كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 

إعلان مولد مخرج رومانى كبير

فى «عفارم» عن العثمانية «القديمة»

بقلم: سمير فريد

مهرجان برلين السينمائي الدولي الخامس والستون

   
 
 
 
 

لم تمر سنوات قليلة على سقوط ديكتاتورية شاوشيسكو فى رومانيا إلا وعرف العالم سينما رومانية جديدة، من خلال عدد من المخرجين الكبار الذين فازوا بأكبر الجوائز بما فى ذلك سعفة «كان» الذهبية. وفى مهرجان برلين ٢٠١٥ أعلن عن مولد مخرج كبير آخر هو رادو جودى الذى عرض فيلمه «عفارم» فى المسابقة، وفاز بالدب الفضى لأحسن إخراج.

تخرج جودى الذى ولد ١٩٧٧ فى أكاديمية بوخارست ٢٠٠٣، وأخرج أول أفلامه القصيرة ٢٠٠٧، وأول أفلامه الطويلة «أسعد فتاة فى العالم» الذى عرض فى «الملتقى» بمهرجان برلين ٢٠٠٩، كما عرض فيلمه الثانى «كل فرد فى عائلتنا» فى نفس البرنامج ٢٠١٢، ووصل إلى المسابقة بفيلمه الثالث «عفارم»، فهو برينالى أصلى.

يتحدث حكام تركيا الإسلاميون منذ مطلع القرن الميلادى الجديد عن سعيهم لإنشاء إمبراطورية عثمانية جديدة، ويأتى فيلمنا فى موعده ليعبر عن العثمانية القديمة.. ومن المعروف أن الإمبراطورية وصلت إلى دول البلقان فى أوروبا، ومنها رومانيا، فالفيلم تدور أحداثه ١٨٣٥ عن الماضى، ولكنه أيضا عن العثمانية التى يراد بعثها من جديد فى الحاضر- وهى امتداد للعصور الوسطى الأوروبية التى حكمت فيها الكنيسة باسم الدين المسيحى- ولكن باسم الدين الإسلامى.

وينتمى «عفارم» الذى كتبه مخرجه مع فلورين لازاريسكو، وصوّره ماريوس باندرو للشاشة العريضة بالأبيض والأسود، وتبرع فيه المونتيرة كاتالين كريستو تيو- إلى السينما الخالصة بامتياز، فلا توجد قصة أدبية، وإنما مجرد فكرة، أو تكأة للتعبير السينمائى النقى عن المعنى، والذى يتكامل مع المبنى. الشرطى كوستاندين الذى يقوم بدوره الممثل الكبير تيودور جوران يجوب السهول والقرى مع ابنه الشاب أونيتا (ميهاى كوماتيو) الذى يعمل معه بحثاً عن العبد الغجرى كارفين (كوزين توما) الهارب من سيده التركى، بعد أن أغوى زوجته سلطانة، والذى وعد كوستاندين بمكافأة كبيرة إذا تمكن من القبض عليه وإحضاره حياً.

وخلال رحلة البحث يلتقى كوستاندين وابنه، وهما من أهل البلاد المسيحيين مع أناس من اليهود والمسلمين والمسيحيين ومن الرومان والمجريين والروس والأتراك، ومع لصوص ورهبان. وتبدو مظاهر الرشوة والفساد وإعلان القوة فوق الحق وتحالف الكنيسة مع السلطة ضد الفقراء وأسواق بيع الجوارى والصبيان. وعلى الطريق أيضا «الأراجوز التركى» الذى يفرح به الأطفال إلى جانب مذابح وجثث عارية وبيوت للدعارة يكتشف فيها ابن الشرطى رجولته، وانحرافات سائدة، ومنها قول راهب إن الله خلق اليهودى قبل آدم وحواء، وطردهم الفرعون من مصر، ويتمكن الشرطى وابنه من العثور على العبد الهارب، وينتهى الفيلم بمشهد يقوم فيه السيد التركى بقطع العضو الذكرى للعبد بالمقص، ثم وضعه فى فم زوجته، بعد أن يقول «عفارم» بالتركية، والتى تعنى أحسنتم بالعربية.

الشاشة العريضة حجم مناسب تماماً للأماكن المتسعة والآفاق المفتوحة على الطرق، والأبيض والأسود مناسب تماماً للتعبير عن الجو القاتم، فلا توجد شمس تشرق، وضوء النهار متعادل، ولا موسيقى على شريط الصوت، ولا يوجد منظر كبير واحد (كلوز أب) لأى شخصية طوال الفيلم، وأول لقطة مثل آخر لقطة: الشرطى وابنه وكل منهما على حصانه فى الخلاء. لا وجود للوجه الإنسانى، ولا وجود للموسيقى، ولا الشمس تشرق هنا.

المصري اليوم في

18.02.2015

 
 

في يوم "الفلانتين داي"

مهرجان برلين يمنح جعفر بناهي جائزة "الدبدوب" الذهبي

حسام حافظ

يبدو أن أعضاء لجنة تحكيم مهرجان برلين السينمائي أرادوا توجيه التحية للمخرج الإيراني جعفر بناهي يوم عيد الحب "الفلانتين داي" والذي صادف هذا العام يوم حفل ختام المهرجان وطبيعي أن تكون التحية بالدبدوب الأحمر تعبيرا عن الحب للرجل الذي اتخذ من السينما وسيلة لمقاومة القمع والسجن لكن جوائز برلين ليس من بينها الدبدوب فاستبدلوه بالدب الذهبي أكبر جوائز المهرجان ومنحوه لجعفر بناهي مخرج فيلم "تاكسي". وتسلمته هنا ابنة شقيق المخرج. 

أجمع النقاد أن المستوي الفني للفيلم الإيراني لا يرقي إلي مستوي الجائزة لكن الرسالة التي أراد المخرج جعفر بناهي توجيهها للعالم هي رسالة حب في الأساس فهو لا يملك سوي موهبته في صنع الأفلام وقدرته علي التعبير بالسينما كوسيلة لمقاومة اضطهاد السلطات الإيرانية للمخرج الذي حكمت عليه المحكمة بتحديد إقامته بمنزله 6 سنوات ومنعه من العمل لمدة 20 عاما عقابا علي تضامنه مع انتفاضة 2009 عندما رفض الشعب في مظاهرات عارمة إعادة انتخاب الرئيس السابق أحمدي نجاد والاتهام الموجه لبناهي انه يضمر "النية" لعمل فيلم لتأييد الانتفاضة وهي أغرب تهمة توجه لإنسان في العالم فهو مدان لأنه عنده النية لارتكاب الجريمة قبل ارتكابها!! والجريمة هي التعبير بالسينما عن رأي معارض للسلطات. 

ويجب الإشارة هنا إلي أن جعفر بناهي ليس جديدا علي الجوائز فقد حصل عندما كان حرا علي أهم جوائز السينما في العالم ومنذ أول أفلامه "البالون الأبيض" عام 1995 حصل علي الكاميرا الذهبية من مهرجان كان كأحسن إخراج لعمل أول ثم في عام 1997 حصل علي جائزة النمر الذهبي من مهرجان لوكارنو بسويسرا عن فيلم "المرآة" ثم حصل علي الأسد الذهبي من مهرجان فينيسيا عام 2000 عن فيلم "الدائرة" وعام 2003 حصل علي جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان عن فيلم "الذهب القرمزي" وعام 2006 حصل علي الجائزة الكبري الدب الفضي من مهرجان برلين عن فيلم "تسلل". 

رسالة "حب السينما" التي أرسلها بناهي لمهرجان برلين وصلت كتحية ردوا عليها بأحسن منها عندما منحوه الدب الذهبي والتجربة الفريدة للمخرج الإيراني غير مسبوقة في العالم هذا رجل يعيش بالسينما ويعرض حياته للخطر من أجل صنع فيلم متواضع.. لكن عنده إصرار علي المقاومة والسينما عنده ليست علي الشاشة بل هي في حياته الحقيقية يعيشها بنفسه لذلك يستحق "الدبدوب" الذهبي عن جدارة يوم عيدالحب. 

