الدبّ يصعد في التاكسي!
المصدر: "النهار"
- هوفيك حبشيان ــ برلين
كما توقع كثيرون، نال المخرج الإيراني جعفر بناهي الذي منعته سلطات
بلاده من العمل لمدة عشرين عاماً، جائزة "الدبّ الذهب" في برلين (5
– 15 الجاري) عن فيلمه الدوكودرامي البديع، "تاكسي"، شريط وصل الى
المهرجان من دون مخرجه. فاذا كانت ايران "تتسامح" مع مخرج
"الدائرة"، وتتيح له فرصة تصوير أفلامه بـ"السرّ" وتسريبها الى
التظاهرات السينمائية الكبرى، في المقابل لا تسمح له بمغادرة
البلاد والتوجه الى العاصمة الألمانية لتسلم جائزته. الأمر الذي
يوقع قضية بناهي في الالتباس والغموض، وخصوصاً ان المخرج يمتنع عن
ذكر اسماء العاملين معه في الفيلم، على الرغم من ظهورهم المعلن
والواضح فيه. سؤال يؤرق الكثيرين: أيُّ منطقٍ هذا أن يُسمح له بأن
يصوّر (اذا اعتبرنا انه مراقب وأن مخابرات بلاده لا تجهل تفاصيل
تحركاته ونشاطه) ويبعث بالفيلم الى برلين، وغير مسموح له بأن يخرج
من الحدود الايرانية ليصطحب العمل؟
مساء السبت في الـ"برليناله"، كانت من المرات النادرة التي لم
يصوّب فيها المصورون عدساتهم صوب المخرج بل تركزت على "الدبّ
الذهب" الذي ظلّ وحيداً على طاولة صالة المؤتمر الصحافي. هناء،
ابنة اخت بناهي، هي التي اعتلت المنصة لتسلم الجائزة (فيما كانت
زوجته من بين الحضور)، تحت وابل من التصفيق الحاد وصيحات الرضى، ما
جعل الفتاة الصغيرة التي ظهرت في "تاكسي" في دور تلميذة، تعبّر عن
عدم قدرتها على الكلام من شدة الانفعال، قبل ان تنهار بكاءً ويتم
ابعادها عن المسرح.
على قيد الحياة
"تاكسي"
الذي عُرض في اليوم الثاني لانطلاق الـ"برليناله" - بـ19 فيلماً في
المسابقة أغلبها أفلام جيدة - أجمعت حوله الصحافة الغربية، ليس
بالضرورة لأسباب سياسية تُختزل في التحدي الذي رفعه سينمائي كبير
مُنع من ممارسة مهنته، فجديد بناهي فيلم مهم في قدرته على التقاط
نبض الشارع الايراني، هذا عدا مزاياه الفنية الكثيرة. رئيس لجنة
التحكيم في المسابقة الرسمية المخرج الأميركي دارن أرونوفسكي بدا
مقتنعاً جداً بالفيلم، وقال وهو يعلن فوز بناهي: "بدلاً من
الاستسلام، وعوضاً من السقوط في الغضب والكبت، وجّه بناهي بهذا
الفيلم رسالة حبّ الى السينما. فيلمه هذا مملوء بالحب لفنّه
وجماعته وبلاده وللجمهور ايضاً". طبعاً، سيُتَرجَم هذا الكلام
سياسياً، لخدمة مصالح غامضة، البعض منا يجهلها تماماً. لكن إذا
أسند مخرج أميركي صاحب أفلام واسعة الانتشار، جائزة المهرجان
الكبرى الى فيلم شبه مرتجل بإمكانات بسيطة، فلا شكّ انها سياسة،
ولكن ليس بمعناها التقليدي الضيق. والجائزة، هي قبل كل شيء، موقف
سينمائي، قمة في الرقي، نابع من احترام الاختلاف وافساح المجال
أمام الايرانيين ليعبّروا عن أنفسهم بأنفسهم، بعيداً من الأفلام
التي تنمّطهم. هذه الجائزة هي ايضاً وايضاً انتصار لحرية الفكر
الذي يحلق بجناحيه العريضين، مهما تزايدت محاولات محاصرته.
