هذه الافلام يموتون من الرعب فقط لانهم يشاهدون افلام اسرائيلية،وحتى الذي يرغب بالكتابة عن فيلم اسرائيلي جيد، ترفض الصحف نشر هكذا مقالات، وبذلك يحرم العرب من مشاهدة هذه الافلام، مع اني اعتقد، ان مشاهدة هذه الافلام من قبل الراي العام العربي، سوف يجد عدائا للقمع والاعتداء الاسرائيلين، اكثر من العداء العربي اللفظي بكثير، نحن في كل الافلام التي انتجناها ضد اسرائيل، واتحدث هنا عن السينما العربية ككل وليس عن السينما الفلسطينية، كنا سذج واغبياء جدا، ولم ندرك حقيقة هذه الدولة وعنصريتها، فاذا بالاسرائليلين، والفلسطنين القادمين من قلب اسرائيل، هم الاقدر على فضح هذه الايدولوجيا، وياحبذا لو تشاهد الشعوب العربية، كيف يمكن فضح هذه الافكار وكيف يمكننا نحن بعالمنا العربي ايضا ان نفضح ايدولوجيات الانطمة التي باعتنا الى اسرائيل والى امريكا في الماضي، وان نتعاون جميعا، لان العالم لم يعد مقسوما الى هويات وقوميات، بل صار مقسوما الى قوة تريد ان تغير هذا العالم من هذا الواقع البائس الذي نعيش فيه وقوة لا تريد ان تغيره وقوة ثالثة تريد ان تغيره الى الاسوء، هؤلاء موجودين في المتطرفين الاسلاميين والمسحيين، واليهود.

انا اعرف حوالي نصف المخرجيين الاسرائيلين وشاهدت افلامهم الجميلة، واتمنى ان ياتي اليوم الذي نحقق فيه افلام مثلهم، فنكسب ناس اقرب الى قضايانا، وليس قضية دولة اسرائليل .

·     لنرجع قليلا الى هذه الدورة، كيف وجدت الافلام العربية التي عرضت داخل المسابقات، وفيلم البيبي دول المصري الذي عرض ضمن تظاهرة السوق.

بالحقيقة انا وجدت هذه الافلام مخيبة للآمال، وخاصة الفيلم المصري الذي احيط بدعاية هائلة، هو مخيب للأمال تماما ولا يحتاج كل هذه الدعاية، وانه لن يعيش كفيلم "عمارة يعقوبيان"، الذي انتجته نفس الشركة، وصاحبته نفس طريقة اثارة الضجيج والعرض وغيره، اما بالنسبة الى الفيلم الفلسطيني، بسبب انه الفيلم الاول لمخرجته، فيحب ان نشجعها على ذلك، هي فيلم جريء، وفيلم الى حد ما لا باس به، ولكن اني اعتقد، انه من بعد ما شاهدنا افلام ميشيل خليفي، هاني ابو اسعد و ايليا السليمان، لم نعد نقبل بالتشجيع الفلسطيني على عماه، بداية الفيلم كانت واعدة جدا، يعني مشهد المطار، ومشاهد البداية، لكن الحوارات كانت غبية جدا في الفيلم، وفي لحظات طويلة جدا وشعارات وايدولوجية. اعتقد ان فلسطين صارت من بعد افلام، "يد آلهية" الجنة الآن" تحتاج الى تنطلق من هنا الى الامام وليس ان تتراجع الى سينما الستينات والسبعينات، اما الفيلم اللبناني، فكان ايضا مخيبا للامال بالنسبة لي، وربما كان المسؤول عن خيبة الامل هو الممثلة الفرنسية "كاترين دينوف" نفسها، هي بدت في الفيلم مسطحة جدا، غير معنية بأي شيء على الاطلاق، لم يكن اي حوار عميق في الفيلم، كنت اتوقع ان كون هناك حوار في الفيلم، كنت اتوقع انها فعلا تريد ان ترى شيئا ما، لكنها لم ترى اي شيء ولم ترغب ان ترى شيئا، لما قالت انا بدي اشوف، لم اعرف ماذا كانت تريد مشاهدته، هي كانت نائمة معظم وقت الفيلم، مشغولة بحزام الامان، وتنظر بنوع من الحيادية والامبالاة واحيانا القرف الى ألآخريين، لم يحدث شيء على الاطلاق في الفيلم، هي تركب السيارة ولا شيء يحدث بعدها، بعض الحوارات الجيدة في الفيلم اعتقد انها صورت لاحقا ولا علاقة لها بزيارة "كاترين دينوف"، هي لم تجري اي حديث مع شخص عادي في لبنان، وحتى الشخص الذي كان برفقتها اي ربيع مروة، لم تساله عن اي شيء على الاطلاق، وكانها كانت آتيه لانجاز هذا الفيلم، وتنجز هذه الرحلة، لتعود بعدها الى حفلتها المسائية. الفيلم احيط بضجة كبيرة، اولا بسبب الاحداث الاخيرة في لبنان، وثانيا بسبب حرب لبنان عام 2006، وثالثا بسبب "كاترين دينوف" في الفيلم، لكني اعتقد ان الفيلم هو ثلاثة ريبورتاجات تلفزيونية مزجت معا، وهي حتى ليس ريبورتاجات هي اقرب الى الاخبار التلفزيونية، ولم يكن الفيلم موفقا على الاطلاق،

·         السؤال الاخير، ماهو اجمل فيلم شاهدته لحد الآن في المهرجان؟

بالحقيقة الفيلم التركي لفت نظري جدًا، هو اسمه "3 قرود"، هو من اجمل الافلام التي شاهدتها لحد الآن، واتوقع ان يفوز بجائزة ما، فيلم جميل جدا يطور فيه المخرج التركي "نوري سيلان"اسلوبه ولغته وعلاقته بالعالم،هو ايضا يخرج من ذاته هذه المرة، لانه في الفيلمين السابقين له كانت القصص عن ذاته هوه، في هذا الفيلم خرج المخرج الى موضوع انساني جدا وعميق جدا، وقدم لنا نظرة الى المجتمع هذه المرة، وتتجاوز مشاكله الخاصة، من خلال الحادثة التي حصلت في الفيلم، وهي حادثة السيارة، والاثر الذي اصاب العائلة التي تحمل ابوها الخطا في الحادث، الفيلم يرمز الى عدم المعرفة، اي لا يعلم لا يسمع ولا يتكلم، هذا الفيلم ذكرني كثير بفيلم مصري اسمه "سوبر ماركت"، الفيلم ياخذ الحياة كما هي، ولا يبحث عن حل او تبرير، نرجع الى الفيلم التركي، هو يضم صورة رائعة ونهاية رائعة جدا، التمثل جيد جدا في الفيلم. هذا الفيلم احببته واتمنى ان ياخذ جائزة كبيرة، لان الاتراك باعتبارهم شعوب قريبة منا نحن العرب، يمكن ان يكون هذا الفيلم مثلا مثل الافلام الأسرائيلة التقدمية هو درس لنا لكي، كيف ان تشتغل السينما بابداع وبساطه،حيث يمثل اي موضوع ممكن ان تاخذ من الشارع، مكن ان يتحول الى فيلم جميل جدا، وبالطبع ان يجب ان يكون المخرج مبدع حقيقي وماسك ادواته الفنية، وانت تعرف ان هذا الفيلم لا يكلف ربع الافلام التي تنتجها شركة "حودنيوز " مثلا، وتعمل هذه الدعايات الصاخبة لها.

انا اعتقد اننا بحاجة في العالم العربي الى مخرجين من نوع المخرج التركي، الذين يحققون انطلاقة من الحياة، وليس من الواقع المنظور اليه بشكل مؤدلج،وهذا اهمية الفيلم التركي، انه ياخذ الواقع العائلة بكل بساطة، الزوجة تخون زوجها بكل بساطة، ثم يرتبط بالذي خانت زوجها معه بكل بساطة، الزوج من بعد حالة الغضب يسامحها بكل بساطة، ويبحث عن حل، ان تنزل الى الامور المعقدة جدا بهذا الشكل البسيط، هو ما تحتاجه السينمات العربية، اعتقد من ناحية أخرى ان تركيا اثبتت من خلال مثقفيها وليس من خلال نظام الحكم، انها فعلا امتداد للحضارة الاوروبية، وليس لهم علاقة بالشرق، اجد هذا في روايات "بروك" الذي فاز بجائزة نوبل للاداب، واجده في افلام "فاتح اكين" التركي الالماني، واجده في افلام "نوري سيلان"، هذا المخرج العبقري البسيط، الذي يتقن فن السينما تماما، ولا يستخدم السينما لتقديم رسائل، انما يستحدم الرسائل لتقديم السينما.هذا هو الفرق الاساسي بين هذا النوع من المخرجيين، وبيننا نحن الذين نستخدم الفيلم لتوصيل رسالة، ودائما تكون هي رسائل خاطئة، على الصعيد السياسي والاخلاقي، والايدولوجي.

موقع "إيلاف" في 22 مايو 2008

 
 

القبس في مهرجان «كان»

«ملح هذا البحر» و«فالس مع بشير».. إبحار في الذاكرة الفلسطينية

كان (فرنسا) ــ صلاح هاشم

أراد مهرجان «كان» أن يعوضنا عن حالة الإحباط والاكتئاب والملل التي انتابتنا بعد فيلم الافتتاح «العمي» الهزيل، وبعد عرضه مباشرة، بالخير الوفير، فإذا به يتحفنا بمجموعة من أقوى الأفلام التي شاهدناها في المهرجان الذي نتابع أعماله منذ عام 1982، ومن ضمنها مجموعة من الأفلام السياسية البارزة، ونرشحها للحصول على جوائز من ضمنها فيلم «فالس مع بشير» من إسرائيل في المسابقة الرسمية، ونرشحه للحصول على سعفة «كان الذهبية»، فقد هزنا وحرك مشاعرنا الى حد البكاء مثل اليتامى في نهاية الفيلم، وفيلم «جوع» السياسي المذهل للبريطاني ستيف ماكوين الذي افتتحت به تظاهرة «نظرة خاصة» أعمالها، ونرشحه للحصول على جائزتها وجائزة «الكاميرا الذهبية»، وفيلم «عمورة» الايطالي لماتيو جارون الذي نرشحه من الآن للحصول على الجائزة الكبرى، ويحكي عن «الكامورا» المافيا النابوليتانية - نسبة الى مدينة نابولي – وغيرها. كما هزتنا مجموعة أخرى من الأفلام الاجتماعية التي عكست بقوة مشاكل ومتناقضات مجتمعاتنا، وكشفت عن عصرنا بأهواله وحروبه وكوارثه، وتوهجت مثل كوكبة من الشموس الصغيرة، وسط طقس ممطر وبارد في «كان» لم يكن يشجع على الانطلاق والخروج والكتابة، والسباحة في بحر «كان»، بانتظار أن تشرق الشمس من الشرق من جديد، مثل فيلم «ليونيرا» الاثير لبابلو ترابيرو من الارجنتين، وفيلم «3 قرود» الفني الفذ لنوري بياغ شيلان من تركيا وفيلم «صمت لورنا» الإنساني العميق للأخوين داردين من بلجيكا.

قبل أن نعرض لمجموعة الأفلام المذكورة، كنا شاهدنا فيلم «ملح هذا البحر» للفلسطينية آن ماري جاسر، الذي شارك الممثل الأميركي الكبير داني جلوفر مع مجموعة كبيرة من شركات الإنتاج والمؤسسات الثقافية العالمية في دعمه وإنتاجه، والاحتفالية التي رتبت في «كان» لاستقباله من العرب المتواجدين من نقاد وسينمائيين وصحافيين للاحتفاء به قبل عرضه، من منطلق أنه الفيلم الوحيد (مع فيلم «بدي شوف» اللبناني) الذي تم اختياره للعرض في قائمة «الاختيار الرسمي»، وهو يمثل بالتالي السينما العربية «الرسمية» خارج دائرة الأفلام العربية التي تعرض في «سوق الفيلم» في المهرجان.