الجمهورية المصرية في

18.02.2015

 
 

فى ختام برلين السينمائى:

الشباب يحصدون الجوائز الكبرى وغياب المخرج الإيرانى أثار التعاطف

رسالة برلين :د. مصطفى فهمى

اختتم مساء الأحد الماضى مهرجان برلين السينمائى الدولى فعاليات دورته الخامسة والستين وسط ارتياح من الحضور للجوائز التى جاءت فى محلها ، وكشفت عن حيادية لجنة التحكيم برئاسة دارين أرنوفسكى فى النظر إلى الأفلام.فاستحق الفيلم الإيرانى «تاكسى» للمخرج جعفر بناهى اقتناص جائزة الدب الذهبى لهذا العام .

و ذلك عن فيلمه الذى كشف من خلاله عن المجتمع الإيرانى بجميع طبقاته من خلال قيادته شخصيا لتاكسى ويبدأ حواره مع الزبائن لنتعرف على مشاكلهم وواقعهم ووجهة نظرهم ليكشف لنا الفيلم طبيعة المجتمع من قاعدة الهرم، وأدق التفاصيل الاجتماعية..ليكون الفيلم مصنفا فى نوعية الديكيودراما التى تمزج بين الوثائقية والروائية.

ربما يبدو الفيلم فى نظر البعض ليس بالقوة التى تجعله يقتنص الدب الذهبى، لكن لجنة التحكيم راعت بعدا ذا أهمية في تقديرها يتمثل فى إنجاز بناهى لفيلمه رغم وضعه تحت الإقامة الجبرية منذ أواخر عام 2010 ولمدة عشرين عاما، وحرمانه من عمل أفلام؛ ليظهر لنا بناهى بهذا الفيلم وكأنه يتحدى السلطات الإيرانية بقيادته لتاكسى والمشى فى شوارع العاصمة وعمل الفيلم أمام أعين الجميع دون أن يشعروا ، وكأنه يبعث برسالة مفاداها مهما تكن أفعالكم فالفن لا يمكن قهره ، ولا يمكنك كبت الأصوات والحريات بهذا الفيلم الذى يكشف المعاناة التى يعيشها المجتمع الإيرانى .. ولعل صورة الفيلم توضح ملامح بناهى المنتمى للتيار العلمانى فى السينما الإيرانية ورفضة مبادئ النظام توضح مدى سعادته وإحساسه بنشوة المنتصر.

لم يبتعد الفيلم التشيلى «النادى» إخراج بابلو لاريان البالغ من العمر 36 عاما ، والفائز بجائزة الدب الفضى عن سابقه فى تناول القضايا الاجتماعية من خلال تصوير حياة رجل وامرأة وعلاقتهما بالكنيسة الكاثوليكية ، ما يلفت الأنظار فى هذا العمل قدرة بابلو على صنع صورة سينمائية اعتمدت على الرؤية التشكيلية للرسم مستغلا عنصر الطبيعة فى كادراته ليحقق هدفين الأول خطف عين المشاهد جماليا ، ومن ثم يندمج مع ما يشاهده فيتحقق الهدف الثانى فى توصيل المخرج للرسالة التى يريد بثها ، والتى اعتمدت فى بعض المشاهد على الرمز والعلامة واتسامهما بالسهولة، مما يكشف عن قدرات لاريان من تمكنه من أدواته وعمق رؤيته لما حوله خاصة التفاصيل.

تشابهت رؤية المخرجة البولندية مالجورازاتا زاموسكا البالغة من العمر 42 عاما ،والفائزة بجائزة أحسن مخرجة مناصفة مع الرومانى رادو جودى ، مع زميلها التشيلى من حيث الاعتماد على الرؤية التشكيلية ، خاصة استخدام نظرية الظل والضوء التى جاءت معبرة عن رؤيتها لجسد الانسان.

فى حين ابتعد زميلها الرومانى البالغ من العمر 37عاما عن هذه الرؤية ، ليتفق مع بناهى فى المزج بين الرؤية التسجيلية والروائية فى فيلمه «فرحة»الذى قدم الواقع بين رومانيا والمجر والحياة الاجتماعية فى عام 1835.

مخرجون شبان استطاعوا أن يقدموا أنفسهم عالميا برؤى سينمائية اتسمت بالعمق والبساطة، وموضوعات تميزت بالوضوح والسلاسة ..ليؤكد مهرجان برلين أنه يدعم الشباب، وليؤكد أيضا أن القارة اللاتينية وشرق أوروبا يحملان الكثير فى جعبتهما من مبدعين، لما حصدوه من جوائز فى دورة العام الحالى التى انتهت فعالياتها ، والدورات السابقة.

يبقى القول إن ما شهدته مراسم توزيع الجوائز شهد مشهدا مؤثرا عندما أعلن عن اسم بناهى فائزا بالجائزة الكبرى ووقف رئيس المهرجان ديتر كوسليك فى انتظار صعوده ، وعلم أنه لم يأت ، وصعدت مكانه ابنة أخيه الصغيرة التى شاركته التمثيل فى الفيلم ، واستلمت الجائزة وبكت ، وأبكت الكثير من الحضور.. مشهد جعل الكثيرين يتعاطفون مع بناهى ويمقتون النظام السياسى الإيرانى وقمعه للحريات.

الأهرام اليومي في

18.02.2015

 
 

"تاكسي" جعفر بناهي: الرقابة في فخ السينما

سليمان الحقيوي

لم يكن مفاجئاً فوز فيلم "تاكسي" للمخرج الإيراني جعفر بناهي (1960)، بجائزة "الدب الذهبي" لأفضل فيلم ضمن المسابقة الرسمية للدورة الخامسة والستين من "مهرجان برلين السينمائي". فمنذ عرضه، انهالت الإشادات على فكرته، إذ كان هناك انطباع أن العمل لن يخرج من المنافسة من دون جائزة.

جاء "تاكسي" إلى المهرجان مهرّباً من إيران، لأن صاحبه يقضي عقوبة لمدة عشرين سنة تمنعه من ممارسة نشاطه السينمائي، بعدما حكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات، ثم أطلق سراحه، ووضع تحت الإقامة الجبرية، ممنوعاً من مغادرة إيران، أو إجراء مقابلات، ومزاولة أي نشاط سينمائي.

لكن، على الرغم من ذلك، وصل فيلمه إلى المسابقة الرسمية وعرض، ثم فاز بأرفع جائزة في المهرجان. وقبل "تاكسي"، اشتغل بناهي سرّاً على فيلم بعنوان "هذا ليس فيلماً" (2011)، شارك به في "مهرجان كان"، وقبل ذلك عُرف بفيلمَي "دائرة القيود" (2000)، و"حالة تسلل" (2006) الذي فاز عنه بجائزة "الدب الفضي" في "مهرجان برلين".

ينطلق بناهي في عمله الأخير من فكرة طريفة وذكية، وأبسط من أفكار أفلامه السابقة، عندما يثبت كاميرا قرب مقود سيارة تاكسي يقودها بنفسه ويجوب بها شوارع طهران، حاملاً معه الركاب. كل مرة يصعد إلى سيارة التاكسي شخص جديد، يتغير معه الموضوع، مع تدخل بسيط من السائق/ بناهي الذي يحاول دائماً أن يترك المساحة لزبائنه كي يتحدثوا.

"يتغير الركاب وتتغير القضايا والمواقف حول الواقع الإيراني"

كل الحوارات تلتقي في انتقاد الواقع الإيراني، والتضييق على الحريات، ووضعية المرأة في البلاد. وهي مواضيع عمل عليها المخرج سابقاً في أفلامه، مثل "حالة تسلل" الذي عالج فيه قصة فتيات مولعات بكرة القدم اضطررن لدخول ملعب آزادي متنكرات. كما تناول في فيلمه "قيود" معاناة المرأة داخل إيران ونضالها من أجل نيل حقوقها.