علاقة قديمة تربط بناهي بمهرجان برلين، فهو حاز فيه جائزتين ("دبّ
فضة" عن "ضربة جزاء" في العام 2006؛ "دب فضة" عن "برداية" في العام
2013")، بالاضافة الى الدعم المعنوي الذي وجده من ادارة المهرجان
ورئيسه ديتر كوسليك شخصياً يوم اعتُقل ومُنع من السفر. وكان بناهي
قد أرسل بياناً قبل عرض الفيلم يعترف فيه بأنه "لا يجيد انجاز اي
شيء آخر غير السينما التي هي لسان حاله والفنّ الذي يعطي معنى
لحياته". وذكر في البيان: "عندما أجد نفسي في زاوية، أتواصل حينها
مع ذاتي العميقة، فتصبح عملية الخلق أكثر من ضرورية وملحّة.
السينما اصبحت مع الأيام اهتمامي الاول؛ لهذا السبب عليَّ ان اتابع
انجاز الأفلام تحت أي ظرف كان، كي أشعر بأنني لا أزال على قيد
الحياة".
بلا قبضات مرفوعة
في "تاكسي"، يقترب بناهي من الناس ليلتقط أفكارهم وهواجسهم
وتطلعاتهم، بكاميراته الصغيرة المثبتة قرب مقود السيارة، مستعيداً
بذلك حقّه في الانوجاد داخل ضوضاء المدينة، بعد فيلمين صوّرهما
خارجها. ببُعد نظر يُحسَد عليه، يفكّ عنه الأغلال التي تكبّله
والقيود المفروضة عليه، مؤكداً من خلال هذه التجربة أن الخيال
الانساني عصيّ على المصادرة، والحاجة إلى التعبير مصدر كلّ الحيل
الفنية. نحن ازاء سينما مقاوِمة، ولكن بلا قبضات مرفوعة وشعارات
ورصاص حيّ. هناك في "تاكسي" عدد من "المخرجين" يتشاركون صناعته؛
حيناً نرى الكاميرا في يد تاجر أفلام مقرصنة، وحيناً آخر، تحرّكها
ابنة أخت المخرج. هناك أيضاً الكاميرا المتموضعة التي يغيّر بناهي
اتجاهها بين حين وآخر، بالاضافة الى عين مجهولة تلتقط ما يتعذر على
الشخصيات التقاطه. غنيّ عن القول إن في كلّ مراحل نقل الحكاية،
تتعدد أنواع الكاميرات، لتتراوح من عدسات أجهزة الخليوي الى
الكاميرات الرقمية ذات الجودة العالية. ولكن أياً تكن الكاميرا
المستخدمة، فهي دائماً داخل السيارة، من اللحظة الأولى حتى
الأخيرة. بناهي عمل مساعداً لعباس كيارستمي الذي أنجز فيلماً صوّره
بالكامل في السيارة ("عشرة" - 2001)، وهو تلميذه الى حدّ ما. هنا،
في "تاكسي"، يذهب بناهي الى أبعد من فكرة معلّمه، محوّلاً مقصورة
الركاب في السيارة مسرحاً للتبادل الديموقراطي بين نماذج مختلفة من
المجتمع الايراني المعاصر. الشقّ الأول من الفيلم مختلف تماماً عن
الشق الثاني، لا بل يمكن القول إنه نقيضه. في الأول، ينجرّ بناهي
مع الشخصيات انجراراً شبه كامل. هي التي تتحكم به، تأخذه من مكان
الى آخر. بناهي يمنحنا الشعور بأن قرار اختيار مساره لا يعود اليه،
بل رهن أهواء الركاب وخططهم. هم مخرجو هذا الفيلم في شقّه الأول.
في هذا الاطار، تشكل فكرة قيادة التاكسي وترك المسار للآخرين، فكرة
مباشرة واضحة وذكية.