جاء الفيلم «ملح هذا البحر» ساذجا ومباشرا ومحبطا ورديئا للغاية، وخاليا للأسف من أي فن، غير فن التصوير السينمائي، و هو لم يكن يستحق يقينا أن يعرض في المهرجان. ولاشك في ان الاحداث السياسية التي تمر بها المنطقة وحصار غزة و احتلال فلسطين، فرضت وحدها بقوة اختياره للعرض في تظاهرة «نظرة خاصة» على هامش المسابقة الرسمية، بالإضافة الى غياب أي أفلام عربية جيدة تستحق العرض في المهرجان الكبير، وهو ما يدفع بالتالي الى تساؤل: على أي أساس اذن سوف تقام تلك المهرجانات السينمائية العربية التي سوف توزع جوائز على أفلام هابطة ورديئة وتافهة، ولا يمكن ان تقبل للعرض في أي مهرجان سينمائي دولي يحترم نفسه وما جدواها؟

عنوان شاعري «على الفاضي»

ونعود الى «ملح هذا البحر» وياله من عنوان شاعري جذاب على الفاضي أيضا، الذي يسرد علينا حكاية ثريا الفتاة الاميركية الفلسطينية (28 سنة) التي ولدت وعاشت وتربت في حي بروكلين في نيويورك، حيث هاجرت اليه عائلتها عام 1948 واستقرت فيه.

ونراها تهبط في أول الفيلم في اسرائيل، وتوقف في المطار، ويقوم ضابط الجمارك بتفتيش حقائبها، ومن خلال استجوابها في المطار نتعرف على تاريخها ونعرف ان والدها كان حلاقا وقد هاجرت اسرتها الى اميركا. وتنجح ثريا في الحصول على تأشيرة دخول وتقول لضابط الجمارك انها تعرفت على فتاة اسرائيلية تدعى كورين تقيم في رام الله وستقيم معها هناك.

وتركب ثريا السيارة الى رام الله، وتتفرج من نافذة السيارة عند وصولها الى المدينة على العلم الفلسطيني يرفرف فوق عمود الكهرباء، وتسعد برؤية شباب فلسطين في رام الله وهو يرحب بها ويحييها. اخيرا هاهي ثريا تعود الى وطنها الأصلي.

وفي اليوم التالي تذهب الى أحد البنوك وتطالب بالاموال التي اودعها جدها في البنك من زمان ــ مبلغ يصل الى 15 الف دولار وكسور ــ وهي لاتعرف بعد ان الاموال الفلسطينية التي كانت مودعة هناك قد تم تجميدها، ولا يمكن بالطبع أن يصرف لها هذا المبلغ ابدا. ثم تتعرف ثريا على شاب فلسطيني يدعى عماد يعمل في مطعم وتعرف منه انه حصل على منحة للدراسة في كندا غير انه لا يستطيع الحصول على فيزا للخروج من إسرائيل، بل لا يستطيع ان يغادر مدينة رام الله الى اي مدينة اخرى في فلسطين. و نتعرف تدريجيا على رغبة ثريا في البقاء في وطنها بأي ثمن والعيش في فلسطين، وتحكي لنا في الفيلم عن الذكريات التي كان يحكيها لها جدها والشوارع التي كان يتنزه فيها في مدينة يافا، وتحفظ ثريا أسماء هذه الشوارع عن ظهر قلب بل تعرف أيضا المقاهي التي كان يتردد عليها الجد ومن ضمنها مقهى غنت فيه أم كلثوم وآخر شدا فيه فريد الأطرش.

ومن خلال تجوال ثريا في الفيلم مع عماد نتعرف على المنظر الطبيعي في فلسطين حيث يمكن من فوق احد التلال وفي جو صحو ان ترى البحر في يافا هناك، وكان البحر الذي عبره الفلسطينيون الى المنفى آخر ما شاهدوا عند خروجهم من البلاد، ولذلك تكره ثريا البحر إذ يجعلها تستشعر الحزن والمرارة لفقدان الوطن، وضياع البلاد في فلسطين وربما الى نهاية الزمن، وعليها الآن أن تفرض «عودتها» الى وطنها ورغبتها في الإقامة «المستحيلة» هناك بالقوة، ومهما كانت التضحيات.

طموح إلى العالمية

وتتطور الأحداث في الفيلم بشكل ميكانيكي، ولا يوجد في الفيلم الممل الذي قتلنا تفسيرا وشرحا مباشرا بالكلام والحكي أي سينما بالمرة أو اي جديد، وكل ما شاهدناه حتى الآن يبدو مفتعلا، وخاليا من أي ابتكار او تجديد او فن، وواضح ان سيناريو الفيلم كله يعتمد على «الكلام» والشرح والتقرير، وهو الامر الذي تكرهه السينما وتعافه، لأنها فن المخاطبة بالصمت والصورة فقط عن جدارة، غير أن الأغرب من ذلك ان تجعل آن ماري جاسر بطلة الفيلم ترتكب حماقة أو جريمة ضد القانون، اذ تقوم وهي ترتدي زي محجبة وبصحبة صديقها عماد وصاحبه بالسطو على البنك لاسترداد المبلغ الذي اودعه هناك جدها. ويسلمها موظف البنك تحت التهديد مبلغ 15 الف دولار وكسور، ثم تنطلق مع الاثنين بعد أن تنكر ثلاثتهم في زي اسرائيليين الى يافا حيث هو ذاك البحر الذي تكره، وتعود لزيارة دارهم القديمة هناك وتسكن فيها فتاة اسرائيلية تقوم باستقبالهم بود وترحاب، وتدعوهم الى الدخول، وتقول في الفيلم ان الجميع يريد السلام ماعدا القادة والحكام.

ويحتشد الفيلم بكل تلك المواقف الاصطناعية المركبة تركيبا ولا يمكن للمرء هضمها، ولا يمكن ان يكون الفيلم المكان المناسب لطرحها، بل كتب الجغرافيا والتاريخ والأطروحات الجامعية الأكاديمية الجامدة المملة، ولذلك نجد أن الشخصيات في الفيلم مصنوعة، وهي موجودة أصلا لكي تنطلق في الكلام والشرح والتفسير، في حين أن السينما الفلسطينية تقدمت وتطورت كثيرا فنيا ودراميا، في أعمال سينمائية فلسطينية كثيرة لمخرجين فلسطينيين من أمثال ميشيل خليفي «عرس الجليل» ورشيد مشهراوي «حظر تجول» واليا سايمان «يد الهية».

شخصيات مسطحة

ونخلص الى ان كل شخصيات الفيلم بدت وللأسف مسطحة وبلا أي عمق، ولم نشعر بأي تماه أو تعاطف معها، فهي وما أكثرها بمجرد ان تظهر في الفيلم سرعان ما تختفي وفقا لمزاج مخرجتنا وبراحتها، مثل شخصية صديقة ثريا كورين اذ نلتقي بها في السيارة ثم تختفي من الفيلم، وكذلك أسرة عماد ووالدته التي تخرج للترحيب بها وتشدها الى داخل الدار ثم لا نسمع عنهم أي شيء بعد ذلك، وهكذا دواليك، وهي امور لايمكن ان تغيب على أي ناقد في فيلم يعرض في أعظم وأضخم تظاهرة سينمائية في العالم.

غير أن ابشع شيء في الفيلم ان تجعل مخرجتنا شخصية بطلة الفيلم ثريا تتصرف بسذاجة بل وبغباء، وترتكب جريمة السطو على البنك في الفيلم، فهو تصرف لا يمكن ان تقدم عليه فتاة فلسطينية متعلمة ومتخرجة في احدى الجامعات الأميركية، والا كانت كارثة.

أرادت آن ماري أن تحكي قصة تاريخ فلسطين وتشرح مأساة الشعب الفلسطيني وتجشمت من اجل ذلك الأهوال أثناء تصوير الفيلم في عدة مدن ومناطق فلسطينية داخل إسرائيل- وتجد كل ذلك مشروحا بإسهاب في ملف الفيلم الصحفي مع خرائط لفلسطين لشرح حقائق القضية، وحوار طويل مصنوع مع مخرجتنا تقول فيه ببجاحة انها شاعرة وتأثرت كثيرا بأشعار محمود درويش، ويبدو انها أخذت عنوان الفيلم من قصيدة له، كما تذكر انها تشتغل في السينما منذ عام 1994، غير ان فيلمها او أي فيلم لا يرحمه الكلام المكتوب عنه في أي ملف، حتى لو كان في مجلدات، ولا يدافع عن الفيلم الا الفيلم نفسه، وفنه.

غير ان «ملح هذا البحر» للأسف لا يعلن عن ميلاد مخرجة او حتى نصف مخرجة، وبدا لنا عملا رديئا وهزيلا وفاقدا لأي مشاعر او أحاسيس حقيقية ومصداقية، بل مجرد تصوير فوتوغرافي فارغ ومسطح وتلفزيوني لكلام وحشو مكتوب، وتتعجب أن يطلق عليه اسم فيلم، وتتعجب أكثر ويا للأسف أن تختاره ادارة المهرجان لكي يعرض ويمثل سينماتنا العربية الجديدة في مهرجان سينمائي دولي مثل مهرجان «كان»، لكي نخرج منه ونحن حزانى، ونحاول ان نداري خجلنا من «ملح هذا البحر» الأحمق المصنوع على مايبدو لأناس لايعرفون البتة ما يحدث في فلسطين، او لم يشاهدوا اي افلام فلسطينية من قبل بالمرة.

الرقص مع بشير في بيروت

في حين يناقش فيلم «فالس مع بشير» الإسرائيلي لآري فولمان، الذي يقدم انجازا وإضافة إلى فن السينما من خلال المزج بين التسجيلي والرسوم المتحركة في فيلم، كما شاهدنا في فيلم «بيرسوبوليس» لمرجان سترابي، ونعتبره «تحفة» مهرجان «كان» الحادي والستين، ويستحق الفوز بسعفته الذهبية عن جدارة. يناقش حكاية جندي اسرائيلي ــ مخرج الفيلم ذاته ــ مع الألم والندم والإحساس بالذنب. فقد كان شاهدا على مذبحة صبرا وشاتيلا حين شارك في عملية غزو اسرائيل للبنان في الثمانينيات، والفيلم كله هو «كابوس» مرعب يسكنك ومنذ أول لحظة. حين يلتقي مخرج الفيلم في أول مشهد بصديق له في بار، فيحكي له صديقه عن كابوس مرعب ينتابه في منامه كل يوم، وهو يشاهد في الكابوس 26 كلبا متوحشا، يركضون في احياء المدينة وينشرون الرعب والفوضى في طريقهم، ثم يتوقفون خارج داره وينبحون، وهو يتطلع اليهم مرعوبا من نافذته في الليل، واعتبر هذا المشهد من أرعب المشاهد التي صدمتني بقوتها في كل أفلام «كان» 61 وحتى الآن.

ويتذكر الصديق كيف كان يغتال هذه الكلاب عند دخولهم احياء لبنان فقد كانت الكلاب عندئذ تنبح، وكانت مهمته ان يقتلها ويخلص عليها حتى تخرس والى الابد برصاص بندقيته كقناص، غير ان هذه الكلاب وعددها 26 كلبا، صارت اشباحا لكلاب ضارية بأنياب متوحشة مسعورة، تطارده كل ليلة وتطارده في منامه، وفي اليوم التالي على ذاك اللقاء، يبدأ باري مخرجنا وبطل الفيلم، يستعيد ذاكرة تلك الحرب المرعبة العبثية التي شارك فيها مع قوات الجيش الاسرائيلي في لبنان، وتبدأ صورها تتشكل في وعيه وضميره، وتخرج من كهوف الذاكرة مثل أهل الكهف بعد سبات عميق، وتصحو فجأة.

