لعام 2015
نظرة على فيلم تاكسي الفائز بدب برلين الذهبي
محمد هاشم عبد السلام
"تاكسي"،
هو أحدث أفلام أحد أشهر المخرجين الإيرانيين الكبار، جعفر باناهي.
وهو أيضاً أحدث أفلامه الحاصلة على جوائز في المهرجانات الدولية
الكبرى، حيث أعلن مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الخامسة
والستين لهذا العام عن فوز الفيلم بكبرى جوائز المهرجان، وهي الدب
الذهبي. والفيلم هو الخامس عشر في تاريخ باناهي الإخراجي. وبطل
الفيلم هو المخرج نفسه، وقد تقمص شخصية سائق سيارة أجرة، يضع نظارة
شمسية وقبعة لإخفاء هويته.
عبر تلك الفكرة البسيطة في محتواها، والتي تشكل قوام الفيلم، الذي
امتد لساعة وثلث الساعة تقريبًا، تحدى المخرج جعفر بناهي السلطات
الإيرانية، والقضاء الذي حكم عليه حكمًا قاسيًا بعدم مزاولة مهنة
الإخراج السينمائي أو كتابة السيناريوهات أو إجراء محادثات أو
مغادرة البلاد لمدة عشرين عامًا، هذا كله بالإضافة إلى الإقامة
الجبرية بمنزله.
وعن طريق كاميرا خفية موضوعة بجوار عجلة القيادة يوجهها جعفر عندما
تقتضي الضرورة، وأكثر من كاميرا أخرى فرعية مخفية في أكثر من مكان
بالتاكسي، يرصد باناهي في فيلمه من خلال شخصياته المتعددة التي
تتناوب على ركوب السيارة، والتي تمثل شرائح متفاوتة من المجتمع
الإيراني، الكثير من القضايا التي تعكس، دون شك، أوجه الحياة
الاجتماعية والسياسية والفنية أيضًا داخل المجتمع الإيراني، بقدر
كبير من الجدية والطرافة أيضًا.
يفتتح الفيلم وامرأة تجلس بالمقعد الخلفي للتاكسي وآخر يستوقفه
للركوب بالمقعد الأمامي، الأولى يتضح أنها معلمة مدرسية، والآخر
يزعم أنه لص صغير للسيارات. يشتبك الاثنان بالكلام المتبادل ويدور
بينهما حوارًا يطالب فيه الرجل بضرورة تطبيق عقوبة الإعدام على
السارقين واللصوص من أجل تحقيق أكبر ردع ممكن، في حين تنهره
المعلمة وتبين له كيف أن إيران تحتل المرتبة الثانية عالميًا، بعد
الصين، بين الدول في تطبيقها المبالغ فيه لعقوبة الإعدام. ولا
ينتهي التشاحن سوى بنزول الرجل فجأة من التاكسي. وهنا يتبدى
بالطبع، تناول المخرج لقضية سياسية وقانونية وإنسانية بامتياز.
بعد ذلك ينتقل باناهي لطرح قضية أخرى، هي قضية الرقابة الفنية
والمنع والمصادرة والتحريم، وذلك عبر أحد أطرف وأجمل أجزاء الفيلم،
حيث يلتقي بناهي برجل يعمل في تجارة الأفلام السينمائية المقرصنة
وبيعها سرًا لمن يرغب فيها. ذلك الرجل أو الزبون هو الوحيد الذي
يتعرف على باناهي ويدرك شخصيته الحقيقية، ويذكره بنفسه، وكيف أنه
كان يجلب له ما يروقه من أفلام لكيروساوا وودي آلان وغيرهم من
المخرجين. لكن جعفر لا يتذكره بالمرة، ويضطر للرضوخ للكثير من
مطالبه، ويوصله لمنزل أحد طلبة السينما الذي يتعرف عليه بدوره،
ويشتري الأفلام من الرجل، الذي يخبره بأن باناهي شريكًا له في
تجارته تلك.