لكن في عمله الأخير، نجد مزيجاً من أفكار المخرج المعارضة، إذ يعالج في فضاء التاكسي الضيّق قضايا أكبر، ويؤكد للجميع أن للسينما طرقها للتعبير والعبور بالأحلام مهما أحاطت بها القيود.

فكرة سائق التاكسي بالنسبة إلى تجربة بناهي كانت مثمرة، فهناك أسئلة كثيرة تتحرك داخل السيارة، يتغير الركاب وتتغير القضايا والمواقف حول الواقع الإيراني. تتحدث امرأة مع شاب يجلس في المقعد الأمامي عن عقوبة الإعدام في إيران، فتتعارض مواقفهما، لتخبر المرأة الشاب، الذي يرى في العقوبة ردعاً للمجرمين، أن إيران تأتي بعد الصين في تطبيق عقوبة الإعدام.

تصعد طفلة هذه المرة، وهي ابنة شقيقة بناهي، وتخبره أن مدرّستها طلبت منها صنع فيلم بكاميرا صغيرة، مع التقيد بشروط الرقابة في إيران، وهنا يأتي الدور على ذكر حرية التعبير في إيران.

يترك بناهي الركاب يتحكمون في سير الحوار، كما يترك لهم اختيار وجهات رحلتهم. يقدّم آراءه بابتسامة تارة وبسخرية تارة أخرى. وقد برع في التعامل مع العقوبة المفروضة عليه، إذ إنه استغنى عن شريط أسماء العاملين في نهاية الفيلم، في محاولة منه لإلغاء أي دليل يربط الفيلم بصانعه.

لا شك أن تتويج فيلم "تاكسي" بجائزة "الدب الذهبي" لم يكن عن مضمونه الفني فقط، فالعمل جاء مصحوباً بدعم إعلامي لم تحظ به الأفلام التي نافسته. إذ يمكننا استحضار تردّد اسم المخرج كثيراً في أروقة "مهرجان برلين" تحديداً، ودعمه في محنته مع السلطات الإيرانية، وأيضاً اختياره عضواً في لجنة تحكيم المهرجان سنة 2012، وترْكِ مقعده شاغراً بين أعضاء اللجنة تضامناً معه بعد منعه من السفر.

قضية بناهي ونضاله من أجل السينما نفسها كان وما زال موضوعاً يتحرك باستمرار في المهرجانات الثلاثة الكبرى. إضافة إلى أن "مهرجان برلين" لا يخفي انحيازه لمواضيع الاضطهاد والسياسة، وفق منظوره الأوروبي طبعاً.

العربي الجديد اللندنية في

19.02.2015

 
 

أفلامٌ من داخل الإقامة الجبرية

نديم جرجوره

للسينمائيّ الإيرانيّ جعفر بناهي (مواليد «ميانه»، 11 تموز 1960) في مهرجاني «كانّ» وبرلين مكانة رفيعة المستوى. تزداد المكانة هذه أهمية، بعد إصدار حكم قضائيّ بحقّه، يُمنع بموجبه من ممارسة الإخراج السينمائيّ لـ 20 عاماً. يُمنع بموجبه من السفر أيضاً. هناك حكم بالسجن 6 أعوام، يتمّ تنفيذه تحت عنوان «إقامة جبرية» في منزله. التهمة؟ المشاركة في تظاهرات ضد النظام الحاكم في إيران. الترويج الدعائيّ ضد النظام نفسه. يصدر الحكم في العام 2010. عام مفصليّ في التاريخ الراهن لـ «الجمهورية الإسلامية الإيرانية». في العام التالي، يُشارك بناهي بـ «هذا ليس فيلماً» في الدورة الـ 64 (11 ـ 22 أيار 2011) لمهرجان «كانّ»، كما يتمّ اختياره كـ «عضو شرف» في لجنة تحكيم الدورة الـ 61 (10 ـ 20 شباط 2011) لمهرجان برلين (برليناله) من دون أن يتمكّن من السفر، فظلّ مقعده خالياً. في العام 2013، يُشارك بناهي في الدورة الـ 63 (7 ـ 17 شباط) للـ «برليناله» بـ «ستائر معدنية». الفيلمان مُصوّران داخل منزل المخرج، ومهرّبان إلى المهرجانين خلسة.

هذا قرارٌ ذاتيّ متّخذ من قِبل السينمائيّ: لا أحد قادرٌ على منعه من العمل. لا أحد قادرٌ على إيقافه عن الإخراج. هو صانع أفلام، سواء داخل منزله، أو خارجه. خارج المنزل؟ هذا ما يحدث قبل أشهر، ما يؤدّي إلى «تاكسي»، جديد جعفر بناهي المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ 65 (5 ـ 15 شباط 2015) للـ «برليناله»، والفائز بالجائزة الأولى «الدب الذهبيّ». جديد بناهي خطوة إضافية على طريق مواجهة السلطة الحاكمة في إيران. لم تعد الإقامة الجبرية عائقاً. لم تعد الأحكام القضائية حاجزاً يحول دون «تسلّله» إلى السينما، والاشتغال فيها. لم يعد هناك شيء يُعرقل هاجس السينمائيّ عن ابتكار كل جديد ممكن. والجديد الأخير تحدّ إضافيّ عبر خروجه إلى الشارع، وقيادته سيارة أجرة واضعاً فيها كاميرات مخفية، ونقله ركاباً هم أفراد إيرانيون عاديون، يقولون أفكاراً، ويبوحون بانفعالات، ويسردون حكايات، وينتقدون أنظمة عيش، ويتحوّلون إلى ما يُشبه مرايا البلد والمجتمع والشعب، ومرايا العلاقات القائمة بين هؤلاء والسلطات الحاكمة.

انتماء جعفر بناهي إلى ما يُعرف بـ «الموجة السينمائية الجديدة في إيران»، أو «السينما المختلفة»، بحسب التعبير النقدي التاريخي لها داخل البلد، مُساهمٌ فعليّ في جعل سينماه جزءاً من حالة ثقافية إيرانية، تستمدّ حكاياتها من الواقع، وتواجه المآزق بعين سينمائية لا تكتفي بنقل ما يجري، بل تقرأه وتساجله وتنتقده وتُحلّله، من دون إغفال الجانب الأساسيّ في المسألة كلّها: اللغة يجب أن تكون سينمائية بحتة، تصويراً وتوليفاً واشتغالات درامية وتقنية وفنية. ابن رسّام يعمل في تلوين الأبنية، يولد بناهي في الأحياء المحرومة في طهران، ويكبر فيها، ويكتسب منها تفاصيل القهر والمعاناة والألم والفقر، بالإضافة إلى صلابة المواجهة والسعي إلى تغيير الحال. يدرس الإخراج، ويُحقّق أفلاماً لحساب التلفزيون الإيراني. يعمل مساعد مخرج مع عباس كياروستامي في «عبر حقول الزيتون» (1994). فيلمه الروائي الطويل الأول «البالون الأبيض» (1995) مكتوب بقلم كياروستامي نفسه، ومكافأ في مهرجان «كانّ» بجائزة «الكاميرا الذهبية»، الممنوحة في الأقسام الأساسية للمهرجان للفيلم الأول. بدءاً من العام 2000، يواجه بناهي قرارات منع ورقابة داخل بلده: في ذاك العام، يُحقّق «الدائرة»، وفي العام 2003 «دم وذهب». الأول فائز بجائزة «الأسد الذهبي» في الدورة الـ 57 (30 آب ـ 9 أيلول 2000) لمهرجان البندقية (لا موسترا)، والثاني حاصلٌ على جائزة لجنة التحكيم الخاصّة بمسابقة «نظرة ما»، في الدورة الـ 56 (11 ـ 25 أيار 2003) لمهرجان «كانّ». الأول عن واقع الحال الاجتماعي الإيراني، عبر عائلة تُنجب فتاة فتنفتح أبواب المخفيّ في العلاقات والنفوس والبيئة. الثاني عن طبقات اجتماعية متناقضة، عبر شخصية شاب فقير لم يُتقن فهم كيفية عيش الطبقة الأرستقراطية.