فاذا به يرى صورة له وهو يسبح في البحر في لبنان مع بعض زملائه من الجنود، ويخرجون منه الى تلك المدينة الشامخة العملاقة بيروت، ويستشعر باري رغبته في ان يستعيد صور تلك الذاكرة واحدة بعد الاخرى، ويبدأ الفيلم او كابوس أري فولمان الذي هز مشاعر كل الناس الذين شاهدوا الفيلم في المهرجان، يبدأ يتشكل امامنا في ذلك الفيلم الرائع الذي بدا لنا على الرغم من انه فيلم تسجيلي بالرسوم المتحركة، بدا لنا اكثر اقناعا وتأثيرا ومصداقية من أي فيلم واقعي بممثلين حقيقيين.

رعب واقعي

بسرعة سوف تنسى وانت تتابع صوره ومواقفه واحداثه ومشدودا الى مقعدك في ذهول من جمال الفيلم وحالة القلق والخوف والترقب التي تنتابك وانت تشاهده، انه فيلم «رسوم متحركة» ANIMATION وتجعله يسكنك ويتلبسك اكثر من الافلام الواقعية بكثير، حين يحكي أري لنا حكايته، ويروح يسافر الى هولندا ليسأل الجنود من زملائه ان يحكوا له عن تلك الوقائع المرعبة التي عاشوها وخبروها اثناء الغزو الآثم، ويشيب لهولها الاصلع من الرعب، واحساسهم بالخوف والذنب، ومحاولتهم نسيان صور ذاكرة تلك الحرب المرعبة وما وقع فيها لهم باي طريقة.

وكان مخرج الفيلم قد لف ودار بالفعل ليستجوب زملائه من الجنود وكانوا آنذاك في ريعان الشباب وقمة الحلم والبراءة، لكي يستمع الى حكاياتهم وهو غير مصدق انه كان موجودا وحاضرا معهم كما استجوب احد قادة الجيش وبعد ان اخرج فيلما تسجيليا قام فيه بجمع شهاداتهم، حول الفيلم في ما بعد الى الرسوم المتحركة، وجعل طاقم الفيلم الفني يرسم الفيلم التسجيلي وشخصياته برسوماته، ويظهر على العكس من فيلم «بيرسوبوليس» بالألوان، وهكذا جعلهم تحت إدارته وإشرافه يصنعون فيلما باهرا ومؤثرا حركنا الى حد البكاء، حيث يأخذ الفيلم شكل «الكريشندو» أي يصعد بنا سلم الفيلم ويطور من أحداثه درجة بعد درجة، ولقطة بعد لقطة، ويضبط إيقاعه بحرفنة وحرفية عالية وغير عادية، لكي يصل تدريجيا وفي خط متصاعد الى الذروة في الفيلم، ويصدمنا بذلك المشهد التسجيلي الواقعي - وهو المشهد الوحيد في الفيلم من دون رسوم او تحريك ــ مشهد مذبحة صبرا وشاتيلا، فيقصفنا بتلك الجثث المكومة للفلسطينيين في المعسكر من الأطفال والشيوخ والنساء.

ومن ضمن تلك الجثث المكومة في آخر مشهد في الفيلم، جثة هذه الفتاة الصغيرة التي ترفع وهي ميتة يدها الى السماء أن يا رب ارحم، وتلك المرأة الفلسطينية التي تبكي وتصرخ أن صوروا صورا، ودعوا العرب يتفرجوا، فين العرب فين يا ويلي!، ثم تروح تلطم وتضرب على صدرها، ويحركنا هذا المشهد المؤثر الى حد البكاء.

توهج فني مبهر

فيلم «فالس مع بشير» أقوى الأفلام السياسية في المهرجان وحتى الآن، بدا لنا مثل حلم سريالي مخيف، بصوره ورسوماته التي تذكرك بأفلام السينما التعبيرية مثل فيلم «عيادة الدكتور كاليجاري» على مستوى التشكيل في الصورة بالأضواء والظلال والألوان، وهو ما يكسب هذا الفيلم شخصيته ويمنحه توهجه الفني المبهر الخاص، ويجعل منه ربما أحد أقوى الأفلام المناهضة للحرب في كل تاريخ السينما العالمية، ولذلك كله نرشحه للفوز بجائزة السعفة الذهبية عن جدارة، بل ويجعلنا نقول إن رحلتنا الى المهرجان حتى ان كان «فالس مع بشير» هو الفيلم الوحيد الذي عرض في المهرجان، كانت تستحق كل هذا العناء، وتلك المشاق التي تجشمناها.

القبس الكويتية في 22 مايو 2008

 
 

يوميات “كان” السينمائي الدولي 2008... ( 9 )

تميز على باقي الأفلام المتنافسة في جوانب عدة

"الاستبدال" الأوفر حظاً للفوز بالسعفة الذهبية

كان محمد رضا

ثلاثة أفلام عرضت متوالية في إطار المسابقة هي، حسب تواليها، "عشبقتان" لجيمس كلاي و"الاستبدال" لكلينت ايستوود و"تشي" لستيفن سودربيرغ ويبقى رابع هو "سينيدوكي، نيويورك" لتشارلي كوفمان. أفضل الثلاثة هو فيلم كلينت ايستوود وإذا ما قارنته بالأفلام الأخرى التي شوهدت في المسابقة هو أيضاً في جوانب عدّة أفضل منها. هذه الجوانب إذا ما أردت أن يكون "الإخراج" بمعناه الكامل معياراً للحكم تجعله في الحقيقة أفضلها الى اليوم.

جيمس غراي يعود الى المسابقة للمرّة الثالثة. الأولى في "الياردات" والثانية في "نملك الليل"، في العام الماضي، والثالث في إطار هذا الفيلم العاطفي. هذا المخرج لم يفز حتى الآن بشيء وغالباً لن يفوز هذه المرّة أيضاً. خامته تستدعي الاهتمام وموهبته تثير التأييد لكن لا خامته ولا موهبته من القوّة والأصالة بحيث ترفعان مستوى الأعمال التي يقدّمها لما فوق حسنات التنفيذ الأساسية. فيلمه هذا، كفيلميه السابقين، يحتوي على القصّة ذات الفكرة المقبولة والمواقف الموحية، لكنه يخفق في جعلها ضرورية أو التسبب بإثارة اهتمام حقيقي بينها وبين مشاهدها.

ليونارد (واكيم فينكس في ثالث لقاء مع المخرج أيضاً وهو يؤدي هنا دوراً جديداً عليه وهو ممثل جيّد لكن عليك أن تقبله في دور عاطفي) يعود الى بيت والدته خارج لوس أنجلوس بعدما خسر الفتاة التي كان يحبّها ويتعرّف بعد حين وجيز الى فتاتين تقعان كل منهما في حبّه: جارته ميشيل (غوينيث بولترو) وابنة رجل أعمال اسمها ساندرا (فانيسا شو). وبينهما عليه أن يختار واحدة. ليس أنه اختيار سهل وإن كان فليس على رجل صعب التعامل في الوقت ذاته. والكثير من الوقت يمضي وهو حائر بين امرأتين كل منهما لديها قدر لا يستهان به من الرغبة في السيطرة لكن عوض أن تتحوّل المادّة هنا الى مفارقات تدعو الى الاستمتاع تمر ثقيلة بموجب ما رسم لها من محاولة لوضع الفيلم في إطار جدّي، لكنه في ذات الوقت إطار غير متكامل قد يرضي بعض الباحثين عن دراما من هذا النوع، لكنه بالتأكيد سيتسبب في قيام الآخرين بشد شعورهم غيظاً.

أفضل فيلم

فيلم كلينت ايستوود "الاستبدال" هو الخامس له في المسابقة وهو مقتبس عن حادثة حقيقية وقعت في العام 1928 ولا تزال وثائقها محفوظة: في يوم ما، تعود الموظّفة المجتهدة كرستين كولينز (أنجلينا جولي) الى بيتها فلا تجد ابنها ذا العاشرة من العمر. تبحث عنه في كل مكان ولا تجده. تخبر البوليس. يأخذ مواصفاته والمعلومات المهمّة وبعد خمسة أشهر كانت خلالها لا تزال تواسي نفسها على مأساتها، يتّصل بها الكابتن ج.ج. جونز (جفري دونوفان) ليخبرها أنه تم العثور على طفلها وأن عليها أن تأتي الى محطة القطارات لأنه سيكون على متنها. الحقيقة أنها أيضاً مناسبة للصحافة المشاركة في هذا اللقاء بين الأم وابنها لأن القضية المقدّمة الى الإعلام هي أن بوليس لوس أنجلوس مجتهد ويعمل لخدمة المواطنين. أول ما ألقت كرستين ناظريها على الطفل أدركت أنه ليس ابنها. وأول ما سمع الكابتن هذا التأكيد منها نفاه. ليس من مصلحته ولا من مصلحة البوليس التراجع عن موقفه. هذا يعني أن البوليس فشل. وفي موقف يدعو للاستغراب الفعلي يجبرها على قبول الولد على أساس أنها هي التي على خطأ رغم احتجاجاتها. وهي احتجاجات تعود اليها حين تزوره في مكتبه لتؤكد له أن هذا الصبي ليس ابنها. يرفض سماع حجّتها ويأمر بإرسالها الى المصحة النفسية. لولا غوستاف (جون مالكوفيتس) وهو راعي كنيسة ومذيع في إحدى المحطات المحلية لبقيت هناك لأنها ترفض التوقيع على ورقة تقر بأنها كانت على خطأ وأن ذلك الصبي هو ابنها بالفعل.

خلال كل ذلك، كان التحري لستر (مايكل كَلي) في مهمّة لإلقاء القبض على صبي هارب في مزرعة بعيدة خارج المدينة عندما يعترف له الصبي أنه شارك في ما لا يقل عن عشرين جريمة قتل. كل ضحاياها من الأطفال.

القصّة تكبر من هذه النقطة وتثري الفيلم على أساس أنه لم يعد فقط حول كيف تمكّنت امرأة واحدة من التصدّي للبوليس والانتصار عليه في محاكمات لاحقة بل تحوّل وقبل إغلاق ملف المحاكمات الى عمل حول العنف الممارس على الأولاد، موضوع كان ايستوود تعرّض إليه في فيلم "مستيك ريفر".

ليس فقط أن السيناريو (كتبه ج. مايكل ستراجينسكي) مشغول بطريقة محترفة لا تخفي أريحتها لنقد الأوجه المختلفة التي يتعرّض الفيلم إليها خصوصاً على صعيدي نظام البوليس الفاسد والعنف الموجّه ضد الأولاد والفساد الإداري في الجسد الطبّي أيضاً، بل هناك الإدارة المحكمة والعلوية لمخرج متمرّس بات كل شيء لديه سهلاً. ايستوود تخاله أخرج الفيلم بعينين مغمضتين. يعرف كيف يرسم وينفّذ ويوصل ثم كيف يترك تأثيره في المشاهدين وبأي جرعة، كما يجيد استخراج اداءات من ممثليه من دون أن يمنحهم المزيد من المشاهد المتخصصة. بما هو متاح -مثلاً- لشخصية التحري لستر، تستطيع أن تقرأ في شخصيّته كل ما تبحث عنه من معلومات. نعم هذه مهمّة الممثل الجيّد، لكنها أيضاً مهمّة المخرج الذي لديه خبرة في المجال نفسه لا يفرضها على الآخرين لكنه يفرضها على نفسه في عملية اختيار من يريد التعامل معهم. وكل من يمثّل تحت إدارته هذه المرّة جديد تماماً (باستثناء حقيقة أن جون مالكوفيتش مثّل دور الشرير الأول في فيلم "في خط النار" أمام كلينت ايستوود لكنه لم يكن فيلماً من إخراج ايستوود).