لاراين والقتل باسم الله
السينما التشيليانية كانت الأوفر حظاً هذه السنة في برلين. اثنان
من الذين كنا نتوقع ادراجهم في لائحة الفائزين نالا ما يستحقانه،
وربما كانا يستحقان أكثر من ذلك. "الدبّ الفضة" (جائزة لجنة
التحكيم الكبرى) ذهبت الى بابلو لاراين عن فيلمه "النادي"، فيما
اسندت جائزة أفضل سيناريو ("دبّ فضة") لـ"الزر اللؤلؤة"، للمخرج
الوثائقي الكبير باتريسيو غوزمان. مع "النادي"، يقدم لاراين عملاً
مثيراً للقلق، أحدث خضّة في المهرجان. شريط ذو حسّ ساخر مبطّن
يتحول احياناً الى كوميديا سوداء عن أربعة رجال وراهبة يعيشون في
نوع من "منفى" في بيت على شاطئ البحر، ولا يختلطون بسكان المنطقة.
الرجال رهبان سابقون استغنت عنهم الكنيسة بعد تسببهم بفضائح
مختلفة، لكنهم لا يزالون في حمايتها ورعايتها ويفترض انهم في هذا
المكان للتوبة. هناك في الفيلم، سلسلة استجوابات مع الرهبان على
شكل اعترافات ستجعل الفيلم يغوص في المزيد من الفضائح بين التحرش
الجنسي بالأولاد وبيع الأطفال الرضّع بعد انتزاعهم من أمهاتهم.
فيلم عن السلطة المطلقة التي تلجأ الى كلّ أنواع الجرائم عندما
تضطر الى ذلك، يتهم الكنيسة الكاثوليكية بالسكوت والتواطؤ. خلال
تسلمه الجائزة، قال لاراين البالغ من العمر 38 عاماً، إن القتل
باسم الله لم يعد مقبولاً في عصرنا هذا.
أما غوزمان، فيأتينا بمرافعة طموحة ضد النسيان، متنقلاً من خلال
روابط مدهشة، من الفضاء والنجوم والمياء الى انقلاب بينوشيه
والمجازر التي ارتكبت آنذاك في السبعينات في حق معارضيه. بتعليق
صوتي جميل يمسك النص من كل أطرافه، يحملنا الشريط الى مغامرة لن
نعود منها سالمين. صور أخاذة، خيال مشتعل، طموحات جمالية لا حدود
لها، هذا كلّه في اطار سينما مصنوعة بذكاء باهر، وخصوصاً في ربط
الأشياء بعضها بالبعض الآخر. سنعود الى غوزمان لاحقاً في مقابلة
خاصة معه.
سينمات نادرة وبلدان منبوذة
في دورة راحت فيها الجوائز الى سينمات بعيدة ونادرة وبلدان منبوذة،
نال الفيلم الغواتيمالي "بركان" لخايرو بوستامانتيه جائزة ألفرد
باور، وهي الجائزة التي تعطى لفيلم "يشرّع آفاق السينما". الشريط
عن مراهقة ترغب في الهجرة الى أميركا مع صديقها... المخرجة
البولونية مالغورزاتا زوموفسكا (وليس "المخرج البولوني" كما جاء في
الخبر الذي وزعته الوكالات العربية) فازت عن فيلمها "جسد" بجائزة
أفضل اخراج، مناصفةً مع زميلها الروماني رادو جوديه عن "عفارم".
"جسد"، فيلم بديع تختلط فيه الأفراح بالأحزان، عن طبيب شرعي وابنته
المصابة بداء الأنوريكسيا. أمّا "عفارم" فهو "فيلم طريق" بالأسود
والأبيض تجري حوادثه في أوروبا الشرقية في العام 1835.
لحظة رائعة كانت لحظة صعود البريطانية شارلوت رامبلينغ الى المنصة،
بسحرها الذي لا يُقاوَم وبخفة ظلها لتسلم جائزة "الدبّ الفضة"
لأفضل ممثلة عن دورها في "45 عاماً" لأندرو هاي الذي ينقب في حياة
زوجين بعد مرور 45 عاماً على زواجهما. وقالت رامبلينغ ان والدها
كان فاز بميدالية في الألعاب الأولمبية في برلين العام 1936، وهي
تشعر الآن بأنها على خطاه. أما شريكها في الفيلم توم كورتناي،
فذهبت اليه جائزة أفضل ممثل، ولم يتوانَ عن ذكر صديقه ألبرت فيني
الذي فاز بالجائزة نفسها في العام 1985.