تتوالى أفلام جعفر بناهي، جالبة معها جوائز وتكريمات. أفلام طويلة وقصيرة، تجوب في نفوس أفراد وحالات بيئات اجتماعية. «تاكسي» يُعتبر إحدى خلاصات اجتهاداته الفكرية والتأملية في أحوال بلده، انطلاقاً من راهن معقّد، ومآزق آنية في المستويات الإنسانية كلّها. «أوف سايد» (2006) مثلاً: رغبة نساء إيرانيات في مشاهدة مباراة كرة قدم دونها موانع اجتماعية. يتعاون بناهي مع فتيات غير محترفات التمثيل. يُريد إظهار أن للمرأة موقعاً في مجتمعها. يُمنع الفيلم. لكنه يبقى إحدى العلامات السينمائية البارزة في السيرة المهنية والثقافية لبناهي. «هذا ليس فيلماً» (2011) مثلٌ آخر: تصوير واقعه هو كسينمائيّ ممنوع من السفر والعمل السينمائيّ.

في حفل إعلان نتائج المسابقة الرسمية في «برليناله 2015»، يقول رئيس لجنة التحكيم المخرج الأميركي دارن آرونوفسكي إن «تاكسي» عبارة عن «رسالة حبّ إلى السينما». ألهذا السبب يُمنَح جعفر بناهي جائزة «الدب الذهبيّ»، أم أن للجائزة أسباباً مخفيّة أخرى؟

المخرج المَعصُوم

زياد الخزاعي

زكّت صفة «معصوم» أعلاه مخرج «الدائرة» (2000) الإيراني جعفر بناهي باعتباره مبدعاً لا تمسّه ظنون النقد. فالجور الذي وقع عليه بتقييد حريته ومنعه من الإنجاز السينمائي لعشرين عاماً، حَوّلَه ـ ضمن أعراف العزّة الأوروبية ـ إلى «شهيد سينمائي مُزمن»، أصبح الدفاع عنه شرطاً إلزامياً لمَنْ يدّعي النّخوة. غفل كثيرون عن محن أقرانه، أمثال محمد رسول أف الذي حُكم عليه بالسجن ومُنع نصّه البليغ المندّد بالقمع «المخطوطات لا تحترق» من العرض داخل البلاد، على الرغم من اشتراكه في مهرجان «كانّ» السينمائي الدولي في دورة العام الماضي. حكاية مواطنته راخشان بني إعتماد تمثّل ضرباً سوريالياً في تحايلها على قانون جائر منعها من تصوير فيلم روائي طويل، فأنجزت أشرطة قصيرة جمعتها لاحقاً ضمن عملها الأخّاذ «قصص» (مهرجان البندقية الإيطالي الدولي الأخير)، من دون أن تثير قضيتاهما «صخباً بناهياً». إذاً، ما حقّ لصاحب «تسلّل» (2006) من تآزر، بحسب النفاق السينمائي الأوروبي، تجاوز آخرين بأشواط يُحسَد عليها. هو طُعمٌ نادر لتسريب أي نصّ على قاعدة «امنع فيلماً، تحصل على جوائز مرموقة وتوزيع مضمون»، وهي سياسة مقايضة تقع في أُس الذهنية التجارية للإيراني الماهر بلعبة المناكفات لا الغلاظات الفارغة التي تشتهر بها بعض أقوام الشرق الأوسط.

استفاد جعفر بناهي من رفع الإقامة الجبرية عليه، مع وجوب إبلاغ مركز شرطة قرب بيته في ساعة محددة، ليصوّر جديده «تاكسي»، الذي كرّمته الدورة الـ 65 (5 ـ 15 شباط 2015) لـ «مهرجان برلين السينمائيّ»، بـ «دبّ ذهبي»، متجاوزاً أشرطة أكثر رقياً وأعلى شأناً تضمّنتها المسابقة. تركَّب العمل من ست وقفات (اسكتشات) كوميدية، أشادها المخرج المَعصُوم على تقنية ابتدعها سابقاً زميله المعلّم عباس كياروستامي في نصه الانقلابي «عشرة» (2002). الذريعة؟ سماع صوت الشارع الإيراني، وتهكّم أبنائه على مآلات حيواتهم وعسرها. ما انتقص في «تاكسي» حصافة السينمائي الساعي إلى حكاية كبيرة وغير مسبوقة وخلاّقة، افترض وقوفها إلى مصاف أعماله المميّزة، كـ «البالون الأبيض» (1995) و «المرآة» (1997)، إن لم تتجاوزها. هذا نصّ غير كافٍ لتوكيد براعة بناهي ومناورته للأفكار، على الرغم من أن جديده أفضل بكثير من سابقيه «هذا ليس فيلماً» (2011) و «الستارة» (2013)، من ناحية خفّة دمه، ومثلها محاولته «البقاء على قيد الحياة سينمائياً»، وهو موقف لا يمكن سوى مناصرته. ما انتقص في فقرات «تاكسي» خلوّها من دراما لافتة. تركيبة الفيلم متساهلة، توهمنا بأن ما جرى تصويره تمّ عناداً، وأن وجود بناهي الفسيولوجي وتشظيه إلى «سينمائيين عديدين»، ساهموا في توجيه منهجية صناعة شريطه، وصولاً إلى فكرة وهمية تقول إن «تاكسي» مملوك لممثليه، وليس إلى غايته السينمائية البحتة.

كاميرا مثبتة على لوح قيادة سيارة أجرة، سائقها «الممثل» جعفر بناهي، تنتظر تسعة أفراد تمّ انتقاؤهم بعناية، يمثّلون شرائح شعبية مختلفة الطبقات والوعي والحجج. يدخلون السيارة ويغادرونها بعد أن يقولوا كلاماً ملغّزاً يطرح شكوكاً أكثر من قناعات. وقفت حواراتهم المكتوبة، التي أراد الفيلم إيهام مُشاهده أن كلماتها عفوية، عند حواف الشكوى من مظلومية جماعية، والتسليم بإرادة غاشمة لا يمكن تفكيكها أو مصارعتها أو النيل منها: معلّمة تجادل شاباً حول السرقة وأحقية إعدام مرتكبيها علناً، قبل أن نكتشف أن هذا الأخير ليس سوى نشّال صغير، يعلن بزهو أنه يسرق الأثرياء ويستنكف الاعتداء على فقراء طهران. فيما حمّلت فقرة العجوز الذي تعرّض لحادث سير غمزاً مسيّساً للشريعة وتجاوزات التوريث فيها، إذ جاهد الرجل المدمّى على تصوير وصيّته، عبر عدسة هاتف بناهي، لمصلحة زوجته الشابة المولولة، لتفويت فرصة استحواذ أشقائه على أملاكه. محامية تُنهي وصلتها بإعلان أن إيران سجن كبير. صبية نارية تسرد اشتراطات «صراط سينمائي»، من ضمنها تجنّب «الواقعية الدنسة» لإنجاز فيلمها المدرسي. بائع أسطوانات مقرصنة يتعرّف على المخرج المتخفّي، ويبرّر تجارته بأنها وسيلة فريدة لا تخشى الرقيب لمشاهدة أفلام عالمية. بينما تجلت صيغة الرحمة الإنسانية عبر سيدتين نذرتا توصيل أسماك إلى «نبع علي» الشهير قبل انتصاف النهار، كي تبقى على قيد الحياة.

اجتمعت شخصيات جعفر بناهي في «تاكسي» على عدم المغالاة في كلامها، فتأدّبها سمة إيرانية. نبذها للشدّة، إعلان ضمني على أن المسالمة الاجتماعية ديدن أخلاقي عام. وحدهما سارقان غامضان (هل هما عميلان سريان؟) يخترقان أمان سيارة المخرج المَعصُوم ويسرقان كاميرته، من دون أن يتمكّنا من سلب شريطه الجماعي. يأتي التبرير ناقصاً على لسان أحدهما بقوله: «هذه كاميرا بلا ذاكرة»، ليُحسم الأمر على أن لعبة بناهي، في مقامها الأول، تغريبة سينمائية مموّهة لن تستعرض طهرانه، حيث أزلام السلطة مغيبون، بل تنعى بشراً خسروا رهاناً ضد سلطة متجبّرة اسمها الحياة.