ما يجعل من فيلم ايستوود عملاً بالغ القيمة مسائل عديدة من بينها المادة المختارة ومن بينها الزمن المختار ثم ما يفرضه المكان والزمان (لوس أنجلوس عشرينات القرن الماضي) من تصاميم إنتاجية وفنية عليها أن تكون محكمة كشرط نجاح للفيلم بأسره.

لكن هذا كله في إطار المفترضات التي على أي مخرج الإلمام بها وتأمينها وايستوود يؤمّنها بذات النفس المحترف الذي كان لمخرجين كبار آخرين حين كان ايستوود لا يزال ممثلاً ثانوياً في الخمسينات. مخرجون مثل جون هيوستون ودونالد سيغال وروبرت ألدريتش وسواهم.

ما هو أساسي وخاص بايستوود هو أسلوبه الرصين الذي لا يفتأ يشهد لصالح سينما قديمة آيلة للاندثار بعد رحيل من بقي فيها. ايستوود من آخرهم، وربما آخرهم. يعمل بشيفرة هوليوود القديمة مصرّاً على تصميم لقطات نابع من الطريقة القديمة في الإخراج.

حقيقة أن المرء يتعلّم من الفيلم وهو يرقب كل لقطة على حدة بالعلاقة مع السيناريو والمونتاج، كيف أن كل لقطة تبني الدراما التي في المشهد ثم كيف أن كل دراما تبني الفصل وكل فصل يبني الفيلم، هي وحدها تمنح الفيلم قيمة لا نجدها في معظم الأفلام الأخرى المتوفّرة في المسابقة أو سواها.

راقب هنا حركة الكاميرا عنده وفي أي مشاهد دون أخرى يستخدمها هكذا (كما راقب نوعية الاستخدام، حجم اللقطة، محمولة أو ثابتة الخ...) وتجد نفسك في سلسلة من الدروس الفنية التي لا تستخدم لها الملاعق ولا الحقن أو أي وسيلة خطابية أو إنشائية، بل قوّة الصورة ودلالاتها وما فيها.

غيفارا

فيلم ستيفن سودربيرغ "تشي" فيلم جيّد لكني لا أعتقد أنه فيلم جيّد كفاية. وفي مشاهدتي الثانية (الأولى لم تكن كاملة) تبدّت مسائل أخرى زادت من سلبية رأيي فيه.

طبعاً فيه حسنات كثيرة لكن فيه ما يمنع من التمادي في إطرائه خصوصاً إذا ما كان هذا الإطراء قائماً على أرضية سياسية.

يواجه "تشي" - الفيلم مشكلة منذ البداية: هذا عمل من أربع ساعات و.2 دقيقة لجمهور غير موجود. حين أخرج بيلا تار فيلمه الأشهر الى اليوم "ساتانتانغو" قبل نحو اثنتي عشرة سنة، من سبع ساعات و36 دقيقة، كان الواعز هو أسلوب فني واحد يربط الفيلم من بدايته الى آخره وتحتوي على نظرة للحياة وبالتالي يحمل وجهة نظر فيها وفي الشخصيات المقدّمة.

فيلم سودربيرغ يخلو من وجهة النظر. يقدّم الموضوع والشخصية الرئيسية فيه من دون الرغبة لا في الدفاع عنها ولا في مهاجمتها ولا في إنجاز فيلم ذي موقف ما. نتيجة ذلك لا تسأل نفسك فقط عن جدوى الفيلم، بل عن جدوى مدّة عرضه الطويلة. ليس أن فيلم بيلا تار شهد مطراً من الإيرادات، لكنه صُمّم لذلك. أما هذا الفيلم فقد صمم وفي البال أن يضخ بعض الأرباح تبعاً لاسمين أو ثلاثة في الفيلم: أرنستو تشي غيفارا، الممثل الذي يقوم بتشخيصه وهو -الجيّد- بنيثو دل تورو والمخرج سودربيرغ. هذا كله لن يكفي لعرض الفيلم بكامل صورته ومدّته الزمنية بل سيجد المنتجون أنفسهم أمام مسألة بتر الفيلم لتحويله الى عمل من ساعتين ونصف الساعة في الأقصى لكي يمكن له دخول حجرات العرض الأوروبية والأمريكية.

هذه ليست مسألة تجارية فقط، بل فنيّة. صحيح أن المدّة الزمنية الطويلة تمنح المخرج قدرة على تقديم بانوراما حياة على النحو العريض وحياة تشي غيفارا النضالية تتطلّب بالتأكيد مثل هذه البانوراما، الا أن الصحيح أيضاً أن المرء يستطيع أن يتحدّث أفضل عن تشي غيفارا، أو أي شخص آخر، من خلال توظيف الموضوع توظيفاً شخصياً، ربما ذاتياً وبالتأكيد ضمن وجهة نظر هي التي تساعد على الانتقاء.

ثم تأتي حقيقة أخرى: على الرغم من الساعات الأربع والدقائق العشرين التي يتكوّن منها الفيلم فإن هذا العمل ليس كاملاً. زاخراً بالمشاهد المختلفة (حوارية، نقاشية، عاطفية، حربية وقتالية) نعم، لكن التكرار فيها واضح وبما أن الفيلم ينتقل بين مشاهد القتال على أرض كوبا ومشاهد لغيفارا خلال خطبته في الأمم المتحدة وبين مقابلة تدور معه بالإنجليزية (المرّة الوحيدة التي نسمع الإنجليزية في هذا الفيلم. الباقي كله بالمكسيكي) فإن بعضه يقطع بعضاً بلا ضرورة فنية، أو -بكلمات أخرى- فإن هذه الضرورة الفنية، إذا ما وُجدت تبقى بلا بعيدة عن تأصيل ما يدور. تبقى في حدود عرضه فقط.

المسألة هنا تزداد إثارة للضيق حين يبدأ الفيلم بالتنقل سريعاً بين الأزمنة. من دون أن تكون حضّرت نفسك بورقة وقلم لتسجّل التواريخ ستجد وضعك أشبه بوضع متابعي البينغ بونغ منتقلاً من العام 1955 في لحظة الى العام 1964 في لحظة أخرى أو الى أي سنة أخرى. هذا جانب، ولكن الحسنات تكمن في أن المخرج يعرف كيف يصوّر مشاهد صغيرة من دون أن يبدو التمثيل فيها مسرحياً أو متقطّعاً. لدى البعض فإن وجود هذه المشاهد يفتح السبيل على قيام الممثل الثانوي بأداء جاهز وغير تلقائي. لكن واحدة من حسنات المخرج أنه يُدير المشاهد الصغيرة والكبيرة بفاعلية والممثلون (الكثر) تحت إدارته تصيبهم معاملة متساوية.

التمثيل الجيّد من بينثيو دل تورو في دور السياسي الثوري الذي انتهت حياته اغتيالاً لا علاقة له بحقيقة أن دل تورو قرأ دوراً لا يطلب منه البرهنة على أن المحفوظ التاريخي عن تلك الشخصية حقيقي أو ذو أهمية هنا. لذلك يبدو غيفارا هنا كما لو كان مجرّد قائد عسكري وليس محرّكاً فعلياً للثورة اللاتينية. قائد يشغل نفسه بعمليات التنظيم والإشراف على معاقبة المقاتلين الذين يخرجون عن النظام والقوانين الموضوعة. عن حق طبعاً فلا أحد يوافق أن يحارب الثائر باسم مناهضة الدكتاتورية ثم يغتصب فتاة قروية تحت اليافطة ذاتها، لكن هذا كله أراه يدخل تحت هامش من تعبئة الوقت وليس استغلاله لخلق عمل مهم. 

المفكّرة

احدى الدلالات الأكيدة على أن السوق التجاري للمهرجان لم يكن ناجحاً هذه السنة لا تكمن في مقال مجلة فاراياتي عن الحقائب الفارغة التي يخرج بها الزبائن من السوق فقط، بل في حجم صفحات المجلات الصادرة كيوميات المهرجان. في العادة تطبع المجلات اليومية (وهي نحو سبعة فرنسية وإنجليزية) نسخاً سميكة مملوءة بالإعلانات تصل الى أكثر من ..1 صفحة يومياً وذلك حتى اليوم السابع من الأيام الاحدى عشر. بعد ذلك تقل هذه الصفحات تبعاً لتقلّص الإعلانات التي فيها. لكن هذه المرّة صدرت سميكة وكبيرة لخمسة أيام ومنذ اليوم السادس بدأت صفحاتها بالتقلّص حتى تحولّت الى شيء من رفع العتب.

 تساءل الذين حضروا المؤتمر الصحافي لفيلم "استبدال" ما إذا كانت نجومية كلينت إيستوود تطغى على نجومية بطلته أنجلينا جولي. ليس لأن الثانية لم تأخذ حقّها من الاسئلة، لكن الواضح أن الاهتمام الفعلي كان من نصيب المخرج الذي كرر لسائليه حول ما إذا كان يطمح هذه المرة لأن يفوز بالسعفة الذهبية - كما لو أنه لم يطمح سابقاً إليها: "الفوز في الحياة مهم، لكن الجوائز ليست كل شيء".

 في آخر يوم له في "كان" أقدم الممثل جان-كلود فان دام على فعل آخر ينم عن يأسه العميق: أخذ يرمي ثيابه التي كان يرتديها من نافذة غرفته في الكارلتون على المصوّرين المجتمعين ومن معهم من جمهور متطفّل. وكان قبل ذلك استعرض قواه العضلية على الشاطىء مع بعض حركات الجودو والكونغ فو كما لو كان يدعو عقارب الساعة لأن تجاريه وتعود الى الوراء.

 في عداد ما يتم اقتباسه من شخصيات كوميكس، تم الإتفاق في كان على تحويل روايات من الرسوم الشعبية بعنوان "الهاربات" الى فيلم جديد على غرار شخصيات سابقة عديدة آخرها حاليا "آيرون مان". المختلف أنها شخصيات نسائية ثلاث وأكثر حداثة من غيرها التي يعود غالبها الى الأربعينات والخمسينات والستينات.  

زوايا التاريخ

1966

أهم الأفلام المشتركة في مسابقة دورة 1966

  • الطيور، النحل والإيطاليين: بييترو جيرمي- إيطاليا
  • رجل وامرأة: كلود ليلوش- فرنسا
  • ألفي: لويس غيلبرت- بريطانيا
  • للحب وللذهب: ماريو مونيشيللي- إيطاليا
  • دكتور زيفاغو: ديفيد لين- بريطانيا/ الولايات المتحدة
  • دقات منتصف الليل: أورسون ولز- فرنسا
  • مورغان: كارل رايز- بريطانيا
  • رماد: أندريه فايدا- بولندا
  • الراهبة: جاك ريفيت- فرنسا
  • من لا أمل لهم: ميكلوش يانشكو- المجر

السعفة الذهبية

مناصفة هذه المرّة بين "الطيور، النحل والإيطاليين" للمخرج الكوميدي الساخر (والنيّر) بييترو جيرمي وبين الملهاة الترفيهية العاطفية "رجل وامرأة" للمخرج المتوسّط في قيمته الإجمالية كلود ليلوش.

جائزة لجنة التحكيم

نالها فيلم "ألفي" الذي يتحدّث عن شاب (مايكل كاين) ومتاعبه الغرامية المفتوحة على حياة من العبث الخفيف. الفيلم الذي أعيد إنجازه في العام الماضي مع جود لو في البطولة. الإعادة كانت بلا جدوى والأصل لم يكن ذلك الفيلم الجيّد على أي حال.

أفضل ممثل

الدنماركي بر أوسكارسون عن فيلم "الجوع" لهنينغ كارلسون

أفضل ممثلة

فانيسيا ردغراف حظيت بهذا الشرف عن دورها في فيلم كارل رايز "مورغان".

أفضل مخرج

سيرغي يولكفيتش عن فيلمه البروبوغاندي "لينين في بولندا". 