في طريقهما لمكان آخر، وجعفر في كثير من المرات يسأل الزبائن عن
الطرق لأنه يجهلها وهم بدورهم يتشككون ويتساءلون إن كان بالفعل
سائق تاكسي أم لا، يصادفان أحد الرجال، وكان قد تعرض لحادثة سير
والدماء تغرقه تمامًا، وترغب زوجته في إنقاذه والذهاب به لأقرب
مستشفى لتلقي العلاج. ولأن الرجل يشعر بدنو أجله، فإنه يرغب في
كتابة وصيته، بالأحرى يريد تسجيلها صوتًا وصورة، فيأخذ تاجر
الأفلام تليفون جعفر ويبدأ في تسجيل الوصية، التي يوصي فيها بضرورة
أن يذهب ميراثه إلى زوجته، وليس مجرد جزء صغير منها فقط حسب
الشريعة.
وبذلك، نجد جعفر يتطرق لطرح مشكلة أخرى اجتماعية واقتصادية ودينية
بالأساس، نابعة من قلب المجتمع وثقافته وتقاليده وتحايله على
الدين. وينتهي الأمر والرجل قد أُسعِفَ بالمستشفى، لكن زوجته تتصل
بجعفر وترتب معه موعدًا لاحقًا من أجل الحصول على التسجيل الذي
يوصي فيه الزوج بثروته لها، لأن لا أحد يضمن الظروف وما سيحدث
مستقبلا.
ومع انصراف تاجر الأفلام، تركب عجوزان، ترغبان في الذهاب إلى أحد
الينابيع قبل أن ينتصف النهار وإلا فإن الخطر كل الخطر يتهدد
حياتهن. وذلك لأن الأسماك الموضوعة داخل قارورة لا بد وأن يتم
تغيير الماء لها من ذلك الينبوع تحديدًا، وإلا فسوف تموت، وبالتالي
يفقدن هن أيضًا حياتهن وفقًا لما قيل لهن. ولأن جعفر لا يدري
المكان جيدًا، وهو على موعد لإحضارة ابنة شقيقته من المدرسة، يضطر
لإنزال العجوزين وجلب وسيلة انتقال أخرى لهن. وهنا نجده يتعرض
بالطبع لمناقشة المعتقدات والخرافات التي لا تزال سائدة في المجتمع
الإيران، لا سيما عند الأجيال الأكبر سنًا.
ومع ذهابه لإحضار ابنة شقيقته (هناء سعيدي) الخفيفة الدم والمتمردة
بعض الشيء، الطالبة بمرحلة الدراسة الابتدائية، يطول الفيلم ويمتد
ويترهل ويسقط الإيقاع ويبدأ، بعدما تجاوز منتصفه تقريبًا، في
الابتعاد عن بدايته القوية التي كان عليها، والتي كانت بها، دون
جدال، مساحة عريضة للارتجال والابتكار واختلاق للمواقف الطريفة، مع
الكثير من الإحكام الإخراجي. كأن جفعر قد فرغت جعبته من الحكايات
والمواقف أو أنه قد مل، وبات راغبًا في توصيل رسالته السياسية على
نحو سريع، يتسم بقدر كبير من المباشرة والتوجيه البادي عليهما
الكثير من الافتعال الواضح دون أدنى شك.
ويبدو هذا جليًا مع مشكلة الفتاة ابنة شقيقته، التي تريد منها
معلمتها في المدرسة تصوير فيلمًا سينمائيًا بكاميرتها الصغيرة،
شريطة أن يكون الفيلم لائقًا ومناسبًا حتى يتم عرضه والسماح به،
وتدخل الفتاة في سجال ونقاش جدي مع خالها، ينتهي بأن يقول لها
بأنهم يرغبون في تصوير واقع غير حقيقي ليس موجودًا في الحياة التي
نحياها. ثم لاحقًا يلتقي جعفر، كأنما مصادفة، بصديقته التي تعمل
وزوجها في الحقل السينمائي، ويأخذان والفتاة في التحدث عن الأوضاع
والصعوبات التي يعانون منها والتضييق في العمل والقيود والرقابة
إلى آخره من المشكلات، ثم تنزل من التاكسي فجأة مثلما ركبت.
ولاختتام فيلمه، الذي كان من الممكن، ولا ندري لماذا، أن يمتد
لأكثر من هذا ويلتقي بمزيد من الشخصيات التي تُعلي من شأن الفيلم
وتزيده عمقًا وتصل به لذرى أفضل وأكثر جدلية وإثارة، يذهب جعفر مع
الفتاة، التي عثرت بالمقعد الخلفي على كيس النقود الخاص بإحدى
العجوزين، ويتوجهان إلى ذلك النبع، بعدما عرف كيفية الوصول إليه،
كي يردان إليها ما فقدته. تظل كاميرا التاكسي ترصد توجههما سيرًا
إلى النبع، ثم هبوطهما إليه، حتى يأتي بعض الشبان أو اللصوص لسرقة
ما بداخل التاكسي وتحطم الزجاج والكاميرا.