السفير اللبنانية في

19.02.2015

 
 

سمير فريد يكتب من مهرجان برلين:

.. وقال النازى: نحن الذين نقرر ما هى الحقيقة!

عرض مهرجان برلين خارج المسابقة الفيلم الألمانى «١٣ دقيقة» إخراج أوليفر هير شبيجل الذى تدور أحداثه عام ١٩٣٩ فى ألمانيا تحت حكم النازى الذى أشعل الحرب العالمية «١٩٣٩ - ١٩٤٥» ودمر ألمانيا وأغلب دول أوروبا ودولاً أخرى من العالم حتى اليابان، حيث ضربت بالقنبلة الذرية، ويدرك العديد من مخرجى السينما، خاصة فى ألمانيا، ضرورة الاستمرار فى صنع أفلام عن هذه الحرب حتى لا تنسى الأجيال ما حدث، ولمقاومة النازية الجديدة فى نفس الوقت.

ومن أهم هؤلاء المخرجين أوليفر هير شبيجل الذى ولد فى هامبورج عام ١٩٥٧، أى بعد نهاية الحرب بأكثر من عشر سنوات، وأخرج أول أفلامه عام ١٩٨٦، ثم عمل طويلاً فى التليفزيون حتى عاد إلى السينما مرة أخرى مع مطلع القرن الجديد، وأخرج منذ ٢٠٠١ ستة أفلام أحدثها «١٣ دقيقة»، وأشهرها «السقوط» ٢٠٠٤ عن هتلر فى أيامه الأخيرة، وبعد النجاح الكبير لهذا الفيلم، وكما هى سياسة هوليوود فى فتح أبوابها للموهوبين من كل مكان، انتقل هير شبيجل للعمل فيها، وعاد للعمل فى ألمانيا مع فيلمه الجديد، وينتمى الفيلم إلى السينما التقليدية من حيث الشكل، ولكن فى أعلى مستوياتها، وأعظم ما فى الفن أن التجديد لا يلغى التقليد، وإنما تتجاور كل الأشكال والاتجاهات.

إنه عمل فنى ممتع ومثير للوجدان والعقل معاً كتبه المخرج مع بوريس أيوسيرير وفرد برنير دورفر فى سيناريو شديد الإحكام فى ١١٠ دقائق، ويتكامل السيناريو فى الإتقان مع تصوير جوديث كوفمان للشاشة العريضة بالألوان ومونتاج ألكسندر ديتنر وموسيقى دافيد هولمز وتمثيل ثلاثة من عمالقة التمثيل، وهم كرستيان فريدل وبورجارت كلاوسنير ويوهان فون بيولو.

الفيلم عن محاولة اغتيال الزعيم النازى هتلر أثناء اجتماع فى ميونيخ يوم ٨ نوفمبر عام ١٩٣٩، أى بعد شهرين تقريباً مما اعتبر بعد ذلك بداية الحرب العالمية الثانية فى أول سبتمبر، وقد فشلت المحاولة لانصراف هتلر مبكراً عن الموعد الذى كان مقرراً بـ«١٣ دقيقة» فقط، ومن هنا كان العنوان الإنجليزى للفيلم، بينما عنوانه الألمانى «إيلسير»، وهو اسم العائلة للشاب جورج إيلسير الذى قام بالمحاولة.

فى إحدى مقالاته فى «المصرى اليوم» ذكر الكاتب «الدراما ثورجى الكبير» على سالم أن رسامى الكاريكاتير يصورون التاريخ كشيخ مهيب حكيم، ولكنه فى الواقع عجوز مخرف، واستشهد بنجاح ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ فى مصر بسبب قيام أحد الضباط باحتجاز قادة الجيش ليلة الثورة مصادفة، ولم يكن ذلك فى «الخطة»، ولكن هذا ما أدى إلى نجاح الثورة، وقد تذكرت هذا المقال بعد مشاهدة الفيلم حيث تبدو محاولة الاغتيال لو نجحت لأنقذت العالم من الحرب ومصرع نحو ٥٠ مليون إنسان، ولكنها فشلت بسبب الـ١٣ دقيقة.

بعض المؤرخين يطلقون على مثل هذه الوقائع «مكر التاريخ»، والبعض الآخر يرون أن هناك حتمية تاريخية تفرضها الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بمعنى أن الحرب كان لابد أن تقع لأسباب خارجة عن الأفراد والزعماء، أى مع وجود هتلر- أو أى فرد - زعيم آخر فى ألمانيا أو غيرها من الدول.

يبدأ الفيلم مباشرة بقيام جورج إيلسير «كرستيان فريدل» بوضع الديناميت فى مكان خفى بالقرب من المنصة التى سيقف عليها هتلر فى تقاطع مع عناوين الفيلم، وبعدها يحدث الانفجار، ونرى آثاره فى لقطات وثائقية بالأبيض والأسود، ونتيجة الدولة البوليسية التى تحكم قبضتها على كل كيلومتر من البلاد يتم القبض على جورج فى نفس الليلة، وتبدأ الدراما فى التحقيق معه الذى يجريه قائد الشرطة الجنائية آرثر نيبى «بورجارت كلاوسنير» وقائد الشرطة السياسية المعروفة باسم الجوستابو هينريش موللر «يوهان فون بيولو».

ومن السؤال الأول: من أنت؟ يتحرك الفيلم بين الحاضر «التحقيق»، وبين الماضى منذ مولد جورج عام ١٩٠٣ فى إحدى القرى الألمانية على الحدود مع سويسرا. وصلب الدراما أن جورج نجار مسيحى بسيط، وكان المسيح عليه السلام يعمل نجاراً، دفعه إلى محاولة اغتيال هتلر إيمانه بالحب والسلام والحرية وكراهية التعصب والحرب والقتل، بينما يصر هتلر الذى لا نراه طوال الفيلم وقائد الجوستابو على أنه شيوعى ولابد أن وراءه مجموعة معادية أو حزباً سرياً أو مخابرات أجنبية.

وقوة الدراما أن جورج لا يقدم كملاك فى مواجهة الشيطان، فهو يحب امرأة متزوجة وأماً لطفلين ويغويها ولا يعبأ بزوجها وأسرتها، كما أن قائد الشرطة الجنائية أرثر نيبى يصدق أنه يقول الحقيقة، وأنه مجرد فرد عادى، وليس منفذاً لمؤامرة، ويدفع نيبى الثمن، ويتم إعدامه، كما يتم إعدام جورج بأمر مباشر من هتلر فى ٩ إبريل ١٩٤٥ مع نهاية الحرب، بل وبعد قصف قوات الحلفاء لمدينة درسدن الذى كان أكبر مؤشرات النهاية، يقول نيبى لقائد الجوستابو أثناء تعذيب جورج: «لن تستطيع أن تحصل منه سوى على الحقيقة»، فيرد موللر: «نحن الذين نقرر ما هى الحقيقة».

المصري اليوم في

19.02.2015

 
 

فيلم يجمع التسجيلي بالروائي من شوارع إيران التي حكمت على مخرجه بالإقامة الجبرية

«دب برلين الذهبي» في «تاكــسي» جعفر بناهي

المصدر: علا الشيخ ـــ برلين

فاز الفيلم الإيراني «تاكسي»، للمخرج جعفر بناهي، بجائزة الدب الذهبي في الدورة الـ65 من مهرجان برلين السينمائي الدولي، وهو المحكوم بالإقامة الجبرية في إيران، لذلك لم تسنح له الفرصة لمغادرة بلاده لتسلم جائزته، هذه الحالة تحديداً مع وصفها العاطفي، هي التي كانت موجودة لدى معظم مشاهدي الفيلم قبيل الدخول إلى الصالة، الحديث كان عن قسوة النظام الإيراني الذي يمنع الحياة عن كل من يعارضه، لذلك أنت كمشاهد أو ناقد، تسيطر عليك هذه الحالة من التعاطف مع المخرج، وبناءً عليه ستشعر بأنك تغض البصر كثيراً عن قيمة الفيلم فنياً، وتدعم إنسانياً هذا المخرج الذي تحدى الحكم وجاب في شوارع طهران من خلال كاميرا مثبتة على سيارة أجرة، ضمن مزيج الأحداث التي تصب في فئة التسجيلي والروائي، تجد نفسك منوطاً بشخصيات الركاب التي كانت ضيفة على تاكسي بناهي الذي يؤدي دور السائق في الفيلم.