أوراق ناقد

أسوأ تنظيم للصحافة

متفقون على أن المهرجانات الرئيسية الثلاثة في العالم هي -حسب كبر حجمها وقدرها على جذب الحضور من كل أنحاء العالم- هي كان ثم فانيسيا وبرلين. الأخيران في المركز الثاني مناصفة. لكننا ربما لسنا، وأتكلّم عن النقاد والمتابعين عموماً، متّفقين على أكثرها أهمية.

طبعاً، الأهمية، مثل الجمال، أمر نسبي. ما تراه مهمّاً قد يراه غيرك أقل أهميّة أو أكثر أهميّة أو ليس مهمّاً بالمرّة، لذلك فإن التفاوت في الآراء هنا كبير وذو دلالات. لكنني أميل الى اعتبار أن كان وفانيسيا يشتركان في المركز الأول، وبرلين في المركز الثاني، وذلك نسبة لأهمية الأفلام التي تعرض على شاشة كل من هذه المهرجانات العملاقة.

إذاً، وإذا ما كانت المسألة هكذا، و"كان" المهرجان الأول في أكثر من وجه، لماذا لا تستطيع الإدارة نفض الغبار عن وجهها لكي تنظر الى ما يحدث على صعيد العروض الصحافية، بل على صعيد الصحافة على نحو كامل؟

في الشأن الصحافي فإن برلين وفانيسيا يأتيان قبل "كان". كذلك يفعل تورنتو وساندانس وسان فرانسيسكو ودبي وسان سابستيان ولوكارنو وكارلوفي فاري، ولم أحضر أبوظبي وموسكو ولندن لكي أحكم عليها. أي مهرجان يصل اليه الصحافي فيجد نفسه معاملاً باحترام هو بالنتيجة، وفي هذا الشأن بالتحديد أفضل من المهرجان الذي يعامل الصحافيين كقطيع من الغنم.

أمام مرأى عيني قبل أيام ضربت سيّارة تابعة للمهرجان صحافياً واقفاً يتحدّث مع شخص آخر ومضى السائق غير مكترث لمعرفة ما حدث. بعدها بيومين جاءنا أن صحافياً من مجلة فاراياتي تعرّض لما هو أبشع: سيّارة ليموزين تابعة للمهرجان داست على قدمه.

ومنتجة تلفزيونية عربية سمعت موظّفة مهمّتها إدخال "القطيع" الى الصالة تطلب من صحافية تحمل بطاقة زرقاء أن "تقبر نفسها وتدخل من مكان آخر"، لأن البطاقة الزرقاء هي من تلك المتدنية في النظام الطبقي الغريب الذي يتعامل به المهرجان. وأحد الصحافيين العرب وجد نفسه في ملاسنة مع موظّف إدخال حين تقدّم لدخول الصالة من دون أن يفهم السبب الذي من أجله قام الموظّف بدفع الصحافي العربي جانباً.

أما أنا فتقدّم مني موظّف مسؤول عن "إجلاس" الناس في أماكنها (تصوّر أن تكون هذه هي مهمّتك في الدنيا) وطلب مني تغيير مقعدي. قلت له لا لأني أجلس عليه كل يوم. قال عليك أن تفعل ذلك والا طلبت لك الأمن. قلت له لا أخاف لا منك ولا من الأمن. أنا أعرف أنني على حق وأنت على خطأ وسأتمسّك بالجلوس هنا ليس لأنه مقعدي المفضّل فقط، بل لأنك قليل التهذيب.

وبقيت....

مثل هؤلاء الموظّفين في قصر المهرجانات من أرذل وأغلظ من تلتقي بهم في حياتك المهنية. كيف يطبّقون الكياسة واللياقة والأخلاق إذا ما كانت هذه كلها أموراً غريبة على تصرّفاتهم الفردية؟ واللوم يقع على المسؤولين، أو كما يقول صديق لي يعمل في مجلة فاراياتي ناقداً: "لا أحد يكترث. عشرات الشكاوى ترتفع الى الإدارة سنوياً إن لم يكن مئات... ولا أحد يتم محاسبته" وأمريكي يكتب في "ذا هوليوود ريبورتر" يقول: هناك مئات القوانين المعقّدة التي يحاولون ممارستها وندفع نحن ثمن أخطائهم.

وهذا كله في واد والبرمجة المرتبكة في واد. في يوم لديك فيلمان في المسابقة وفي آخر لديك فيلم واحد أو ثلاثة. وقد تقف -كما حدث مع سينمائي عربي- في صف على أساس أنك ستصعد الى الصالة التي جئت باكراً لأجل دخولها فتجد نفسك وقد حوّلوك الى صالة أخرى والى صف جديد.

وهذا كله من دون أن نتوقّف عند حقيقة أن ما يسمّونه "عروض صحافية" بالنسبة لثاني أهم الأقسام بعد المسابقة وهو قسم "نظرة ما" هو عروض تستطيع الصحافة الدخول إليها لكنها ليست صحافية بل مملوءة بجمهور مختلط ودائما هناك نحو 100 - 120 كرسي محجوزة عوض أن يكون هناك حد لا يتجاوز ثلث هذا العدد أو أن يتم حجزها في عرض خاص بالجمهور مثلاً.

الخليج الإماراتية في 23 مايو 2008

 
 

مهرجان كان السينمائي في دورته الحادية والستين

الشرق الأقصى في فيلمين كبيرين أحدهما عن الاشتراكية والآخر عن الانحطاط

كلينت إيستوود لا يملّي عيون الجميع بفيلم مسيل للدموع يقطع الانفاس

كانّ - من هوفيك حبشيان

أحد أكثر الافلام التي لفتت الانظار في الدورة الحالية من "مهرجان كانّ" السينمائي هو "24 مدينة" للمخرج الصيني جيا زانكيه المهموم بقضايا الفرد في بلاده، وكذلك بالتحوّلات التي تشهدها المدن في عصر العولمة وتأثيراتها الجانبية على ثقافة خرجت من رحم الاشتراكية. جديده هذا الذي عرض ضمن المسابقة، يتشكل من قصص خيالية حول ثلاث نساء وشهادات خمسة عمال يروون ذكرياتهم. حجة الحديث هي الاتية: نحن في مدينة شاندغو اليوم، والمعمل الملقب بـ450 ومدينة العمال المثالية يختفيان لمصلحة مجمّع من الشقق الفخمة: "24 مدينة". ثلاثة أجيال، 8 شخصيات: عمال قدامى، حديثو النعمة، انهم صينيون بين حنين القدامى الى الاشتراكية الماضية ورغبة شباب في النجاح.

سرعان ما يتبين عبر اسلوبه الفذّ أن مقابلة الوثائقي والخيال كانت بالنسبة اليه الوسيلة الفضلى للتطرق الى تاريخ الصين بين 1958 و2008. فهذه القصص مبنية في الوقت نفسه على الوقائع والخيال. تدور حوادثها في معمل عسكري تملكه الدولة أُنشئ قبل 60 عاماً. عرف هذا المكان جميع الحركات السياسية للصين الشيوعية. لم يسعَ زانكيه الى تصوير وقائع تاريخية بل الى فهم هذه التجربة الاشتراكية التي تستمر منذ نحو 100 عام والتي أثرت في مصير الشعب الصيني تأثيراً بالغاً. وبغية فهم هذه التغيرات الاجتماعية المعقّدة، كان يجب الاستماع بإمعان الى شهادات الأطراف.

يقول المخرج إن الأفلام المعاصرة تستند أكثر فأكثر الى الحركة، أما هو فيرغب في أن يعود هذا الفيلم الى اللغة. في نظر البعض، يجب أن يترجم "السرد" بحركات تلتقطها الكاميرا. أما هو، فيودّ أن يعبّر عن الأحاسيس العميقة والتجارب المعقّدة عبر السرد. ومهما تكن الحقبة، يجب الأخذ في الاعتبار جميع الأفراد وتجاربهم. هناك 8 عمّال صينيين في "24 مدينة"، ويظن زانكيه أن كلاً منهم سيعثر على جزء من نفسه.

من الشرق الاقصى أيضاً يأتينا الفيلم الفيليبيني "خدمة" لبريانت مندوزا. ينطوي هذا الفيلم على فكرتين أساسيتين: إحداهما على علاقة بالعنوان، "سيربيس" (خدمة)، والأخرى باسم السينما في الفيلم، "فاميلي" (العائلة). يمكن تحليل "خدمة" على مستويات مختلفة. فالمخرج أراد أن يكون لهذا الفيلم فكرة أساسية مزدوجة. الأولى تتطرق الى دعارة شبان، معظمهم قاصرون، يعملون حتى داخل السينما. من خلال هذا، جرى طرح مسألة الاخلاق من دون الدخول في مناقشة ما اذا كانت هذه التجارة شرعية أو لا، وهي طبعاً غير شرعية. لكن سؤال مندوزا الحقيقي هو: ما هي الأخلاقية أو الشرعية في مجتمع فقير وحيث العيش هو نضال يومي؟ في الواقع، تملك سينما "فاميلي" عائلة واحدة تقطنها. ليس صدفة أن يكون اسم السينما "فاميلي". فالكاميرا تصوّر تطور هذه العائلة التي تتفكك عاكسةً صورة مجتمع في انحطاط دائم. عموماً، تعني كلمة "سربيس" الخدمة: خدمة عائلة لأفرادها، وخدمة سينما لزبائنها، وبلد لمواطنيه، ورجال ونساء للبشرية، والبشرية للرجل أو المرأة.

مما لا شك فيه ان المنزل الأمومي الظاهر في الفيلم يجسد الفيليبين. فمعظم أفلام مندوزا السابقة هي عن شخصيات نسائية قوية. هنا، تعكس المرأة المسيطرة التي تؤديها جينا بارينيو، العائلة الفيليبينية التقليدية حيث تسيطر المرأة وتحافظ على التماسك والتوازن. هذه حال عائلة مندوزا أيضاً بحسب اعترافه. ففي النهاية هذا مجتمع أمومي، حيث يتحكم الرجال بالأمور السياسية والاقتصادية، فيما القرارات تعود الى النساء. للتذكير، يصوّر مندوزا ما لا يصوَّر عادةً في الافلام، أو ما لا يعيره المخرجون انتباهاً. زوايا الحمّامات المتسخة مثلاً، تصبح فجأة محور العالم.

¶¶¶

لم يحصل لسوء الحظ اجماع حول الفيلم الجديد للمخرج والممثل الاميركي كلينت ايستوود، "التبديل"، الذي استند الى قصة حقيقية ليروي تراجيديا أميركية أخرى، طارحاً هذه المرة موضوعات من مثل التسامح في بلد تتقاسمه السلطتان الدينية والسياسية، في حين أن حقّ الفرد ضائع بين هاتين الجهتين. لا شك أن ايستوود أحد آخر الكلاسيكيين الكبار، وفيلمه هذا شبه متكامل على المستوى الشكلي والتنفيذي، ولا خطوة ناقصة فيه على الاطلاق. سيناريو تتعاقب فيه الحوادث على نحو سلس وتشويقي، وبنية درامية تنقل مأساة أمرأة تفقد ابنها الوحيد، فتتابع البحث عنه من دون أن تقطع الامل يوماً في العثور عليه. بعد "فتاة المليون دولار"، مرةً أخرى ينجز ايستوود فيلماً مسيّلاً للدموع ويقطع الانفاس، بكادرات بديعة. يمسك "التبديل" المتلقي من اطرافه ويجرحه في الصميم، ولا مفر من الانفعال حتى عندما يقع ايستوود في فخ النيات الحسنة على طريقة فرانك كابرا. في دورة حيث كثرٌ من الممثلين يسعفون الافلام حيث يلعبون، تتقمص انجلينا جولي دوراً لم نخلها يوماً قادرة عليه وهي تؤكد لكل لبيب أنها "حرباية" تتغير لوناً وشكلاً وحلّة، وفق متطلبات القصة زماناً ومكاناً.   