بناه بناهي: لا أحد يملك شجاعة والدي
في نيو دلهي العام 2012، التقت "النهار" إبن المخرج الايراني جعفر
بناهي واسمه بناه بناهي (27 عاماً)، وكان لها معه حديثٌ مقتضب عن
أحوال والده الذي يعاني الظلم والاقصاء في بلاده، بعد صدور قرار
شهير في حقه يمنعه من ممارسه مهنته.
·
ماذا يعني أن تكون ابن مخرج عانى الكثير؟
-
صعب جداً. حتى قبل المشكلة، كان الأمر صعباً. أيام الجامعة، كان
الاساتذة والطلاب يقولون لي: "هل تريد صناعة أفلام كوالدك؟". صعب
أيضاً لأنهم يتوقعون منك الكثير.
·
هل كنت في المنزل عندما تمّت عملية إلقاء القبض الشهيرة؟
ــــ لا، كنتُ عائداً الى المنزل، عندما رأيتُ الشرطة على المدخل،
فذهبتُ الى منزل الجيران، وصرتُ أراقب من الشبّاك ما يحصل في
بيتنا، وكيف أخذت الشرطة أمي وشقيقتي ووالدي.
·
كم بقوا في السجن؟
ــــ بقيت أمي وشقيقتي يومين، أما والدي فبقي شهرين.
·
ما كان مقدر حزنك عليهم، وخصوصاً انك لم تُعتقل؟
ـــ كبير جداً.
·
مَن هم الذين وقفوا الى جانبه في محنته؟
ـــ لا أحد. اذا دعم مخرجٌ إيراني والدي، فهناك احتمال الاّ يستطيع
أن يصنع أفلاماً جديدة. أما الصحافيون، فيُعتقلون اذا كتبوا عنه
إيجاباً في هذه القضية، علماً أن الصحافيين الجيدين هم أصلاً في
السجون. كثرٌ من أصدقائه المقرّبين هجروه بعد الذي تعرض له. وليس
هناك اتصال هاتفي بينه وبينهم، لأنهم يخافون.
·
هل أنت شجاع كوالدك؟
ـــ لا أحد يملك الشجاعة التي يملكها (ضحك).
·
كيف ينظر اصدقاؤك الى والدك، هل يعتبرونه بطلاً؟
ـــ الناس في إيران يقولون رأيهم الإيجابي فيه، ولكن فقط المشاهير
لا يستطيعون ذلك.
·
سمعتك تقول إنه متفائل...
ـــ لأنه اذا فقد الأمل، فسيموت! والدي رجل يعمل مذ كان في
العاشرة، ولا يستطيع العيش مقيّداً.
·
كيف يمضي أوقاته اليوم؟
ـــ يسافر كثيراً في إيران، شمالاً وجنوباً، ويلتقط الكثير من
الصور.
·
هل تتكلمان كثيراً معاً؟
ـــ ليس كثيراً. لا أتفق معه في أمور السينما، خلافاً لأمور
الحياة. لكن، ما عدا ذلك يدعمني، ونحن صديقان.
·
هل تلقيتَ تربية دينية في المنزل؟
ـــ بتاتاً. في طهران، ليس هناك مقدار التدين الذي نراه في وسائل
الاعلام. هناك تلاعبٌ كما تعلم. لدينا حياة عصرية، على رغم انه ليس
هناك حرية. يمكننا أن نتحدث في كل شيء، لكن في الخفاء.
·
ما أبعد أفلام والدك الى قلبك؟
ـــ "ضربة جزاء" لأنه نضالي قليلاً.
·
ماذا عن "هذا ليس فيلماً"؟
ـــ يعجبني كثيراً. لم يكن هناك نص. صُوِّر في يومين.
·
بمَ تحلم؟
ـــ أن نكون أحراراً ونحقق ذاتنا كما نريد. |