ومن المفارقة أن شخصيات معظم الركاب كانت طبيعية، وتميزت بالقدرة على التمثيل، باستثناء بناهي نفسه الذي كان ظله ثقيلاً، مقارنة بشخصيات الفيلم، يظهر هو كسائق تاكسي فعلاً، لكنه مخرج في الوقت نفسه، وينكشف أمره عبر مهرب الأفلام الذي يعرفه من النظرة الأولى، ويقرر الجلوس إلى جانبه، والتحدث عن مهنته الصعبة في بيع أفلام الـ«دي في دي»، وكأنه يبيع المخدرات، مؤكداً له أن تجارته هذه مهمة، حيث يبعث السرور لمحبي السينما في طهران من جهة، ومن جهة أخرى تسد رمقه من الجوع.

في البداية لا يظهر من بناهي سوى صوته وهو يستقبل الركاب، إلى أن يكتمل المشهد معه ومع شاب وامرأة، كل واحد منهم ذاهب إلى طريقه، هذا الشاب تحديداً على الأغلب هو من ستكون له علاقة بالنهاية التي ارتآها بناهي لفيلمه، فهو يثرثر كثيراً، ويبتز الراكبة التي تجلس في الخلف حول قضية إعدام اللصوص، وهو الذي يطالب بتنفيذ هذه العقوبة كي يرتدع الغير، في المقابل ترى المرأة وهي تعمل معلمة، بناء على ما قالته خلال حوارها مع الشاب، تعثر، وتؤكد أن سجل إيران في تنفيذ حكم الإعدام يأتي في المرتبة التالية بعد الصين، في هذه اللحظة يسأل الشاب عن عمل المرأة ، ويقرر النزول فجأة من السيارة، تشك فوراً كمشاهد أن هذا الشاب ليس سوى مخبر.

يستمر بناهي في التجوال بسيارته، ينتظر إشارة من راكب ليقله، هو في معظم المشاهد صامت لا يتحدث، يستمع فقط، ويبتسم كثيراً، سخرية ربما، إلى أن يأتي الراكب الذي كان عملياً أظرف شخصية في الفيلم، وهو بائع أفلام الـ«دي في دي»، التي تعتبر في إيران جريمة، وتهريبها مثل تهريب المخدرات، هذا البائع وبطبيعة عمله استطاع أن يكشف هوية بناهي، وكان يعتقد أن بناهي يصور فيلماً ولا يمكن أن يكون سائق سيارة أجرة، يدل مهرب الأفلام بناهي على البيت الذي يقصده وهو لشاب يدرس السينما، وهنا السخرية، شاب يريد أن يتخصص في السينما يستعين بمهرب ومقرصن أفلام لأنها ممنوعة في إيران، يستغل مهرب الأفلام وجود بناهي، ويؤكد للشاب أن بناهي شريكه، فيحرج بناهي من الموضوع ولا ينكره، فهو أعلم بحال شعبه، يطلب الشاب من بناهي ترشيح أفلام له، ويقوم بناهي بذلك بكل لطف، وبعد انتهاء المهمة يقرر بناهي أن ينهي مشواره مع مهرب الأفلام .

أسلوب بناهي هذه المرة، ومع أنه خرج من غرفته بعد فيلمه «ستائر مغلقة»، يشبه إلى حد كبير أسلوب المخرج كياروستامي الذي يعتبره بناهي استاذاً إليه، وقد قدم كياروستامي سابقاً فيلم «عشرة»، الذي تظهر فيه امرأة تقود سيارة تاكسي في طهران، وتنقل حكايات الركاب.

ومع ذلك تشعر بأن بناهي وجد في هذه الصيغة مخرجاً ومهرباً، كي يظل يخرج الأفلام، واستطاع أن ينجح في فيلمه فقط من خلال ممثلين أتقنوا الدور وكانوا قريبين للواقع، فشخصية الرجل الذي أصيب بحادث سير وزوجته، كانت من أكثر الشخصيات التي حاولت انتقاد النظام الإيراني بذكاء، حيث المرأة مكلومة وخائفة على فقدان زوجها المدمى، الذي كان يجلسها خلفه في «ماتور»، وهذا ممنوع، فشاء القدر أن يصاب بحادث من سيارة، هنا يتوجه الرجل المصاب إلى بناهي ويطلب منه تشغيل كاميرا هاتفه، وتصوير وصيته التي كانت عبارة عن ترك جميع أمواله لزوجته، الطريف في الموضوع، أن بناهي، وبعد إيصاله للمصاب وزوجته إلى المستشفى، لا يهدأ هاتفه من مكالمات زوجة المصاب التي تطالبه بإرسال الفيديو على هاتفها كي تحتفظ بالوصية للمستقبل.

تستمر الكاميرا مع بناهي، ومع كل راكب يقوم بتعديلها كي يخرج المشهد تقنياً، فمع السيدتين اللتين تحملان سمكة في وعاء، تبدأ الحبكة التي يريد بناهي إيصالها من خلال ربط المشاهد مع بعضها بعضاً من أول راكب إلى آخر راكب، حيث استعجالهما لأداء طقس ديني، وحديثهما غير المفهوم على الأقل من ناحية تقبل العقل له، يبدأ بناهي بالتوتر من إصرار السيدتين على استعجاله، إذ إن الوعاء يسقط إثر هذا الاستعجال، ويحاول بناهي إنقاذ السمكة، فهو لا قدرة له على جدال امرأتين تؤمنان بكل حرف تقولانه، حتى لو كان مبنياً على أكاذيب، في هذه الثناء يتذكر بناهي ضرورة الذهاب لاصطحاب ابنة شقيقته من المدرسة، فيضطر أن يستأذن السيدتين لضرورة إيجاد سيارة أجرة ثانية غير آبهٍ بتوسلاتهما، يتنفس الصعداء، ويصل إلى المدرسة، ترمقه ابنة الشقيقة بنظرة حادة، وتقول له «صديقاتي يعلمن أن خالي مخرج أفلام سينمائية، كيف سيصدقنني بعد الآن وهنّ يرينك سائق تاكسي؟»، وتبدأ الثرثرة التي لا تنتهي من فتاة تريد أن تصبح يوماً مثل خالها، تراها أخرجت كاميراتها الصغيرة، وبدأت بتصوير فيلمها الذي طلبته منها معلمتها، وتصبح كاميرا الفتاة هي الراصدة، وأسئلة كثيرة لا يجيب عن معظمها بناهي، خصوصاً في صيغة الفيلم المطلوب منها بأن يكون صالحاً للعرض ولا يتنافى مع الشروط الرقابية، فلا يجوز للمرأة أن تمثل وهي سافرة، ولا يجوز إقران المشاهد التصويرية باي شيء له علاقة بالجنس، بهذا المشهد تضع نفسك مكان بناهي، وتفكر في الجواب معه «ماذا سيقول لهذه الطفلة التي تحلم بأن تصبح مخرجة، إن خالك الذي تفخرين به لا يستطيع أن يمسك كاميرا في العلن؟»، مؤكداً لها بعد سماع شروط تصوير الفيلم التي القتها على مسامعه من كتابها «هم يريدون منك تصوير واقع لا يشبه الواقع الذي نعيشه».