ســتـيـفـن ســــادربـرغ أنــجـــــز "تـشــــي" بــعـــــد 7 ســـــنــوات مـن الـتـــــأمــل والأبـــحـــــاث

بعد "العنتر" مارادونا الذي لم يتوقف عن شتم الرئيس بوش و"الامبريالية الاميركية"، في مؤتمراته ومقابلاته الصحافية، حلّ في كانّ أمس ضيف استثنائي آخر، هو قائد الثورة الكوبية ارنستو تشي غيفارا، وذلك من خلال الفيلم الملحمي الجديد للمخرج الاميركي القدير ستيفن سادربرغ، الحائز في كانّ قبل عقدين من الزمن "السعفة الذهب" عن "اكاذيب، جنس وفيديو"، والذي يقول ان اختياره وقع على قصة "التشي" موضوعاً لفيلم من جزءين، ليس لأن حياته أشبه بمغامرة فحسب، انما لأن التحديات التقنية التي ترافق تطبيق أي فكرة سياسية على نطاق واسع كانت تبعث فيه متعة لا تضاهى. بعد سلسلة أفلام عن مؤامرات لسلب كازينوات وأخرى عن ترويج مخدرات، وأخرى في الفضاء، تسنى لسادربرغ اقتحام ميدان السياسة من باب التاريخ واعادة احياء حقبة بدأت لكن لم تنته بعد. من خلال أيقونة غيفارا، أراد أن يعرض بالتفصيل المتطلبات النفسية والبدنية وأن يبيّن العملية التي يكتشف عبرها رجل ذو إرادة صلبة (غيفارا) قدراته المحتملة في أن يكون مصدر وحي للآخرين وقائداً لهم.

¶¶¶

في 26 تشرين الثاني 1956، بدأ فيدل كاسترو الابحار الى كوبا برفقة ثمانية ثوريين، كان أحدهم "التشي"، طبيب أرجنتيني له هدف مشترك مع كاسترو وهو الانقلاب على ديكتاتورية باتيستا وحكمه الفاسد. أكّد تشي سريعاً أنه مقاتل شرس وتعلّم سريعاً أن يصمد ويقاوم، وسرعان ما تجاوب معه الشعب الكوبي لسعيه الى النضال ضد الديكتاتورية التي كانوا يعيشون فيها. باختصار شديد، هذه هي قصّة "التشي"، وهكذا تحوّل من طبيب الى بطل ثوري.     

بعد مرور 40 عاماً على رحيل أبي الثورات، لا تزال هناك أسباب عدة تبقي تشي رمزاً حتى اليوم. تشرح لورا بيكفورد، إحدى منتجات الجزء الأول من فيلم "تشي": "من الجليّ أن تشي انعكاس للثورة الشابة والمثالية وأظن هذين الأمرين أبديين ولا يتأثران بالزمن. لسنا مهتمين بالسياسة الحالية في كوبا، بل أنجزنا فيلماً عن مرحلة زمنية معينة بحسب وجهة نظر تشي. تحدثنا الى الجميع من كل الجهات ووضعنا كل أبحاثنا في السيناريو. ولكن من المتعذّر أن نحصل على التفاصيل كلّها بدقة. أمضينا ثلاث سنوات نقوم بأبحاث لـ"تشي" في جزئه الثاني. كمنت الفكرة الأساسية في استكشاف جزء من حياة تشي بتفاصيلها. وتبيّن لنا أنه عندما أنجزنا الجزء الثاني، لم يكن الإطار الذي جعله يقرر الذهاب الى بوليفيا واضحاً. عندما قررنا أن نضيف كوبا ونيويورك وبدأنا العمل على الهيكلية، أخذ المشروع بالتوسّع أكثر فأكثر. عندئذٍ، أدركنا أننا في حاجة الى إنجاز فيلمين. في بادئ الأمر، عندما اهتممنا، بينيتشيو ديل تورو وأنا، بموضوع تشي وتوجّهنا الى كتّاب سيناريو كثر، نُصحنا ببيتر باشمن، صاحب نصّ "ألكسندر". أمضى بيتر سنة يقرأ جميع الكتب استعداداً لتأليف السيناريو. ورحب سادربرغ بأن يكون هو من يتولى الاخراج".

¶¶¶

ممّا لا شك فيه أن إحدى أكبر الصعوبات التي واجهها فريق المُعدّين، كانت كثرة المعلومات والروايات حول غيفارا والتي غالباً ما كانت متضاربة وغير دقيقة. تجسّد التحدي في إمرار كل هذه المعطيات بطريقة موجزة وحقيقية. ويتذكر باشمن: "عندما اتصلت بلورا بيكفورد قبل خمسة أعوام، بعدما قمت بالأبحاث، قلت لها إنهم إذا كانوا في حاجة الى كاتب يجلس في الغرفة مع سادربرغ ويطرح الأفكار فسأكون سعيداً بالقيام ذلك. كان هذا قبل عامين ونصف العام. ذهبت الى نيويورك والتقيته مع بينيتشيو. شعرت أننا لم نكن نعرف حقاً ما الذي حصل قبل أن يذهب تشي الى بوليفيا. ابتعدت وكتبت سيناريوهاً واحداً مع 3 حبكات: حياة تشي والثورة الكوبية في الأولى، وسقوطه في أخرى، وما بينهما، الرحلة الى نيويورك للتحدث في الأمم المتحدة. عندما تنجز فيلماً واحداً مع هذه الكمية من المعلومات في وقت محدود، ينتابك شعور بأنك تشوّه التاريخ. أحاول أن أبقى دائماً وفياً لروح التاريخ، ولكن في هذه الحالة، كان هناك الكثير من الناس من الجهتين وهم لا يزالون على صلة بالموضوع".  ورأى سادربرغ أنه لا يمكن أن ننصف كل أبعاد قصّة تشي في سيناريو واحد، معتبراً أن إنجاز فيلمين فكرةٌ في منتهى الجودة. وبما أن الأمم المتحدة كانت على وشك أن تخضع لعملية ترميم كبرى، توجّه والفريق الى هناك لتصوير تشي متحدثاً أمام الجمعية العمومية عام 1964. ويقول باشمان: "رداً على سؤالها "أليست هذه اللحظة جديرة بالاحتفال؟"، قلت للورا إني كنت سأفكر أيضاً بأنها لحظة عظيمة، لو لم يكن عليّ أن أعود الى المنزل وأكتب سيناريوين! كان عليَّ إعادة النظر في هيكلية القصة الكوبية بأكملها، لأني في الأصل كنت كتبت نسخة موجزة. فعدت الى التاريخ وقد شاركني في هذه العملية كل من ستيفن وبينيتشيو ولورا".

¶¶¶

كان أداء دور تشي تجربة عميقة بالنسبة الى ديل تورو. ومما صعّب مهمته، أن تشي كان شخصية تاريخية معروفةً. لكن العديد من الابحاث أجري في هذا المجال. هذا ما تطلّب سبع سنوات من الأبحاث للعثور على وثائق وشهادات عن غيفارا. لكن المرجع الاساسي، ظل كتابات غيفارا. وطوال السنوات السبع التي جرى فيها احياء لمشهدية بارعة، زار الفريق كوبا وبوليفيا وباريس وميامي. وفي كل الأمكنة كانت النسخ عن حياة تشي، تختلف سواء أكان من يسمعها في هذه الضفة أو تلك. أمّا المدهش في إخبار قصة عن الثورة الكوبية فهو أن الكثير من الأشخاص الذين حاربوا فيها لا يزالون على قيد الحياة. وهناك كمية هائلة من الوثائق والصور.

وكان الثوار بارعين جداً في توثيق تجاربهم والمحافظة على ذاكرتهم. على سبيل التذكير، هناك ثلاثة رجال التقوا تشي خلال الثورة الكوبية وتبعوه الى كوبا ولا يزالون أحياء: بوميو وأوربانو وبينينيو. الثلاثة يحلّون في الجزءين الأول والثاني من هذه الملحمة التاريخية. وجرى اللقاء بالثلاثة فردياً وبين وقت وآخر، بوميو وأوربانو معاً، في الحين نفسه. ويعترف فريق العمل أنه في الإمكان إنجاز فيلم كامل عن كل منهم. ولا سيما أن المعلومات التي كان الممثلون في حاجة اليها منهم كانت متوافرة. تفاصيل على غرار: كيف يمسكون المسدس في ظرف معيّن؟ كيف كانوا يعلمون طرق الانتقال بين مكان وآخر؟ أي معلومات تكتيكية دقيقة، مع ادراج أكثر من وجهة نظر سياسية واحدة في سياق الحوادث.  لم يكن ممكناً تصوير "تشي" مع كمية المال التي مُنحت للفيلم لو لم يخرجه سادربرغ. وشكّلت السرعة التي كان عليهم أن يعملوا فيها تحدياً مستمراً لفريق العمل. كانت نيّة سادربرغ التصوير قدر الإمكان باستعمال النور الطبيعي، أما غالبية مشاهد الحركة فكانت تصوَّر خارجاً. 

كرمه "كان" بـ"سعفة" حاصة لبلوغه المئة

مــــانـــــويــــل دو أولــيـــــفـــــيــرا... مـعـــــلّــم يــفــضّــــل الـبــــقــــــاء تـــلــمــــــيــذاً!

يوم الاثنين الفائت اجتمع نحو 1500 شخص في صالة "لوميير" لتكريم عميد السينمائيين في العالم مانويل دو أوليفيرا الذي بلغ المئة من العمر هذه السنة، بـ"سعفة ذهب" خاصة. وبدا الرجل مبتهجاً ورشيقاً ودينامياً وصافي الذهن. وكان في الحفل كلينت ايستوود، ميشال بيكولي، شون بن، وشخصيات أخرى. وعُرض في هذا الاطار ريبورتاج عن حياة دو أوليفيرا. وأمام جمع كبير من المندهشين بقدراته الجسدية والفكرية، فتح دو أوليفيرا قلبه وتركه مفتوحاً. مازح الناس، جعلهم يتسلّون ويضحكون ويبكون، لكنه لقّنهم درساً في حب الحياة والسينما.

مرّت اكثر من 70 سنة على بدء دو اوليفيرا عمله مخرجاً، وهو المخرج السينمائي الوحيد الذي عاصر السينما الصامتة والديجيتال في آن واحد. أخرج فيلمه القصير الاول عام 1931، وهو فيلم وثائقي صامت عن الظروف الحياتية الصعبة التي يعيشها العاملون على النهر في بلدته الام بورتو. وفي حين يعتبر هذا الفيلم اليوم نموذجاً كلاسيكيا للسينما الرائدة، فإنه لم يؤثّر في ابناء بلده لدى صدوره للمرة الاولى في لشبونة. لكنه سرعان ما حاز الاعجاب في البرتغال والخارج ايضاً. وعندما انجز اوليفيرا هذا الفيلم، كان سيعتمد موسيقى لويس فريتاس برانكو الانطباعية التي احبّها كثيراً، لكن عندما سمع ايمانويل نونيس، وجد ان من الشائق استخدام موسيقاه الطليعية الملائمة لفيلمه الطليعي هو أيضاً.