وفي النهاية، نجد أننا حتيمًا أمام عدة تساؤلات لا بد من الإجابة
عليها، متعلقة بتلك السمعة العالمية المبالغ فيها عن منع المخرج من
العمل تمامًا، وهو حكم قانوني قضائي ظالم وجائر لا شك في هذا، لكن
كيف تغض السلطات الطرف عن تنفيذ هذا الحكم، في حين أن جعفر يُخرج
لنا كل عام تقريبًا فيلمًا جديدًا يرسله للمهرجانات الدولية؟ ثلاثة
أفلام على وجه التحديد خلال السنوات الأربع الماضية، وذلك دون
التعرض لأية ملاحقات أو توقيفات أو مساءلات.
أيضًا يتجنب باناهي وضع أسماء أيًا من المشاركين في الفيلم معه
وذلك في التترات الختامية في بداية أو نهاية الفيلم، رغم أن الكثير
من الشخصيات التي تظهر في أفلامه الأخيرة، بخلافه بالطبع، من الأهل
أو الأصدقاء أو الأقرباء أو شخصيات معروفة تعمل في الغالب في صناعة
السينما بإيران، وبالتأكيد معروفة للسلطات الإيرانية. ومن هنا
يمكننا القول أن الحكم الصادر ضد المخرج، ليس سوى مجرد حكم لكن مع
وقف التنفيذ.
كذلك لا يجد المرء بدًا من المقارنة، لتبيان الفارق، بين فيلم
باناهي الجديد "تاكسي" وفيلم المخرج الإيراني الكبير، الذي تعلم
جعفر على يديه، عباس كياروستامي، الذي أخرجه في عام 2002، وحمل
عنوان "عشرة"، ويتناول نفس الفكرة ذاتها، حيث تدور أحداثه أيضًا
داخل تاكسي تقوده امرأة إيرانية تجوب به شوارع العاصمة طهران،
ويركب معها التاكسي عشرة أفراد أو زبائن، ومن هنا جاء اسم الفيلم،
تدور بينهم وبينها الكثير من النقاشات حول الأوضاع الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية بإيران.
إن جعفر باناهي ليس غريبًا بالمرة على مهرجان برلين السينمائي، فقد
سبق في عام 2012 أن أثيرت حوله ضجة كبيرة، عندما أعلنت إدارة
مهرجان برلين عن اختياره كأحد أعضاء لجنة التحكيم الرئيسية
بالمهرجان في ذاك العام، رغم علمها بمنعه من العمل والسفر. وبالفعل
منعته السلطات من السفر للمهرجان، وما كان من إدارة المهرجان إلا
أن وضعت كرسيًا خاليًا له على المسرح تعبيرًا عن غيابه وحضوره في
نفس الوقت.
وفي العام التالي مباشرة 2013، صور باناهي فيلمًا آخر على نحو سري،
حمل عنوان "الستائر المغلقة"، وأرسله سرًا إلى المهرجان، الذي عرضه
آنذاك، وظهر فيه باناهي بنفسه، على غرار فيلمه تاكسي، لكن تلك
المرة كان يقوم بدور مخرج سينمائي ممنوع من العمل في بلاده، وتدور
الأحداث أو بالأحرى الحوارت داخل شقته. وإن كانت المقارنة بين "هذا
ليس فيلمًا (2011) و"الستائر المغلقة" (2013)، و"تاكسي" (2015) تصب
في صالح الأخير دون شك.
وختامًا، هل يأخذ تاريخ الفن في الاعتبار وكذلك المؤرخين فيما بعد،
كل تلك الظروف السياسية في الحسبان، ومقاومة جعفر الشجاعة
بالتأكيد، عندما يتصدون فنيًا لتقييم فيلمه، فيلتمسون الأعذار
لتكرار فكرة الفيلم وضعف المستوى الفني، خاصة في الجزء الثاني منه؟
أم أن هذا كله سيكون قد طواه النسيان، ويكون الحساب حسابًا فنيًا
صرفًا! |