تستمر المشاهد مع الطفلة التي لا تطفئ كاميرتها، وتظهر شخصية جديدة في الفيلم تكاد تكون الأجمل، بل والأكثر واقعية، لمحامية تدافع عن المعتقلين السياسيين في إيران، يجدها بناهي وهي تقف على قارعة الطريق تحمل الورود الحمراء، فكيف له أن ينساها وينسى ورودها، فهو من المعتقلين الذين تلقوا وردة منها دعوة للأمل، يدعوها إلى الركوب، وتبدأ الحديث عن المعتقلين وعن عائلاتهم المكلومة بهم، وأن الورد دائماً يخفف المعاناة، ويحمل في طياته أملاً في الغد، ويزرع الابتسامة في وجوه المظلومين، قدرة هذه المرأة التي ظهرت كراكبة في تاكسي بناهي على بث طاقة إيجابية شعر بها معظم الحضور، لدرجة أنك تنسلخ ذهنياً وتصيبك الحيرة فيما إذا كانت هذه الشخصية حقيقية أم لا، منظرها وهي تحمل الورود، صوتها الحنون، تشبثها بالأمل، تحديها ظلم النظام لكل من يقول «لا» في وجهه، تؤكد أن يوماً ما سيكون في طهران الكثير من تلك العينة والكثير من الورود.

من ضمن المشاهد الذكية أيضاً، المرتبطة بطريقة التلقين التعليمي الديني، أثناء وجود الطفلة في السيارة، وخروج خالها لقضاء حاجة، تنتبه لطفل فقير يسرق نقوداً ملقاة على الأرض من عروسين، فتناديه وتطلب منه إعادة النقود، وتصويره، وتملي عليه ما يفعله، وكأنها تصنع مشهداً لتثبت لمعلمتها وجود الخير، لكن الطفل يرفض، ومع إصرارها يرضخ لها، لكنه لا يصور المشهد كما تريد، هي أرادته لقطة فنية فيها قوانين مدروسة، لم تعجب الطفل السارق المحتاج.

يتلقى بناهي خلال جولته مكالمة من صديق، ويحاول إغراء ابنة أخته للذهاب بعيداً لابتياع نوع من الحلويات، لأن صديقه يريد أن يعرض عليه فيلماً نادراً عن طريقة تعذيب النظام للمعتقلين السياسيين، ويطلب منه أن يرى طريقة لوضع هذه المشاهد في فيلم من أفلامه، لكن بناهي يذكره بأنه ممنوع من حمل كاميرا.

تقترب النهاية بعد اكتشاف الطفلة وجود محفظة نقود على أرض السيارة، ويشك بناهي فوراً في أنها لإحدى السيدتين صاحبتي السمكة، فيقرر الذهاب إلى المكان المقصود وإيصال المحفظة، يترك سيارته جانباً، ويخرج هو والطفلة للبحث عن السيدتين، في هذه الأثناء يصل رجلان إلى السيارة، ويقتلعان الكاميرا، فتختفي الصورة، ويظهر صوت أحدهم: «لم أجد كرت التخزين»،

هذا المشهد يلخص حكاية بناهي، أنه الرغم من تحديه السلطة استطاع أحد مخبريهم أن يوصل الخبر إليهم، بأن بناهي يصنع فيلماً، هذا المشهد يجعلك تشك في كل راكب قصد تاكسي بناهي بأن يكون المخبر، وهي الرسالة التي تؤكد أن النظام يراقب كل شيء، وله عيون في كل مكان.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

الإمارات اليوم في

19.02.2015

 
 

لعام 2015

نظرة على فيلم تاكسي الفائز بدب برلين الذهبي

محمد هاشم عبد السلام

"تاكسي"، هو أحدث أفلام أحد أشهر المخرجين الإيرانيين الكبار، جعفر باناهي. وهو أيضاً أحدث أفلامه الحاصلة على جوائز في المهرجانات الدولية الكبرى، حيث أعلن مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الخامسة والستين لهذا العام عن فوز الفيلم بكبرى جوائز المهرجان، وهي الدب الذهبي. والفيلم هو الخامس عشر في تاريخ باناهي الإخراجي. وبطل الفيلم هو المخرج نفسه، وقد تقمص شخصية سائق سيارة أجرة، يضع نظارة شمسية وقبعة لإخفاء هويته.

عبر تلك الفكرة البسيطة في محتواها، والتي تشكل قوام الفيلم، الذي امتد لساعة وثلث الساعة تقريبًا، تحدى المخرج جعفر بناهي السلطات الإيرانية، والقضاء الذي حكم عليه حكمًا قاسيًا بعدم مزاولة مهنة الإخراج السينمائي أو كتابة السيناريوهات أو إجراء محادثات أو مغادرة البلاد لمدة عشرين عامًا، هذا كله بالإضافة إلى الإقامة الجبرية بمنزله.

وعن طريق كاميرا خفية موضوعة بجوار عجلة القيادة يوجهها جعفر عندما تقتضي الضرورة، وأكثر من كاميرا أخرى فرعية مخفية في أكثر من مكان بالتاكسي، يرصد باناهي في فيلمه من خلال شخصياته المتعددة التي تتناوب على ركوب السيارة، والتي تمثل شرائح متفاوتة من المجتمع الإيراني، الكثير من القضايا التي تعكس، دون شك، أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية والفنية أيضًا داخل المجتمع الإيراني، بقدر كبير من الجدية والطرافة أيضًا.

يفتتح الفيلم وامرأة تجلس بالمقعد الخلفي للتاكسي وآخر يستوقفه للركوب بالمقعد الأمامي، الأولى يتضح أنها معلمة مدرسية، والآخر يزعم أنه لص صغير للسيارات. يشتبك الاثنان بالكلام المتبادل ويدور بينهما حوارًا يطالب فيه الرجل بضرورة تطبيق عقوبة الإعدام على السارقين واللصوص من أجل تحقيق أكبر ردع ممكن، في حين تنهره المعلمة وتبين له كيف أن إيران تحتل المرتبة الثانية عالميًا، بعد الصين، بين الدول في تطبيقها المبالغ فيه لعقوبة الإعدام. ولا ينتهي التشاحن سوى بنزول الرجل فجأة من التاكسي. وهنا يتبدى بالطبع، تناول المخرج لقضية سياسية وقانونية وإنسانية بامتياز.

بعد ذلك ينتقل باناهي لطرح قضية أخرى، هي قضية الرقابة الفنية والمنع والمصادرة والتحريم، وذلك عبر أحد أطرف وأجمل أجزاء الفيلم، حيث يلتقي بناهي برجل يعمل في تجارة الأفلام السينمائية المقرصنة وبيعها سرًا لمن يرغب فيها. ذلك الرجل أو الزبون هو الوحيد الذي يتعرف على باناهي ويدرك شخصيته الحقيقية، ويذكره بنفسه، وكيف أنه كان يجلب له ما يروقه من أفلام لكيروساوا وودي آلان وغيرهم من المخرجين. لكن جعفر لا يتذكره بالمرة، ويضطر للرضوخ للكثير من مطالبه، ويوصله لمنزل أحد طلبة السينما الذي يتعرف عليه بدوره، ويشتري الأفلام من الرجل، الذي يخبره بأن باناهي شريكًا له في تجارته تلك.

في طريقهما لمكان آخر، وجعفر في كثير من المرات يسأل الزبائن عن الطرق لأنه يجهلها وهم بدورهم يتشككون ويتساءلون إن كان بالفعل سائق تاكسي أم لا، يصادفان أحد الرجال، وكان قد تعرض لحادثة سير والدماء تغرقه تمامًا، وترغب زوجته في إنقاذه والذهاب به لأقرب مستشفى لتلقي العلاج. ولأن الرجل يشعر بدنو أجله، فإنه يرغب في كتابة وصيته، بالأحرى يريد تسجيلها صوتًا وصورة، فيأخذ تاجر الأفلام تليفون جعفر ويبدأ في تسجيل الوصية، التي يوصي فيها بضرورة أن يذهب ميراثه إلى زوجته، وليس مجرد جزء صغير منها فقط حسب الشريعة.