عام 1942، اخرج "انيكي بوبو"، اول فيلم طويل مخصص للاولاد. وبعد فترة طويلة من الجفاف في الاعمال التي تزامنت مع مرحلة الديكتاتورية في البرتغال، ازدهرت اعمال اوليفيرا من جديد وسط السبعينات، حتى اصبح في التسعينات يخرج فيلماً كل سنة. وعندما بلغ الستين من العمر، بدأ يسترعي الانظار في الخارج وينجز افلاماً بانتظام. في حين كان مقدّراً على نحوٍ كبير في اوروبا وفرنسا وخصوصاً في ايطاليا، لم تكن شهرته واسعة في الولايات المتحدة. لعل ذلك يعزى الى افلامه الطويلة جداً، وغير التقليدية، التي تتعارض وموجة الافلام التجارية. احياناً، قد تمتد على اكثر من 7 ساعات مثل "ذا ساتان سليبر" الذي اخرجه عام 1985. اما وفق المعايير الهوليوودية، فقد تبدو افلامه بطيئة جداً ومسرحية ويكثر فيها الكلام. في حين موضوعاته تشمل الحب المعذّب والمسائل الوطنية، الشر والخير، القرون القديمة والعلاقات بين الفن والحياة. ومنذ انطلاقة مسيرته المهنية، عبّر دو اوليفيرا عن اعتراضه على الاشكال التقليدية للتعبير السينمائي التجاري.

اصدر دو أوليفيرا نصاً قصيراً عالج فيه مسألة سيطرة المنظمة التجارية الاميركية على الفنان. اما هو، فلا يكترث لمتطلبات السوق، بل يتبع رؤيته الفنية الخاصة. وعندما اصدر فيلم "بينيلدي او الام العذراء"، قبيل الثورة البرتغالية عام 1974، اتّهم فيلمه بالابتعاد عن الواقع السياسي - الاجتماعي. فأجاب دو اوليفيرا ببساطة ان حوادث الفيلم تقع في الثلاثينات وليس في السبعينات.

يقسم النقاد احياناً افلام دو اوليفيرا مرحلتين. تضم الاولى افلاماً وثائقية، اما الثانية فتتركز على الخيال. غير ان هذا التقسيم بسيط جداً، اذ ان دو اوليفيرا انجز افلاماً وثائقية طوال مسيرته، لذا لا انقطاع واضحاً بين هذين النوعين من الافلام. وقد تطرّق المخرج البرتغالي ايضاً في بعض افلامه الى مفهومه الخاص عن التعبير السينمائي. فأكثرية افلامه مقتبسة من اعمال ادبية، وقد ربط اسمه غالباً بثلاثة كتّاب برتغاليين هم كاميلو كاستيلو برانكو وخوسي ريخيو واغوستينا بيسا لويس.  

يعتبر دو اوليفيرا أحد اكثر المخرجين ابتكاراً في القرن المنصرم، بأعماله المتجددة دائماً ونفحه الفن السابع بروح منعشة. ويعبّر عن نظرته الى السينما، قائلاً: "اؤمن بأن الصورة التي تظهر على الشاشة غير مادية. انها اشبه بشبح لحقيقة فعلية او خيالية، صورة لا تنتمي الى العالم المحسوس. (...) السينما ليست فيلماً او كاميرا، وليست آلات متطورة واستوديوات، وليست ممثلين او مخرجين او كتّاب سيناريو او موسيقيين او تقنيين. في الحقيقة، هذه العملية لا تنجح اذا كان العقل الذي يعطينا الاندفاع في كل الامور غائبا، تماماً مثل اجسامنا".

يذكر ان دو اوليفيرا حاز في "مهرجان كان" عام 1999، جائزة اللجنة الكبرى عن فيلمه "الرسالة" المقتبس من رواية مدام لافاييت "اميرة كليف". تدور القصة على امرأة متزوجة تُغرم برجل، ولكنها تختار الا ترتبط بعلاقة عاطفية معه، حتى بعد موت زوجها. ومع ان القصة مأسوية وعاطفية، فليس الفيلم ميلودرامياً. ومع ان المُشاهد يتمنى ان تعيش البطلة ذلك الحب، فإنها تفضّل الا تنحرف عن الطريق الصحيح. موسيقى شوبرت حاضرة طوال الفيلم، مع ألحان البوب التي تفتتح الفيلم وتختتمه. قرر المخرج ان يضع حوادث القصة التي تجري في القرن السابع عشر في ايامنا هذه. يتابع المخرج في "الرسالة" بحثه عن صفاء الاسلوب، متجنّباً حركات الكاميرا الكثيفة والتأثيرات الخاصة. ويُقال ان افلام دو اوليفيرا الاربعة المبنية على الحب الخائب: "الماضي والحاضر" (1971)، و"بينيلدي او الام العذراء" (1975)، و"الحب الهلاكي" (1977) و"فرنسيسكا" (1981)، المقتبسة من اعمال الروائي البرتغالي كاميلو كاستيلو برانكو في القرن التاسع عشر، من افضل الافلام السينمائية التي صوّرت. ويمكن تلخيص الفيلم بهذه الجمل التي قالها دو اوليفيرا وتبدو متشائمة ظاهرياً ولكنها تكشف عن نظرة متفائلة في الواقع: "كيف لنا ان ندرك مقاييس مشاريعنا؟ ان الفنان يحب الهاوية ويحتاج الى اجنحة، حتى لو كانت مصنوعة من الشمع مثل اجنحة ايكاريوس. وتجنّب الهاوية ينسينا خطر الموت المحتم".

في فيلمه "الامبراطورية الخامسة"، يروي قصة ملك مهووس بذكرى اسلافه وبالرغبة في التوصل الى مستوى عظمتهم، جاعلاً من البرتغال الامبرطورية الخامسة. يرتكز الفيلم على شخصية في وضع صعب، تتلاعب بأفكار وحقائق مختلفة، حتى انها لا تعود تدرك ما هي الحقيقة. "انه مشروع عن اسطورة الملك سيباستيانو في القرن السادس عشر. كان في الـ15 من العمر، واراد نشر "السلام المسيحي" في العالم. لكن عندما تبحث عن السلام، تأتي الحرب. فسيباستيان هاجم المغرب وكان ينوي بلوغ القدس. في نهاية القصة، يموت الملك. وفي البرتغال، لا نزال ننتظر "عودته"... ويبدو ان الهوس التاريخي والخيالي بالامبراطورية الخامسة تحقق من جديد مع الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي. في الوقت الحالي، العالم خاضع لنوع من العودة الى القرون الوسطى، وعرضة للارهاب الذي يهدد الولايات المتحدة واوروبا، في محاولة لتدمير الحضارات الغربية... لهذه الاسباب قررت ان اعطي الفيلم عنوان "الامبراطورية الخامسة" في الماضي كما اليوم". بالنسبة الى دو اوليفيرا، ان اصعب امر يواجهه فنان هو "ان يُفهم عمله جيداً. فالمشكلة تكمن في عدم الفهم اكثر من عدم التواصل. لا ينتهي الفيلم الا عندما يراه المشاهد، فهو يرى احياناً اموراً لا نعرفها نحن المخرجين. لا اعتبر نفسي مفكّراً يكتب كثيراً، الا في ما يتعلق بالافلام. لا اريد ان اصبح معلّماً، بل ان ابقى تلميذاً. واريد ان اتابع التعلّم، حتى لو كان ذلك مع اشخاص مبتدئين. ارغب في تأليف كتاب عن نوع السينما التي اعتمدها عنوانه "فعل التصوير". ولكني املك القليل من الوقت.  

خارج الكادر

"انديانا جونز": السينما مرسى الطفولة أيضاً

جزء من متعة مشاهدة فيلم لهيتشكوك يكمن في لقاء معلّم التشويق ولو في مشهد خاطف في احدى لحظات الفيلم. وعلى رغم ان سبيلبرغ لا يظهر في افلامه، فهناك وحدة تصويرية (Awe Shot) تعود دائماً في مجمل افلامه. وهي صورة قريبة لوجه احدى الشخصيات الرئيسية التي تنظر الى شيء ما، وفمها مفتوح وعيناها جاحظتان. ويعتمد الشيء الذي ينظر اليه الشخص على نوع الفيلم. ففي الدراما، يكون غالباً حادثاً مأسوياً، وفي فيلم مغامرات، تكون لحظة ساحرة او مشهدية. وخير مثال على ذلك، تعابير وجه الدكتور ملكولم عندما يرى اول ديناصور حيّ في "جوراسيك بارك". والـ"كلوز اب" من وجه انديانا جونز (هاريسون فورد) في "السفينة الضائعة"، عندما يبحث هذا الاخير عن ماريون (المختبئة في سلة) في السوق المصرية، دليل على هذه اللقطة. ويحتوي كل من افلام سبيلبرغ على لقطة Awe Shot، وكأنها توقيعه. وتنعكس هذه الصورة على وجوه المشاهدين الذين يحملون التعابير نفسها لدى مشاهدة فيلم لسبيلبرغ.

كثيراً ما تسمح دراسة افلام المخرجين بإلقاء الضوء على التيمات التي تتكرر فيها. وغني عن التوكيد ان اللدغة فكرة طاغية في ذهن سبيلبرغ. ومن الجلي ان نجاحه التجاري الاول "جوز" (1975) مرتبط بهذا الخوف. بمعزل عن عنوان الفيلم وموضوعه واعلانه، يعرض "جوز" مراراً اشلاء جثث، قطّعها القرش الابيض ارباً ارباً. ولا يخيف الموت بذاته في هذا الفيلم، بل فكرة الموت التهاماً من القرش المرعب. ينطبق الامر نفسه على الافاعي التي يخافها انديانا جونز. كذلك يعرض فيلم "جوراسيك بارك" (1993-1996) صوراً للاستهلاك البشري مماثلة، اما "بولترجايست" (1982)، فيتأثر باحث ظواهر غير طبيعية بلدغة في بطنه، ويقول: "لدغني شيء ما".

تقليدياً، يؤدي الضوء دوراً كلاسيكياً في السينما. أي ان السينما تستعيد مفاهيم الضوء القديمة، وتستخدمها لسرد قصص. من البديهي، والحال هذه، اذاً، ان يمثّل الضوء كل ما هو ممتع وخيّر والهي، في حين يرمز الظلام الى الشر والخطر والشيطان. ويبدو هذا المفهوم جلياً. تمثيل الضوء للخير، والظلام للشر، ليس الا نتيجة تعارف المجتمع والدين على ذلك. لكن سبيلبرغ يستخدم الضوء عكس العقيدة الكلاسيكية. ففي عدد من افلامه، مشاهد اختطاف ولد من منزله بقوى شريرة، يُرمَز اليها دائماًَ بضوء قوي. وخير دليل على ذلك اختطاف باري في "لقاء الجنس الثالث" واجتياح منزل اليوت في "أي تي"، واختطاف كارول آن في "بولترجايست" واختطاف الولدين في "هوك". يبرز هذا الميل كثيراً في "لائحة شندلر"، خلال تصفية النازيين للحي اليهودي، فتُضاء النوافذ، لتشهد على اطلاق نار النازيين والضحايا اليهود.

واذا كان الضوء قوة رهيبة وخطرة لدى سبيلبرغ، فالعكس صحيح ايضاً. فالسواد ملجأ، لذا يختبئ الاولاد اليهود الذين ظلوا على قيد الحياة بعد المجزرة في المجاري. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يفسّر تأثير استخدام الضوء هذا في عقول المشاهدين؟ الجواب بسيط: يتعلّق الامر بالصدمة النفسية الاصلية. كل امرئ، بغض النظر عن دينه وجنسه واصله، يعيش الصدمة نفسها لدى الولادة: طرد الجنين من رحم امّه الدافئة والمريحة والمظلمة تماماً الى ضوء العالم المبهر والفاجع. من الممكن القول ان صور الضوء هذه لدى سبيلبرغ تؤثر سلباً، وخصوصاً في الاولاد، وتعكس ولادة كل مشاهد وتتطرق الى موضوع حيوي، وهو الانفصال عن الام. لذلك، لا عجب ان تبدو لنا هذه المشاهد مخيفة على هذا النحو.  