وبذلك، نجد جعفر يتطرق لطرح مشكلة أخرى اجتماعية واقتصادية ودينية بالأساس، نابعة من قلب المجتمع وثقافته وتقاليده وتحايله على الدين. وينتهي الأمر والرجل قد أُسعِفَ بالمستشفى، لكن زوجته تتصل بجعفر وترتب معه موعدًا لاحقًا من أجل الحصول على التسجيل الذي يوصي فيه الزوج بثروته لها، لأن لا أحد يضمن الظروف وما سيحدث مستقبلا.

ومع انصراف تاجر الأفلام، تركب عجوزان، ترغبان في الذهاب إلى أحد الينابيع قبل أن ينتصف النهار وإلا فإن الخطر كل الخطر يتهدد حياتهن. وذلك لأن الأسماك الموضوعة داخل قارورة لا بد وأن يتم تغيير الماء لها من ذلك الينبوع تحديدًا، وإلا فسوف تموت، وبالتالي يفقدن هن أيضًا حياتهن وفقًا لما قيل لهن. ولأن جعفر لا يدري المكان جيدًا، وهو على موعد لإحضارة ابنة شقيقته من المدرسة، يضطر لإنزال العجوزين وجلب وسيلة انتقال أخرى لهن. وهنا نجده يتعرض بالطبع لمناقشة المعتقدات والخرافات التي لا تزال سائدة في المجتمع الإيران، لا سيما عند الأجيال الأكبر سنًا.

ومع ذهابه لإحضار ابنة شقيقته (هناء سعيدي) الخفيفة الدم والمتمردة بعض الشيء، الطالبة بمرحلة الدراسة الابتدائية، يطول الفيلم ويمتد ويترهل ويسقط الإيقاع ويبدأ، بعدما تجاوز منتصفه تقريبًا، في الابتعاد عن بدايته القوية التي كان عليها، والتي كانت بها، دون جدال، مساحة عريضة للارتجال والابتكار واختلاق للمواقف الطريفة، مع الكثير من الإحكام الإخراجي. كأن جفعر قد فرغت جعبته من الحكايات والمواقف أو أنه قد مل، وبات راغبًا في توصيل رسالته السياسية على نحو سريع، يتسم بقدر كبير من المباشرة والتوجيه البادي عليهما الكثير من الافتعال الواضح دون أدنى شك.

ويبدو هذا جليًا مع مشكلة الفتاة ابنة شقيقته، التي تريد منها معلمتها في المدرسة تصوير فيلمًا سينمائيًا بكاميرتها الصغيرة، شريطة أن يكون الفيلم لائقًا ومناسبًا حتى يتم عرضه والسماح به، وتدخل الفتاة في سجال ونقاش جدي مع خالها، ينتهي بأن يقول لها بأنهم يرغبون في تصوير واقع غير حقيقي ليس موجودًا في الحياة التي نحياها. ثم لاحقًا يلتقي جعفر، كأنما مصادفة، بصديقته التي تعمل وزوجها في الحقل السينمائي، ويأخذان والفتاة في التحدث عن الأوضاع والصعوبات التي يعانون منها والتضييق في العمل والقيود والرقابة إلى آخره من المشكلات، ثم تنزل من التاكسي فجأة مثلما ركبت.

ولاختتام فيلمه، الذي كان من الممكن، ولا ندري لماذا، أن يمتد لأكثر من هذا ويلتقي بمزيد من الشخصيات التي تُعلي من شأن الفيلم وتزيده عمقًا وتصل به لذرى أفضل وأكثر جدلية وإثارة، يذهب جعفر مع الفتاة، التي عثرت بالمقعد الخلفي على كيس النقود الخاص بإحدى العجوزين، ويتوجهان إلى ذلك النبع، بعدما عرف كيفية الوصول إليه، كي يردان إليها ما فقدته. تظل كاميرا التاكسي ترصد توجههما سيرًا إلى النبع، ثم هبوطهما إليه، حتى يأتي بعض الشبان أو اللصوص لسرقة ما بداخل التاكسي وتحطم الزجاج والكاميرا.

وفي النهاية، نجد أننا حتيمًا أمام عدة تساؤلات لا بد من الإجابة عليها، متعلقة بتلك السمعة العالمية المبالغ فيها عن منع المخرج من العمل تمامًا، وهو حكم قانوني قضائي ظالم وجائر لا شك في هذا، لكن كيف تغض السلطات الطرف عن تنفيذ هذا الحكم، في حين أن جعفر يُخرج لنا كل عام تقريبًا فيلمًا جديدًا يرسله للمهرجانات الدولية؟ ثلاثة أفلام على وجه التحديد خلال السنوات الأربع الماضية، وذلك دون التعرض لأية ملاحقات أو توقيفات أو مساءلات.

أيضًا يتجنب باناهي وضع أسماء أيًا من المشاركين في الفيلم معه وذلك في التترات الختامية في بداية أو نهاية الفيلم، رغم أن الكثير من الشخصيات التي تظهر في أفلامه الأخيرة، بخلافه بالطبع، من الأهل أو الأصدقاء أو الأقرباء أو شخصيات معروفة تعمل في الغالب في صناعة السينما بإيران، وبالتأكيد معروفة للسلطات الإيرانية. ومن هنا يمكننا القول أن الحكم الصادر ضد المخرج، ليس سوى مجرد حكم لكن مع وقف التنفيذ.

كذلك لا يجد المرء بدًا من المقارنة، لتبيان الفارق، بين فيلم باناهي الجديد "تاكسي" وفيلم المخرج الإيراني الكبير، الذي تعلم جعفر على يديه، عباس كياروستامي، الذي أخرجه في عام 2002، وحمل عنوان "عشرة"، ويتناول نفس الفكرة ذاتها، حيث تدور أحداثه أيضًا داخل تاكسي تقوده امرأة إيرانية تجوب به شوارع العاصمة طهران، ويركب معها التاكسي عشرة أفراد أو زبائن، ومن هنا جاء اسم الفيلم، تدور بينهم وبينها الكثير من النقاشات حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بإيران.

إن جعفر باناهي ليس غريبًا بالمرة على مهرجان برلين السينمائي، فقد سبق في عام 2012 أن أثيرت حوله ضجة كبيرة، عندما أعلنت إدارة مهرجان برلين عن اختياره كأحد أعضاء لجنة التحكيم الرئيسية بالمهرجان في ذاك العام، رغم علمها بمنعه من العمل والسفر. وبالفعل منعته السلطات من السفر للمهرجان، وما كان من إدارة المهرجان إلا أن وضعت كرسيًا خاليًا له على المسرح تعبيرًا عن غيابه وحضوره في نفس الوقت.

وفي العام التالي مباشرة 2013، صور باناهي فيلمًا آخر على نحو سري، حمل عنوان "الستائر المغلقة"، وأرسله سرًا إلى المهرجان، الذي عرضه آنذاك، وظهر فيه باناهي بنفسه، على غرار فيلمه تاكسي، لكن تلك المرة كان يقوم بدور مخرج سينمائي ممنوع من العمل في بلاده، وتدور الأحداث أو بالأحرى الحوارت داخل شقته. وإن كانت المقارنة بين "هذا ليس فيلمًا (2011) و"الستائر المغلقة" (2013)، و"تاكسي" (2015) تصب في صالح الأخير دون شك.

وختامًا، هل يأخذ تاريخ الفن في الاعتبار وكذلك المؤرخين فيما بعد، كل تلك الظروف السياسية في الحسبان، ومقاومة جعفر الشجاعة بالتأكيد، عندما يتصدون فنيًا لتقييم فيلمه، فيلتمسون الأعذار لتكرار فكرة الفيلم وضعف المستوى الفني، خاصة في الجزء الثاني منه؟ أم أن هذا كله سيكون قد طواه النسيان، ويكون الحساب حسابًا فنيًا صرفًا!

موقع "24" الإماراتي في

20.02.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)