تاريخ السينما غني بالاساطير، بما في ذلك القصة الآتية: في نهاية اسبوع افتتاح الجزء الاول (الرابع بحسب السلسلة) من "حرب النجوم"، عام 1977، كان جورج لوكاس مستلقياً على الشاطئ، بعيداً عن الضجيج، وغير مدرك تأثير فيلمه في تاريخ السينما. وكان يرافقه صديقه سبيلبرغ الذي كان اعاد اطلاق فيلم "لقاء الجنس الثالث". فيعترف هذا الاخير للوكاس برغبته في اخراج فيلم من "سلسلة جيمس بوند". فيجيبه لوكاس انه يفكّر في القاء تحية على افلام المغامرات التي كان يحبها كثيراً عندما كان صغيراً، والتي كان يشاهدها في سينما الحي. نجمت عن هذه المناقشة ثلاثة افلام استثنائية، انتجها لوكاس وشارك في كتابتها، واخرجها سبيلبرغ، وهي "السفينة الضائعة"، و"انديانا جونز ومعبد دوم"، و"انديانا جونز وآخر الحروب الصليبية". في هذه السلسلة، انديانا جونز (هاريسون فورد) مغامر وعالم آثار وبروفسور.

عام 1963، يوكل اليه رجلان من الخدمة العسكرية السرية الاميركية مهمة العثور على تابوت العهد، الذي يُقال ان موسى وضع فيه الاجزاء الاصلية للوصايا العشر. يبحث النازيون عن هذا الكنز ايضاً، اذ ان الاسطورة تقول إن كل جيش يملكه لا يُهزَم. فيتوجه "ايندي" مع ماريون، الذي كان على علاقة معها، الى القاهرة. اثر بعض المغامرات، يعثر على الصندوق لكن النازيين يسرقونه منه ويحتجزونه في قبر مصري قديم مليء بالافاعي. لكنه يهرب ويخاطر بحياته في مشهد الملاحقة الذي شكّل محطّة مهمة في السينما من حيث المشهدية. اخيراً، يفوز النازيون من جديد، لكن انانيتهم وقلة ايمانهم تتسببان بهزيمتهم.

اراد سبيلبرغ ولوكاس، تصوير قصة غنية بالمشاعر، فأصبحت مشاهد عدة من الفيلم مراجع شعبية، مثل مشهد الصخرة التي تتدحرج خلف "ايندي" ومشهد حفرة الافاعي. لكن سلسلة "انديانا جونز" اكثر من فيلم حركة. فهو يحتوي على عناصر الفيلم الاسود والوسترن والكوميديا الرومنطيقية والرعب. في هذا المجال، يتربع سبيلبرغ على عرش سينما الترفيه. اكثر من أي فيلم آخر، انه تجربة. فالسينما منذ نشوئها، تعاني نزاعات مهمة: الخيال في مقابل الافلام الوثائقية، الفن في مقابل الصناعة، الترفيه في مقابل التفكير. وسينما سبيلبرغ مقسومة كذلك. ففي حين يسعى معاصروه، مثل سكورسيزي وكوبولا، الى درس المجتمع في افلامهم، يبحث سبيلبرغ عن الوصول الى الطفل الموجود في المتلقي. في هذا المجال، "انديانا جونز" محاولة لايجاد فيلم يعكس احاسيس طفل عندما يشاهد فيلماً لـ"والت ديزني": خوف، حزن، تشويق، أي كل هذه الاشياء التي تجعل السينما مرسى الطفولة.

النهار اللبنانية في 23 مايو 2008

 
 

فيلم طويل يروي قصة حياة ثائر

غيفارا في «كان» من دون سجادة حمراء

زياد عبدالله - كان

يمكن القول، ومن دون تردد: إن ليلة أول من أمس كانت ليلة الثائر أرنستو تشي غيفارا، الذي وجد مساحة له بين الأزياء المفرطة الأناقة، وكل مظاهر البذخ والثراء التي تغصّ بها مدينة كان، وجاء عرض الفيلم الطويل «تشي»، المكوّن من جزأين، خاتمةً نوعية، جمعت أعداداً كبيرة من الشباب والشابات الباحثين عن بطاقة تتيح لهم حضور هذا الفيلم.

ما تقدم غير متعلق بالفيلم، بقدر ما هو مرتبط بغيفارا، فإحدى الشابات حملت يافطة تقول «بطاقة واحدة من أجل تشي»، وكانت طوال رفعها تلك اليافطة تحمل إلى جانبها سيجاراً كوبياً، طبعاً هناك من ارتدى قبعة غيفارا بنجمتها الشهيرة، وغير ذلك من السترات التي حملت صورته.

مارادونا

مظاهر عادة ما تسبق عروض أفلام عن شخصيات حقيقية، فنجد في دييغو ارماندو يتجمع الناس في انتظاره، وقد ارتدوا هذه المرة سترة منتخب الأرجنتين، إضافة لحمل الكثيرين كرات لعلهم ينالون توقيع هذا اللاعب الأسطورة عليها، الذي أكد، أمام عدسات المصورين، مهاراته الكروية، وجاء فيلم أمير كوستاريسا عنه بمثابة استعادة لهذا اللاعب، ونبش لتاريخه ومواقفه، واستحضار لعلاقاته مع فيدل كاسترو وهوغو شافيز، ومواقفه المناهضة لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، وما إلى هنالك من مشاهد ايضاً من أفلام كوستاريسا الذي كان ظهوره في الفيلم موازياً لظهور مارادونا، وعلى شيء من تضخم الأنا لدى المخرج البوسني الذي لم يقبل، على ما يبدو أن يكون خلف الكاميرا، مؤمناً تماماً، كما يقول هو عن نفسه، بأنه «مارادونا السينما في العالم».

 قائد الثورة

لم يظهر غيفارا بعد فيلم «تشي»، لم يلوّح بالتحية لأحد، ولم يمر على السجادة الحمراء لتلتمع في وجهه آلاف فلاشات الكاميرات، ويصرخ الجمهور المحيط بمسرح لومير «غيفارا توقيع من فضلك»، فقط شاهدناه يموت في نهاية الفيلم، ونحن ننتظر ذلك، كما في كل شيء حمله الفيلم الذي جاء على شيء من التوثيق الروائي، بمعنى اعتماده على مادة وثائقية استغرق تجميعها على ذمة كاتب السيناريو بيتر بوخمان سبع سنوات، لم يترك وثيقة متعلقة بتشي إلا وبحث فيها، وعلى رأسها مذكراته، إضافة لمقابلة ثلاثة ممن كانوا مع غيفارا في كوبا، ومن ثم واصلوا معه في بوليفيا، والذين، حسب بوخمان، أخبروه بطريقة حمل غيفارا لرشاشه، وحتى أدق التفاصيل في ما يتعلق بالمحيطين به، معتبراً ـ أي بوخمان ـ أن الثورة الكوبية ليست مثل الفرنسية أو المكسيكية «فمازال على قيد الحياة عدد من أسهموا فيها»، ولعل مشاهدة الفيلم تجد في التوثيق الهمَّ الرئيس للفيلم الذي لم يسع إلى أي انعطافات، أو البحث عن زوايا مغايرة للمتعارف عليه في حياة غيفارا، الأمر الذي يمكن أن يكون، بشكل أو آخر، فضيلة الفيلم، والذي يقدم حياة وأحداث حياة هذا الثائر منذ وصوله مع فيدل كاسترو إلى «مايسترا» على متن القارب، وانطلاقة الثورة الكوبية، ومن ثم تمكنهم من السيطرة على هافانا، وليقدم ذلك في الجزء الأول الذي ينتهي مع تولي كاسترو الحكم، ونجاح الثورة الكوبية.

حياة تشي

تمضي أحداث الجزء الأول على ثلاثة خطوط متداخلة من دون أن يكون تشابكها متعباً أو مختلطاً، فنحن نشاهد غيفارا، الذي جسّده بينشيو دل تيرو، يقاتل في أدغال كوبا، وفي خط آخر يلقي كلمته في الأمم المتحدة التي تحتمل أن تكون تقديماً لأفكاره، مع عقده لقاءات صحافية بوصفه وزير الصناعة في الحكومة الكوبية، وإلى جانب ذلك هناك خط يعود بنا بالزمن إلى بدايات علاقته بفيدل كاسترو (ديميان بيتشر) والنقاشات الدائرة قبل الثورة.

في الجزء الثاني يورد الفيلم الفترة التي اختفى فيها غيفارا من دون أن يصورها، والتي يقال إنه كان خلالها في إفريقيا، ورأي آخر يقول إنه كان في فيتنام، على كل، فإن الفيلم، وبحصافة توثيقية صارمة، يمضي مباشرة إلى بوليفيا مادامت لم تتجمع لديه مادة وثائقية، وهناك نشهد كل ما عاشه ورفاقه هناك وصولاً إلى نهايته المأساوية. يمكن القول إن فيلم ستيفن سودربورف كان حرفياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، من دون أن يلغي عنه جودته العالية، والحِرفية التي صيغ بها، وجماليات المشاهد التي لا يفارقها أخضر الأدغال الذي رافق حياة تشي، لا بل إن الفيلم لا يقترب من حياة تشي الشخصية نهائياً، عدا مشهد زيارته لبيته وتمضية وقت مع زوجته. فيلم «تشي» هو عن غيفارا في نضاله، في معاركه التي لم تمنحه وقتاً كافياً لالتقاط أنفاسه المتقطعة بفعل نوبات ربو حادة، فيلم ملحمي عن وقائع حياته الوجيزة التي تحول في اثرها إلى أيقونة ثورية كلما مر عليها الزمن أكثر ازداد صاحبها ألقاً وحضوراً. فيلم «تشي» بحاجة إلى وقفة نقدية طويلة لها أن تكون على قدر  الساعات الأربع والنصف التي حمل من خلالها فيلم صاحب «ترافيك» و«جنس، أكاذيب، وفيديو» نضال غيفارا بحذافيره.

 أولاد الزنا

فيلم آخر عرض ضمن مسابقة «نظرة ما» جاء من أميركا اللاتينية حمل عنوان «لو باسترديه» (أولاد الزنا) للمخرج المكسيكي اميت اسكلانتيه يستدعي منا التوقف طويلاً أمام فيلم مميز بخصوصية لها أن تكون صاعقة ومدوية، مع تأكيد المخرج الذي كتب السيناريو أيضاً، أنه قادر أن يقدم لقطة مدهشة يمهد لها لكنها تأتي مفاجئة إلى أبعد الحدود.

يحكي فيلم اسكلانتيه عن الذين يتسربون من المكسيك، ويعبرون الحدود إلى أميركا للعمل هناك، حيث يعملون في كل ما يتاح لهم ويتلقون أجرهم بالساعة، وليتركز سرده على شابين نمضي معهما في قصة لها أن تكون خاصة جداً، إذ يقدمان على الدخول الى أحد البيوت بهدف سرقته، إلا أن هذه السرقة تكون مغايرة تماماً للمألوف، ففي البيت تكون امرأة نائمة يقومان بايقاظها والطلب منها إعداد طعام لهما، ومن ثم قيامهما بالسباحة في حوض بيتها وبرفقتها، وغير ذلك من بناء عالم يوضح رغباتهما الدفينة التي تمضي بالفيلم إلى مساحة غير متوقعة.

 الكلب المجنون

هذا العبور الوجيز الى فيلم «أولاد الزنا»، الذي يستدعي العودة إليه لاحقاً بقراءة خاصة، يقودنا إلى فيلم «جوني ماد دوغ» (جوني الكلب المجنون) لجان ستيفان سوفير الذي يصور وحشية الحرب الأهلية في إفريقيا، والذي يأتي من أوله إلى آخره بلا رحمة بأحد، إذ يقدم لنا مجموعة من المقاتلين الفتية لا بل الأطفال، الذين يكونون أكثر وحشية وجنوحاً نحو القتل من الكبار، وهذا ما يجسده جوني الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وليكون الفيلم مثله مثل كثير من الأفلام التي اقتربت من إفريقيا سواء، في رواندا أو ليبيريا، القتل والمجازر ما يتسيّده من أوله إلى آخره.

الإمارات اليوم في 23 مايو 2008

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)